أترى إلى الشطر الأول منه كيف يؤدي معناه أداء حسنا دون أن يظهر فيه تكلف أو تعسف أو إكراه للفظ على ما لا يريد! وأي شيء أيسر من أن يقول الشاعر: إن جماعة من الفساق قد استجابوا إلى التقى؛ لأنهم لم يجدوا ميدانا للفسق؟ عكفوا على ما كان عندهم من الخمر، فلما استنفدوه استجابوا إلى التقى. ثم انظر إلى الشطر الثاني فستراه نتيجة للشطر الأول، فإبل هؤلاء الناس تسرع بهم إلى الحج، ولكنك تصادف هذا التوافق اللفظي بين أول البيت وآخره، فتدهش له وتقف عنده، وتحس أن الشاعر لم يصل إليه عفوا، ولم يبلغه في غير تكلف ولا جهد، ولكنه اختار عن عمد كلمة «خوى»، وكلمة «الدن»؛ ليجمع في أول البيت بين الخاء والواو والألف والدال التي لا بد له من أن يختم بها البيت، وليتحقق له بذلك الجناس على بعض أشكاله كما يتحقق له التزام ما لم يلزم في أول البيت وفي آخره. فإذا وصلت إلى هذا فستستبين فورا أن البيت كله نتيجة لهذا التكلف، وأثر من آثاره. ولولا أنه قصد إلى هذا النحو من الجناس لأمكن جدا أن يأتي البيت على غير هذه الصورة، وفي غير هذه الألفاظ. فليس من الضروري أن يعبر الشاعر عن استنفاد الشرب لما عندهم من الخمر بأن دنهم قد خوى، وقد كان يستطيع أن يجد من آنية الخمر أشياء غير الدن، وأن يجد للدلالة على فراغ هذه الآنية فعلا آخر غير خوى. وكذلك كان يستطيع أن يعبر عن إسراع القوم إلى الحج بغير خديان العيس، كما كان يستطيع أن يصور استجابة القوم إلى التقى بغير الإسراع إلى الحج كالعكوف على الصلاة، أو الانقطاع إلى الصوم. ولكنه محتاج إلى قافية فيها دال مكسورة، وواو بينهما ألف، وقد استعرض ما حفظ من اللغة فوجد كلمة الخوادي، ثم هو محتاج إلى أن يبدأ البيت بما يشاكل آخره، فيستعرض ما يحفظ من اللغة فيجد كلمة خوى وكلمة الدن، ويجتمع له منهما ما يشبه القافية.
وما أكثر ما تجد هذا، قافية تلتزم ويصعب على الشاعر أن يجد كلمة واحدة تشبهها ليبدأ بها البيت، فيؤلف هذا الشبه من كلمتين، يأخذ الكلمة الأولى كلها، ويأخذ حرفا من الكلمة الثانية. وقد فعل هذا نفسه في البيت الذي يأتي بعد ذلك وهو:
توى دين في ظنه ما حرائر
نظائر آم وكلت بتوادي
فالقافية هي التوادي، فيها كما ترى الواو وألف والدال والياء، ولم يستقم للشاعر لفظ واحد في أول البيت يشبه آخره، فحقق هذا الشبه بالجمع بين لفظين، يأخذ اللفظ الأول كله، وفيه التاء والواو والألف، ويأخذ حرفين من اللفظ الثاني، وهما: الدال، والياء. وقد يعجزه تحقيق هذا الشبه مهما يسلك إليه من الطرق، فلا يعدل به ذلك عما قصد إليه من تحقيق الجناس على نحو من الأنحاء، على نحو أوسع من المألوف بحيث لا تخلو القصيدة أو لا يخلو أكثرها من الجناس الصريح، أو الجناس المتوهم.
فانظر إلى هذا البيت:
رويدك لو لم يلحد السيف لم تكن
لتحمل هام الملحدين هوادي
فالقافية هنا هوادي كما ترى، ولم يستطع الشاعر أن يجد كلمة واحدة تشبهها ليبدأ بها البيت، ولا أن يجد كلمة وبعض كلمة، فلم يؤيسه ذلك، ولم يقف به في وسط الطريق. وما له لا يعدل عن الجناس الصريح إلى جناس ملحوظ؟ فإذا قرأت البيت فسترى فيه الهاء والألف في «هام»، وسترى فيه الدال والياء في «الملحدين»، وسترى فيه الواو في «رويدك»، وفي «لو»، وسترى بعض هذه الحروف مكررا في كلمات أخرى، بحيث لا تصل إلى القافية إلا وقد نطقت بحروفها كلها، فأنت تعيد النطق بها مجتمعة حين تنطق بالقافية . على أنه لم يلبث أن عاد سيرته الأولى فحقق الجناس الصريح بين القافية وغيرها من بعض ألفاظ البيت كما ترى حين تمضي في قراءة القصيدتين.
وأنا واثق بأنك قد تضحك من هذا الكلام إن كنت حسن الاستعداد أثناء قراءته، وقد تضيق به وتعرض عنه إن كنت سيئ الاستعداد حين تبلغ هذا الموضع من الحديث، ولكن هذا لن يغير من الأمر شيئا؛ فقد قصد أبو العلاء إلى هذا العبث اللفظي، وأطال التماسه، وجد في البحث عنه، ورضي حين انتهى إليه، ووجد من سامعيه وقرائه من رضي عنه كما رضي، وابتهج به كما ابتهج. وقد كان هذا التكلف اللفظي شائعا في عصر أبي العلاء، ومن قبل أبي العلاء بزمن طويل، وقد ظل شائعا بعد أبي العلاء، والناس يختلفون في الرضا عنه والسخط عليه. ولست أرضى عنه كل الرضا، ولا أسخط عليه كل السخط، ولا أحب أن أوجه شباب الكتاب إلى هذا المذهب أو ذاك، وإنما أنا أتوسط بين الأمرين، وأحب أن يقاوم شباب الكتاب والشعراء بعض المقاومة هذه الثورة العنيفة التي ثرناها على العناية باللفظ، وأن يقدروا أن للألفاظ في نفسها قيما ذاتية - إن صح هذا التعبير - تقدرها الأذن، وتحدث في النفس لذة موسيقية خاصة، لا ينبغي أن يهملها الأديب، بل يجب أن يعنى بها ما وسعته العناية؛ بشرط ألا تفسد عليه معناه، ولا تضطره إلى الهذيان والاستغلاق.
نامعلوم صفحہ