فقد يمكن الاعتذار من تكرار أبي العلاء، ولكن هناك عيبا لا يمكن الاعتذار منه، وهو الاستسلام للفظ إلى هذا الحد، وتحكيم اللفظ وحده في المعنى والفن إلى الحد الذي انتهى إليه أبو العلاء؛ أن يفرض الشاعر على نفسه اصطناع الجناس أو غيره من ألوان البديع في كل ما يقول من الشعر أو في بعضه دون بعضه الآخر هذا شيء مألوف قد نقبله وقد نرفضه، وقد نرتاح إليه وقد نزور عنه. ولكن أن يتخذ الشاعر الخضوع للقافية، وللقافية وحدها قانونا فنيا صارما يذعن له الإذعان المطلق لا في قصيدة ولا في قصيدتين ولا في قصائد، بل في ديوان ضخم، وأن يشترط في هذه القافية هذا الشرط القاسي الذي اشترطه أبو العلاء، وأن يلتزم هذا الشرط ويجريه في جميع حروف المعجم مهما تكن هذه الحروف، ومهما تكن المعاني التي يريد الشاعر أن يقول فيها، هذا هو الشيء الذي لا يطاق، ولا يمكن أن ينتهي بصاحبه إلى الخير. ومن هنا تطول القصيدة وتقصر، وتنبسط المقطوعة وتنقبض؛ لا لأن المعنى يريد الطول أو القصر، والانبساط أو الانقباض، بل لأن القافية التي اشترطها الشاعر على نفسه تواتيه فيمتد النفس، أو لا تواتيه فيقصر النفس. وقد تضيق أنت بهذا الطول؛ لأن الشاعر أدى إليك ما كان يريد أن يؤديه، ولولا القافية لاكتفى بالمقدار اليسير من الأبيات. وقد يعجبك المعنى ويرضيك، وربما أعجبك اللفظ نفسه وأرضاك أيضا، فأنت في حاجة إلى أن يطيل الشاعر بعض الشيء؛ لأن صوته يعجبك، ولأن نغمته تلذك، ولأن معناه يلائم هوى في نفسك، ولكن الشاعر ينقطع بك عند البيتين أو الأبيات، لا لأنه أرضى نفسه، وأدى ما كان يريد أن يؤديه، بل لأن القافية تضطره إلى الوقوف، وتكرهه على الانقطاع.
وهذا يثير في نفس القارئ - سواء أحب ذلك أو لم يحببه - شيئا غير قليل من الغيظ، وقد يدفعه إلى لوم أبي العلاء، والتشديد عليه في اللوم، ولكن يجب أن نذكر أن أبا العلاء لم يفكر في السامع وفي القارئ وحدهما حين أنشأ ما أنشأ من اللزوميات، وإنما فكر في نفسه معهما، بل هو فكر في نفسه قبل أن يفكر فيهما. أراد أن يعبر عما لم يجد بدا من التعبير عنه، ويصور ما لم يجد بدا من تصويره، وأراد بنوع خاص أن يسلي نفسه ويلهيها كما قدمت. فرض الرجل على نفسه لونا من ألوان الرياضة الشاقة، فقد يلائمك هذا اللون من ألوان الرياضة وقد لا يلائمك، ولكن هذا آخر ما يحفل به أبو العلاء.
ولعل أبا العلاء نفسه قد صور هذا المعنى أجمل تصوير وأروعه في هذه الأبيات التي أحبها أشد الحب، وأكلف بها أشد الكلف، وأراها تصور النفس الممتازة ذات الشخصية القوية أصدق تصوير وهي قوله:
خذي رأيي وحسبك ذاك مني
على ما في من عوج وأمت
وماذا يبتغي الجلساء عندي
أرادوا منطقي وأردت صمتي
ويوجد بيننا أمد قصي
فأموا سمتهم وأممت سمتي
وندع البيت الثاني من هذه الأبيات فقد نعود إليه بعد حين، وإنما نقف عند البيت الأول والبيت الثالث. فأبو العلاء يقدم رأيه للناس، ويرى أنهم لا يملكون أن يطالبوه بأكثر من هذا الرأي، بل هو يرى أن الناس يجب أن يأخذوا رأيه على ما فيه وفي صاحبه من عوج وأمت. وليس لهم أن يقوموه، ولا أن يقوموا رأيه، وإنما لهم أن يقبلوا منه هذا الرأي، أو أن يردوه عليه. وما أعرف اعتدادا بالحرية العقلية والشخصية الفلسفية يشبه هذا الاعتداد.
نامعلوم صفحہ