توطئة
عن الكتاب
عن المؤلف
تمهيد
1 - «أعتقد أنني سأتوقف هنا»
2 - صاحب الأحاجي
3 - عار رياضي
4 - نحو التجريد
5 - البرهان بالتناقض
6 - العملية الحسابية السرية
7 - مشكلة طفيفة
خاتمة
الملاحق
اقتراحات بقراءات إضافية
مصادر الصور
توطئة
عن الكتاب
عن المؤلف
تمهيد
1 - «أعتقد أنني سأتوقف هنا»
2 - صاحب الأحاجي
3 - عار رياضي
4 - نحو التجريد
5 - البرهان بالتناقض
6 - العملية الحسابية السرية
7 - مشكلة طفيفة
خاتمة
الملاحق
اقتراحات بقراءات إضافية
مصادر الصور
مبرهنة فيرما الأخيرة
مبرهنة فيرما الأخيرة
المعضلة التي حيرت عباقرة الرياضيات لقرون
تأليف
سايمون سينج
ترجمة
الزهراء سامي
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
حصل سايمون سينج على درجة الدكتوراه في فيزياء الجسيمات من جامعة كامبريدج. عمل في السابق منتجا تليفزيونيا بشبكة «بي بي سي» وأخرج الفيلم الوثائقي «فيرماز لاست ثيورم» (مبرهنة فيرما الأخيرة) الذي حاز على جوائز الأكاديمية البريطانية للأفلام «بافتا» كما أنه قد ألف كتابا بالاسم نفسه يتصدر قائمة أفضل الكتب مبيعا. بعد ذلك، ألف كتابا بعنوان «كتاب الشفرة» كان هو الأساس لمسلسل «ذا ساينس أوف سيكرسي» الذي أذيع على القناة التليفزيونية «تشانل فور» وكتاب «الانفجار العظيم» وكلا الكتابين من أفضل الكتب مبيعا على المستوى العالمي.
بعض الآراء في كتاب مبرهنة فيرما الأخيرة:
تنطوي هذه الحكاية على جميع العناصر التي تتسم بها القصص المشوقة للغاية: لغز يستعصي على الحل، والطموح والفشل على مدى أجيال من المتفائلين، والعبقري الذي يعمل سرا على مدى سنوات لتحقيق حلم طفولته.
إكسبريس
لقد أسرني كتاب «مبرهنة فيرما الأخيرة» من تأليف سايمون سينج ... يبرز كتاب سينج رومانتيكية المجال وكذلك حس الفكاهة الأخاذ وحس الزمالة اللذين يميزان المجتمع الرياضي.
إندبندنت
إن قراءة هذا الكتاب تمكنك من إدراك وجود عالم من الجمال والتحدي الفكري محجوب عن 99,9 بالمائة منا ممن هم ليسوا بعلماء رياضيات رفيعي المستوى.
ذا تايمز
آسر على نحو غير متوقع ... يمكن لأي شخص يفهم الحساب بالدرجة المعتادة أن يدرك قبسا مما تتسم به الأعداد من جمال خالص دون الحاجة إلى فهم الحسابات التي ينطوي عليها الموضوع.
صنداي تيليجراف
إن هذا العمل بعيد كل البعد عن الكتب الدراسية الجامدة، بل تشعر عند قراءته بأنه تأريخ لقصة حب قوية للغاية. إنه يتسم بهذه المكونات الكلاسيكية التي تقر بها هوليوود.
ديلي ميل
إذا استمتعت بكتاب «خطوط الطول» من تأليف دافا سوبيل، فسوف تستمتع بهذا الكتاب.
إيفنينج ستاندرد
أفضل ما قرأته على الأرجح من سرد لأحد الموضوعات العلمية.
آيريش تايمز
قصة رائعة قد سردت بحماس معد.
إيفنينج ستاندرد
إحياء لذكرى
باكار سينج بيرينج.
توطئة
التقينا أخيرا في إحدى القاعات، لم تكن مزدحمة لكنها كبيرة بما يكفي لأن تضم جميع أعضاء قسم الرياضيات في جامعة برينستون في مناسبات احتفالاتهم الكبيرة. في عصر ذلك اليوم بالتحديد، لم يكن هناك عدد كبير من الأشخاص، لكنه كان كافيا بالنسبة لي لئلا أكون متأكدا أيهم هو أندرو وايلز. بعد لحظات قليلة، اخترت رجلا توحي ملامحه بالخجل يستمع إلى المحادثة التي تجري حوله بينما يحتسي الشاي منغمسا في طقس اجتماع العقول الذي يشترك فيه علماء الرياضيات في جميع أنحاء العالم في الرابعة عصرا تقريبا. وقد خمن هو هويتي ببساطة.
كانت تلك نهاية أسبوع استثنائي. كنت قد التقيت بعدد من أفضل علماء الرياضيات الأحياء على الإطلاق، وبدأت أفهم عالمهم فهما متعمقا. غير أنه بالرغم من جميع محاولاتي للقاء أندرو وايلز للحديث معه وإقناعه بأن يشارك في فيلم وثائقي ضمن حلقات «هورايزون» من إنتاج «بي بي سي» يتحدث عن إنجازاته، فقد كان هذا هو لقاءنا الأول. كان هذا هو الرجل الذي أعلن مؤخرا أنه اكتشف الكأس المقدسة في الرياضيات، وزعم أنه قد أثبت مبرهنة فيرما الأخيرة. في أثناء حديثنا، بدا وايلز شارد الذهن ومنطويا على نفسه بعض الشيء، وبالرغم من أنه كان ودودا ومهذبا، بدا جليا أنه يتمنى أن أكون في أبعد مكان ممكن عنه قدر الإمكان. شرح ببساطة أنه لا يستطيع أبدا أن يركز على شيء آخر سوى عمله الذي كان في مرحلة حاسمة، لكن ربما سيكون سعيدا بالمشاركة في وقت لاحق بعد أن تخف الضغوطات الراهنة. لقد كنت أعرف، وكان هو يعرف أنني أعرف أنه يواجه انهيار حلم حياته، وأن الكأس المقدسة التي كان قد عثر عليها، اتضح الآن أنها ليست سوى كأس جميلة وثمينة، لكنها كأس عادية. لقد وجد عيبا في برهانه المنشور.
إن حكاية مبرهنة فيرما الأخيرة من الحكايات الفريدة. وكنت أدرك قبل أن ألتقي بوايلز للمرة الأولى أنها من أعظم القصص بالفعل في مجال المجهودات العلمية أو الأكاديمية. لقد رأيت العناوين في صيف العام 1993، حين أدى ذلك البرهان إلى وضع الرياضيات على الصفحات الأولى من الصحف الوطنية في جميع أنحاء العالم. في ذلك الوقت، لم أكن أتذكر «المبرهنة الأخيرة» إلا على نحو مبهم، لكنني أدركت أنها شيء مميز للغاية بكل تأكيد، وأنها شيء يليق بحلقات «هورايزون». قضيت الأسابيع التالية في الحديث إلى العديد من علماء الرياضيات الذين تجمعهم علاقة وثيقة بالقصة، أو القريبين من أندرو، وكذلك المتحمسين منهم بأن يشهدوا تلك اللحظة العظيمة في مجالهم فحسب. وقد كانوا جميعا كرماء معي في مشاركة رؤاهم بشأن التاريخ الرياضي، وبصبر شرحوا لي ما استطعت استيعابه من فهم ضئيل للأفكار المتعلقة بالأمر. وسرعان ما اتضح أن ذلك موضوع لا يستطيع فهمه فهما كليا سوى بضعة من الأشخاص فقط في العالم كله على الأرجح. ولبرهة تفكرت فيما إذا كانت محاولة صنع فيلم عنه ضربا من الجنون. غير أنني قد تعرفت من هؤلاء العلماء أيضا على ذلك التاريخ الغني والأهمية الأعمق التي يمثلها فيرما للرياضيات والمشتغلين بها، وقد أدركت أن هذا هو مكمن القصة الحقيقية.
لقد تعرفت على الأصول اليونانية القديمة للمسألة، وعرفت أن مبرهنة فيرما الأخيرة هي أشبه بقمة الهيملايا في نظرية الأعداد. تعرفت على القيمة الجمالية في الرياضيات، وبدأت أفهم معنى وصف الرياضيات بأنها لغة الطبيعة. ومن معاصري وايلز، أدركت الطبيعة الجبارة لعمله في التنسيق بين أحدث تقنيات نظرية الأعداد من أجل تطبيقها في برهانه. تحدث أصدقاؤه في جامعة برينستون عن التقدم المعقد للسنوات التي قضاها أندرو في الدراسة المنعزلة. لقد نسجت صورة استثنائية لأندرو وايلز واللغز الذي هيمن على حياته، بالرغم من ذلك فقد بدا لي أنني لن ألتقي بالرجل نفسه أبدا.
وبالرغم من أن المفاهيم الرياضية التي ينطوي عليها برهان وايلز، من أصعب المفاهيم الرياضية في العالم، فقد وجدت أن جمال مبرهنة فيرما الأخيرة إنما يكمن في حقيقة أن المسألة نفسها يمكن فهمها بسهولة شديدة. إنه لغز يمكن شرحه بكلمات يفهمها تلاميذ المدارس. لقد كان بيير دو فيرما يعيش في عصر النهضة في خضم إعادة اكتشاف المعارف اليونانية القديمة، لكنه طرح سؤالا لم يكن اليونانيون ليفكروا في طرحه أبدا؛ فأنتج بذلك ما قد أصبح من أصعب المسائل المعروفة على الأرض ليحلها الآخرون. ومن المحير والمشوق أنه ترك للأجيال القادمة ما يفيد بأنه قد وجد الإجابة، لكنه لم يوضح الإجابة نفسها. وقد كانت تلك هي البداية التي استمرت ثلاثة قرون.
إن هذه المدة الزمنية توضح أهمية هذا اللغز. فمن الصعب أن نتخيل أي مسألة في أي مجال من مجالات العلوم يمكن شرحها بدرجة كبيرة من السهولة والوضوح، لكنها تصمد أمام اختبار المعرفة المتقدمة هذه المدة الطويلة. فلنتأمل القفزات التي حققناها في فهم الفيزياء والكيمياء والأحياء والطب والهندسة منذ القرن السابع عشر. لقد تقدمنا من «الأخلاط» في الطب إلى تضفير الجينات، وحددنا الجسيمات الذرية الأساسية، وهبطنا بالبشر على القمر. بالرغم من ذلك، ففي نظرية الأعداد، ظلت مبرهنة فيرما الأخيرة منيعة لم يمسسها أحد.
قضيت بعض الوقت في البحث عن سبب يجعل من مبرهنة فيرما الأخيرة أمرا مهما لأي شخص بخلاف علماء الرياضيات، وعن سبب لأهمية تقديم برنامج عنها. صحيح أن الرياضيات تستخدم في تطبيقات عملية كثيرة، لكن حين يتعلق الأمر بنظرية الأعداد، فإن ما توصلت إليه من استخدامات ربما تكون هي الأكثر إثارة للاهتمام، كانت في مجال علم التشفير، وتصميم الحواجز الصوتية، والتواصل من المركبات الفضائية البعيدة. ولم يبد أن أيا من هذه الموضوعات يمكن أن يمثل احتمالية جيدة في جذب الجمهور. غير أن السبب الذي أسرني وأقنعني قد تمثل في علماء الرياضيات أنفسهم، وفيما كانوا يعبرون عنه جميعا من شغف عند الحديث عن فيرما .
إن الرياضيات من أكثر أشكال التفكير تجريدا، وقد يبدو علماء الرياضيات لغير المختصين بها وكأنهم من عالم آخر. والأمر الذي أدهشني في جميع نقاشاتي معهم، هو الدقة الاستثنائية في حديثهم. فهم نادرا ما كانوا يجيبون عن أي سؤال على الفور، بل كان علي أن أنتظر في معظم الأحوال بينما تتشكل بنية الإجابة في العقل، لكنها كانت تنبثق بعد ذلك في صورة تصريح فصيح ومتقن لم أكن لأتمنى مثله. وحين ناقشت بيتر سارناك، صديق وايلز، في هذا الأمر، شرح أن علماء الرياضيات يكرهون أن يدلوا بتصريحات خاطئة. لا شك في أنهم يستخدمون الحدس والإلهام، أما التصريحات الرسمية فلا بد أن تكون قاطعة. إن البرهان هو صميم الرياضيات، وهو ما يميزها عن غيرها من العلوم. فالعلوم الأخرى تستخدم الفرضيات وتختبرها على الأدلة التجريبية إلى أن تسقط، ثم تستبدل بها فرضيات جديدة. أما في الرياضيات، فالبرهان القاطع هو الهدف، وحين يثبت البرهان على شيء ما، فإنه يظل مثبتا إلى الأبد، دون أي مجال للتغيير. لقد مثلت المبرهنة الأخيرة تحديا عظيما للرياضيين في التوصل إلى برهان لها، وهذا الشخص الذي سيتوصل إلى الإجابة، سيحظى بالإعجاب الشديد من المجال بأكمله.
عرضت الجوائز، وازدهرت المنافسة. فللمبرهنة الأخيرة تاريخ ثري يلامس حدود الموت والخداع، وقد حفزه تطور الرياضيات بدرجة أكبر. ويصف باري ميزور عالم الرياضيات بجامعة هارفارد هذا الأمر بأن مبرهنة فيرما، قد بعثت «الروح» في تلك الجوانب الرياضية التي ارتبطت بالمحاولات المبكرة للتوصل إلى برهان. ومن المفارقات أن من تلك الجوانب ما كان أساسيا في برهان وايلز النهائي.
حين بدأت تدريجيا في اكتساب قدر من الفهم لهذا المجال غير المألوف، أصبحت أرى أن مبرهنة فيرما الأخيرة أساسية في تطور الرياضيات نفسها، أو حتى موازية له. لقد كان فيرما هو مؤسس نظرية الأعداد الحديثة، وقد تطورت الرياضيات منذ عصره وتقدمت وتفرعت إلى العديد من المجالات الملغزة، حيث ولدت التقنيات الجديدة جوانب جديدة من الرياضيات قد أصبحت مقصدا في حد ذاتها. ومع مرور القرون، بدت المبرهنة الأخيرة أقل ارتباطا بالأبحاث الرياضية الأكثر تطورا، وأكثر ارتباطا بحب الاستطلاع فحسب. بالرغم من ذلك، فمن الجلي الآن أن أهميتها لعلم الرياضيات لم تتضاءل قط.
إن المعضلات المرتبطة بالأعداد، كتلك التي طرحها فيرما، هي أشبه بألعاب الألغاز، وعلماء الرياضيات يحبون حل الألغاز. وقد كانت بالنسبة إلى وايلز، لغزا مميزا للغاية جديرا بأن يكون طموح حياته. لقد ألهمته مبرهنة فيرما الأخيرة قبل ثلاثين عاما حين كان طفلا إذ تعثر بها في أحد كتب المكتبات العامة. وكان حلمه في مرحلة الطفولة والنضج هو أن يتوصل إلى حل لهذه المسألة، وحين أعلن للمرة الأولى عن توصله إلى برهان في صيف العام 1993، إنما كان ذلك نتاج سبع سنوات قد كرسها للعمل على حل هذه المسألة، وتلك درجة من التركيز والإصرار يصعب تخيلها. لم تكن العديد من التقنيات التي استخدمها قد ابتكرت حين بدأ في العمل. وقد جمع أيضا بين أعمال الكثيرين من علماء الرياضيات البارعين؛ فربط بين أفكار وابتكر مفاهيم لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها. فمثلما أشار باري ميزور، اتضح أن الجميع كانوا يعملون على معضلة فيرما، لكن بصورة منفصلة، ودون أن تكون لهم هدفا؛ إذ كان البرهان يستلزم تطبيق كل قوة للرياضيات الحديثة، من أجل التوصل إلى إثباته. أما ما فعله أندرو، فهو أن ربط مجددا بين العديد من جوانب الرياضيات التي كانت تبدو شديدة البعد بعضها عن بعض. ومن ثم، فقد بدا عمله تسويغا لجميع أشكال التنوع التي خضعت لها الرياضيات منذ طرح المشكلة.
وفي صميم إثباته لمبرهنة فيرما، أثبت أندرو فكرة تعرف باسم حدسية تانياما-شيمورا قد شكلت جسرا جديدا بين اثنين من العوالم الرياضية الشديدة الاختلاف. إن الكثيرين يرون أن توحيد الرياضيات هدف جليل، ولم تكن تلك سوى لمحة لمثل ذلك العالم. ومن ثم، ففي إثباته لمبرهنة فيرما، دعم أندرو وايلز بعضا من أهم جوانب نظرية الأعداد في مرحلة ما بعد الحرب، ووطد الأساس لهرم من الحدسيات التي قد بنيت عليه. لم يعد ذلك حلا لأقدم الألغاز الرياضية فحسب، وإنما دفع لحدود الرياضيات نفسها. كان الأمر كما لو أن مسألة فيرما البسيطة التي ولدت في عصر كانت الرياضيات فيه في مهدها، ظلت في انتظار هذه اللحظة.
لقد انتهت قصة فيرما في أروع صورة. بالنسبة إلى أندرو وايلز، كانت تعني نهاية الانعزال المهني من نوع يكاد يكون غريبا تماما عن الرياضيات، التي عادة ما تكون نشاطا تعاونيا. إن طقس تناول شاي العصر في معاهد الرياضيات على مستوى العالم، هو وقت يكون المعتاد فيه هو اجتماع الأفكار وتبادل الرؤى قبل النشر. لقد كان الرياضي كين ريبت، الذي كان هو نفسه مساهما أساسيا في البرهان، هو من أخبرني بنبرة بين الجد والمزاح بأن قلق علماء الرياضيات هو ما يستلزم هيكل الدعم الذي يوفره زملاؤهم. أما أندرو وايلز، فقد تجنب كل هذا واحتفظ بعمله لنفسه في جميع المراحل عدا الأخيرة منها. وقد كان ذلك أيضا مؤشرا على أهمية فيرما. لقد كان مدفوعا بشغف حقيقي قوي لأن يكون هو الشخص الذي توصل إلى حل المسألة، وكان شغفه قويا بما يكفي لأن يكرس سبع سنوات من حياته ليحتفظ بهدفه لنفسه. لقد كان يعرف أنه بالرغم مما قد يبدو من افتقار المسألة إلى الأهمية، فإن المنافسة على فيرما لم تضعف قط، ولم يكن ليخاطر أبدا بأن يفصح عما كان يقوم به.
بعد أسابيع من البحث في المجال، وصلت إلى برينستون. وقد كان مستوى العاطفة قويا للغاية بالنسبة إلى رياضيين. لقد وجدت قصة تجمع بين التنافس، والنجاح، والعزلة، والعبقرية، والانتصار، والغيرة والضغوطات الشديدة، والخسارة، وحتى المأساة. ففي صميم حدسية تانياما-شيمورا بالغة الأهمية، تقع الحياة المأساوية التي عاشها يوتاكا تانياما في وقت ما بعد الحرب في اليابان، الذي حظيت بشرف سماع قصته من صديقه المقرب جورو شيمورا. ومن شيمورا أيضا تعرفت على مفهوم «الخيرية» في الرياضيات، حيث تبدو الأمور صوابا فقط لأنها خير. وقد كان شعور الخيرية يتخلل أجواء الرياضيات في ذلك الصيف على نحو ما؛ إذ كان الجميع ينعمون بتلك اللحظة المجيدة.
وفي خضم كل هذه الأحداث، لا يعجب المرء كثيرا من حجم المسئولية التي شعر بها أندرو مع ظهور العيب تدريجيا على مدى خريف العام 1993. فبالرغم من توجه أنظار العالم بأكمله نحوه، وبالرغم من مطالبات زملائه بنشر البرهان، تمكن بطريقة ما لا يعرفها إلا هو، من مواصلة العمل. لقد تحول فجأة عن العمل سرا بوتيرته الخاصة، إلى العمل علنا. إن أندرو رجل يقدر الخصوصية بدرجة كبيرة، وقد ناضل بقوة لحماية أسرته من العاصفة التي كانت تهب حوله. فعلى مدى ذلك الأسبوع الذي قضيته في برينستون، اتصلت به هاتفيا، وتركت الرسائل في مكتبه وعلى عتبة داره ومع أصدقائه، بل إنني قدمت هدية من الشاي الإنجليزي والمارمايت. ومع ذلك، فقد قاوم مبادراتي إلى أن حانت فرصة ذلك الاجتماع في يوم رحيلي. تلت ذلك محادثة هادئة مركزة، لم تتجاوز مدتها في النهاية خمس عشرة دقيقة.
كنا قد عقدنا اتفاقا في ذلك العصر قبل أن نفترق، وهو أنه إذا تمكن من إصلاح البرهان، فسوف يأتي إلي لمناقشة الإعداد لفيلم، وكنت مستعدا للانتظار. بالرغم من ذلك، فقد شعرت في تلك الليلة في رحلة عودتي إلى لندن، بأن أمر هذا البرنامج قد انتهى؛ إذ لم يتمكن أحد على الإطلاق من إصلاح أي فجوة في البراهين العديدة التي حاولت إثبات مبرهنة فيرما على مدى ثلاثة قرون. لقد كان التاريخ ممتلئا بالادعاءات الخاطئة، وبقدر ما كنت أتمنى أن يكون أندرو هو الاستثناء، فقد كان من الصعب أن أتخيل أنه سيكون أي شيء سوى شاهد ضريح في تلك المقبرة الرياضية.
وبعد عام، تلقيت المكالمة. فبعد تحول رياضي استثنائي، ووميض من البصيرة الحقيقية والإلهام، تمكن أندرو أخيرا من الانتهاء من أمر فيرما في حياته المهنية. وبعد عام آخر، وجدنا له الوقت الذي سيخصصه للتصوير. وبحلول ذلك الوقت، كنت قد دعوت سايمون سينج للانضمام إلي في صناعة الفيلم، وقضينا معا وقتا في صحبة أندرو، نتعرف فيه من الرجل نفسه على القصة الكاملة لتلك السنوات السبع التي قضاها في الدراسة المنعزلة، والعام العصيب الذي تلا ذلك. وفي أثناء التصوير ، أخبرنا أندرو، كما لم يخبر أحدا من قبل، عن جوهر مشاعره بشأن ما حققه. أخبرنا كيف أنه قد تمسك على مدى ثلاثين عاما بحلم طفولته، وكيف أن قدرا كبيرا من الرياضيات التي درسها على مدى حياته كانت - دون علم منه في ذلك الوقت - بمثابة جمع للأدوات من أجل معضلة فيرما التي هيمنت على حياته المهنية، وكيف أن كل شيء قد تغير لديه: شعوره بالفقد تجاه المسألة التي لن تعود رفيقه الدائم، وإحساس التحرر المشجع الذي كان يشعر به الآن. بالرغم من أن الموضوع الذي يدرسه هذا المجال يصعب فهمه للغاية على الجمهور من غير المتخصصين، فقد كان مستوى الانفعال العاطفي في محادثاتنا أعظم من أي شيء قد اختبرته في مجال صناعة الأفلام عن العلوم. لقد كانت نهاية فصل في حياة أندرو. وقد كان شرفا لي أن أكون قريبا منه.
أذيع الفيلم على شبكة «بي بي سي» التليفزيونية تحت عنوان «هورايزون: فيرماز لاست ثيورم» (هورايزون: مبرهنة فيرما الأخيرة). والآن، قد طور سايمون سينج تلك الرؤى والمحادثات الحميمية، مع كل ما تتضمنه قصة فيرما من ثراء وما يحيط بها من تاريخ وعلوم رياضية، وضم ذلك كله في هذا الكتاب الذي يمثل تسجيلا مكتملا وتثقيفيا بشأن واحدة من أعظم القصص في التفكير البشري.
جون لينش
محرر حلقات «هورايزون» من إنتاج شبكة «بي بي سي» التليفزيونية
مارس 1997
عن الكتاب
سرد الحكايات
بقلم سايمون سينج
حين كتب بيير دو فيرما ملاحظته الهامشية، لم يكن ليتخيل أنها ستشعل مسعى رياضيا يستمر على مدى أكثر من ثلاثة قرون. ربما كان سيدهش أكثر وأكثر بكتاب المسرحيات وكتاب السيناريو الذين أصبحوا مهتمين بمبرهنته سيئة السمعة بعد أن أثبتها أندرو وايلز.
كانت إحدى المرات الأولى التي ورد فيها ذكر برهان أندرو وايلز لمبرهنة فيرما الأخيرة في أحد الأعمال الدرامية الشهيرة على لسان شخصية جادزيا داكس في مسلسل «ستار تريك: ديب سبيس ناين» في يونيو 1995. وإذا لم تكن من مشاهدي هذا المسلسل، فداكس هو أحد أشكال الحياة التكافلية الذي يحيا بتبني مضيفيه من أشباه البشر. ولم تكن جادزيا داكس سوى واحدة من مضيفيه، وقد استضافه قبل ذلك أشباه بشر آخرون مثل توبن داكس. وفي حلقة بعنوان «فاسيتس»، علقت جادزيا بأن توبن قد توصل إلى «الطريقة الأكثر ابتكارا للبرهان منذ وايلز قبل ما يزيد عن 300 عام.»
وكانت تلك على الأرجح محاولة لتصحيح خطأ ظهر في الموسم «ستار تريك: ذا نكست جينيريشن»، حين أعلن الكابتن بيكارد أن مبرهنة فيرما الأخيرة ظلت دون حل على مدى 800 عام. كانت هذه الحلقة، «ذا رويال»، قد أعدت عام 1989، ولم يكن الكتاب يعرفون بالطبع أن وايلز يعمل سرا على برهانه.
جاءت إحدى المرات الأخرى التي ذكرت فيها المبرهنة في فيلم «بيدازيلد» من إنتاج هوليوود. لعبت الممثلة إليزابيث هيرلي دور الشيطان، وظهرت في أحد المشاهد بصفتها معلمة تقف أمام سبورة، وتعلن المهمة التالية المنذرة بالسوء: «الواجب المنزلي لليلة: أثبت أن ، وهي مبرهنة فيرما الأخيرة في شكلها الأكثر تعميما.»
لقد أسر نضال أندرو وايلز الاستثنائي خيال الجمهور، وقد استجاب مجال صناعة الأفلام بإصدار العديد من الأفلام المهمة التي تصور علماء رياضيات في شخصياتها الأساسية. فكتب فيلم «جود ويل هانتينج» عقب برهان وايلز، وفاز بجائزتي أوسكار كانت إحداهما لمات ديمون وبين أفليك على نصهما السينمائي. وبعد ذلك في العام 2001، جاء فيلم «أبيوتيفول مايند» الذي فاز بأربع جوائز أوسكار، ليؤكد حب هوليوود للرياضيات المعقدة.
بالرغم من ذلك، فحتى الآن لا يوجد فيلم عن أندرو وايلز أو بيير دو فيرما. وتحسبا لأن تقرر إحدى شركات الإنتاج في نهاية المطاف تحويل مبرهنة فيرما الأخيرة إلى عمل كاسح، كنت قد أجريت مسابقة ذات يوم أسأل فيها أي الممثلين ينبغي أن يؤدي أي الأدوار. تنوعت الترشيحات بشأن الممثلين المقترحين لدور بيير دو فيرما بين جون مالكوفيتش وجون جودمان، بينما تضمنت الاقتراحات لدور وايلز، وودي آلان وجون كليز. وقد سألت أيضا عن اقتراحات للممثلين في بعض الأدوار الثانوية مثل دور صوفي جيرمان، ومرة أخرى تنوعت الاقتراحات تنوعا كبيرا بين جوليا روبرتس وليلي سوبيسكي.
على عكس موقف هوليوود الخجول تجاه مبرهنة فيرما الأخيرة، تناول مسرح برودواي الموضوع بصورة مباشرة في أحد الأعمال الإبداعية التي يعد استلهامها من برهان وايلز أمرا غريبا. فقد كتبت جوان سيدني ليسنر وجوشوا روزينبلوم مسرحية موسيقية بعنوان «فيرماز لاست تانجو» (رقصة التانجو الأخيرة لفيرما)، وتبدأ المسرحية بإعلان البرهان أمام الصحافة، قبيل أن يتضح وجود خطأ في إحدى معادلاته.
بعد ذلك، يرحل العديد من علماء الرياضيات القدامى ومنهم بيير دو فيرما، عن النعيم الرياضي (الذي يسمى في المسرحية «ذا أفتر ماث» (ما بعد الرياضيات).) لمساعدة أندرو وايلز، الذي يسمى لسبب مجهول باسم دانييل كيان.
علق الناقد المسرحي سيث كريستنفلد أن هذه المسرحية لا بد أن تكون هي المناسبة الوحيدة التي غنيت فيها الكلمات «حدسية تانياما-شيمورا» على مسرح برودواي. افتتح العرض في مسرح نيويورك بمنهاتن في السادس من ديسمبر عام 2000. ومن المؤسف أنه اختتم في الحادي والثلاثين من ديسمبر.
ربما يكون العمل الإبداعي المفضل لدي من بين تلك الأعمال المستلهمة من فيرما، هي قصة سيرة ذاتية قصيرة ألفتها أليكس جالت ووردت في مجموعة قصصية بعنوان «ترو تيلز أوف أمريكان لايف» (قصص حقيقية من الحياة الأمريكية) من تحرير بول أوستر. تشرح جالت علاقتها الباردة بحبيبها جون وأنهما كانا على وشك الانفصال. كان عيد الميلاد يقترب وبدا أنه سيكون عيد الميلاد الأخير لهما معا. ذكرت أنها كانت منغمسة في كتاب عن مبرهنة فيرما الأخيرة (أحب أن أعتقد أنه هذا الكتاب)، وأنها كانت تقرأ منه بعض الأجزاء على جون الذي ظل صامتا وفي عالمه الخاص.
وبينما حل عيد الميلاد وانتهى، بدا أن جون لم يعبأ حتى بتقديم هدية لها. بعد ذلك، زارها دون موعد وقدم لأليكس مستطيلا من النسيج المحبوك يظهر عليه العددان: 124155 و100485. أوضح جون بفخر أنهما عددان متحابان: «كتبت برنامجا للكمبيوتر وتركته يعمل على مدى اثنتي عشرة ساعة. كان هذان العددان هما أكبر ما وجدت، ثم جدلتهما على هذا النسيج مرتين.»
فبينما كانت أليكس تقرأ عن مبرهنة فيرما الأخيرة، ذكرت أن أزواج الأعداد تسمى أعدادا متحابة إذا كان مجموع عوامل العدد الأول يساوي العدد الثاني، وكان مجموع عوامل العدد الثاني يساوي العدد الأول. فعوامل العدد 220 على سبيل المثال هي: (1 و2 و4 و5 و10 و11 و20 و22 و44 و55 و110) ومجموعها 284، وعوامل العدد 284 هي: (1 و2 و4 و71 و142) ومجموعها 220. وكان بيير دو فيرما قد اكتشف عام 1636 عددين متحابين جديدين؛ هما 17296 و18416.
الأهم من ذلك أن أليكس قرأت لجون أن العرف قد جرى بأن ينقش الأحباء عددين متحابين على نصفي تفاحة، ويأكل كل منهما نصفا ليكون ذلك مقويا للحب. من الجلي أن جون كان منصتا وقد استخدم إبر الحياكة ليقدم عدديه المتحابين اللذين اكتشفهما. وبنهاية القصة تؤكد لنا أليكس أن «مثير العواطف الرياضي القديم نجح من جديد.»
عن المؤلف
الخلاصة
سايمون سينج يتحدث إلى ترافيس إلبورو
إن خلفيتك فيزيائية، فما مقدار ما كنت تعرفه أنت نفسك عن مبرهنة فيرما الأخيرة قبل انخراطك في حلقات «هورايزون» الوثائقية والبدء في هذا الكتاب؟
أتذكر أنني عرفت بشأن مبرهنة فيرما الأخيرة حين كنت صبيا في الثانية عشرة تقريبا. وكانت من الموضوعات التي يعرضها علينا مدرس الرياضيات ليحاول إقناعنا بأن الأعداد مثيرة للاهتمام. وجدنا سهولة كافية في فهم المعادلة، وكان باستطاعتنا أن نلهو بمحاولة إيجاد حلول (والفشل في ذلك.) أخبرنا المدرس بتاريخ المسألة والملاحظة الهامشية سيئة السمعة، ومن المرجح أنه تحدانا للتوصل إلى برهان. وعلى عكس أندرو وايلز، فقد خفت ما عاينته في صباي من اهتمام بمبرهنة فيرما الأخيرة سريعا.
هل فوجئت بأن كتابا عن الرياضيات وعلماء الرياضيات قد حظي بمثل هذه الاستجابة الحماسية من جمهور القراء؟
لقد فوجئت بكل مرحلة من مراحل نجاح هذا الكتاب. فوجئت حين وجدت دار نشر بريطانية، وكنت أكثر دهشة حين وجدت اهتماما من دور نشر أجنبية. وحين وصل إلى المتاجر، كنت في غاية الذهول من ترقي الكتاب إلى قائمة الكتب العلمية الأفضل مبيعا، ناهيك عن ظهوره بعد ذلك في القائمة العامة للكتب الأفضل مبيعا، وبلوغه المرتبة الأولى في نهاية المطاف.
ذكرت في تمهيد الكتاب أنك حاولت تضمين أكبر قدر ممكن من الشخصيات وأوصافها، ويحفل الكتاب بالشخصيات الرائعة مثل صوفي جيرمان وبول ولفسكيل وديفيد هيلبرت وآلان تورينج. فما مدى الأهمية التي كان يمثلها إضافة الجانب الإنساني في القصة بالنسبة لك؟
أنا أرى أنه من الطبيعي جدا أن أتحدث عن علماء الرياضيات إضافة إلى الرياضيات. ربما يكون السبب في ذلك أنني عملت في مجال التليفزيون قبل أن أصبح كاتبا، وأعرف أن الشخصيات والحبكة والدراما عناصر جوهرية في العديد من البرامج التليفزيونية. ثم إن مبرهنة فيرما الأخيرة تحفل بتاريخ طويل وثري، وكانت المشكلة الوحيدة هي تحديد أي الشخصيات يضمن وأيها يحذف.
مبرهنة فيرما الأخيرة تحفل بتاريخ طويل وثري، وكانت المشكلة الوحيدة هي تحديد أي الشخصيات يضمن وأيها يحذف.
لقد أدهشتني الفكرة التي تكررت على مدى الكتاب، والمتمثلة في أن أندرو وايلز كان حالة استثنائية في الرياضيات الحديثة، من حيث إنه ظل يعمل بمفرده لحل المسألة على مدى سبع سنوات. أتعتقد أن ذلك قد يطرح مشكلة أمام أي شخص يحاول إثارة اهتمام الجمهور بالرياضيات الحديثة؛ إذ إن قصة العبقري المنعزل الذي يناضل بعيدا هي في جوهرها أكثر رومانتيكية من أن يكون مجموعة من الأكاديميين على سبيل المثال يتبادلون المعادلات في مصعد بأحد المؤتمرات، وهو السيناريو الأكثر نمطية على الأرجح؟
إذا كان أحد المراهقين يحلم بأن يكون عالم رياضيات؛ فيمكن له أو لها أن يختار العمل كعبقري منعزل في برجه العاجي، أو يختار العمل ضمن فريق يرسل الصواريخ إلى الفضاء، أو يصمم خوارزميات الرسوم المتحركة لاستوديوهات هوليوود، أو التنبؤ بسوق البورصة. فمتخصصو الرياضيات الناشئون دائما ما سيجدون بيئة تلائم رغباتهم الفكرية والاجتماعية. المشكلة هي أنه لا يوجد عدد كاف من الشباب في بريطانيا ممن يرغبون في أن يصبحوا متخصصين في الرياضيات أو (علماء). ولست متأكدا من السبب في عدم تعامل الحكومة مع هذه المشكلة بجدية، لكن الحقيقة أن السنوات القادمة ستشهد نقصا حادا في أعداد المتخصصين في الرياضيات وعلماء الرياضيات الشباب البارعين في بريطانيا مما سيكون له تأثير وخيم على اقتصادنا.
وصفت كيف أن وايلز صادف المسألة في كتاب وجده في مكتبة بلدته. وأنا أتساءل عما إذا كنت قد مررت بلحظة تجل مماثلة يمكن القول إنها أشعلت شغفك بالعلوم في بادئ الأمر؟
لا أعتقد أنني مررت بلحظة تجل، بل نما لدي حب استطلاع متزايد بشأن العالم. فبالرغم من أنني كنت أستمتع بالرياضيات، كانت العلوم هي التي أسرتني. دائما ما كانت الأسئلة المتعلقة بأصل الحياة وبناء الكون تبهرني، وقد تأجج هذا الشغف بالرياضيات والعلوم، بسبب معلمي المدرسة الذين وضحوا لي الصيغ والتجارب التي بثت في العلوم روح الحياة. والمشكلة اليوم هي أن معلمي العلوم الأكفاء ذوي الخبرة صاروا أقل فأقل؛ ولهذا فإن عدد المراهقين الذين يضجرون من العلوم في ازدياد.
لا أعتقد أنني مررت بلحظة تجل، بل نما لدي حب استطلاع متزايد بشأن العالم.
بعد أن عملت عالما وإذاعيا وكاتبا، ما الذي تفضله؟ أتفتقد في بعض الأحيان تلك الإثارة التي تنطوي عليها حياة المختبر؟
بالرغم من أنني كنت عالما كفئا، فقد أدركت في النهاية أنني لست من بين العلماء الأبرع والأفضل. لذا فقد رأيت أن أفضل شيء بعد أن أكون عالما هو أن أكون من المحاورين في مجال العلوم؛ لأن ذلك سيتضمن أن أستمر في التحدث إلى العلماء والتعرف على أحدث الأبحاث. إن أحد أكبر التحديات التي تواجهنا في الحياة هي معرفة ما ينبغي عليك أن تعمل فيه، وقد كنت محظوظا للغاية إذ قررت في مرحلة مبكرة من حياتي أن أنتقل من كوني عالما متوسطا إلى كاتب جيد جدا في مجال العلوم.
لقد أطلق كتابك العنان لجيل جديد بأكمله من كتب العلوم المبسطة، ولعله، إلى جانب كتاب «خطوط الطول» لدافا سوبيل، كان سببا أساسيا في تعريف الكثيرين بموضوع كان كثيرا ما يعد صعبا أو جامدا. فكيف تقيم كتابك اليوم حين تلقي نظرة على الماضي؟
بالرغم من أن العلوم ظلت حبي الأول على الدوام، وبالرغم من أنني سررت بازدهار الكتابة العلمية على مدى العقد الأخير، فمن المهم أن نتذكر أن «مبرهنة فيرما الأخيرة» كتاب في الرياضيات لا العلوم. إنني أفخر به على نحو خاص؛ لأنه كان من أوائل كتب الرياضيات التي تصل إلى عموم القراء، ولأنه أوضح أن علماء الرياضيات يكرسون كل اهتمامهم على نحو رائع لحل مسائل جميلة وملهمة.
علماء الرياضيات يكرسون كل اهتمامهم على نحو رائع لحل مسائل جميلة وملهمة.
وأخيرا، ما المشروع القادم لدى سايمون سينج؟
قبل بضع سنوات، قلت إنني قد لا أكتب كتابا آخر، لكني أعتقد أن ذلك الشعور كان يعود بصورة جزئية إلى أنني كنت مستنزفا بعد الانتهاء للتو من تأليف كتاب «الانفجار العظيم» الذي أسرد فيه تاريخ علم الكونيات. أنا أحب تأليف الكتب، لكنها عملية منهكة؛ إذ تستلزم مني أن أتعلم بشأن موضوع جديد تماما. ولهذا؛ فبعد سنوات من التركيز الذهني على موضوع واحد، من الصعب على المرء أن يتخيل خوض تلك العملية المضنية من جديد. بالرغم من ذلك، فبعد الانقطاع عن الكتابة عامين، أشعر الآن بالحماس للبدء مجددا. لدي فكرتان في ذهني، لكنني لن أفصح عنهما إلى أن أقرر إذا ما كنت سأطور إحداهما إلى كتاب.
ولد سايمون سينج في سومرست عام 1964. درس الفيزياء في كلية لندن الإمبراطورية، ثم أكمل درجة الدكتوراه في فيزياء الجسيمات بجامعة كامبريدج والمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية وجنيف. وبعد أن عجز عن اكتشاف الكوارك القمي، تخلى عن أي زعم بكونه عالما جادا، وانضم إلى شبكة «بي بي سي» عام 1991، وعمل في بعض البرامج مثل «توموروز ورلد» (عالم الغد) و«هورايزون» (الأفق). وهو أيضا مؤلف «كتاب الشفرة» وكتاب «الانفجار العظيم». يحب سايمون الأحجار نصف البيضاوية، والخدع السحرية، والمقامرة، وصعق الخيار المخلل بالكهرباء، والبرامج التليفزيونية التافهة والفرقة الموسيقية «فايولنت فام».
الموقع الإلكتروني للمؤلف:
www.simonsingh.net .
الكتابة: القراءة والكتابة مع سايمون سينج
س:
من هم الكتاب الذين تحبهم وكان لهم أكبر تأثير عليك؟
ج:
إنني أكن احتراما خاصا للعلماء الذين يقتطعون من وقتهم للكتابة للقارئ غير المتخصص. ما من سبب يدفع مارتن ريس أو ستيف جونز أو ريتشارد دوكينز إلى الانقطاع عن إجراء الأبحاث عالية الجودة وتأليف الكتب بدلا من ذلك. فالأرجح أنهم يدركون أن لكتبهم تأثيرا ضخما على الجمهور وعلى العلماء الناشئين .
س:
أيوجد كتاب تمنيت لو أنك كتبته؟
ج:
تعجبني الأفكار البارعة للكتب. لذا؛ فبالرغم من أنني لم أكن لأتمكن من كتابة «نصائح دكتور تاتيانا عن الجنس لجميع الكائنات» بقلم أوليفيا جودسون، فأنا أتمنى لو كنت قد فكرت في تأليف كتاب عن السلوك الحيواني في صورة خطابات ترد من مختلف الأنواع إلى عالمة حيوان تحرر عمود نصائح القراء. وبالمثل فإنني أتمنى أيضا لو أنني فكرت في الكتابة عن تطور التلغراف، الذي يفسر ثورة المعلومات الحالية. وقد كان هذا هو موضوع كتاب «الإنترنت الفيكتوري» بقلم توم ستانديج.
س:
ما الذي تقرؤه وأنت تكتب؟
ج:
أقرأ كتبا ترتبط مباشرة بالموضوع الذي أكتب عنه ولا شيء آخر. وأنا أكتب عن موضوعات جديدة عادة ما تكون جديدة علي؛ لذا فعلي أن أغمس نفسي تماما في هذه الموضوعات - الرياضيات والتشفير وعلم الكونيات - لأستطيع المواكبة.
إما أن أمسك بالناس في الشارع وأحدثهم عن العلوم، وإما أن أؤلف الكتب عنها، وأعتقد أن الخيار الثاني أحرى بألا يوقعني في المشكلات.
س:
ما الذي يحفزك للكتابة؟
ج:
أنا أحب تعلم العلوم والرياضيات؛ لذا فمن الرائع والمميز حقا أن أقضي بضعة أعوام في القراءة عن موضوع معين ولقاء المفكرين البارزين. غير أنني أرغب أيضا في إثارة اهتمام الآخرين بهذه الموضوعات. أعتقد أن الكون رائع ومدهش، فإما أن أمسك بالناس في الشارع وأحدثهم عن العلوم، وإما أن أؤلف الكتب عنها، وأعتقد أن الخيار الثاني أحرى بألا يوقعني في المشكلات.
تمهيد
إن قصة مبرهنة فيرما الأخيرة ترتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ الرياضيات، وتتصل بجميع المحاور الأساسية في نظرية الأعداد. وهي تمنحنا رؤية فريدة عما يدفع الرياضيات وما يلهم علماء الرياضيات، ولعل ذلك الأمر الأخير هو الأهم. تكمن المبرهنة الأخيرة في صميم قصة ملحمية مثيرة من الشجاعة والغش والمكر والمأساة، وهي تتضمن أعظم أبطال الرياضيات جميعا.
تمتد أصول مبرهنة فيرما الأخيرة إلى علم الرياضيات لدى قدماء اليونان، أي: قبل ألفي عام من تشكيل بيير دو فيرما للمعضلة بالطريقة التي نعرفها عليها اليوم. ومن ثم؛ فهي تربط أسس الرياضيات التي وضعها فيثاغورس بالأفكار الأكثر تعقيدا في الرياضيات الحديثة. وفي هذا الكتاب، اخترت أن أتبنى هيكلا زمنيا يبدأ بوصف الأخلاقيات الثورية للأخوية الفيثاغورسية، وينتهي بقصة الكفاح الشخصية التي عاشها أندرو وايلز من أجل إيجاد حل لمعضلة فيرما.
نتناول في الفصل الأول قصة فيثاغورس ونوضح كيف أن مبرهنة فيثاغورس هي السلف المباشر للمبرهنة الأخيرة. ونناقش في هذا الفصل أيضا بعض المفاهيم الأساسية في الرياضيات، التي سيتكرر ذكرها على طول الكتاب. وفي الفصل الثاني، ننتقل بالقصة من اليونان القديمة إلى فرنسا في القرن السابع عشر، حيث ابتكر بيير دو فيرما، اللغز الأكثر عمقا في تاريخ الرياضيات. ولتوضيح الشخصية الاستثنائية التي تميز بها فيرما وإسهاماته في الرياضيات، التي تتجاوز المبرهنة الأخيرة بمقدار كبير، خصصت عدة صفحات لوصف حياته، وبعض من اكتشافاته البارعة الأخرى.
وفي الفصلين الثالث والرابع، نصف بعض المحاولات لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وبالرغم من أن هذه المحاولات انتهت بالفشل، فقد خلفت مستودعا مذهلا من التقنيات الرياضية والأدوات، التي كان بعضها من العناصر الأساسية في المحاولات الأحدث لإثبات المبرهنة الأخيرة. وإضافة إلى وصف الرياضيات، خصصت القدر الأكبر من هذين الفصلين لذكر علماء الرياضيات الذين صاروا مهووسين بإرث فيرما. فقصصهم توضح مدى استعداد علماء الرياضيات للتضحية بأي شيء في رحلة البحث عن الحقيقة، ومدى تطور الرياضيات على مدى القرون.
أما الفصول المتبقية من الكتاب، فهي تؤرخ الأحداث البارزة في السنوات الأربعين الأخيرة، التي قد أحدثت ثورة في دراسة مبرهنة فيرما الأخيرة. وفي الفصلين السادس والسابع على وجه التحديد، نركز على عمل أندرو وايلز، الذي أذهلت اكتشافاته في العقد الأخير المجتمع الرياضي. وهذان الفصلان الأخيران يستندان على المقابلات الموسعة التي أجريتها مع وايلز. لقد كانت فرصة فريدة لي أن أستمع بصفة شخصية إلى واحدة من الرحلات الفكرية الأكثر استثنائية في القرن العشرين، وأرجو أن أكون قد تمكنت من التعبير عما بها من إبداع، والبطولة التي كانت تستلزمها محنة وايلز التي استمرت على مدى عشر سنوات.
وفي سردي لحكاية بيير دو فيرما ولغزه المحير، حاولت أن أشرح المفاهيم الرياضية دون اللجوء إلى المعادلات، غير أن رموزا مثل
x
و
y
و
z ، لا بد أن تطل برءوسها القبيحة بين الحين والآخر. وفي المرات التي تظهر فيها المعادلات في النص، حاولت تقديم تفسير كاف لها؛ لكي يتمكن القراء من فهم دلالتها، وإن كانوا لا يلمون بأي معارف أساسية عن الرياضيات. أما القراء الذين يلمون بمعرفة أعمق قليلا عن الموضوع، فقد وفرت لهم مجموعة من الملاحق التي تتوسع في تقديم الأفكار الرياضية التي يتضمنها النص الأساسي. إضافة إلى ذلك، ضمنت قائمة بمصادر إضافية للقراءة، تهدف في مجملها إلى تقديم المزيد من التفاصيل بشأن جوانب محددة من الرياضيات لغير المتخصصين فيها.
إن هذا الكتاب لم يكن ليصبح ممكنا دون مساعدة الكثيرين من الأشخاص ومشاركتهم. وأود أن أتقدم بالشكر على وجه التحديد، لأندرو وايلز الذي تجشم العناء ليمنحنا هذه المقابلات الطويلة المفصلة في وقت كان يواجه فيه ضغطا شديدا. فعلى مدى السنوات السبع التي عملت فيها صحافيا في مجال العلوم، لم ألتق أحدا على الإطلاق يكن لعمله من الشغف والالتزام ما يكنه البروفيسور وايلز، وأنا دائم الامتنان له إذ كان مستعدا لمشاركة قصته معي.
وأود أيضا أن أتقدم بالشكر لغيره من علماء الرياضيات الذين ساعدوني في كتابة هذا الكتاب، وسمحوا لي بإجراء مقابلات مفصلة معهم. وقد كان بعضهم منخرطا للغاية في معالجة أمر مبرهنة فيرما الأخيرة، بينما كان البعض الآخر شاهدا على الأحداث التاريخية في السنوات الأربعين الأخيرة فحسب. لقد استمتعت كثيرا بالساعات التي قضيتها في طرح الأسئلة عليهم وتبادل أطراف الحديث معهم، وأنا أقدر لهم صبرهم وحماسهم في شرح الكثير من المفاهيم الرياضية الجميلة لي. وأريد أن أتقدم بالشكر على وجه التحديد إلى جون كوتس، وجون كونواي، ونيك كاتس، وباري ميزور، وكين ريبت، وبيتر سارناك، وجورو شيمورا، وريتشارد تايلور.
لقد حاولت أن أضم إلى هذا الكتاب أكبر قدر ممكن من الصور الشخصية؛ لكي أقدم للقارئ انطباعا أدق عن الشخصيات المشتركة في قصة مبرهنة فيرما الأخيرة. لقد بذلت العديد من المكتبات والسجلات جهودا كبيرة في مساعدتي، وأود أن أخص بالشكر سوزان أوكس من جمعية «لندن ماثيماتيكال سوسايتي» وساندرا كامينج من جمعية «ذا رويال سوسايتي» وأيان ستيوارت من جامعة ووريك. وأنا ممتن أيضا لجاكلين سافاني من جامعة برينستون، ودانكن ماك أنجوس، وجيرمي جري، وبول باليستر ومعهد إسحاق نيوتن؛ لما قدموه من مساعدة في الحصول على المادة البحثية. وأتقدم بالشكر أيضا إلى باتريك والش، وكريستوفر بوتر، وبرناديت ألفيز، وسانجيدا أوكونيل، ووالدي أيضا؛ لما قدموه من تعليقات ودعم على مدى العام الماضي بأكمله.
وأخيرا، أود أن أذكر أن العديد من المقابلات التي أقتبس منها في هذا الكتاب قد أجريتها في أثناء العمل على برنامج وثائقي تليفزيوني، يتحدث عن مبرهنة فيرما الأخيرة. وأنا أتقدم بالشكر لشبكة «بي بي سي»؛ إذ سمحت لي باستخدام هذه المادة، وأدين بالامتنان على وجه التحديد، لجون لينش الذي عمل معي في البرنامج الوثائقي، وألهمني بالاهتمام بالموضوع.
سايمون سينج
تاكاركي، فاجوارا
1997
شكل 1: أندرو وايلز في عمر العاشرة حين التقى بمبرهنة فيرما الأخيرة للمرة الأولى.
الفصل الأول
«أعتقد أنني سأتوقف هنا»
ستذكر الأجيال أرشميدس حين تنسى إسخليوس؛ ذلك أن اللغات تموت والأفكار الرياضية لا تموت. ربما يكون «الخلود» مصطلحا سخيفا، لكن عالم الرياضيات هو من يحظى بأفضل فرصة في نيله على الأرجح، أيا كان ما يعنيه.
جي إتش هاردي (1) 23 يونيو 1993، كامبريدج
كانت تلك هي أهم محاضرة رياضية في القرن. مائتان من علماء الرياضيات قد جلسوا فيها يعتليهم الذهول. ربعهم فقط هم الذين كانوا يفهمون ذلك الخليط المعقد من الرموز اليونانية والجبر الذي كان يغطي السبورة. أما البقية، فقد حضروا من أجل أن يشهدوا تلك المناسبة فحسب، التي كانوا يأملون أن تكون مناسبة تاريخية بحق.
كانت الشائعات قد بدأت في اليوم السابق، إذ أشارت رسائل البريد الإلكتروني عبر الإنترنت إلى أن المحاضرة ستتوج في نهايتها بحل لمبرهنة فيرما الأخيرة، وهي أشهر المعضلات الرياضية في العالم. لم يكن مثل هذه الأخبار بالشيء غير المألوف؛ فغالبا ما كان موضوع مبرهنة فيرما الأخيرة يطرأ حول لقاءات الشاي، ويطرح علماء الرياضيات تخميناتهم بشأن من قد يفعل ماذا. وفي بعض الأحيان، تحول الهمهمات الرياضية التي تدور في قاعة الاجتماعات بالجامعة، التخمينات إلى شائعات عن تحقيق إنجاز كبير، لكن شيئا منها لم يتحقق قط.
أما في هذه المرة، فقد كانت الشائعة مختلفة. لقد كان أحد طلاب الدراسات العليا مقتنعا للغاية بصحتها، حتى إنه قد أسرع إلى وكلاء المراهنات؛ للمراهنة بقيمة عشرة جنيهات إسترلينية على أن مبرهنة فيرما الأخيرة سوف تحل في غضون هذا الأسبوع. غير أن وكيل المراهنات قد ارتاب في الأمر ورفض هذا الرهان. لقد كان هذا هو الطالب الخامس الذي يأتي إليه في ذلك اليوم، وجميعهم قد طلبوا أن يضعوا الرهان نفسه. لقد ظلت مبرهنة فيرما الأخيرة تحير أعظم العقول على الكوكب على مدى ما يزيد على ثلاثة قرون، أما الآن، فحتى وكلاء المراهنات بدءوا يرتابون في أن التوصل إلى برهانها قد صار وشيكا.
امتلأت السبورات الثلاثة بالحسابات وتوقف المحاضر. محيت الكتابة الموجودة على السبورة الأولى، واستمر الجبر. بدا أن كل سطر من الرياضيات هو خطوة صغيرة تقرب الحل، لكن ثلاثين دقيقة قد مرت ولم يكن المحاضر قد أفصح عن البرهان بعد. كان الأساتذة الذين احتشدوا في الصفوف الأولى ينتظرون النتيجة بتلهف. وكان الطلاب الواقفون في الخلف ينظرون إلى أساتذتهم بحثا عن أي إشارة تدل على ما قد تكون عليه النتيجة. أكانوا يشاهدون إثباتا كاملا لمبرهنة فيرما الأخيرة، أم أن المحاضر كان يلخص حجة غير مكتملة مخيبة للآمال فحسب؟
كان المحاضر هو أندرو وايلز، رجلا إنجليزيا متحفظا هاجر إلى أمريكا في ثمانينيات القرن العشرين، وتولى أحد مناصب الأستاذية في جامعة برينستون؛ حيث اكتسب سمعة بصفته أحد أبرع علماء الرياضيات في جيله. غير أنه في السنوات الأخيرة، اختفى عن الأنظار تقريبا من الجولة السنوية للمؤتمرات والحلقات النقاشية. وبدأ الزملاء يفترضون أن وايلز قد انتهى. فليس من الغريب أن تخبو العقول الشابة البارعة، وهو الأمر الذي أشار إليه عالم الرياضيات ألفريد أدلر إذ قال: «قصيرة هي الحياة الرياضية لعالم الرياضيات؛ فنادرا ما يتحسن العمل بعد سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين. إذا لم يتحقق سوى القليل بحلول ذلك الوقت؛ فالقليل هو كل ما سيتحقق أبدا.»
في كتابه «اعتذار عالم رياضيات»، يقول جي إتش هاردي: «على الشباب أن يتوصلوا إلى إثبات المبرهنات، وعلى الشيوخ أن يكتبوا الكتب. وينبغي لعلماء الرياضيات ألا ينسوا أبدا أن الرياضيات مجال للشباب، وهي تتسم بذلك أكثر من أي علم أو فن آخر. فمن الأمثلة البسيطة التي توضح ذلك أن متوسط عمر الانتخاب لجمعية «ذا رويال سوسايتي» هو الأقل في الرياضيات.» لقد انتخب تلميذه النابغة سرينيفاسا رامانوجان، زميلا في جمعية «ذا رويال سوسايتي» وهو في سن الواحدة والثلاثين فحسب؛ إذ كان قد توصل إلى مجموعة من الاكتشافات المذهلة خلال شبابه. وبالرغم من أنه لم يحظ إلا بقدر ضئيل للغاية من التعليم الرسمي في قريته الأم كومباكونام في جنوب الهند، تمكن رامانوجان من ابتكار مبرهنات وحلول أعجزت علماء الرياضيات في الغرب. ففي الرياضيات، يبدو أن الخبرة التي يكتسبها المرء مع التقدم في العمر أقل أهمية من حدس الشباب وجرأته. حين أرسل رامانوجان نتائجه إلى هاردي، انبهر بها بروفيسور كامبريدج، حتى إنه دعا الشاب إلى التخلي عن عمله البائس موظفا في جنوب الهند، والالتحاق بكلية ترينيتي كوليدج، حيث سيتمكن من التفاعل مع بعض من أبرز علماء الرياضيات في مجال نظرية الأعداد. ومن سوء الحظ أن الشتاء في شرق إنجلترا كان شديد القسوة على رامانوجان، فأصيب بمرض السل ومات في سن الثالثة والثلاثين.
بعض علماء الرياضيات الآخرين قد حظوا هم أيضا بمسيرة عملية على الدرجة نفسها من البراعة والقصر. فعالم الرياضيات النرويجي الذي عاش في القرن التاسع عشر، نيلز هنريك آبل، قد قدم أعظم إسهاماته في الرياضيات وهو في سن التاسعة عشرة، ومات فقيرا بعد ذلك بثماني سنوات، من مرض السل أيضا. لقد قال عنه تشارلز هرمايت: «لقد ترك لعلماء الرياضيات ما يبقيهم منشغلين على مدى خمسمائة عام.» ولا شك أن اكتشافات آبل لا يزال لها عظيم الأثر على علماء الرياضيات المنشغلين بنظرية الأعداد في الوقت الحالي. إيفاريست جالوا، معاصر آبل الذي لا يقل عنه نبوغا، قد قدم هو أيضا إنجازاته الكبيرة وهو لا يزال في سن المراهقة، ومات في الواحدة والعشرين فحسب.
ليس الهدف من هذه الأمثلة الاستدلال على أن علماء الرياضيات يموتون مبكرا وعلى نحو مأساوي، بل توضيح أن أفكارهم الأكثر عمقا تتولد عادة في مرحلة الشباب؛ فمثلما قال هاردي من قبل: «أنا لا أعرف مثالا على تقدم مهم في الرياضيات قد توصل إليه رجل تجاوز الخمسين.» وغالبا ما يتلاشى علماء الرياضيات متوسطو العمر إلى الخلفية ويقضون السنوات المتبقية من أعمارهم في التدريس أو الإدارة لا البحث. أما في حالة أندرو وايلز، فذلك بعيد كل البعد عن الحقيقة. لقد بلغ الأربعين من العمر، لكنه قضى السنوات السبع الأخيرة في العمل بسرية تامة، في محاولة لحل المسألة الفريدة الأعظم في الرياضيات. وبينما كان الآخرون يشكون في أنه قد نضب، كان وايلز يحرز تقدما مذهلا، ويبتكر تقنيات وأدوات جديدة كان قد أصبح آنذاك مستعدا للإفصاح عنها. لقد كان قراره بالعمل في انعزال تام استراتيجية تنطوي على قدر كبير من الخطورة، وهي غير معروفة في عالم الرياضيات.
لما كانت الرياضيات تخلو من الاختراعات التي يمكن التقدم بالحصول على براءة لها، فقد صارت أقسام الرياضيات في أي جامعة هي أقل الأقسام سرية على الإطلاق. إن ذلك المجتمع يفتخر بانفتاحه وبالتبادل الحر للأفكار فيه، حتى إن استراحات الشاي قد تطورت إلى طقوس يومية لمشاركة الأفكار واستكشافها مع تناول قطع البسكويت وشاي إيرل جراي. ونتيجة لذلك، يزداد انتشار الأوراق البحثية التي يشترك فيها عدد من المؤلفين أو فرق من علماء الرياضيات؛ ومن ثم فهم يتشاركون المجد بالتساوي. بالرغم من ذلك، إذا كان البروفيسور وايلز قد اكتشف برهانا كاملا ودقيقا لمبرهنة فيرما الأخيرة؛ فإن أبرز جائزة في الرياضيات كانت ستصبح من نصيبه وحده دون منازع. وكان الثمن الذي اضطر إلى دفعه مقابل هذه السرية ، هو أنه لم يناقش قبل ذلك أفكاره مع مجتمع الرياضيات أو يختبرها؛ ومن ثم فقد كان ثمة احتمال كبير في أنه قد ارتكب خطأ جوهريا.
من الناحية المثالية، كان وايلز يرغب في قضاء وقت أكبر في مراجعة عمله؛ لكي يتمكن من التحقق من مخطوطته النهائية تماما. غير أن الفرصة الفريدة قد ظهرت بعد ذلك ليعلن عن اكتشافه في معهد إسحاق نيوتن في كامبريدج، وتخلى وايلز عن حذره. إن الهدف الوحيد من وجود هذا المعهد هو جمع العقول الأعظم في العالم معا لبضعة أسابيع من أجل عقد الحلقات النقاشية بشأن موضوع بحثي حديث من اختيارهم. يقع المبنى على أطراف الجامعة بعيدا عن الطلاب وغير ذلك من مصادر التشتيت، وقد صمم خصيصى لتشجيع الباحثين الأكاديميين على التعاون والعصف الذهني، إذ لا توجد بالمبنى ممرات مغلقة يمكن الاختباء فيها، وجميع المكاتب تقع قبالة ساحة مركزية. من المفترض أن يقضي علماء الرياضيات وقتهم في هذا المكان المفتوح، وهم يثنون عن غلق أبواب مكاتبهم. وحتى المصعد الذي لا ينتقل إلا بين ثلاثة طوابق، يحتوي على سبورة سوداء، بل إن كل قاعة في المبنى، بما في ذلك دورات المياه، تحتوي على سبورة واحدة على الأقل. وفي هذه المناسبة، عقدت حلقات النقاش في معهد إسحاق نيوتن تحت عنوان «الدوال اللامية وعلم الحساب» وقد اجتمع أفضل علماء نظرية الأعداد في العالم، لمناقشة المسائل المتعلقة بهذا المجال المتخصص للغاية من الرياضيات البحتة. غير أن وايلز وحده هو الذي أدرك أن الدوال اللامية قد تنطوي على مفتاح حل مبرهنة فيرما الأخيرة.
وبالرغم من أن الفرصة في الإفصاح عن عمله لمثل ذلك الجمهور الرفيع كانت من عوامل الجذب بالنسبة إليه، فقد كان السبب الأساسي للقيام بمثل ذلك الإعلان في معهد إسحاق نيوتن، هو أنه يقع في بلدته الأصلية: كامبريدج. كان ذلك هو المكان الذي ولد فيه وايلز، وترعرع، ونما فيه شغفه بالأعداد، وفيه قد عثر أيضا على المسألة التي كانت ستهيمن على بقية حياته. (1-1) المسألة الأخيرة
في عام 1963، حين كان أندرو وايلز في العاشرة من عمره، صار متيما بالفعل بالرياضيات. «لقد كنت أحب حل المسائل في المدرسة، وكنت آخذها إلى البيت وأؤلف بنفسي مسائل جديدة. غير أن أفضل مسألة عثرت عليها على الإطلاق، قد اكتشفتها في المكتبة المحلية بالبلدة.»
في أحد الأيام حين كان وايلز الصغير يسير إلى البيت بعد خروجه من المدرسة، قرر زيارة المكتبة الواقعة في ميلتون رود. وقد كانت فقيرة بعض الشيء مقارنة بمكتبات الكليات، غير أنها كانت تزخر بمجموعة وفيرة من كتب الألغاز، وكان ذلك هو ما يسترعي انتباه أندرو في أغلب الأحيان. كانت هذه الكتب تمتلئ بجميع أشكال المعضلات العلمية والأحاجي الرياضية، وكانت إجابات هذه الأسئلة تقبع في مكان ما في الصفحات الأخيرة. أما في هذه المرة، فقد كان ما جذب انتباه أندرو هو كتابا لا يتضمن إلا مسألة واحدة دون حل لها.
كان عنوان الكتاب هو «المسألة الأخيرة» من تأليف إريك تيمبل بيل، وكان يسرد تاريخ مسألة رياضية تعود جذورها إلى اليونان القديمة، لكنها لم تصل إلى مرحلة النضج الكامل إلا في القرن السابع عشر، وذلك حين صاغها الرياضي الفرنسي العظيم بيير دو فيرما، لتكون تحديا لبقية العالم دون قصد منه. وواحدا تلو الآخر، شعر العديد من علماء الرياضيات العظام بالتواضع أمام إرث فيرما، وعلى مدى ثلاثمائة عام، لم يتمكن أحد من حله. ثمة أسئلة أخرى ما من إجابة لها في الرياضيات، غير أن ما يميز مسألة فيرما هو بساطتها الخادعة. وبعد ثلاثين عاما من قراءة كتاب بيل للمرة الأولى، أخبرني وايلز بما شعر به في اللحظة التي تعرف فيها على مبرهنة فيرما الأخيرة: «لقد بدت بسيطة للغاية، ومع ذلك، لم يتمكن جميع علماء الرياضيات العظام في التاريخ من حلها. تلك مسألة، تمكنت أنا الصبي ذو الأعوام العشرة من فهمها، وقد عرفت منذ تلك اللحظة أنني لن أستطيع نسيانها. كان علي أن أحلها.»
تبدو المسألة مباشرة للغاية؛ لأنها تستند إلى المعلومة الرياضية الوحيدة التي يتذكرها الجميع، وهي مبرهنة فيثاغورس:
في المثلث القائم الزاوية، يكون مربع طول الوتر مساويا لمجموع مربعي طولي الضلعين الآخرين.
ونتيجة لتلك الأنشودة الفيثاغورسية البسيطة، طبعت المبرهنة في ملايين العقول البشرية، بل المليارات منها. إنها المبرهنة الأساسية التي يكون على كل تلميذ بريء أن يتعلمها. وبالرغم من أن الطفل ذا الأعوام العشرة يستطيع فهمها، فإن ابتكار فيثاغورس كان هو مصدر الإلهام لمسألة قد أعجزت أعظم العقول الرياضية في التاريخ.
كان فيثاغورس الساموسي واحدا من أكثر الشخصيات تأثيرا في الرياضيات، ومن أكثرها غموضا أيضا. ونظرا إلى عدم وجود روايات مباشرة عن حياته وأعماله، فهو مسجى بالخرافات والأساطير؛ مما يمثل صعوبة للمؤرخين في الفصل بين الحقيقة والخيال. أما ما يبدو مؤكدا، فهو أن فيثاغورس قد شكل فكرة المنطق العددي، وإليه يعود الفضل في تدشين العصر الذهبي الأول للرياضيات. وبفضل براعته، لم يعد استخدام الأعداد مقتصرا على العد والحساب فحسب، بل صارت تقدر في حد ذاتها. فدرس خصائص أعداد معينة، والعلاقات فيما بينها، وكذلك الأنماط التي تشكلها. وأدرك أن وجود الأعداد مستقل عن العالم المحسوس؛ ومن ثم فإن أخطاء الإدراك الحسي لا تشوب دراستها. وقد كان معنى هذا أن بإمكانه معرفة الحقائق المستقلة عن الرأي أو التحيز، التي تكون أكثر قطعية من المعارف السابقة.
لقد اكتسب فيثاغورس، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، مهاراته الرياضية عن طريق رحلاته في العالم القديم. بعض الروايات تطلب منا أن نصدق أنه قد سافر إلى أقصى الأماكن مثل الهند وبريطانيا، غير أن الأمر الأكثر يقينا أنه جمع العديد من أساليبه الرياضية وأدواته من المصريين والبابليين. وكلا هذين الشعبين القديمين قد تجاوزا حدود العد البسيط، وتمكنا من إجراء عمليات حسابية معقدة؛ مما أتاح لهما ابتكار أنظمة معقدة للمحاسبة، وتشييد مبان متقنة. لا شك أنهم لم يكونوا ينظرون إلى الرياضيات إلا بوصفها أداة لحل المشكلات العملية؛ فقد كان الدافع وراء اكتشاف بعض قواعد الجبر الأساسية هو التمكن من إعادة تشييد حدود الحقول التي ضاعت في الفيضان السنوي للنيل. فكلمة الجبر نفسها تعني «قياس الأرض».
وقد لاحظ فيثاغورس أن المصريين والبابليين كانوا يجرون كل عملية من العمليات الحسابية على هيئة وصفة يمكن اتباعها دون تفكير. وهذه الوصفات التي انتقلت من جيل إلى جيل، كانت تعطي النتيجة الصحيحة على الدوام؛ ومن ثم، فإن أحدا لم يتجشم عناء التفكير فيها أو استكشاف المنطق الذي تنطوي عليه هذه المعادلات. لقد كان الأمر المهم لهاتين الحضارتين هو أن المعادلة ناجحة، أما السبب في نجاحها فلم يكن بالشيء الذي تهتم به.
بعد عشرين عاما من السفر، كان فيثاغورس قد استوعب كل القواعد الرياضية في العالم المعروف، ثم أبحر إلى جزيرته الأم ساموس، التي تقع في بحر إيجه، وهو يعتزم تأسيس مدرسة تختص بدراسة الفلسفة، وتعنى تحديدا بالبحث في القواعد الرياضية التي اكتسبها حديثا. لقد كان يرغب في فهم الأعداد، لا استخدامها فحسب. وكان يأمل في أن يجد الكثير من الطلاب الذين يتمتعون بملكة التفكير الحر ويساعدونه في تشكيل فلسفات جذرية جديدة، لكن في أثناء غيابه، كان الطاغية بوليقراط قد حول ساموس التي كانت تتمتع بالحرية فيما قبل، إلى مجتمع متعصب محافظ. دعا بوليقراط فيثاغورس للانضمام إلى بلاطه، لكن الفيلسوف قد أدرك أن ذلك ليس سوى مناورة تهدف إلى إسكاته؛ فرفض ذلك الشرف. وبدلا من ذلك، ترك المدينة وفضل عليها كهفا يقع في منطقة نائية من الجزيرة حيث كان يستطيع أن يتأمل دون خوف من الاضطهاد.
لم يستسغ فيثاغورس عزلته، ولجأ في نهاية المطاف إلى رشوة أحد الفتيان ليكون أول طالب له. إننا لا نعرف هوية ذلك الشاب على وجه اليقين، لكن بعض المؤرخين قد اقترحوا أن اسمه هو أيضا فيثاغورس، وأن ذلك الطالب هو من سيحظى بالشهرة بعد ذلك؛ لاقتراحه أنه ينبغي على علماء الرياضيات أكل اللحوم لتحسين بنيتهم الجسمانية. دفع فيثاغورس المعلم لتلميذه ثلاثا من عملات الأوبول المعدنية مقابل كل درس كان يحضره، ثم لاحظ مع مرور الأسابيع أن ما كان يراه لدى الفتى من إحجام أولي عن التعلم ، قد تحول إلى حماس للمعرفة. ولكي يختبر تلميذه، تظاهر فيثاغورس بأنه لم يعد قادرا على أن يدفع النقود لتلميذه، ومن ثم فلا بد أن تتوقف الدروس، وحينها عرض الطالب أن يدفع مقابل تعليمه لا أن ينهيه. كان التلميذ قد أصبح مريدا. لكن ذلك الطالب كان هو الشخص الوحيد للأسف الذي تمكن فيثاغورس من تبديل حاله في جزيرة ساموس. فقد أسس مدرسة بالفعل وقتا قصيرا، وكانت تعرف باسم «ذا سيمي سيركل أوف فيثاغورس»، غير أن آراءه بشأن الإصلاح الاجتماعي لم تلق قبولا، واضطر الفيلسوف إلى الفرار من الوطن مع أمه ومريده الوحيد.
غادر فيثاغورس إلى جنوب إيطاليا التي كانت جزءا من اليونان الكبرى، واستقر في قروطون حيث حالفه الحظ إذ وجد راعيا مثاليا في ميلو: أثرى رجال قروطون، وأحد أقوى الرجال في التاريخ. وبالرغم من أن سمعة فيثاغورس بصفته حكيم ساموس كانت قد بدأت تنتشر عبر اليونان بالفعل، كانت شهرة ميلو أكبر وأعظم. كان ميلو رجلا يتمتع بجسد عملاق، وقد حاز على بطولة الألعاب الأوليمبية والبايثونية على مدى اثنتي عشرة مرة. وعلاوة على اهتمامه بالرياضة، كان ميلو متذوقا للفلسفة والرياضيات ودارسا لهما. تخلى ميلو عن جزء من منزله ووفر لفيثاغورس مكانا كافيا لتأسيس مدرسة. وبهذا، تكونت شراكة بين العقل الأكثر إبداعا والجسد الأقوى.
ولما صار فيثاغورس آمنا في بيته الجديد، فقد أسس الأخوية الفيثاغورسية، وهي رابطة تكونت من ستمائة من الأتباع الذين لم يكونوا قادرين على فهم تعاليمه فحسب، بل كانوا يضيفون إليها أيضا بابتكار أفكار وبراهين جديدة. عند الانضمام إلى الأخوية، كان على كل تابع أن يهدي جميع ممتلكاته الدنيوية إلى صندوق مشترك. وإذا رغب أي فرد في ترك الأخوية، فإنه كان يحصل على ضعف ما تبرع به، مع إقامة شاهد تخليدا لذكراه. كانت الأخوية مدرسة تقوم على المساواة، وكان بها العديد من الأخوات. لقد كانت الطالبة المفضلة لدى فيثاغورس هي ابنة ميلو: ثيانو الجميلة. وبالرغم من الفارق بين عمريهما، فقد تزوجا في نهاية المطاف.
وبعد تأسيس الأخوية بمدة قصيرة ، صك فيثاغورس مصطلح «فيلسوف»؛ وحدد بهذا أهداف مدرسته. وبينما كان ليون، أمير فليوس، يحضر الألعاب الأوليمبية ذات مرة، سأل فيثاغورس عن وصفه لنفسه؛ فأجاب فيثاغورس: «أنا فيلسوف.» غير أن ليون لم يكن قد سمع بالكلمة من قبل، وطلب منه أن يشرحها.
إن الحياة، أيها الأمير ليون، شديدة الشبه بهذه المسابقات العلنية؛ ففي هذا الحشد الكبير المجتمع هنا، ينجذب البعض إلى جني الربح، وينجذب آخرون إلى آمال الشهرة والمجد وطموحاتها. غير أن قلة من بينهم قد جاءت لتراقب كل ما يمر هنا وتفهمه.
والأمر نفسه ينطبق على الحياة؛ فالبعض يتأثرون بحب الثروة، بينما يندفع آخرون دون تفكير وراء حمى القوة والسيادة. أما النوع الأرقى من البشر، فيكرس نفسه لاستكشاف معنى الحياة نفسها وغايتها. إنه يسعى إلى الكشف عن أسرار الطبيعة. وهذا النوع من البشر هو من أدعوهم بالفلاسفة، فبالرغم من أنه ما من إنسان حكيم تماما في جميع النواحي، فهو يحب الحكمة بصفتها هي المفتاح لأسرار الطبيعة.
وبالرغم من أن الكثيرين كانوا يعرفون بطموحات فيثاغورس، فإنه لم يعرف أحد من خارج الأخوية تفاصيل نجاحه أو مداه. فقد كان على جميع أعضاء المدرسة أن يقسموا على ألا يبوحوا للعالم الخارجي بأي من اكتشافاتهم الرياضية. وحتى بعد وفاة فيثاغورس، أغرق أحد أعضاء الأخوية إذ حنث في قسمه وأعلن اكتشاف مجسم منتظم جديد؛ هو متعدد الأوجه الاثني عشري، الذي يتشكل من اثني عشر مخمسا منتظما. وهذه السرية الشديدة التي اتسمت بها الأخوية الفيثاغورسية كانت سببا في تشكل الأساطير بشأن ما قد يكونون مارسوه من طقوس غريبة، وهي السبب أيضا في قلة الروايات التي يمكن الوثوق بها بشأن إنجازاتهم الرياضية.
ما نعرفه على وجه اليقين هو أن فيثاغورس قد أرسى بعض الأخلاقيات التي غيرت من مسار الرياضيات. كانت الأخوية مجتمعا دينيا بالفعل، وكانت «الأعداد» من معبوداتهم. فقد كانوا يؤمنون بأن فهم العلاقات الموجودة بين الأعداد سيمكنهم من الكشف عن الأسرار الروحانية للكون، ويقربهم من الآلهة. وقد ركزت الأخوية انتباهها على دراسة الأعداد الصحيحة على وجه التحديد (1، 2، 3، ...) والكسور. إن «الأعداد الصحيحة» مع الكسور (النسب بين الأعداد الصحيحة) تشكلان معا ما يعرف باسم «الأعداد النسبية». ومن بين ذلك العدد اللانهائي من الأعداد، كانت الأخوية تولي أهمية خاصة لبعض هذه الأعداد الأكثر تميزا التي كانت تعرف باسم الأعداد «المثالية».
كان فيثاغورس يرى أن المثالية العددية تتوقف على قواسم العدد، وهي الأعداد التي تقبل القسمة على العدد الأصلي دون باق. فقواسم العدد 12 على سبيل المثال، هي 1 و2 و3 و4 و6. وحين يكون مجموع قواسم العدد أكبر من العدد نفسه، يسمى العدد «عددا زائدا». ومن ثم؛ فإن العدد 12 هو عدد زائد؛ لأن مجموع قواسمه يساوي 16. وعلى العكس من ذلك، حين يكون مجموع قواسم العدد أصغر من العدد نفسه، فإنه يسمى «عددا ناقصا»؛ ومن ثم فالعدد 10 عدد ناقص؛ لأن مجموع قواسمه: 1 و2 و5، يساوي 8 فقط.
أما الأكثر أهمية وندرة بين الأعداد، فهي تلك الأعداد التي يكون مجموع قواسمها مساويا للعدد نفسه، وتعرف باسم «الأعداد المثالية». فقواسم العدد 6 على سبيل المثال، هي 1 و2 و3؛ إذن فهو عدد مثالي؛ لأن 1 + 2 + 3 = 6. والعدد المثالي التالي له هو 28؛ لأن 1 + 2 + 4 + 7 + 14 = 28.
وإضافة إلى أهميتها الرياضية لدى الأخوية، فقد كانت مثالية العددين 6 و 28 من الأمور التي أدركتها بعض الثقافات الأخرى التي لاحظت أن القمر يدور حول الأرض مرة كل 28 يوما، وأعلنت أن الإله قد خلق العالم في 6 أيام. ففي كتاب «ذا سيتي أوف جاد» (مدينة الإله)، يحاجج القديس أوجستين بأن الإله كان قادرا على خلق العالم في لحظة واحدة، لكنه قرر أن يخلقه في ستة أيام ليدلل على مثالية الكون. وأشار القديس أوجستين إلى أن مثالية العدد 6 لا تعود إلى اختيار الإله له، بل هي طبيعة جوهرية في العدد نفسه: «العدد 6 مثالي في حد ذاته وليس لأن الإله قد خلق كل شيء في ستة أيام، بل عكس ذلك هو الصحيح؛ أي إن الإله قد خلق كل شيء في ستة أيام؛ لأن هذا العدد مثالي، وكان سيظل مثاليا حتى وإن لم تخلق الأشياء كلها في ستة أيام.»
ومع زيادة الأعداد الصحيحة في الضخامة، يصبح العثور على الأعداد المثالية أمرا أصعب؛ فالعدد المثالي الثالث هو 496، والرابع هو 8128، والخامس 33550336، والسادس هو 8589869056. وإضافة إلى حقيقة أن هذه الأعداد تساوي مجموع قواسمها، لاحظ فيثاغورس أن جميع الأعداد المثالية تتسم بالعديد من الخصائص الأنيقة، ومنها على سبيل المثال أن الأعداد المثالية دائما ما تساوي مجموع سلسلة من الأعداد الصحيحة المتتالية. فنجد أن:
6 = 1 + 2 + 3,
28 = 1 + 2 + 3 + 4 + 5 + 6 + 7,
496 = 1 + 2 + 3 + 4 + 5 + 6 + 7 + 8 +9 + + 30 + 31,
8128 = 1 + 2 + 3 + 4 + 5 + 6 + 7 + 8 + 9 + + 126 + 127.
لقد استحوذت الأعداد المثالية على انتباه فيثاغورس، لكنه لم يكتف بجمع هذه الأعداد المميزة فحسب، بل كان يرغب في اكتشاف دلالتها الأعمق. ومن الرؤى التي خطرت له أن المثالية ترتبط ارتباطا وثيقا «بالثنائية». فالأعداد 4 (2 × 2) و8 (2 × 2 × 2) و16 (2 × 2 × 2 × 2) إلى آخر ذلك، تعرف بأنها قوى العدد 2، ويمكن كتابتها على الصورة ، حيث
n
هي أعداد 2 مضروبة معا. وجميع قوى العدد 2 لا يمكن أن تكون مثالية بمفردها؛ لأن مجموع قواسمها دائما ما يكون أقل من العدد نفسه بواحد؛ مما يجعلها أعدادا ناقصة بدرجة طفيفة:
2
2 = 2 × 2 =
4 ، القواسم: 1 و2 المجموع =
3 ،
2
3 = 2 × 2 × 2 =
8 ، القواسم: 1 و2 و4 المجموع =
7 ،
2
4 = 2 × 2 × 2 × 2 =
16 ، القواسم: 1 و2 و4 و8 المجموع =
15 ،
2
5 = 2 × 2 × 2 × 2 × 2 =
32 ، القواسم: 1 و2 و4 و8 و16 المجموع =
31 .
وبعد ذلك بقرنين من الزمان، حسن إقليدس من العلاقة التي توصل إليها فيثاغورس بين الثنائية والمثالية. فاكتشف أن الأعداد المثالية دائما ما تكون حاصل ضرب عددين، أحدهما من قوى العدد 2 والآخر هو القوة التالية للعدد 2 ناقص واحد، أي إن:
6 = 2
1 × (2
2 − 1),
28 = 2
2 × (2
3 − 1),
496 = 2
4 × (2
5 − 1),
8128 = 2
6 × (2
7 − 1).
إن أجهزة الكمبيوتر في العصر الحالي قد واصلت البحث عن الأعداد المثالية وتوصلت إلى أمثلة في غاية الضخامة عليها؛ مثل 2
216,090 × (2
216,091 − 1)، وهو عدد يضم أكثر من 130000 رقم، ويتبع قاعدة إقليدس.
لقد كان فيثاغورس مفتونا بما تتسم به الأعداد المثالية من أنماط ثرية وخصائص، واحترم غموضها ومكرها. إن مفهوم المثالية يبدو للوهلة الأولى من المفاهيم التي يسهل استيعابها إلى حد ما، غير أن اليونانيين القدماء لم يتمكنوا من إدراك بعض النقاط الجوهرية في الموضوع. فعلى سبيل المثال، يوجد الكثير من الأعداد التي يكون مجموع قواسمها أقل من العدد نفسه بمقدار واحد فقط، أي إنها ناقصة بدرجة طفيفة، غير أنه لا يبدو أنه توجد أعداد زائدة بدرجة طفيفة. لم يتمكن اليونانيون من العثور على أي أعداد يكون مجموع قواسمها أكبر من العدد نفسه بمقدار واحد فقط، وهم لم يتمكنوا من تفسير ذلك. وعلى نحو مثير للإحباط، بالرغم من أنهم لم يتمكنوا من اكتشاف أعداد زائدة بدرجة طفيفة ، لم يتمكنوا أيضا من البرهنة على عدم وجود مثل هذه الأعداد. إن فهم السبب في الغياب الواضح للأعداد الزائدة بدرجة طفيفة لم يكن بذي قيمة عملية على الإطلاق، وإنما هي مسألة يمكن أن توضح بعض خصائص الأعداد؛ ومن ثم فقد كانت جديرة بالدراسة. وقد أثارت مثل هذه الألغاز اهتمام الأخوية الفيثاغورسية، وحتى بعد ألفين وخمسمائة عام لم يتمكن علماء الرياضيات من البرهنة على عدم وجود الأعداد الزائدة بدرجة طفيفة. (1-2) كل شيء عدد
إضافة إلى دراسة العلاقات بين الأعداد، كان فيثاغورس مهتما أيضا بالعلاقة بين الأعداد والطبيعة. لقد أدرك أن الظواهر الطبيعية تخضع لقوانين، وأنه يمكن وصف هذه القوانين بالمعادلات الرياضية. ومن أوائل الروابط التي اكتشفها، العلاقة الجوهرية بين تناغم الموسيقى وتناغم الأعداد.
كانت الآلة الأهم في الموسيقى الهلينية هي القيثارة رباعية الأوتار. وقبل فيثاغورس، أدرك الموسيقيون أن بعض النغمات الموسيقية المحددة حين تصدر معا، تولد تأثيرا جميلا، وكانوا يضبطون أوتارهم بحيث يؤدي النقر على وترين إلى توليد مثل ذلك التناغم. غير أن الموسيقيين الأوائل لم يتمكنوا من فهم السبب في تناغم بعض النغمات المحددة دون غيرها، ولم يتوصلوا إلى نظام موضوعي لضبط آلالاتهم، بل كانوا يضبطونها سماعيا فقط إلى أن يصلوا إلى الحالة التي يتحقق فيها التناغم؛ وهي العملية التي كان يسميها أفلاطون تعذيب مسامير الضبط.
يصف العالم يامبليخوس الذي عاش في القرن الرابع، والذي كتب تسعة كتب عن الجماعة الفيثاغورسية، الكيفية التي توصل بها فيثاغورس إلى اكتشاف المبادئ الأساسية للتناغم الموسيقي:
لقد كان منهمكا ذات مرة في التفكير بشأن ما إذا كان بإمكانه تصميم أداة ميكانيكية لحاسة السمع تكون دقيقة وحاذقة. وستكون مثل هذه الأداة شبيهة بالفرجارات والمساطر والآلات البصرية المصممة لحاسة البصر. وينطبق الأمر نفسه على حاسة اللمس التي تستخدم فيها الموازين ومفاهيم الأوزان والمقاييس. ومن حسن حظه أن تصادف مروره بورشة حدادة واستمع إلى المطارق وهي تدق على الحديد فتصدر تناغما متنوعا من الاهتزازات المترددة فيما بينها، باستثناء توليفة واحدة من الأصوات.
ووفقا ليامبليخوس، فإن فيثاغورس قد هرع إلى ورشة الحدادة على الفور؛ ليبحث في أمر تناغم المطارق. وقد لاحظ أن معظم المطارق يمكن أن تدق بالتزامن معا لإصدار صوت متناغم، بينما كانت هناك مطرقة محددة إذا تضمنتها أي توليفة فإنها كانت تصدر ضوضاء بغيضة. حلل المطارق وأدرك أن تلك التي كانت متناغمة بعضها مع بعض، كانت توجد بينها علاقة رياضية بسيطة، وهي أن كتلاتها كانت نسبا أو كسورا بسيطة بعضها من بعض. أي إن المطارق التي يبلغ وزنها نصف وزن مطرقة محددة أو ثلثيه أو ثلاثة أرباع منه، تصدر كلها أصواتا متناغمة. وعلى العكس من ذلك، فإن المطرقة التي كانت تصدر نشازا عند الدق بها مع المطارق الأخرى، لم يكن لوزنها علاقة بسيطة بأوزان المطارق الأخرى.
لقد اكتشف فيثاغورس أن النسب العددية البسيطة مسئولة عن التناغم في الموسيقى. يشكك العلماء بعض الشيء في رواية يامبليخوس لهذه القصة، غير أن الأمر الأكثر يقينا هو كيفية تطبيق فيثاغورس لنظريته الجديدة بشأن النسب الموسيقية على القيثارة من خلال دراسة خصائص وتر واحد. فالنقر على الوتر يولد نغمة أو لحنا قياسيا يصدر عن طول الوتر المهتز بأكمله. ومن خلال تثبيت الوتر في مناطق محددة بامتداد طوله، يمكن توليد اهتزازات ونغمات أخرى، مثلما يتضح في الشكل
1-1 . والأمر المهم أن النغمات المتناغمة لا تصدر إلا عند نقاط محددة للغاية. فعلى سبيل المثال، عند تثبيت الوتر عند نقطة في منتصفه تماما، فإن النقر عليه يولد نغمة تزيد عن النغمة الأصلية بمقدار أوكتاف، وتكون متآلفة معها. وينطبق الأمر نفسه عند تثبيت الوتر في نقاط عند الثلث من طوله أو ربعه أو خمسه، إذ تنتج نغمات أخرى متآلفة. أما عند تثبيت الوتر في نقطة لا تمثل كسرا بسيطا من طول الوتر، فإن النغمة التي تصدر تكون نشازا عن النغمات الأخرى.
شكل 1-1: الوتر غير المثبت الذي يهتز بحرية يصدر نغمة أساسية، وعند تكوين عقدة في منتصف الوتر تماما، فإنه يولد نغمة تزيد عن النغمة الأصلية بمقدار أوكتاف وتكون متآلفة معها. ويمكن توليد نغمات أخرى متآلفة من خلال تحريك العقدة إلى مواضع أخرى تمثل كسورا بسيطة (مثل الثلث أو الربع أو الخمس) من طول الوتر.
لقد اكتشف فيثاغورس للمرة الأولى القاعدة الرياضية التي تحكم إحدى الظواهر الفيزيائية، وأثبت وجود علاقة أساسية بين الرياضيات والعلوم. ومنذ ذلك الاكتشاف، ما فتئ العلماء يبحثون عن القواعد الرياضية التي يبدو أنها تحكم كل عملية من العمليات الفيزيائية، ووجدوا أن الأعداد تظهر على غير توقع في جميع أشكال الظواهر الطبيعية. فعلى سبيل المثال، ثمة عدد معين يبدو أنه يدل على طول الأنهار المتعرجة. وقد قام البروفيسور هانز-هنريك، وهو أحد علماء الأرض في جامعة كامبريدج، بحساب النسبة بين الطول الفعلي للأنهار من المنبع إلى المصب، وطولها المباشر في خط مستقيم. وبالرغم من أن النسبة تختلف من نهر إلى نهر، فإن القيمة المتوسطة تزيد عن 3 زيادة طفيفة، أي إن الطول الفعلي يكون أكبر من المسافة المباشرة بثلاث مرات تقريبا. والحق أن النسبة تبلغ 3,14 تقريبا، وهي نسبة قريبة من قيمة العدد ط، وهو النسبة بين محيط الدائرة وقطرها.
لقد استنتج العدد
π
في الأساس من هندسة الدوائر، غير أنه يظهر مرارا وتكرارا في مختلف الظروف العلمية. وفي حالة نسبة النهر، ينتج ظهوره عن معركة بين النظام والفوضى. لقد كان أينشتاين هو أول من اقترح أن الأنهار غالبا ما تتخذ مسارا متعرجا؛ لأن أهون انحراف سيؤدي إلى تيارات أسرع على الجانب الخارجي مما سيؤدي إلى درجة أكبر من التآكل، ودرجة أشد من الانعطاف. وكلما زادت شدة الانعطاف، زادت سرعة التيارات على الحافة الخارجية وزاد التآكل؛ فيزيد انعطاف النهر، وهكذا دواليك. بالرغم من ذلك، فثمة عملية طبيعية تجتزئ الفوضى؛ فزيادة الانعطاف سيؤدي إلى التفاف الأنهار إلى الاتجاه المعاكس ومن ثم تقصير الدائرة. سيصبح النهر أكثر استقامة وسيصير الانعطاف على أحد الجانبين مشكلا بحيرة قوسية. والتوازن بين هذين العاملين المتعارضين يؤدي إلى ظهور نسبة ط بين الطول الفعلي والمسافة المباشرة بين المنبع والمصب. وعادة ما توجد نسبة ط في الأنهار التي تتدفق برفق عبر السهول المنحدرة، مثل تلك الأنهار الموجودة في البرازيل والتندرا السيبيرية.
لقد أدرك فيثاغورس أن الأعداد كامنة في كل شيء، بداية من تناغم الموسيقى وحتى مدارات الكواكب، وقد قاده ذلك إلى الزعم بأن «كل شيء عدد.» وباستكشاف معنى الرياضيات، كان فيثاغورس يطور اللغة التي ستمكنه هو والآخرين من وصف طبيعة الكون. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، وكل اكتشاف في الرياضيات يمنح العلماء المفردات التي كانوا يحتاجون إليها من أجل فهم الظواهر الموجودة من حولهم على نحو أفضل. والحق أن ما شهدته الرياضيات من تطورات قد ألهم بثورات في العلوم.
إضافة إلى اكتشاف قانون الجاذبية، كان إسحاق نيوتن رياضيا بارعا. وكان أكبر إسهاماته في الرياضيات هو تطوير حساب التفاضل والتكامل، الذي استخدم الفيزيائيون في السنوات اللاحقة لغته لتقديم وصف أفضل لقوانين الجاذبية وحل المشكلات المتعلقة بالجاذبية. لقد نجحت نظرية نيوتن الكلاسيكية للجاذبية في البقاء دون تعديل على مدى قرون، إلى أن تفوقت عليها نظرية النسبية العامة التي توصل إليها ألبرت أينشتاين، والتي قدمت للجاذبية تفسيرا مختلفا وأكثر تفصيلا. ولم تكن أفكار أينشتاين لتتحقق إلا بفضل المفاهيم الرياضية الجديدة التي أمدته بلغة أكثر تعقيدا تناسب أفكاره العلمية الأكثر تعقيدا. وفي الوقت الحالي، نجد أن تفسير الجاذبية يتأثر من جديد بالاكتشافات الرياضية؛ إذ ترتبط أحدث النظريات الكمومية للجاذبية بتطوير الأوتار الرياضية، وهي نظرية ترى أن الخصائص الهندسية والطبولوجية للأنابيب هي ما يبدو أنها توفر التفسير الأفضل لقوى الطبيعة.
ومن بين جميع الروابط بين الأعداد والطبيعة التي درستها الأخوية، كان الأهم هو العلاقة التي تحمل اسم مؤسسها. إن مبرهنة فيثاغورس تقدم معادلة تنطبق على جميع المثلثات قائمة الزاوية؛ ومن ثم فهي تعرف المثلث القائم الزاوية نفسه أيضا. وبدوره، فإن المثلث القائم الزاوية يعرف التعامد؛ أي العلاقة بين الرأسي والأفقي، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعريف العلاقة بين الأبعاد الثلاثة في كوننا الذي نعرفه. فالرياضيات تعرف من خلال المثلث القائم الزاوية، بنية الفضاء الذي نعيش فيه نفسه.
إن مبرهنة فيثاغورس فكرة عميقة، غير أن مقدار المعرفة الرياضية اللازم لاستيعابها، بسيط إلى حد ما. فمن أجل فهمها، كل ما عليك فعله هو أن تبدأ بقياس طول الضلعين القصيرين في مثلث قائم الزاوية (
x, y )، ثم قم بتربيعهما ( ). بعد ذلك، اجمع العددين اللذين قمت بتربيعهما ( + ) لتحصل على الإجابة النهائية. إذا حاولت إيجاد هذا العدد في المثلث الموضح في الشكل
1-2 ، فستجد أن الإجابة هي 25.
شكل 1-2: جميع المثلثات قائمة الزاوية تتبع مبرهنة فيثاغورس.
والآن يمكنك قياس الضلع الأطول،
z ، الذي يعرف باسم الوتر، وتربيع طوله. والنتيجة اللافتة للنظر هي أن هذا العدد
يطابق العدد الذي حسبته للتو؛ إذ إن 5
2 = 25. ومعنى هذا أنه:
إذا كان المثلث قائم الزاوية، فإن مربع طول الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين.
وبعبارة أخرى، (أو برموز أخرى على نحو أدق):
ومن الجلي أن ذلك ينطبق على المثلث الموضح في الشكل
1-2 ، لكن اللافت للنظر أن مبرهنة فيثاغورس تنطبق على جميع المثلثات القائمة الزاوية التي يمكن تخيلها. إنها من القوانين الكونية للرياضيات، ويمكن الاعتماد على صحتها في حالة أي مثلث قائم الزاوية. وعلى العكس من ذلك، إذا كان المثلث يتبع مبرهنة فيثاغوس، فإنه قائم الزاوية دون أدنى شك.
والآن تجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من أن هذه المبرهنة ستظل مرتبطة باسم فيثاغوس إلى الأبد، كان الصينيون والبابليون قد استخدموها بالفعل قبل ذلك بألف عام. غير أن هاتين الحضارتين لم تدركا أن تلك المبرهنة تنطبق على أي مثلث قائم الزاوية. لقد كانت تنطبق على جميع المثلثات التي اختبروها بالتأكيد، لكنهم لم يتمكنوا من إثبات أنها تنطبق على جميع المثلثات القائمة الزاوية التي لم يختبروها. والسبب في نسبة المبرهنة إلى فيثاغورس هو أنه كان أول من أثبت صحتها في جميع الأحوال.
فكيف عرف فيثاغورس أن مبرهنته تنطبق على جميع المثلثات القائمة الزاوية؟ لم يكن ليأمل أن يختبر ذلك التنوع اللانهائي من المثلثات القائمة الزاوية، غير أنه كان متيقنا تماما من صحة المبرهنة على نحو مطلق. ويكمن سبب ثقته في مفهوم البرهان الرياضي؛ فالبحث عن البرهان الرياضي هو بحث عن معرفة أكثر يقينية من أي معرفة يتوصل إليها أي فرع آخر من فروع العلوم. وهذه الرغبة في التوصل إلى حقيقة مطلقة من خلال البرهان هي ما كان يدفع علماء الرياضيات على مدى آخر ألفين وخمسمائة عام. (1-3) البرهان المطلق
تتمحور قصة مبرهنة فيرما الأخيرة حول البحث عن البرهان المفقود. فالبرهان الرياضي أكثر عظمة ودقة بدرجة كبيرة من مفهوم البرهان الذي نستخدمه عادة في لغة حياتنا اليومية، أو حتى مفهوم البرهان مثلما يفهمه الفيزيائيون والكيميائيون. والفرق بين البرهان العلمي والبرهان الرياضي دقيق وعميق في الآن نفسه، وهو أساسي لفهم جميع أعمال علماء الرياضيات منذ فيثاغورس.
إن مفهوم البرهان الرياضي الكلاسيكي هو البدء بمجموعة من المسلمات، وهي عبارات يمكن افتراض صحتها أو عبارات بديهية. وبعد ذلك، فمن خلال الجدال المنطقي خطوة بخطوة، يمكن التوصل إلى استنتاج. وإذا كانت المسلمات صحيحة والمنطق سليما خاليا من العيوب، فإن هذا الاستنتاج يكون مؤكدا لا مراء فيه. وهذا الاستنتاج هو المبرهنة.
تستند المبرهنات الرياضية إلى هذه العملية المنطقية، وهي تظل صحيحة إلى الأبد فور إثباتها. فالبراهين الرياضية مطلقة، ومن أجل إدراك قيمتها، ينبغي مقارنتها مع أقاربها الضعيفة، وهي البراهين العلمية. في العلوم، تطرح الفرضية من أجل تفسير ظاهرة فيزيائية، وإذا كانت الملاحظات المستمدة من الظاهرة تتوافق مع الفرضية على نحو جيد، فإنها تصبح من الأدلة التي تؤيد الفرضية. علاوة على ذلك، ينبغي ألا تصف الفرضية ظاهرة معروفة فحسب، بل يجب أن تتوقع نتائج ظواهر أخرى. ويمكن إجراء التجارب لاختبار القوة التنبؤية للفرضية، وإذا ظلت ناجحة، فإن ذلك يعد دليلا إضافيا يدعم الفرضية. وفي نهاية المطاف، قد تصبح الأدلة دامغة وتقبل الفرضية بصفتها نظرية علمية.
بالرغم من ذلك، لا يمكن إثبات صحة النظرية العلمية بالقدر نفسه من اليقين الذي يمكن أن تصل إليه المبرهنات الرياضية، بل تعد مرجحة للغاية فحسب بناء على الأدلة المتوفرة. إن ما يدعى باسم البرهان العلمي يستند إلى الملاحظة والإدراك الحسي، وكلاهما عرضة للخطأ ولا يقدم إلا نسخا تقريبية للحقيقة. ومثلما أشار برتراند راسل: «بالرغم من أن هذا قد يبدو من المفارقات ، فجميع العلوم الدقيقة تغلب عليها فكرة التقريب.» حتى «البراهين» العلمية التي تحظى بالقبول على نطاق كبير للغاية، دائما ما تنطوي على عنصر صغير من الشك فيها. يتضاءل هذا الشك في بعض الأحيان، لكنه لا يختفي تماما أبدا، بينما يتضح في النهاية في أحيان أخرى أن ذلك البرهان خاطئ. وهذا الضعف الذي يتسم به البرهان العلمي، يؤدي إلى الثورات العلمية التي تستبدل فيها بإحدى النظريات التي كان يعتقد في صحتها من قبل نظرية أخرى. وقد تكون هذه النظرية الأخرى محض تعديل على النظرية الأصلية، أو قد تكون تناقضا تاما لها.
فعلى سبيل المثال، اشتركت جميع أجيال الفيزيائيين في البحث عن الجسيمات الأساسية للمادة؛ إما بقلب النظرية التي توصل إليها أسلافهم أو تحسينها على أقل تقدير. لقد بدأ البحث الحديث عن وحدات بناء الكون في بداية القرن التاسع عشر حين قادت مجموعة من التجارب جون دالتون إلى اقتراح أن كل شيء يتكون من ذرات منفصلة، وأن تلك الذرات هي الوحدة الجوهرية. وفي نهاية القرن، كان جيه جيه تومسون قد اكتشف الإلكترون، وهو أولى الجسيمات دون الذرية المكتشفة؛ ومن ثم لم تعد الذرة هي الوحدة الجوهرية.
في السنوات الأولى من القرن العشرين، شكل الفيزيائيون صورة «مكتملة» عن الذرة، وهي أنها نواة تتكون من بروتونات ونيوترونات وتدور حولها الإلكترونات. وقد نظروا إلى البروتونات والنيوترونات والإلكترونات بفخر بصفتها المكونات الكاملة للكون، ثم كشفت تجارب الأشعة الكونية عن وجود جسيمات أكثر جوهرية: البيونات والميونات. وقد حدثت بعد ذلك ثورة أكبر عام 1932 مع اكتشاف المادة المضادة، أي اكتشاف وجود البروتونات المضادة والنيوترونات المضادة والإلكترونات المضادة، وغير ذلك. بحلول ذلك الوقت، لم يكن علماء الجسيمات قادرين على التيقن من عدد الجسيمات المختلفة الموجودة في الكون، لكنهم كانوا متيقنين على الأقل من أن هذه الوحدات جوهرية بلا شك. كان ذلك حتى ستينيات القرن العشرين، حين ولد مفهوم الكوارك. ذلك أن البروتون نفسه يتكون على ما يبدو من كواركات ذات شحنة كسرية، وينطبق الأمر نفسه على النيوترون والبيون. والمغزى من هذه القصة أن الفيزيائيين يغيرون من تصورهم للكون على الدوام، هذا إن لم يهدموه تماما ويبدءوا من جديد. وفي العقد التالي قد يتغير مفهوم الجسيمات بوصفها أجساما شبيهة بالنقاط، ليحل محله مفهوم الجسيمات بوصفها أوتارا، وهي الأوتار نفسها التي قد تقدم التفسير الأفضل للجاذبية. وتقول هذه النظرية بأن أوتارا يبلغ طولها جزءا من المليار من جزء من المليار من جزء من المليار من جزء من المليار من المتر (أي إنها صغيرة للغاية حتى إنها تبدو على شكل نقطة) يمكن أن تهتز بطرق مختلفة، وكل طريقة منها تولد جسيما مختلفا. إن ذلك يشبه اكتشاف فيثاغورس لحقيقة أن وترا واحدا في القيثارة يمكن أن يصدر نغمات مختلفة وفقا لطريقة اهتزازه.
لقد ذكر كاتب الخيال العلمي والاستشرافي، آرثر سي كلارك، أنه إن ذكر أحد الأساتذة الكبار أن شيئا ما صحيح دون شك، فسوف يثبت خطؤه في اليوم التالي على الأرجح. إن البرهان العلمي متغير وضعيف، أما البرهان الرياضي فهو مطلق ويقيني. لقد مات فيثاغورس وهو يثق في معرفته بأن مبرهنته التي كانت صحيحة عام 500 قبل الميلاد، ستظل صحيحة للأبد.
إن العلوم تعمل بطريقة النظام القضائي، إذ تفترض أن النظرية صحيحة عند توفر ما يكفي من الأدلة لإثباتها «دون الشك المنطقي». أما الرياضيات، فهي لا تستند إلى الأدلة المستمدة من التجارب غير المعصومة من الخطأ، بل تستند إلى المنطق المعصوم. ويتضح هذا في أحجية «رقعة الشطرنج المشوهة» التي تظهر في الشكل
1-3 .
شكل 1-3: أحجية رقعة الشطرنج المشوهة.
في هذه الأحجية، لدينا رقعة شطرنج ينقصها مربعان متناظران على القطر؛ فلا يتبقى بها سوى اثنين وستين مربعا. نأخذ بعد ذلك واحدا وثلاثين من قطع الدومينو ونضعها على الرقعة بحيث تغطي كل قطعة منها مربعين. والسؤال هو: أيمكن ترتيب القطع الإحدى والثلاثين بحيث تغطي المربعات الاثنين والستين على الرقعة؟
ثمة نهجان لحل هذه الأحجية:
أولا:
النهج العلمي:
سيحاول العالم حل هذه الأحجية عن طريق التجريب، وبعد تجريب بضع عشرات من الترتيبات، سيكتشف أن أيا منها لا يفي بالغرض . وفي نهاية المطاف، سيرى العالم أنه يوجد قدر كاف من الأدلة يؤيد عدم إمكانية تغطية رقعة الشطرنج. بالرغم من ذلك، لا يمكن للعالم أن يتيقن أبدا بأن تلك هي حقيقة الأمر؛ إذ ربما توجد طريقة ترتيب لم يجربها بعد وتكون هي التي تفي بالغرض. توجد الملايين من طرق الترتيب المختلفة، ولا يمكن استكشاف سوى جزء ضئيل للغاية منها. والاستنتاج أن استحالة إنجاز المهمة هي نظرية تستند إلى التجريب، لكن على العالم أن يتقبل احتمالية أن النظرية قد تسقط يوما ما.
ثانيا:
النهج الرياضي:
يحاول الرياضي الإجابة عن السؤال عن طريق بناء حجة منطقية ستؤدي إلى نتيجة صحيحة دون شك، وستظل صحيحة إلى الأبد بلا منازع. ومن أمثلة هذه الحجة المنطقية ما يلي:
المربعان الناقصان من رقعة الشطرنج أبيضان؛ إذن فما يتبقى الآن هو 32 مربعا أسود و30 مربعا أبيض فقط.
كل قطعة من قطع الدومينو تغطي مربعين متجاورين، والمربعان المتجاوران دائما ما يكونان مختلفي اللون: أحدهما أسود والآخر أبيض.
ومن ثم، فإن أول 30 قطعة دومينو توضع على الرقعة ستغطي 30 مربعا أبيض 30 مربعا أسود، بصرف النظر عن طريقة ترتيبها.
وبهذا، سوف يتبقى دوما قطعة دومينو واحدة ومربعان أسودان.
بالرغم من ذلك، فعلينا أن نتذكر أن كل قطع الدومينو تغطي مربعين متجاورين، والمربعان المتجاوران مختلفان في اللون، لكن المربعين المتبقيين متطابقا اللون؛ ومن ثم فمن المحال تغطية الرقعة!
إن هذا البرهان يوضح أن جميع الطرق الممكنة لترتيب قطع الدومينو لن تجدي في تغطية رقعة الشطرنج المشوهة. وبهذه الطريقة نفسها، شكل فيثاغورس برهانا يوضح أن جميع المثلثات القائمة الزاوية الممكنة ستتبع مبرهنته. لقد كان مفهوم البرهان الرياضي مقدسا لدى فيثاغورس، وهذا المفهوم هو ما مكن الأخوية من اكتشاف الكثير للغاية. معظم البراهين الحديثة في غاية التعقيد، وسيكون من المحال على غير المتخصص متابعة منطقها، لكن من حسن الحظ أن الجدل المنطقي في مبرهنة فيثاغورس مباشر نسبيا، والمعرفة الرياضية التي يستند إليها لا يتجاوز مستوى المرحلة الثانوية. يرد البرهان في الملحق 1.
إن برهان فيثاغورس لا يقبل الجدل، وهو يوضح أن مبرهنته تنطبق على جميع المثلثات القائمة الزاوية في الكون بأكمله. لقد كان هذا الاكتشاف عظيما للغاية، حتى إن مائة ثور قد قدمت للآلهة تعبيرا عن الامتنان. كان هذا الاكتشاف علامة بارزة في الرياضيات، وأحد أهم الإنجازات في تاريخ الحضارة. وتتجلى أهميته في جانبين: أولهما هو تشكيل فكرة البرهان. فالنتيجة الرياضية المثبتة تنطوي على حقيقة أعمق من أي حقيقة غيرها؛ لأنها نتيجة مستمدة من خطوات منطقية. وبالرغم من أن الفيلسوف طاليس كان قد ابتكر بالفعل بعض البراهين الهندسية البدائية، فقد طور فيثاغورس من الفكرة كثيرا وتمكن من إثبات عبارات رياضية أكثر براعة. وأما الجانب الثاني من أهمية مبرهنة فيثاغورس فهو أنه يربط النهج الرياضي المجرد بشيء ملموس. أوضح فيثاغورس أن الحقيقة الرياضية يمكن أن تنطبق في عالم العلوم وتمده بالأساس المنطقي. فالرياضيات تمد العلوم ببداية دقيقة، ثم يضيف العلماء على هذا الأساس السليم تماما، قياسات غير دقيقة وملاحظات معيبة. (1-4) عدد لا نهائي من الثلاثيات
أنعشت الأخوية الفيثاغورسية الرياضيات ببحثها المتقد عن الحقيقة من خلال البرهان. انتشرت أخبار نجاحاتهم، لكن تفاصيل اكتشافاتهم قد ظلت في طي الكتمان. كان الكثيرون يطلبون الانضمام إلى حرم معرفتهم المقدس، ولم يقبل منهم سوى أصحاب العقول الأكثر براعة. أحد هؤلاء المرفوضين كان مرشحا يدعى سيلون. واعترض سيلون على رفضه، وانتقم لنفسه بعد عشرين عاما.
في أثناء الدورة السابعة والستين من الألعاب الأوليمبية (510 قبل الميلاد) اندلعت ثورة في مدينة سيباريس المجاورة. وبدأ تيليس، قائد الثورة المنتصر، حملة اضطهاد وحشية ضد مؤيدي الحكومة السابقة؛ مما دفع الكثيرين منهم إلى اللجوء إلى قروطون. فطالب تيليس بإعادة هؤلاء الخونة إلى سيباريس لينالوا ما يستحقونه من عقاب، لكن ميلو وفيثاغورس أقنعا مواطني قروطون بالتصدي للطاغية وحماية اللاجئين. غضب تيليس وجمع على الفور جيشا من ثلاثمائة ألف رجل وتوجه بهم إلى قروطون حيث دافع ميلو عن المدينة بمائة ألف من المواطنين المسلحين. وبعد سبعين يوما من الحرب، انتصر ميلو بفضل قدراته البارعة في القيادة، وحول مسار نهر كراتي إلى سيباريس ليغرق المدينة ويدمرها طلبا للقصاص.
وبالرغم من انتهاء الحرب، كانت مدينة قروطون ما تزال مضطربة بسبب ما ثار من جدال بشأن ما يجب فعله بغنائم الحرب. بدأ أفراد الشعب العاديون في التذمر؛ خشية أن تئول الأراضي إلى النخبة الفيثاغورسية، وقد كان الاستياء يزداد لدى العامة بالفعل؛ لأن الأخوية الفيثاغورسية قد استمرت في إخفاء اكتشافاتها. غير أن شيئا لم يتمخض عن هذا كله إلى أن صار سيلون هو صوت الشعب. استغل سيلون خوف العامة وارتيابهم وحسدهم، وقادهم في مهمة لتدمير أبرع مدارس الرياضيات التي كان العالم قد عرفها على الإطلاق. حوصر منزل ميلو والمدرسة المجاورة له، وأوصدت جميع الأبواب لتفادي الهروب، ثم بدأ الحرق. ناضل ميلو إلى أن خرج من الجحيم وهرب، غير أن فيثاغورس والعديد من تلاميذه قد قتلوا.
خسرت الرياضيات بطلها العظيم الأول، لكن روح فيثاغورس ما تزال باقية؛ فالأعداد والحقائق المستمدة منها خالدة لا تموت. لقد أثبت فيثاغورس أن الرياضيات ليست علما موضوعيا، وهي تتسم بذلك أكثر من أي علم آخر. لم يكن تلاميذه بحاجة إلى معلمهم ليحددوا مدى صلاحية نظرية معينة؛ إذ إن صحة النظرية مستقل عن الرأي. وبدلا من ذلك، أصبح بناء المنطق الرياضي هو الفيصل في الحكم على الصحة. وقد كان هذا هو أعظم الإسهامات الفيثاغورسية للحضارة: طريقة للتوصل إلى الحقيقة تتجاوز الحكم البشري المعرض للخطأ.
وعقب وفاة المؤسس وهجمة سيلون، غادر أفراد الأخوية قروطون ورحلوا إلى مدن أخرى في اليونان الكبرى، لكن حملات الاضطهاد قد استمرت؛ فاضطر العديد منهم في نهاية المطاف إلى الاستقرار في بلاد غريبة. وهذه الهجرة القسرية قد شجعت الفيثاغورسيين على نشر تعاليمهم الرياضية في أنحاء العالم القديم. أسس أتباع فيثاغورس المدارس وعلموا تلاميذهم منهج البرهان المنطقي. وإضافة إلى إثبات مبرهنة فيثاغورس، شرحوا أيضا للعالم سر اكتشاف ما يعرف باسم ثلاثيات فيثاغورس.
ثلاثيات فيثاغورس هي توليفات من ثلاثة أعداد صحيحة تتناسب تماما مع معادلة فيثاغورس:
فعلى سبيل المثال، تنطبق معادلة فيثاغورس إذا كان
و
و :
3
2 + 4
2 = 5
2 , 9 + 16 = 25.
ومن الطرق الأخرى التي يمكن أن نفهم ثلاثيات فيثاغورس من خلالها هي إعادة ترتيب المربعات. إذا كان لدينا مربع 3 × 3 يتكون من 9 بلاطات، ومربع 4 × 4 يتكون من 16 بلاطة، فيمكن إعادة ترتيب هذه المربعات لتكوين مربع 5 × 5 يتكون من 25 بلاطة، مثلما يتضح في الشكل
1-4 .
شكل 1-4: يمكن إيجاد حلول لمعادلة فيثاغورس بأعداد صحيحة من خلال إيجاد مربعين يمكن جمعهما لتشكيل مربع ثالث. فعلى سبيل المثال، يمكن إضافة مربع يتكون من 9 بلاطات إلى مربع يتكون من 16 بلاطة، وإعادة ترتيبهما لتشكيل مربع يتكون من 25 بلاطة.
وقد أراد الفيثاغورسيون أن يعثروا على ثلاثيات أخرى، أي: مربعات أخرى يمكن جمعها معا لتكوين مربع ثالث أكبر. ومن الثلاثيات الفيثاغورسية الأخرى
و
و :
5
2 + 12
2 = 13
2 , 25 + 144 = 169.
ومن الثلاثيات الفيثاغورسية الأكبر
و
و .
تصبح الثلاثيات الفيثاغورسية أكثر ندرة مع زيادة الأعداد، ويصبح العثور عليها أصعب وأصعب. ومن أجل اكتشاف أكبر عدد ممكن من الثلاثيات، ابتكر الفيثاغورسيون طريقة منهجية لإيجادها، وقد أثبتوا بهذا وجود عدد لا نهائي من الثلاثيات. (2) من مبرهنة فيثاغورس إلى مبرهنة فيرما الأخيرة
وردت مناقشة لمبرهنة فيثاغورس وذلك العدد اللانهائي من الثلاثيات في كتاب «المسألة الأخيرة»، للكاتب إي تي بيل، وهو الكتاب الذي استرعى اهتمام أندرو وايلز الصغير. لقد توصلت الأخوية إلى فهم مكتمل تقريبا لثلاثيات فيثاغورس، بالرغم من ذلك، فسرعان ما اكتشف وايلز أن هذه المعادلة التي تبدو بريئة ، لها جانب أكثر غموضا. لقد كان كتاب بيل يصف وجود وحش رياضي.
ففي معادلة فيثاغورس، نجد أن الأعداد الثلاثة،
x
و
y
و
z ، كلها مربعة (أي إن ):
غير أن الكتاب كان يصف معادلة شقيقة يكون فيها كل من
x
و
y
و
z
أعدادا مكعبة (أي إن ). أي إن ما يدعى بقوة
x
في هذه المعادلة لم يعد 2، بل 3:
لقد كان إيجاد حلول للمعادلة الأصلية بأعداد صحيحة، أي ثلاثيات فيثاغورسية، أمرا سهلا إلى حد ما، لكن تغيير القوة من «2» إلى «3» (المربع إلى مكعب) وإيجاد حلول للمعادلة الشقيقة بأعداد صحيحة يبدو محالا. لقد عجزت أجيال من علماء الرياضيات الذين يخطون على أوراقهم من إيجاد أعداد تلائم المعادلة تماما.
في المعادلة «المربعة» الأصلية، كان التحدي هو إعادة ترتيب البلاطات في مربعين لتشكيل مربع ثالث أكبر. أما في النسخة «المكعبة»، فالتحدي هو إعادة ترتيب مكعبين مكونين من وحدات بناء لتكوين مكعب ثالث أصغر. ويبدو أنه أيا ما كان المكعب المختار للبدء به، تكون النتيجة عند جمعهما إما مكعبا مكتملا مع بعض وحدات البناء المتبقية، أو مكعبا غير مكتمل. وأقرب حل قد وجد على الإطلاق للترتيب المثالي، هو حل تفيض فيه وحدة بناء واحدة أو تنقص. إذا بدأنا على سبيل المثال بالمكعبين 6
3 ( ) و8
3 ( ) وأعدنا ترتيب وحدات البناء، فلن تنقصنا سوى وحدة بناء واحدة لتكوين مكعب 9 × 9 × 9، مثلما يتضح في الشكل
1-5 .
شكل 1-5: هل من الممكن إضافة وحدات البناء من مكعب إلى مكعب آخر لتكوين مكعب ثالث أكبر؟ في هذه الحالة، نجد أن إضافة مكعب 6 × 6 × 6 إلى مكعب 8 × 8 × 8 لا توفر لنا وحدات البناء الكافية لتكوين مربع 9 × 9 × 9. فالمكعب الأول يحتوي على 216 (6
3 ) من وحدات البناء، ويحتوي المكعب الثاني على 512 (8
3 ) من وحدات البناء، والمجموع هو 728، أي أقل من 9
3
بمقدار 1.
إن إيجاد ثلاثة أعداد تلائم المعادلة المكعبة تماما يبدو أمرا مستحيلا، أي يبدو أنه لا يوجد حل بأعداد صحيحة للمعادلة:
وإضافة إلى ذلك، إذا تغيرت القوة من 3 (التكعيب) إلى أي عدد أكبر؛ حيث
n
تساوي (على سبيل المثال، 4 أو 5 أو 6، إلى آخر ذلك)، فإن إيجاد الحل بأعداد صحيحة لا يزال يبدو مستحيلا أيضا. ويبدو أنه لا توجد إجابة بأعداد صحيحة عن المعادلة الأعم: ، حيث
n
أكبر من 2.
إن مجرد تغيير العدد 2 في معادلة فيثاغورس إلى أي عدد أكبر، يحول إيجاد حلول بأعداد بسيطة من أمر سهل نسبيا إلى أمر في غاية الصعوبة. وحقيقة الأمر أن الفرنسي العظيم الذي عاش في القرن السابع عشر بيير دو فيرما، قد أعلن تصريحه المذهل بأن السبب في عدم العثور على الحل هو أنه لا يوجد حل.
لقد كان فيرما أحد أبرع علماء الرياضيات وأكثرهم إثارة للاهتمام في التاريخ. لم يكن بإمكانه أن يتحقق من ذلك العدد اللانهائي من الأعداد، لكنه كان متيقنا من عدم وجود توليفة من الأعداد تتلاءم مع المعادلة تماما؛ لأنه قد أسس زعمه على البرهان. ومثل فيثاغورس الذي لم يكن يحتاج إلى التأكد من جميع المثلثات لإثبات صحة مبرهنته، لم يكن فيرما يحتاج إلى التأكد من جميع الأعداد لإثبات صحة مبرهنته. إن مبرهنة فيرما الأخيرة تنص على أن المعادلة:
ليس لها أي حل بأعداد صحيحة إذا كانت
n
أكبر من 2.
وبينما راح وايلز يقرأ كل فصل من كتاب بيل، عرف كيف أن فيرما صار مفتونا بأعمال فيثاغورس، ووصل به الأمر في النهاية إلى دراسة الصيغة المحرفة من معادلة فيثاغورس. وقرأ بعد ذلك أن فيرما قد زعم أنه حتى إذا ظل جميع علماء الرياضيات في العالم يحاولون إلى الأبد حل هذه المعادلة، فلن يجدوا لها حلا. لا بد أنه قد قلب الصفحات بلهفة، وهو يستطيب فكرة الاطلاع على برهان فيرما، غير أن البرهان لم يرد في الكتاب. والحق أنه لم يرد في أي مكان آخر. لقد أنهى بيل الكتاب بقوله إن البرهان قد ضاع منذ زمن طويل. لم تكن ثمة إشارة إلى ما كان يمكن أن يكون عليه البرهان، ولم ترد أي إشارة لبنائه أو استنتاجاته. وجد وايلز نفسه متحيرا، ومغتاظا وممتلئا بالفضول. لقد كان في صحبة جيدة.
على مدى ما يزيد عن 300 عام، حاول أعظم علماء الرياضيات إعادة اكتشاف برهان فيرما المفقود، لكنهم فشلوا في ذلك. ومع فشل كل جيل من علماء الرياضيات، يزداد الجيل التالي إحباطا وإصرارا. في العام 1742، أي بعد وفاة فيرما بقرن تقريبا، طلب الرياضي السويسري ليونهارت أويلر من صديقه كليرو تفتيش منزل فيرما؛ إذ ربما تبقت قصاصة ورقية مهمة. ولم يعثر أبدا على أي تلميح يشير إلى ما كان عليه برهان فيرما. في الفصل الثاني، سوف نعرف المزيد عن بيير دو فيرما الغامض، وعن كيفية ضياع مبرهنته. أما الآن ، فيكفي أن نعرف أن مبرهنة فيرما الأخيرة، وهي معضلة أسرت علماء الرياضيات على مدى قرون، قد أسرت خيال أندرو وايلز الصغير.
في مكتبة ميلتون رود، جلس فتى يبلغ من العمر عشر سنوات يحدق في المسألة الأسوأ سمعة في الرياضيات. عادة ما تكمن نصف صعوبة المسألة الرياضية في فهم السؤال، غير أن السؤال في هذه الحالة بسيط: أثبت أن
ليس لها أي حل بأعداد صحيحة إذا كانت
n
أكبر من 2. لم يحبط وايلز إذ عرف أن معظم العقول الأكثر ذكاء في الكوكب قد عجزت عن اكتشاف البرهان من جديد، بل بدأ في العمل على الفور مستخدما جميع التقنيات التي عرفها من الكتب الدراسية وراح يحاول بناء البرهان من جديد. فربما يجد شيئا قد غفل عنه الجميع باستثناء فيرما. كان يحلم بأن يصدم العالم.
شكل 1-6: في الثالث والعشرين من يونيو عام 1993، ألقى وايلز محاضرة في معهد إسحاق نيوتن في كامبريدج. كانت تلك هي اللحظة التي تسبق مباشرة إعلانه البرهان الذي توصل إليه لمبرهنة فيرما الأخيرة. لم يكن هو ولا أي شخص آخر من الحاضرين في القاعة على علم بالكابوس القادم إطلاقا.
وبعد ثلاثين عاما، صار أندرو وايلز مستعدا. وقف في قاعة معهد إسحاق نيوتن، وراح يكتب على السبورة، ثم راح يحدق إلى جمهوره وهو يحاول أن يكبت جذله. كانت المحاضرة تصل إلى ذروتها، وكان الجمهور يعرف ذلك. كان واحد أو اثنان من الجمهور قد هربا الكاميرات إلى قاعة المحاضرة، وبدأ الوميض يتناثر وهو يوضح تعليقاته النهائية.
استدار نحو السبورة للمرة الأخيرة وهو يمسك بالطبشور في يده. واكتمل البرهان بالسطور الأخيرة من الحجة المنطقية. للمرة الأولى على مدى ما يزيد على ثلاثة قرون، وجد برهان فيرما من يتصدى له. أومضت الكاميرات مجددا لتسجل اللحظة التاريخية. كتب وايلز نص مبرهنة فيرما الأخيرة، واستدار نحو الجمهور وقال بتواضع: «أعتقد أنني سأتوقف هنا.»
شكل 1-7: بيير دو فيرما.
مائتان من علماء الرياضيات قد صفقوا وهللوا احتفالا. وحتى من كان يتوقع النتيجة منهم، ابتسموا في غير تصديق. فبعد ثلاثة عقود، اعتقد وايلز أنه قد حقق حلمه، وبعد سبع سنوات من العزلة، تمكن من الإفصاح عن حساباته السرية. بالرغم من ذلك، فبينما ملأت النشوة معهد إسحاق نيوتن، كانت المأساة توشك على الظهور. كان وايلز يستمتع باللحظة، وكان هو وجميع من في القاعة غافلين عن الأهوال القادمة.
الفصل الثاني
صاحب الأحاجي
أسر له الشيطان قائلا: «أوتدري؟ حتى أفضل علماء الرياضيات في الكواكب الأخرى، وجميعها أكثر تقدما من كوكبك بكثير، لم يتمكنوا من حلها. ويحي! ثمة رجل على زحل، يشبه فطر عيش الغراب مرتكز على دعامات، يحل المعادلات التفاضلية الجزئية ذهنيا، وحتى هو قد كف عن المحاولة.»
آرثر بورجس، «الشيطان وسايمون فلاج»
ولد بيير دو فيرما في العشرين من أغسطس عام 1601 في مدينة بومون دو لومانيه في جنوب غرب فرنسا. وكان أبو فيرما، دومينيك فيرما، تاجر جلود ثريا؛ ومن ثم فقد كان من حسن حظ فيرما أن حظي بتعليم متميز في دير «ذا فرنسيسكان موناستري أوف جرانسلف»، وتلا ذلك وقت من العمل في جامعة تولوز. وما من دليل يشير إلى تمتع فيرما الشاب بأي براعة مميزة في الرياضيات.
وتحت وطأة ضغط عائلته، اتجه فيرما إلى العمل في الخدمة المدنية، وفي عام 1631، عين عضوا في برلمان تولوز، وقد كان عضوا في «غرفة الالتماسات». أي إنه إذا أراد السكان المحليون تقديم التماس إلى الملك بشأن أي أمر من الأمور، فقد كان عليهم أولا إقناع فيرما أو أحد شركائه بأهمية طلبهم. كان أعضاء البرلمان يوفرون حلقة الوصل الضرورية بين الإقليم وبين باريس. وإضافة إلى إقامة الصلة بين السكان والملكية، كان أعضاء البرلمان يتأكدون أيضا من تنفيذ المراسيم الملكية التي تصدر من العاصمة في جميع الأقاليم. وقد كان فيرما عاملا مدنيا كفئا تؤكد كل المعلومات أنه قد أدى واجباته بتفهم ورحمة.
كانت بعض واجبات فيرما الإضافية تتضمن العمل في السلطة القضائية، وكان قد بلغ رتبة عالية تؤهله للتعامل مع أخطر القضايا. ومن الروايات التي تخبرنا عن عمله رواية عالم الرياضيات الإنجليزي السير كينلم ديجبي. كان ديجبي قد طلب أن يلتقي فيرما، لكنه يفصح في رسالة لزميل مشترك هو جون واليس، أن الفرنسي كان منشغلا بأمور قضائية عاجلة، مما استبعد احتمالية اللقاء:
لقد وصلت في الموعد المحدد تماما لنقل قضاة كاستر إلى تولوز، حيث يعمل
فيرما
قاضيا أعلى في محكمة السيادة في البرلمان، وقد ظل منذ ذلك الوقت منشغلا للغاية بقضايا العاصمة التي تحمل قدرا كبيرا من الأهمية، والتي أنهاها بفرض عقوبة أحدثت اضطرابا كبيرا. لقد قضى بتجريم كاهن كان يسيء استخدام سلطاته، وإعدامه حرقا على الوتد. لقد انتهى هذا الأمر للتو، وتلاه تنفيذ الحكم.
كان فيرما يتبادل الرسائل مع ديجبي وواليس بانتظام. وسنرى لاحقا أن هذه الرسائل لم تكن ودية بدرجة كبيرة في معظم الأحيان، لكنها تمدنا ببعض الرؤى المهمة عن حياة فيرما، وفي ذلك حياته الأكاديمية.
ترقى فيرما سريعا في مراتب الخدمة المدنية، وصار من نخبة المجتمع مما يؤهله لاستخدام لفظ «دو» في اسمه. ولم تأت ترقيته نتيجة لطموحه بالضرورة، بل كان أمرا متعلقا بالصحة. ذلك أن الطاعون كان متفشيا في جميع أنحاء أوروبا، وقد ترقى الذين نجوا ليحلوا محل هؤلاء الذين ماتوا. حتى فيرما نفسه قد عانى نوبة حادة من الطاعون عام 1652، وكان مريضا للغاية حتى إن صديقه برنارد ميدون قد أعلن وفاته للعديد من الزملاء، غير أنه سرعان ما صحح نفسه بعد ذلك للهولندي نيكولاس هاينزيوس:
لقد أخبرتك من قبل بوفاة فيرما. إنه لا يزال حيا، ولم يعد هناك من خوف على صحته، بالرغم من أننا عددناه بين الأموات قبل وقت قليل. لم يعد الطاعون متفشيا بيننا.
وإضافة إلى المخاطر الصحية في فرنسا خلال القرن السابع عشر، كان على فيرما أن ينجو من المخاطر السياسية. لقد جاء تعيينه في برلمان تولوز بعد ثلاث سنوات فقط من ترقية الكاردينال ريشيليو إلى منصب رئيس وزراء فرنسا. كان ذلك عصر التآمر والمكائد، وكان على كل المشتركين في إدارة الدولة، حتى وإن كان ذلك على مستوى الحكومة المحلية، أن يحرصوا على عدم التورط في مكائد الكاردينال. وقد تبنى فيرما استراتيجية تأدية واجباته بكفاءة دون لفت الأنظار إليه. لم يكن لديه طموح سياسي عظيم، وقد بذل قصارى جهده ليتجنب الشجار الوحشي في البرلمان. وبدلا من ذلك، وجه جميع طاقته المتبقية للرياضيات، وفي الوقت الذي لم يكن يصدر فيه أحكام الإعدام بالحرق على الكهان، كرس فيرما نفسه لهوايته. لقد كان فيرما هاويا حقيقيا للدراسة الأكاديمية، حتى إن إي تي بيل قد أطلق عليه اسم «أمير الهواة». غير أن مواهبه كانت عظيمة للغاية، حتى إن جوليان كوليدج حين كتب كتابه الذي يتحدث عن الهواة العظام في الرياضيات، «رياضيات الهواة العظام»، قد استثناه من كتابه إذ رأى «أنه كان عظيما للغاية لدرجة أنه يجب أن يرد ضمن المحترفين.»
في بداية القرن السابع عشر، كانت الرياضيات لا تزال تتعافى من العصور المظلمة، ولم تكن من الموضوعات التي تحظى باحترام كبير. وكان الأمر نفسه ينطبق على علماء الرياضيات إذ لم يكونوا يحظون بالكثير من الاحترام، وكان الكثيرون منهم يضطرون إلى تمويل دراساتهم؛ فلم يتمكن جاليليو على سبيل المثال من دراسة الرياضيات في جامعة بيزا، واضطر إلى السعي إلى التعليم الخاص. والحق أن المؤسسة الوحيدة التي كانت تشجع علماء الرياضيات بقوة في أوروبا، هي جامعة أوكسفورد التي أسست منصب سافيل للهندسة عام 1619. ويحق لنا القول إن معظم علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر كانوا هواة، غير أن فيرما كان حالة استثنائية. كان يعيش بعيدا عن باريس؛ ومن ثم فقد كان معزولا عن مجتمع علماء الرياضيات الصغير الذي كان موجودا بالفعل وتضمن بعض الشخصيات البارزة مثل باسكال وجاسندي وروفربال وبوجراند، والأبرز من بينهم، وهو الأب مارين ميرسين.
لم يسهم الأب مارين ميرسين في نظرية الأعداد إلا بإسهامات صغيرة، ومع ذلك يمكن القول إن الدور الذي أداه في رياضيات القرن السابع عشر، كان أهم من أي دور قد أداه زملاؤه الذين كانوا يحظون بقدر أكبر من التقدير. بعد انضمامه في عام 1611 إلى طائفة الرهبان الرومان الكاثوليك التي أسسها القديس فرانسيس باولا، درس ميرسين الرياضيات، ودرسها بعد ذلك لغيره من الرهبان والراهبات في دير الطائفة في مدينة نيفير. وبعد ذلك بثماني سنوات، انتقل إلى باريس لينضم إلى دير «مينيمز دو لانوسياد» بالقرب من ميدان بالاس رويال، وهو نقطة تجمع معتادة للمفكرين. وقد التقى ميرسين غيره من علماء الرياضيات في باريس بالطبع، غير أنه قد حزن من ترددهم في التحدث إليه أو بعضهم إلى بعض.
لقد كانت هذه الطبيعة السرية لعلماء الرياضيات عادة قد تناقلتها الأجيال منذ «الكوزيين» في القرن السادس عشر. لقد كان «الكوزيون» بارعين في إجراء جميع أشكال الحسابات، وكان التجار ورجال الأعمال يستعينون بهم لحل مسائل الحسابات المعقدة. يشتق اسمهم من الكلمة الإيطالية
cosa «كوزا»، التي تعني «شيء»؛ لأنهم كانوا يستخدمون الرموز لتمثيل الكميات المجهولة، مثلما يستخدم علماء الرياضيات اليوم الرمز
x . وجميع المحترفين في حل المسائل في هذا العصر قد اخترعوا طرقهم الخاصة البارعة لإجراء العمليات الحسابية، وكان كل منهم يبذل قصارى جهده للحفاظ على سرية هذه الطرق لكي يحافظ على سمعته بأنه الوحيد القادر على حل مسألة معينة. وفي حادثة استثنائية، باح نيكولو تارتاجليا، الذي اكتشف طريقة سريعة لحل المعادلات التكعيبية، بسره إلى جيرولامو كاردانو وجعله يقسم له على الحفاظ على السرية التامة. وبعد ذلك بعشر سنوات، نقض كوردانو عهده ونشر طريقة تارتاجليا في كتابه «الفن الكبير»، وهو ما لم يسامحه تارتاجليا عليه قط. قطع تارتاجليا كل صلة له بكوردانو، ونشب بينهما نزاع علني مرير، لم يقدم شيئا سوى أنه قد شجع علماء الرياضيات الآخرين على حماية أسرارهم بدرجة أكبر. وقد استمرت هذه الطبيعة السرية لعلماء الرياضيات حتى نهاية القرن التاسع عشر، بل إننا سنكتشف لاحقا أمثلة على عقول عبقرية تعمل في السر في القرن العشرين.
حين وصل الأب ميرسين إلى باريس، كان عازما على محاربة روح السرية وحاول تشجيع علماء الرياضيات على تبادل أفكارهم وإضافة بعضهم إلى أعمال بعض. كان الراهب ينظم اجتماعات تجرى بصورة منتظمة، وقد شكلت جماعته لاحقا أساس الأكاديمية الفرنسية. وحين كان أحدهم يرفض الحضور، كان ميرسين ينقل للمجموعة ما يستطيع بإعلان الأوراق والرسائل، حتى إن كانت قد أرسلت إليه سرا. لم يكن ذلك بالسلوك الأخلاقي من أحد رجال الدين، لكنه كان يبرره بأن تبادل المعلومات سيفيد علماء الرياضيات والبشرية. وقد أدت تصرفات الإعلان تلك بطبيعة الحال إلى جدالات حامية بين الراهب حسن النية وبين الكتومين غير المتعاونين، وأدت في نهاية المطاف إلى تدمير علاقته بديكارت التي استمرت منذ كان الرجلان يدرسان معا في كلية الجيزويت. كان ميرسين قد كشف عن بعض الكتابات الفلسفية لديكارت، والتي كان من شأنها أن تسيء إلى الكنيسة، بالرغم من ذلك، يذكر للرجل أنه قد دافع عن ديكارت ضد الهجمات اللاهوتية، مثلما كان قد فعل ذلك من قبل بالفعل في حالة جاليليو. ففي عصر كان يهيمن فيه الدين والسحر، وقف ميرسين مدافعا عن التفكير العقلاني.
سافر ميرسين في جميع أنحاء فرنسا وغيرها من المناطق الأبعد، وراح ينشر أنباء أحدث الاكتشافات. وكان قد حرص في أسفاره على الالتقاء ببيير دو فيرما، ويبدو بالفعل أنه كان الرياضي الوحيد الذي يتصل به فيرما على نحو منتظم. ولا بد أن تأثير ميرسين على «أمير الهواة» كان ثاني أكبر تأثير بعد كتاب «أريثميتيكا»، وهو كتاب في الرياضيات يعود تاريخه إلى اليونانيين القدماء وكان الرفيق الدائم لفيرما. وحتى حين لم يكن ميريسين يستطيع السفر، كان يحافظ على علاقته مع فيرما وغيره عن طريق تبادل الكثير من الرسائل. فبعد وفاة ميرسين، وجدت غرفته ممتلئة بالرسائل من ثمانية وسبعين من المراسلين المختلفين.
وبالرغم من تشجيع الأب ميرسين، أصر فيرما على رفض الإعلان عن براهينه. لم يكن النشر والتقدير يعنيان شيئا بالنسبة إليه، وكان قانعا فحسب بسروره المحض النابع من قدرته على ابتكار مبرهنات جديدة دون إزعاج. بالرغم من ذلك، فقد كان العبقري الانطوائي الخجول يتمتع بمسحة من الخبث، وعند اجتماعها مع تكتمه، كانت تعني أنه حين يتواصل مع غيره من علماء الرياضيات في بعض الأوقات، فإنه لم يكن يتواصل معهم إلا ليغيظهم. كان يكتب خطابات يورد فيها أحدث مبرهانته دون ذكر البرهان المصاحب لها ، ثم يتحدى معاصريه لإيجاد البرهان. وحقيقة أنه لم يكن يفصح أبدا عن براهينه قد سببت قدرا كبيرا من الإحباط. لقد كان رينيه ديكارت يدعو فيرما «بالمتشدق»، وكان الإنجليزي جون واليس يشير إليه بلقب «ذلك الفرنسي اللعين». ومن سوء حظ الإنجليز أن فيرما كان يستمتع على وجه التحديد بالعبث مع أبناء عمومته على الضفة الأخرى من القناة.
وإضافة إلى سروره المستمد من إزعاج زملائه، كان لعادة فيرما في ذكر المسألة دون ذكر حلها دوافع عملية. وأول هذه الدوافع أن تلك العادة كانت تعني أنه لم يكن مضطرا لإهدار الوقت في تقديم شرح كامل لأساليبه، بل كان يستطيع الانتقال إلى انتصاره التالي. وإضافة إلى ذلك، لم يكن عليه أن يعاني من تصيد الأخطاء النابع من الغيرة. فالبراهين تدرس فور نشرها وتصير مادة لجدال يشترك فيه كل فرد وأي فرد يعرف أي شيء عن الموضوع. وحين ألح عليه بليز باسكال في نشر بعض أعماله، أجابه المنعزل: «إنني لا أرغب في أن يظهر اسمي على أي شيء من أعمالي يرى أنه جدير بالنشر.» لقد كان فيرما عبقريا كتوما ضحى بالشهرة لئلا تزعجه الأسئلة التافهة من ناقديه.
وقد كانت هذه الرسائل المتبادلة مع باسكال، هي المناسبة الوحيدة التي ناقش فيها فيرما أفكاره مع أي شخص بخلاف ميرسين، بخصوص ابتكار فرع جديد تماما في الرياضيات، وهو نظرية الاحتمالات. لقد تعرف ناسك الرياضيات على الموضوع من خلال باسكال؛ ولهذا فقد شعر بواجبه في الإبقاء على الحوار بالرغم من حبه للعزلة. ومعا، اكتشف فيرما وباسكال البراهين الأولى واليقينيات المؤكدة في نظرية الاحتمالات التي هي موضوع يتسم في جوهره بانعدام اليقين. وقد كان ما أثار اهتمام باسكال بالموضوع هو مقامر باريسي محترف، هو أنطوان جومبو «شيفالييه دو مير»، الذي كان قد طرح معضلة بشأن أحد ألعاب الحظ التي تدعى «بوينتس». وتنطوي هذه اللعبة على الفوز بنقاط من رمية حجر النرد، وأول لاعب يفوز بعدد محدد من النقاط، يكون هو الفائز وينال الجائزة نقودا.
كان جومبو منهمكا في لعبة نقاط مع زميل مقامر له حين اضطرا إلى التوقف عن اللعبة في منتصفها بسبب موعد مهم. وكانت المعضلة التي طرأت هي ما يمكن فعله بشأن نقود الجائزة. كان الحل الأبسط ليتمثل في إعطاء نقود الجائزة إلى المنافس الذي حاز على العدد الأكبر من النقاط، لكن جومبو قد سأل باسكال عما إذا كانت هناك طريقة أكثر عدلا لتقسيم النقود. كان على باسكال أن يحسب احتمالات فوز كل لاعب إن كانت اللعبة قد استمرت، وبافتراض أن كلا اللاعبين كانا يتمتعان بفرصة متساوية في الفوز بنقاط تالية. ويمكن حينها تقسيم نقود الجائزة وفقا لهذه الاحتمالات المحسوبة.
قبل القرن السابع عشر، كانت قوانين الاحتمالات تحدد وفقا لحدس المقامرين وخبرتهم، غير أن باسكال قد بدأ في تبادل الرسائل مع فيرما؛ بهدف اكتشاف القواعد الرياضية التي تصف قوانين الصدفة بدرجة أكبر من الدقة. وبعد ذلك بثلاثة قرون، سيعلق برتراند راسل على هذا التناقض قائلا: «كيف نجرؤ على الحديث عن قوانين الصدفة؟ أوليست الصدفة هي نقيض أي قانون؟»
حلل الفرنسي سؤال جومبو، وسرعان ما أدرك أنها مسألة بسيطة إلى حد كبير ويمكن حلها من خلال تحديد جميع نتائج اللعبة المحتملة على نحو دقيق وتعيين احتمال واحد لكل نتيجة منها. كان يمكن لكل من باسكال وفيرما أن يحلا معضلة جومبو على حدة، لكن تعاونهما قد سرع من اكتشاف الحل، وقادهما إلى استكشاف أعمق لأسئلة أخرى أكثر دقة وتعقيدا تتعلق بالاحتمالات.
إن مسائل الاحتمالات تكون مثيرة للجدل في بعض الأحيان؛ لأن الإجابة الرياضية، وهي الإجابة الحقيقية، غالبا ما تكون مناقضة لما قد تفترضه البديهة. وربما يكون عجز البديهة في هذا الأمر أمرا مفاجئا؛ إذ إن «بقاء الأنسب» قد طرح ولا بد ضغطا تطوريا قويا لصالح العقل القادر بطبيعته على تحليل مسائل الاحتمالات. يمكننا تخيل أسلافنا يترصدون غزالا صغيرا، ويوازنون بين الهجوم وعدم الهجوم. ما احتمالية وجود غزال كبير بالجوار مستعد للدفاع عن صغيره، وجرح المعتدين عليه؟ وعلى الجانب الآخر، ما احتمالية توفر فرصة أفضل للحصول على وجبة من اللحم، إذا كان الحكم بشأن هذه الوجبة هو أنها خطرة للغاية؟ يجدر بموهبة تحليل الاحتمالات أن تكون في تركيبتنا الوراثية، غير أن البديهة غالبا ما تضللنا.
إن إحدى مسائل الاحتمالات الأكثر تناقضا مع البديهة تختص باحتمالية تشارك يوم الميلاد. تخيل ملعب كرة قدم به 23 فردا هم اللاعبون والحكم. فما احتمالية أن يشترك أي شخصين من أولئك الأشخاص الثلاثة والعشرين في يوم الميلاد نفسه؟ إن وجود 23 فردا و365 من أيام الميلاد التي يمكن الاختيار من بينها يجعل من تشارك أي فردين في يوم الميلاد نفسه أمرا مستبعدا بدرجة كبيرة. وحين يطلب من الأفراد تعيين قيمة لهذه الاحتمالية، فإن معظمهم يقدرونها بقيمة 10٪ على الأكثر. وحقيقة الأمر أن الإجابة الفعلية هي أكثر من 50٪، ومعنى هذا في ميزان الاحتمالات أنه من المرجح أن يوجد شخصان في الملعب يتشاركان يوم الميلاد نفسه.
والسبب في هذه الاحتمالية المرتفعة أن الأهم من عدد الأفراد هو عدد الطرق التي يمكن جمع الأفراد بها في أزواج؛ فحين نبحث عن يوم ميلاد مشترك، علينا أن ننظر إلى الأشخاص أزواجا لا أفرادا. فعلى الرغم من وجود 23 فردا فقط في الملعب، فثمة 253 زوجا. على سبيل المثال، يمكن جمع الشخص الأول في زوجين مع أي من الاثنين والعشرين شخصا الآخرين؛ مما يشكل لنا في البداية 22 زوجا. بعد ذلك، يمكن جمع الشخص الثاني في زوجين مع أي من الواحد والعشرين شخصا المتبقين (لقد حسبنا الشخص الثاني بالفعل في الأزواج المحتملة للشخص الأول؛ ولهذا فقد نقص عدد الأزواج المحتملة بمقدار واحد)؛ فيصبح لدينا 21 زوجا إضافيا. وبعد ذلك، يمكن جمع الشخص الثالث في زوجين مع أي من العشرين شخصا المتبقين؛ فيصبح لدينا 20 زوجا إضافيا، ونستمر على هذا المنوال إلى أن نصل في النهاية إلى 253 زوجا.
تبدو الحقيقة المتمثلة في أن احتمالية تشارك شخصين ضمن مجموعة تتألف من 23 شخصا في يوم الميلاد نفسه هي أكثر من 50٪، خاطئة وفقا للبديهة، لكنها حقيقة رياضية لا مراء فيها. والاحتمالات الغريبة مثل تلك الاحتمالية هي تحديدا ما يعتمد عليه وكلاء المراهنات والمقامرون لاستغلال الغافلين. في المرة التالية التي تكون فيها في حفل به أكثر من 23 شخصا، قد ترغب في عقد رهان على أن شخصين في هذا الحفل يتشاركان في يوم الميلاد نفسه. ويجدر بك أن تلاحظ أن الاحتمالية في مجموعة تتكون من 23 شخصا هي أكثر من 50٪ فحسب، لكنها تزداد بسرعة كبيرة مع زيادة حجم المجموعة. ومن ثم؛ إذا كان الجمع يضم 30 شخصا، فستكون المراهنة على أن شخصين منهم يتشاركان في يوم الميلاد نفسه أمرا يستحق بالتأكيد.
لقد أسس باسكال وفيرما القواعد الأساسية التي تحكم جميع ألعاب الحظ، والتي يمكن للمقامرين استخدامها لتحديد الاستراتيجيات المثالية للعب والمراهنة. وعلاوة على ذلك، فإن قوانين الاحتمالات هذه قد وجدت تطبيقات لها في الكثير من المواقف التي تتنوع من التخمين بشأن سوق البورصة إلى تقدير احتمالية وقوع حادث نووي. بل إن باسكال كان مقتنعا بإمكانية استخدام نظرياته لتبرير الإيمان بالإله. لقد ذكر أن «الإثارة التي يشعر بها المقامر عند وضع الرهان تساوي مقدار ما يمكن أن يفوز به مضروبا في احتمالية فوزه.» وجادل بأن الجائزة المحتملة المتمثلة في السعادة الأبدية ذات قيمة لا متناهية، وأن احتمالية دخول الجنة بعد اتباع حياة الفضيلة، مهما بلغ قصرها، هي بالتأكيد منتهية. وبهذا، يصبح الدين وفقا لتعريف باسكال لعبة ذات قدر لا نهائي من الإثارة وهي لعبة تستحق الاشتراك فيها؛ إذ إن ضرب جائزة لا متناهية في احتمالية منتهية يعطينا نتيجة لا متناهية.
وإضافة إلى الاشتراك في تأسيس نظرية الاحتمالات، كان فيرما منخرطا بشدة في تأسيس مجال جديد في الرياضيات، وهو حساب التفاضل والتكامل. إن التفاضل والتكامل هو حساب معدل التغير في كمية واحدة بالنسبة إلى كمية أخرى، ويعرف هذا المعدل باسم المشتقة. فعلى سبيل المثال، يعرف معدل تغير المسافة بالنسبة إلى الزمن باسم السرعة المتجهة فحسب. غالبا ما يرى علماء الرياضيات أن الكميات مجردة وغير ملموسة، لكن نتائج عمل فيرما قد تسببت بعد ذلك في ثورة في مجال العلوم. فرياضيات فيرما قد مكنت العلماء من تحقيق فهم أفضل لمفهوم السرعة المتجهة ، وعلاقتها بغيرها من الكميات الأساسية مثل التسارع: معدل تغير السرعة المتجهة بالنسبة إلى الزمن.
ومن المجالات التي تأثرت بحساب التفاضل والتكامل تأثرا كبيرا، علم الاقتصاد. التضخم هو معدل تغير السعر، الذي يعرف بمشتقة السعر، وغالبا ما يهتم علماء الاقتصاد أيضا بمعدل تغير التضخم، وهو ما يعرف بالمشتقة الثانية للسعر. تتردد هذه المصطلحات على ألسنة السياسيين بكثرة، وقد أشار عالم الرياضيات هوجو روسي ذات مرة إلى ما يلي: «في خريف العام 1972، أعلن الرئيس نيكسون أن معدل زيادة التضخم آخذ في التناقص. وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها رئيس حالي مشتقة ثالثة لزيادة فرصته في إعادة انتخابه.»
لقد ساد الاعتقاد لقرون طويلة بأن إسحاق نيوتن هو من اكتشف حساب التفاضل والتكامل بمفرده ودون أي معرفة بعمل فيرما، غير أن لويس ترينشارد مور قد اكتشف عام 1934 رسالة وضعت الأمور في نصابها الصحيح، ومنحت فيرما ما يستحقه من تقدير. فقد كتب نيوتن أنه وضع حساب التفاضل والتكامل بناء على «طريقة السيد فيرما في رسم المماسات.» ومنذ القرن السابع عشر، يستخدم حساب التفاضل والتكامل في وصف قوانين الجاذبية وقوانين الحركة التي وضعها نيوتن، والتي تعتمد على المسافة والسرعة المتجهة والتسارع.
كان اكتشاف حساب التفاضل والتكامل ونظرية الاحتمالات أكثر من كافيين ليضمنا لفيرما الشهرة في عالم الرياضيات، غير أن إنجازه الأعظم كان في مجال آخر من مجالات الرياضيات. فبينما يستخدم حساب التفاضل والتكامل في إرسال الصواريخ إلى القمر، وبينما استخدمت شركات التأمين نظرية الاحتمالات في تقييم المخاطر، كان حب فيرما الأعظم لمجال عديم الفائدة إلى حد كبير، وهو نظرية الأعداد. لقد كان فيرما مدفوعا بهوسه لفهم خصائص الأعداد والعلاقات فيما بينها. إن هذا الموضوع هو الأكثر تجريدا في فروع الرياضيات وأقدمها، وكان فيرما يضيف إلى هيكل معرفي قد وصل إليه من فيثاغورس. (1) تطور نظرية الأعداد
بعد وفاة فيثاغورس، انتشر مفهوم البرهان الرياضي سريعا في أرجاء العالم المتحضر، وبعد مرور قرنين على حرق مدرسته، انتقل مركز دراسة الرياضيات من قروطون إلى مدينة الإسكندرية. في العام 332 قبل الميلاد، بعد أن غزا الإسكندر الأكبر اليونان وآسيا الصغرى ومصر، قرر أن يبني عاصمة تكون هي الأروع في العالم. وقد كانت الإسكندرية عاصمة رائعة دون شك، لكنها لم تصبح مركزا للتعلم على الفور. ذلك أنها لم تصبح وطنا لأول جامعة في العالم على الإطلاق إلا بعد أن توفي الإسكندر الأكبر، وتولى أحد قادته، وهو بطليموس الأول، عرش مصر. توافد علماء الرياضيات وغيرهم من المفكرين على مدينة بطليموس للثقافة. وبالرغم من أن سمعة الجامعة قد جذبتهم دون شك، فقد كان عامل الجذب الأساسي هو مكتبة الإسكندرية.
كانت المكتبة فكرة ديميتريوس الفالرومي، وهو خطيب مغمور كان قد اضطر إلى الهرب من أثينا، ووجد في الإسكندرية ملاذا في النهاية. لقد أقنع بطليموس بجمع جميع الكتب العظيمة معا، مؤكدا له أن العقول العظيمة سوف تتبعها. وفور إحضار مجلدات مصر واليونان، راح الوكلاء يجوبون أوروبا وآسيا الصغرى بحثا عن المزيد من الكتب المعرفية. حتى السائحون إلى الإسكندرية لم يسلموا من نهم المكتبة؛ إذ كانت كتبهم تصادر عند دخول المدينة وتؤخذ إلى النساخ. كانت الكتب تنسخ كي يهدى الكتاب الأصلي إلى المكتبة، بينما تعطى النسخة على سبيل الكرم إلى المالك الأصلي. وهذه الدقة الكبيرة في خدمة النسخ التي كانت تقدم إلى المسافرين القدامى، تمنح مؤرخي اليوم أملا في أن نسخة من كتاب عظيم مفقود سوف تظهر ذات يوم في سندرة في مكان ما بالعالم. ففي عام 1906، عثر جيه إل هايبرج في القسطنطينية على مخطوطة من هذا النوع بعنوان «ذا ميثود»، وقد تضمنت بعضا من كتابات أرشميدس الأصلية.
استمر حلم بطليموس ببناء خزينة للمعرفة حتى بعد وفاته، وبعد أن ارتقى بضعة من البطالمة إلى العرش، كانت المكتبة تضم أكثر من 600000 كتاب. كان علماء الرياضيات يستطيعون تعلم كل شيء في العالم المكتشف من خلال الدراسة في الإسكندرية حيث كان يدرس لهم فيها أشهر العلماء. فلم يكن أول من ترأس قسم الرياضيات سوى إقليدس.
ولد إقليدس عام 330 قبل الميلاد تقريبا. ومثله في ذلك مثل فيثاغورس، كان إقليدس يؤمن بالبحث عن الحقيقة الرياضية من أجل ذاتها فحسب ولم يكن يبحث عن تطبيقات لعمله. وتحكي لنا إحدى القصص عن تلميذ له قد سأله عن فائدة الرياضيات التي كان يتعلمها. وفور الانتهاء من الدرس، التفت إقليدس إلى عبده وقال له: «أعط الغلام بنسا؛ إذ إنه يرغب في الاستفادة من كل ما يتعلمه.» وطرد الطالب بعد ذلك.
كرس إقليدس الجزء الأكبر من حياته لكتابه «الأصول»، أنجح المراجع في التاريخ. فحتى هذا القرن، جاء هذا الكتاب في المركز الثاني لأفضل الكتب مبيعا في العالم بعد الإنجيل. ويتألف المرجع من ثلاثة عشر كتابا، بعضها مخصص لأعمال إقليدس، والجزء المتبقي منها تجميع للمعارف الرياضية في العصر، ومنها جزءان مخصصان بالكامل لأعمال الأخوية الفيثاغورسية. في القرون التالية لفيثاغورس، كان علماء الرياضيات قد اخترعوا العديد من الأساليب المنطقية التي يمكن استخدامها في ظروف مختلفة، وقد وظفها إقليدس جميعها ببراعة في كتابه «العناصر». وقد استخدم إقليدس على وجه التحديد سلاحا منطقيا يعرف باسم «ريدكتو أد أبسوردم» أو البرهان بالتناقض. وتستند هذه الطريقة على الفكرة المعاكسة المتمثلة في محاولة إثبات صحة مبرهنة ما عن طريق افتراض خطئها أولا. يستكشف عالم الرياضيات النتائج المنطقية في حالة أن تكون المبرهنة خاطئة. وفي مرحلة ما في التسلسل المنطقي، يظهر تناقض ما (2 + 2 = 5 على سبيل المثال). إن الرياضيات تبغض التناقض؛ ومن ثم فلا يمكن أن تكون المبرهنة الأصلية خاطئة، أي إنها لا بد أن تكون صحيحة.
لقد جسد عالم الرياضيات الإنجليزي جي إتش هاردي روح البرهان بالتناقض في كتابه «اعتذار عالم رياضيات» فقال: «إن البرهان بالتناقض الذي أحبه إقليدس للغاية هو أحد أرقى أسلحة عالم الرياضيات. إنه مناورة أرقى من أي مباراة شطرنج؛ فلاعب الشطرنج قد يعرض التضحية ببيدق أو حتى قطعة، لكن عالم الرياضيات يعرض التضحية بالمباراة.»
أحد أشهر البراهين بالتناقض التي استخدمها إقليدس قد أسس وجود ما يعرف باسم «الأعداد غير النسبية». وثمة احتمال قائم بأن الأعداد غير النسبية قد اكتشفت في الأصل على يد الأخوية الفيثاغورسية قبل ذلك بقرون، غير أن فيثاغورس قد وجد المفهوم بغيضا للغاية حتى إنه قد أنكر وجودها.
حين زعم فيثاغورس أن الأعداد تحكم الكون بأكمله، كان يعني بذلك الأعداد الصحيحة ونسب الأعداد الصحيحة (الكسور)، وجميعها تكون الأعداد النسبية. أما العدد غير النسبي، فهو ليس بالعدد الصحيح ولا بالكسر؛ وهذا هو ما جعله بغيضا للغاية لدى فيثاغورس. والحق أن الأعداد غير النسبية غريبة للغاية حتى إنه لا يمكن كتابتها على هيئة أعداد عشرية، ولا حتى على هيئة أعداد عشرية متكررة. فالعدد العشري المتكرر مثل 0,111111 ... هو عدد مباشر إلى درجة كبيرة في حقيقة الأمر، وهو يساوي الكسر 1 / 9. فحقيقة تكرر العدد «1» إلى ما لا نهاية تعني أن نمط العدد العشري بسيط للغاية ومنتظم. وبالرغم من التكرار إلى ما لا نهاية، فإن هذا الانتظام يشير إلى إمكانية كتابة العدد في صورة كسر. أما حين تحاول التعبير عن أحد الأعداد غير النسبية في صورة كسر، فإنك تنتهي بعدد يستمر إلى ما لا نهاية ودون نمط ثابت أو منتظم.
لقد كان مفهوم العدد غير النسبي إنجازا ضخما. راح علماء الرياضيات ينظرون إلى ما وراء الأعداد الصحيحة والكسور المرتبطة بها ويكتشفون أعدادا جديدة، أو ربما يخترعونها. فقال عالم الرياضيات ليوبولد كرونكر، الذي عاش في القرن التاسع عشر: «خلق الرب الأعداد الصحيحة، أما كل الأعداد الباقية، فهي من صنع الإنسان.»
أشهر الأمثلة على الأعداد غير النسبية هو العدد
π . وهو يقرب في المدارس في بعض الأحيان إلى القيمة
أو 3,14، غير أن القيمة الفعلية للعدد
π
تقترب من 3,14159265358979323846، وحتى هذه القيمة هي محض تقريب. فحقيقة الأمر أننا لا نستطيع التعبير عن قيمة
π
بالتحديد؛ إذ إن المنازل العشرية تستمر إلى الأبد دون أي نمط منتظم. ومن السمات الجميلة في هذا النمط العشوائي إمكانية حسابه باستخدام معادلة في غاية الانتظام:
من خلال حساب الحدود الأولى، يمكن الحصول على قيمة تقريبية للغاية للعدد ط، لكن عند حساب المزيد والمزيد من الحدود، يمكن التوصل إلى قيمة أكثر دقة. وبالرغم من أن معرفة قيمة
π
إلى 39 منزلة عشرية يكفي لحساب محيط الكون بدقة تصل إلى حساب نصف نصف قطر ذرة الهيدروجين، فإن ذلك لم يمنع علماء الكمبيوتر من حسابها إلى أكبر عدد ممكن من المنازل العشرية. وصاحب الرقم القياسي الحالي هو ياسوماسا كانادا من جامعة طوكيو، الذي حسب قيمة
π
إلى ستة مليارات من المنازل العشرية في عام 1996. ومؤخرا، أشارت بعض الشائعات إلى أن الأخوين الروسيين تشودنوفسكي المقيمين في نيويورك، قد حسبا قيمة
π
إلى ثمانية مليارات من المنازل العشرية، ويهدفان إلى الوصول إلى تريليون منزلة عشرية. بالرغم من ذلك، فحتى إذا استمر كاندا أو الأخوان تشودنوفسكي في حساب هذه القيمة إلى أن استنزفت أجهزة الكمبيوتر التي يستخدمونها جميع الطاقة الموجودة في الكون، فلن يتوصلوا مع ذلك إلى القيمة الدقيقة للعدد ط. من السهل علينا إذن أن نفهم السبب الذي دفع فيثاغورس إلى إخفاء وجود هذه الوحوش الرياضية.
قيمة π إلى 1500 منزلة عشرية
حين جرؤ إقليدس على معالجة مسألة عدم النسبية في الجزء العاشر من كتابه «العناصر»، كان هدفه هو إثبات إمكانية وجود عدد تستحيل كتابته على صورة كسر. وبدلا من أن يحاول إثبات أن
π
عدد غير نسبي، فحص إقليدس الجذر التربيعي للعدد 2، ، وهو العدد الذي يساوي 2 عند ضربه في نفسه. ومن أجل إثبات استحالة كتابة
على صورة كسر، استخدم إقليدس البرهان بالتناقض، وبدأ بافتراض إمكانية كتابته على صورة كسر، ثم وضح بعد ذلك أن هذا الكسر الافتراضي، الذي يمثل ، يمكن تبسيطه. ومعنى تبسيط الكسر أن الكسر 8 / 12 على سبيل المثال يمكن تبسيطه إلى 4 / 6 من خلال قسمة البسط والمقام على 2. ويمكن تبسيط 4 / 6 بالطريقة نفسها ليصبح 2 / 3، الذي لا يمكن تبسيطه أكثر من ذلك، ومن ثم يوصف الكسر بأنه في أبسط صورة له. غير أن ما فعله إقليدس هو أنه أوضح أن كسره الافتراضي يمكن تبسيطه مرات ومرات إلى ما لا نهاية، لا مرة واحدة فحسب، ولن يصل أبدا إلى أبسط صورة له. وذلك غير منطقي على الإطلاق؛ لأن جميع الكسور تصل إلى أبسط صورة لها في نهاية المطاف؛ ومن ثم فلا يمكن أن يوجد مثل هذا الكسر الافتراضي. إذن لا يمكن كتابة
على هيئة كسر وهو عدد غير نسبي. يرد توضيح لبرهان إقليدس في الملحق 2.
من خلال استخدام البرهان بالتناقض، تمكن إقليدس من إثبات وجود الأعداد غير النسبية. وللمرة الأولى، اتخذت الأعداد سمة جديدة أكثر تجريدا . فحتى تلك المرحلة التاريخية، كانت الأعداد جميعها تمثل في صورة أعداد صحيحة أو كسور، لكن الأعداد غير النسبية التي أثبت إقليدس وجودها قد استعصت على التمثيل بالطريقة التقليدية. ما من طريقة أخرى يمكن استخدامها لوصف العدد المساوي للجذر التربيعي للعدد اثنين إلا بالتعبير عنه بالصورة: . ذلك أن أي محاولة لكتابته على هيئة عدد عشري لن تكون إلا قيمة تقريبية، مثل 1,414213562373 ...
لقد كان فيثاغورس يرى أن جمال الرياضيات هو أن الأعداد النسبية (الأعداد الصحيحة والكسور) يمكن أن تصف جميع الظواهر الطبيعية. وهذه الفلسفة التي كان يهتدي بها قد أعمته عن وجود الأعداد غير النسبية، وربما تكون قد أدت أيضا إلى إعدام أحد تلاميذه. تروي إحدى القصص أن طالبا شابا يدعى هيباسوس كان يلهو بلا هدف بالعدد ، في محاولة منه لإيجاد الكسر المعادل له. وفي نهاية المطاف، أدرك أن مثل ذلك الكسر ليس له أي وجود، أي إن
عدد غير نسبي. لا بد أن هيباسوس كان منتشيا باكتشافه، لكن معلمه لم يكن كذلك. لقد كان فيثاغورس يعرف الكون وفقا للأعداد النسبية، ووجود الأعداد غير النسبية وضع تصوره الذهني في موضع الشك. كان ينبغي أن يترتب على اكتشاف هيباسوس وقت من المناقشة والتأمل، كان يجدر بفيثاغورس أن يتقبل خلاله ذلك المصدر الجديد للأعداد. غير أن فيثاغورس لم يكن مستعدا لأن يقبل أنه كان على خطأ، وفي الوقت نفسه، لم يستطع إبطال حجة هيباسوس بقوة المنطق؛ فحكم عليه بالإعدام غرقا، وسيظل هذا العار ملتصقا به إلى الأبد.
لقد لجأ مؤسس المنطق والمنهجية الرياضية إلى القوة بدلا من أن يعترف بخطئه. إن إنكار فيثاغورس للأعداد غير النسبية هو أشنع أفعاله، وقد يكون أعظم مآسي الرياضيات اليونانية؛ إذ لم يمكن بعث الأعداد غير النسبية بأمان إلا بعد وفاته.
وبالرغم من أن اهتمام إقليدس بنظرية الأعداد كان واضحا؛ فلم تكن تلك أعظم إسهاماته في مجال الرياضيات. لقد كانت الهندسة هي شغف إقليدس الحقيقي، ومن بين الأجزاء الثلاثة عشر التي يتألف منها كتابه «العناصر»، تركز الأجزاء من الأول إلى الرابع على الهندسة المستوية (ثنائية الأبعاد)، بينما تناقش الأجزاء من الحادي عشر إلى الثالث عشر هندسة المجسمات (ثلاثية الأبعاد). إن هذا الكتاب يمثل مرجعا مكتملا للمعرفة حتى إن محتوياته قد شكلت منهج الهندسة في المدارس على مدى ألفي عام تاليين من الزمان.
أما عالم الرياضيات الذي جمع نصا مكافئا لنظرية الأعداد، فهو ديوفانتوس الإسكندري، آخر أبطال التقليد الرياضي اليوناني. وبالرغم من أن إنجازات ديوفانتوس في نظرية الأعداد قد وثقت جيدا في كتبه، فلسنا نعرف أي شيء آخر عن ذلك العالم العظيم. فمسقط رأسه مجهول، ووصوله إلى الإسكندرية قد يكون في أي وقت على مدى مدة زمنية تمتد إلى خمسة قرون. يقتبس ديوفانتوس في كتاباته من هيبسكلس؛ إذن فلا بد أنه قد عاش بعد العام 150 قبل الميلاد؛ ومن ناحية أخرى، نرى ثيون الإسكندري يقتبس من أعماله؛ إذن فلا بد أنه قد عاش قبل العام 364 بعد الميلاد. والتقدير المنطقي المقبول لتاريخ ميلاده هو حول العام 250 ميلاديا. ومثلما يليق بشخص من محترفي حل المعضلات، فإن المعلومة الوحيدة التي انتقلت إلينا عن حياة ديوفانتوس، قد بقيت في شكل أحجية يقال إنها قد نقشت على قبره:
منحه الرب صباه على مدى السدس من عمره، وبإضافة 1 / 12 لذلك، غطى خديه بالزغب؛ ومنحه نور الزواج بعد السبع، وبعد خمس سنوات من زواجه منحه ابنا. ويحي! طفل بائس قد ولد لعجوز؛ وبعد أن بلغ عمره نصف عمر أبيه كله، أخذه القدر القاسي. بعد أن واسى الرب حزنه بعلم الأعداد على مدى أربع سنوات، أنهى حياته.
واللغز هو حساب الفترة الزمنية التي عاشها ديوفانتوس. ترد الإجابة في الملحق 3.
إن هذه الأحجية مثال على نوع المسائل الذي كان ديوفانتوس يستمتع بحله. لقد تخصص في معالجة المسائل التي كانت تستلزم إجابات بأعداد صحيحة، وتعرف هذه المسائل اليوم باسم المسائل الديوفانتية. قضى ديوفانتوس حياته المهنية في الإسكندرية، وظل يجمع خلالها المسائل المفهومة جيدا، ويخترع مسائل جديدة، ثم جمعها كلها في مجلد واحد يعرف باسم «أريثميتيكا» (علم الحساب). ومن بين الأجزاء الثلاثة عشر التي تؤلف «أريثميتيكا»، لم ينج منها بعد أهوال العصور المظلمة سوى ستة فقط، وقد ألهمت علماء الرياضيات في عصر النهضة، ومنهم بيير دو فيرما. أما الأجزاء السبعة المتبقية، فقد فقدت خلال سلسلة من الأحزان المأساوية التي أعادت الرياضيات إلى عصر البابليين.
شكل 2-1: واجهة ترجمة كلود جاسبار باشي لكتاب «أريثميتيكا» الذي ألفه ديوفانتوس، ونشرت الترجمة عام 1621. أصبح هذا الكتاب بمثابة نص مقدس لفيرما، وألهم الكثير من أعماله.
خلال القرون التي تفصل بين إقليدس وديوفانتوس، ظلت الإسكندرية هي العاصمة الفكرية للعالم المتحضر، غير أنها كانت تتعرض على مدى هذه المدة باستمرار لتهديدات من الجيوش الأجنبية. وقد وقعت أولى الهجمات الكبرى عام 47 قبل الميلاد، حين حاول يوليوس قيصر الإطاحة بكليوباترا من خلال تدمير أسطول الإسكندرية. كانت المكتبة تقع بالقرب من الميناء، فاحترقت هي أيضا. بالرغم من ذلك، فمن حسن حظ الرياضيات أن كليوباترا كانت تدرك أهمية المعرفة، وأصرت على إعادة المكتبة إلى مجدها السابق. وقد أدرك مارك أنطوني أن السبيل إلى قلب مثقفة يكون من خلال مكتبتها؛ فسار إلى مدينة بيرجامون. كانت هذه المدينة قد أنشأت مكتبة بالفعل وكانت ترجو أن تمدها بأفضل الكتب في العالم، غير أن مارك أنطوني قد نقل المخزون كله إلى مصر؛ فأعاد إلى الإسكندرية تفوقها.
على مدى القرون الأربعة التالية، ظلت المكتبة تجمع الكتب حتى العام 389 ميلاديا حين تلقت أولى الضربتين القاضيتين، وقد كانت كلتاهما نتيجة للرجعية الدينية. ذلك أن الإمبراطور المسيحي ثيودوسيوس قد أمر ثيوفيلوس، أسقف الإسكندرية بتدمير جميع التماثيل الوثنية. ومن سوء الحظ أن كليوباترا حين أعادت بناء المكتبة وتزويدها بالكتب من جديد، كانت قد قررت إقامتها في معبد الإله سيرابيس؛ فتضررت المكتبة في خضم تدمير الأيقونات والمذابح. حاول العلماء «الوثنيون» إنقاذ مقدار ستة قرون من المعرفة ، غير أن الدهماء المسيحيين قد ذبحوهم قبل أن يتمكنوا من فعل أي شيء. كان التردي إلى العصور المظلمة قد بدأ.
نجت بضع نسخ ثمينة من الكتب الأهم من السطو المسيحي، واستمر العلماء في زيارة الإسكندرية بحثا عن المعرفة. وبعد ذلك في العام 642، نجحت هجمة إسلامية فيما عجزت عنه الهجمة المسيحية. ذلك أن الخليفة المنتصر عمر حين سئل عما ينبغي فعله بتلك الكتب، أمر بإتلاف الكتب المخالفة للقرآن، ثم أضاف أن الكتب التي تتفق معه هي فائضة لا حاجة إليها؛ وأمر بإتلافها هي أيضا. استخدمت المخطوطات في إذكاء الأفران التي كانت تسخن الحمامات العامة، وتلاشت الرياضيات اليونانية في الدخان. ليس من المفاجئ إذن أن القدر الأكبر من أعمال ديوفانتوس قد تعرض للدمار، بل الحق أن نجاة ستة أجزاء من كتاب «أريثميتيكا» من مأساة الإسكندرية، معجزة.
على مدى الألف العام التالية، كسدت الرياضيات في الغرب، ولم يبق هذا العلم حيا سوى بضعة من أعلام الهند وبلاد العرب. لقد نسخوا القوانين التي وجدوها في المخطوطات اليونانية الناجية، ثم بدءوا بأنفسهم في إعادة اختراع العديد من المبرهنات التي فقدت. وعلاوة على ذلك، قد أضافوا عناصر جديدة إلى الرياضيات، ومنها العدد صفر.
في الرياضيات الحديثة، يؤدي الصفر وظيفتين. أولاهما هو أنه يمكننا من التمييز بين عددين مثل 52 و502. ففي نظام عددي يدل موقع العدد فيه على قيمته، ينبغي الاستعانة برمز لتأكيد الموقع الفارغ. فالعدد 52 على سبيل المثال، يمثل 5 مضروبا في 10 زائد 2 مضروبا في واحد، أما العدد 502، فهو يمثل 5 مضروبا في مائة زائد 0 مضروبا في عشرة زائد اثنين مضروبا في واحد، ووجود الصفر ضروري للغاية لإزالة أي لبس. فحتى البابليين في الألفية الثالثة قبل الميلاد، قد أدركوا أهمية استخدام الصفر لتفادي اللبس، وقد تبنى اليونانيون فكرتهم واستخدموا رمزا دائريا يشبه ذلك الذي نستخدمه اليوم. غير أن للصفر دلالة أعمق وأكثر غموضا لم يدركها على نحو كامل سوى علماء الرياضيات في الهند بعد قرون عديدة. فقد أدرك الهندوس أن للصفر وجودا مستقلا يتجاوز الدور الذي يؤديه في الفصل بين الأعداد الأخرى؛ أي إن الصفر عدد قائم بذاته. لقد أدركوا أنه يمثل كمية من اللاشيء. وللمرة الأولى، اتخذت فكرة اللاشيء المجردة تمثيلا رمزيا.
قد تبدو هذه الفكرة خطوة تافهة للقارئ المعاصر، لكن جميع فلاسفة اليونان القدامى، ومنهم أرسطو ، قد غفلوا عن المعنى العميق لرمز الصفر. لقد كان أرسطو يحاجج بوجوب إبطال الصفر لأنه كان يخل باتساق الأعداد؛ فقسمة أي عدد عادي على الصفر كان يؤدي إلى نتيجة غير مفهومة. وبحلول القرن السادس الميلادي، لم يعد علماء الرياضيات الهنود يتجاهلون هذه المشكلة، وقد كان العالم براهماجوبتا الذي عاش في القرن السابع محنكا بما يكفي لاستخدام القسمة على الصفر تعريفا للانهائية.
وفي الوقت الذي كانت أوروبا قد تخلت فيه عن البحث النبيل عن الحقيقة، كانت بلاد الهند وبلاد العرب ترسخ المعرفة التي هربت من مجامر الإسكندرية، وتعيد تأويلها بلغة جديدة أكثر بلاغة. فعلاوة على إضافة الصفر إلى المفردات الرياضية، استبدلوا بالرموز اليونانية البدائية والأعداد الرومانية المرهقة، نظام الأعداد الذي صار يستخدم اليوم على مستوى العالم. وقد يبدو أيضا أن هذه الخطوة متواضعة للغاية، لكنك إذا حاولت ضرب
CLV
في
DCI ، فسوف تدرك أهمية هذا التطور. أما ضرب الكمية المكافئة: 155 في 601، فهو أمر أسهل كثيرا. إن تطور أي مجال من المجالات يعتمد على القدرة على التواصل وتطوير الأفكار، وهو ما يعتمد بدوره على وجود لغة تتسم بدرجة كافية من التفصيل والمرونة. وصحيح أن أفكار إقليدس وفيثاغورس لم تكن أقل أناقة بالرغم من غرابة طريقة التعبير عنها، لكن ترجمتها إلى الرموز العربية قد جعلها تزدهر وتثمر عن مفاهيم أحدث وأكثر ثراء.
في القرن العاشر الميلادي، تعلم جيربير الأورياكي هذا النظام العددي الجديد من الأندلسيين، وتمكن من خلال المناصب التعليمية التي شغلها في الكنائس والجامعات من تقديم هذا النظام العددي إلى الغرب. في العام 999 ميلاديا، انتخب لمنصب البابا وسمي بسلفستر الثاني، وقد أتاح له منصبه التشجيع على استخدام الأعداد الهندية العربية بدرجة أكبر. وبالرغم من أن كفاءة النظام، قد أحدثت ثورة في المحاسبة واستخدمه التجار سريعا، فهي لم تسهم إلا بالقليل في إحياء الرياضيات الأوروبية.
أما أهم نقاط التحول في الرياضيات الغربية، فقد حدثت في عام 1453 حين سلب الأتراك القسطنطينية. وفي أثناء السنوات التي تفصل بين هذا الحدث وبين انتهاك الإسكندرية، كانت المخطوطات التي نجت من ذلك الانتهاك قد تجمعت في القسطنطينية، لكنها كانت تتعرض مرة أخرى للتهديد بالإتلاف. فر العلماء البيزنطيون غربا بما استطاعوا حفظه من النصوص. وبعد أن نجت من هجوم قيصر والأسقف ثيوفيلوس والخليفة عمر ثم الأتراك آنذاك، تمكنت بضعة أجزاء ثمينة من كتاب «أريثميتيكا» من شق طريق العودة إلى أوروبا. وقدر لأعمال ديوفانتوس أن تقبع على مكتب بيير دو فيرما. (2) ميلاد أحجية
كانت المسئوليات القضائية التي يتولاها فيرما تشغل جزءا كبيرا من وقته، لكنه كرس ما لديه من وقت فراغ زهيد للرياضيات. وقد كان السبب في ذلك يعود جزئيا إلى أن قضاة القرن السابع عشر في فرنسا، كانوا يثبطون عن التفاعلات الاجتماعية؛ بحجة أن الأصدقاء والمعارف قد يدعون ذات يوم للمثول أمام المحكمة. فالمخالطة مع سكان الإقليم، لن تؤدي إلا إلى المحاباة. وبالانعزال عن بقية المجتمع الراقي في تولوز، استطاع فيرما التركيز على هوايته.
ما من رواية تشير إلى تأثر فيرما بأي معلم للرياضيات، بل كانت نسخة «أريثميتيكا» هي مرشده. كان الهدف من «أريثميتيكا» هو وصف نظرية الأعداد، مثلما كانت عليه في عصر ديوفانتوس، عبر مجموعة من المسائل والحلول. لقد كان ديوفانتوس في حقيقة الأمر، يقدم إلى فيرما مقدار ألف عام من الفهم الرياضي. استطاع فيرما أن يجد في كتاب واحد جميع معارف الأعداد مثلما وضعها أمثال فيثاغورس وإقليدس. لقد توقفت نظرية الأعداد في مكانها منذ الحريق الهمجي في الإسكندرية، لكن فيرما قد صار الآن جاهزا لاستكمال دراسة الفرع الأكثر جوهرية في الرياضيات.
كانت نسخة «أريثميتيكا» التي ألهمت فيرما هي ترجمة لاتينية بقلم كلود جاسبر باشي دو ميزيرياك، الذي يذاع عنه أنه كان أكثر الرجال علما في فرنسا بأكملها. وإضافة إلى كونه عالم لغة بارعا وشاعرا وباحثا كلاسيكيا، كان باشي يهوى الألغاز الرياضية. لقد كان أول كتاب نشره هو تجميعا للألغاز تحت عنوان «مسائل ممتعة وطريفة يمكن تشكيلها بالأعداد»، وتضمن مسائل تتعلق بعبور الأنهار ومسألة تتعلق بسكب السوائل، والعديد من خدع التفكير في عدد. ومن الأسئلة التي طرحها مسألة تتعلق بالأوزان :
ما هو أقل عدد من الأوزان يمكن استخدامه على الميزان لوزن أي عدد صحيح من الكيلوجرامات من 1 إلى 40؟
كان لدى باشي حل بارع يثبت إمكانية إنجاز هذه المهمة بأربعة أوزان فقط. ويرد حله في الملحق 4.
وبالرغم من أن باشي لم يكن سوى هاو للرياضيات، فقد كان اهتمامه بالألغاز كافيا لأن يدرك أن قائمة المسائل التي أوردها ديوفانتوس أكثر رقيا وجديرة بالدراسة المتعمقة. أخذ على عاتقه مهمة ترجمة كتاب ديوفانتوس ونشره من أجل إحياء الأساليب اليونانية من جديد. ومن المهم أن ندرك أن ذلك الحجم الشاسع من المعرفة الرياضية القديمة كان قد نسي تماما. فلم تكن الرياضيات الأرقى تدرس حتى في أعظم الجامعات الأوروبية، ولم يكن من الممكن استعادة هذا القدر الكبير من المعرفة بسرعة كبيرة إلا بجهود علماء مثل باشي. في العام 1621، حين نشر باشي النسخة اللاتينية من كتاب «أريثميتيكا»، كان يسهم بذلك في العصر الذهبي الثاني للرياضيات.
يتضمن كتاب «أريثميتيكا» ما يزيد على مائة مسألة، ويقدم ديوفانتوس لكل منها حلا مفصلا. إن هذا المستوى من الاجتهاد لم يكن من العادات التي تبناها فيرما قط. ذلك أنه لم يهتم بكتابة نص مرجعي للأجيال المستقبلية؛ إذ لم يكن يرغب إلا في إشباع ذاته فحسب بأنه قد حل مسألة ما. وقد ألهمته دراسة مسائل ديوفانتوس وحلولها بالتفكير في بعض الأسئلة الأخرى المتعلقة بها والأكثر غموضا. كان فيرما يكتب ما يكفي فقط لإقناعه بأنه يستطيع معرفة الحل، ولا يعبأ حينها بكتابة باقي البرهان. وكثيرا أيضا ما كان يلقي ملاحظاته السريعة التي استلهمها في سلة المهملات، وينتقل بعد ذلك إلى المسألة التالية. من حسن حظنا أن نسخة باشي من كتاب «أريثميتيكا» كانت تتضمن مساحة واسعة للهوامش في كل صفحة، وكان فيرما يكتب فيها أحيانا بعض الحجج المنطقية والتعليقات. وقد أصبحت هذه الملاحظات الهامشية سجلا ثمينا بالرغم من ضآلة حجمه، لأبرع حسابات فيرما.
كان أحد اكتشافات فيرما يتعلق بما يسمى «الأعداد الصديقة» أو «الأعداد المتحابة»، وهي وثيقة الصلة بالأعداد المثالية التي فتنت فيثاغورس قبل ألفي عام. والأعداد الصديقة هي كل زوجين من الأعداد التي يكون كل عدد فيهما مساويا لمجموع قواسم العدد الآخر. لقد توصل الفيثاغورسيون إلى الاكتشاف المذهل المتمثل في أن 220 و284 يمثلان زوجين من الأعداد الصديقة. فقواسم العدد 220 هي 1 و2 و4 و5 و10 و11 و20 و22 و44 و55 و110، ومجموع كل هذه الأعداد هو 284. وعلى الجانب الآخر، نجد أن قواسم العدد 284 هي 1 و2 و4 و71 و142 ومجموع هذه الأعداد هو 220.
يقال إن الزوجين العدديين 220 و284 كانا رمزين للصداقة. ففي كتابه، «عرض سحري رياضي»، يحكي مارتن جاردنر عن تعاويذ كانت تباع في العصور الوسطى وقد نقشت عليها هذه الأعداد على أساس أن ارتداءها سيعزز الحب. ويوثق أحد المنجمين العدديين العرب ممارسة تتمثل في نقش العدد 220 على ثمرة فاكهة ونقش العدد 284 على ثمرة أخرى، ثم أكل الثمرة الأولى وإهداء الأخرى إلى الحبيب كنوع من مثيرات الشبق الرياضية. وقد أشار علماء اللاهوت الأوائل إلى أن يعقوب قد أعطى عيسو، مثلما ورد في سفر التكوين، 220 ماعزا. وكانوا يعتقدون أن عدد المعز، الذي هو نصف زوجين من الأعداد الصديقة تعبير عن حب يعقوب لعيسو.
لم تعرف أي من أزواج الأعداد الصديقة الأخرى حتى العام 1636 حين اكتشف فيرما الزوجين 17296 و18416. وبالرغم من أن هذا الاكتشاف ليس عميقا، فهو يوضح ألفة فيرما مع الأعداد وحبه للهو بها. لقد بدأ فيرما صيحة لاكتشاف الأعداد الصديقة؛ فاكتشف ديكارت زوجين ثالثين (9363584 و 9437056) وتابع ليونهارت أويلر ليذكر اثنين وستين زوجا من الأزواج المتحابة. ومن الغريب أن جميعهم قد أغفلوا زوجين أصغر كثيرا من أزواج الأعداد الصديقة. وفي العام 1866، اكتشف الإيطالي نيكولو باجانيني الذي كان يبلغ من العمر حينها ستة عشر عاما، هذين الزوجين، وهما 1184 و1210.
وفي القرن العشرين، توسع علماء الرياضيات في الفكرة إلى أكثر من ذلك، وراحوا يبحثون عما يسمى بالأعداد «الأنيسة»، وهي ثلاثة أعداد أو أكثر تشكل حلقة مغلقة. فعلى سبيل المثال، في الحلقة المغلقة التي تتكون من 5 أعداد هي: (12496 و14288 و15472 و14536 و14264)، نجد أن مجموع قواسم العدد الأول يساوي العدد الثاني، ومجموع قواسم العدد الثاني يساوي العدد الثالث، ومجموع قواسم العدد الثالث يساوي العدد الرابع، ومجموع قواسم العدد الرابع يساوي العدد الخامس ، ومجموع قواسم العدد الخامس يساوي العدد الأول.
وبالرغم من أن اكتشاف زوجين جديدين من الأعداد الصديقة قد جعل فيرما من المشاهير نوعا ما، فإن سمعته قد تأكدت بحق بعد مجموعة من التحديات الرياضية. فقد لاحظ فيرما على سبيل المثال أن العدد 26 محصور بين 25 و27، وأحدهما من الأعداد المربعة (25 = 5
2 = 5 × 5)، والآخر من الأعداد المكعبة (27 = 3
3 = 3 × 3 × 3). راح يبحث عن أعداد أخرى محصورة بين مربع ومكعب، لكنه لم يجد أيا منها، وشك بأن 26 قد يكون فريدا من نوعه. وبعد أيام من الجهود المضنية، تمكن من بناء حجة تثبت دون أي مجال للشك أن 26 هو العدد الوحيد بالفعل الذي يقع بين مربع ومكعب. فقد أكد برهانه المنطقي المفصل أنه ما من أعداد أخرى يمكن أن تفي بهذا المعيار.
أعلن فيرما هذه الخاصية الفريدة التي يتسم بها العدد 26 للمجتمع الرياضي، ثم تحداهم أن يثبتوا صحة هذه الخاصية. وقد أعلن بنفسه أنه قد توصل إلى برهان، غير أن السؤال قد كان عما إذا كان الآخرون يتمتعون بما يكفي من البراعة لتقديم برهان مطابق أم لا. وبالرغم من بساطة الادعاء، فإن البرهان معقد للغاية، وقد كان فيرما يستلذ على نحو خاص بالسخرية من عالمي الرياضيات الإنجليزيين: واليس وديجبي، اللذين اضطرا في نهاية المطاف إلى الاعتراف بالهزيمة. وفي النهاية، صار أعظم حق لفيرما في الشهرة، تحديا آخر لبقية العالم. بالرغم من ذلك، فقد كان هذا اللغز عرضيا ولم تكن المناقشة العلنية هي الهدف منه على الإطلاق. (3) الملاحظة الهامشية
بينما كان فيرما يدرس الجزء الثاني من كتاب «أريثميتيكا»، صادف فيرما مجموعة كاملة من الملاحظات والمسائل والحلول تتعلق بمبرهنة فيثاغورس وثلاثيات فيثاغورس. فعلى سبيل المثال، كان ديوفانتوس يناقش وجود ثلاثيات محددة قد شكلت ما يعرف باسم «المثلثات العرجاء»، وهي المثلثات التي يكون مقدار اختلاف الطول في الضلعين الأقصر فيها:
x
و
y ، هو وحدة واحدة (على سبيل المثال،
و
و
و20
2 + 21
2 = 29
2 ).
كان فيرما مذهولا من تنوع الثلاثيات الفيثاغورسية وعددها الهائل. وكان يعي أن إقليدس قد ذكر قبل قرون عديدة برهانا (يرد البرهان في الملحق 5) يثبت وجود عدد لا نهائي من الثلاثيات الفيثاغورسية. لا بد أن فيرما قد حدق في العرض التفصيلي الذي أورده ديوفانتوس لثلاثيات فيثاغورس وتساءل عما يمكن إضافته إلى الموضوع. ومع تحديقه إلى الصفحة، راح يلهو بمعادلة فيثاغورس، في محاولة منه لاستكشاف شيء قد أغفله اليونانيون. وفجأة في لحظة نبوغ قد خلدت أمير الهواة، ابتكر معادلة بالرغم من شبهها الشديد بمعادلة فيثاغورس، فلا يوجد حل لها على الإطلاق. كانت تلك هي المعادلة التي قرأ عنها أندرو وايلز ذو العشر السنوات في مكتبة ميلتون رود.
فبدلا من التفكير في المعادلة:
كان فيرما يتأمل في شكل مختلف من معادلة فيثاغورس:
مثلما ذكرنا في الفصل السابق، لم يفعل فيرما سوى أن غير العدد 2 إلى 3، أي التربيع إلى تكعيب، غير أنه قد بدا أن معادلته الجديدة لا يمكن حلها بأعداد صحيحة على الإطلاق. فسرعان ما توضح المحاولة والخطأ صعوبة وجود عددين مكعبين يكون حاصل جمعهما مساويا لعدد مكعب آخر. أيمكن حقا أن يحول هذا التغيير الطفيف معادلة فيثاغورس التي يوجد لها عدد لا نهائي من الحلول، إلى معادلة لا حلول لها على الإطلاق؟
أجرى فيرما المزيد من التعديلات في المعادلة بتغيير الأس إلى أعداد أكبر من 3، واكتشف أن إيجاد حل لكل من هذه المعادلات لا يقل صعوبة. ووفقا لفيرما، بدا الأمر أنه لا يوجد ثلاثة أعداد يمكن أن تتلاءم تماما مع المعادلة: ، حيث
n
تمثل 3، 4، 5، ...
وفي هامش نسخته من كتاب «أريثميتيكا»، وبجوار المسألة 8، كتب فيرما هذه الملاحظة:
Cubem autem in duos cubos, aut quadratoquadratum in duos quadratoquadratos, et generaliter nullam in infinitum ultra quadratum potestatem in duos eiusdem nominis fas est dividere.
من المستحيل أن يكون حاصل جمع عددين مكعبين عددا مكعبا، أو أن يكون حاصل جمع عددين مرفوعين لأس أربعة، عددا مرفوعا لأس أربعة، أو يمكننا القول بصفة عامة: إنه من المستحيل أن يكون حاصل جمع أي عددين مرفوعين لغير الأس اثنين، عددا مرفوعا لذلك الأس نفسه.
من بين جميع الأعداد الممكنة، لم يبد أنه ثمة سبب لعدم إمكانية وجود مجموعة حل واحدة على الأقل، لكن فيرما قد صرح بأنه لا توجد أي «ثلاثية فيرماوية» في ذلك الكون اللانهائي من الأعداد. لقد كان ذلك ادعاء استثنائيا، لكن فيرما كان يرى أنه يستطيع إثباته. بعد الملاحظة الهامشية الأولى التي كانت تضع إطارا للنظرية، كتب العبقري المشاكس تعليقا آخر ظل يؤرق أجيالا من علماء الرياضيات:
Cuius rei demonstrationem mirabilem sane detexi hanc marginis exiguitas non caperet.
لدي إثبات بديع بحق لهذا الادعاء، لكن هذا الهامش لا يتسع له.
هكذا كان فيرما في أشد لحظاته إثارة للسخط. إن كلماته توحي بأنه كان مسرورا للغاية بهذا البرهان «البديع بحق»، لكنه لم ينتو أبدا أن يتجشم عناء كتابة تفاصيل حجته، ناهيك عن نشرها. لم يخبر فيرما أي شخص عن برهانه، وبالرغم من تكاسله وتواضعه، أصبحت مبرهنة فيرما الأخيرة، مثلما ستسمى بعد ذلك، مشهورة في جميع أرجاء العالم على مدى قرون. (4) المبرهنة الأخيرة تنشر أخيرا
لقد حدث اكتشاف فيرما سيئ السمعة في مرحلة مبكرة من حياته المهنية في الرياضيات قرابة العام 1637. وبعد ذلك بثلاثين عاما تقريبا، بينما كان يؤدي مهامه القضائية في مدينة كاستر، مرض فيرما بشدة. وفي التاسع من يناير عام 1665، وقع على آخر أمر بالاعتقال، وتوفي بعد ذلك بثلاثة أيام. ولما كان فيرما منعزلا عن مدرسة الرياضيات الباريسية، ولما لم يكن من المؤكد أن مراسليه المحبطين يتذكرونه باعتزاز، فقد كانت اكتشافات فيرما عرضة لأن تفقد إلى الأبد. ومن حسن الحظ أن أكبر أبناء فيرما، كليمو-سامويل، الذي كان يدرك أهمية هواية أبيه، قد عزم على ألا يفقد العالم اكتشافاته. وبفضل جهوده، فإننا نعرف ما نعرفه عن اكتشافات فيرما المذهلة في مجال نظرية الأعداد، ولولا كليمو-سامويل، لكانت المعضلة المسماة بمبرهنة فيرما الأخيرة، قد ماتت مع مبتكرها.
قضى كليمو-سامويل خمسة أعوام في جمع مذكرات والده ورسائله، ودراسة الملاحظات السريعة التي كتبها في هوامش نسخته من كتاب «أريثميتيكا». إن الملاحظة الهامشية التي تشير إلى مبرهنة فيرما الأخيرة، لم تكن سوى واحدة من العديد من الأفكار الملهمة، وقد تولى كليمو-سامويل نشر هذه الحواشي في نسخة خاصة من كتاب «أريثميتيكا». وفي العام 1670 في تولوز، أصدر نسخة من كتاب «أريثميتيكا» الذي ألفه ديوفانتوس تتضمن ملاحظات بيير دو فيرما. وإضافة إلى الترجمتين اللاتينية واليونانية اللتين أعدهما باشي، كانت هذه النسخة تتضمن ثمانيا وأربعين ملاحظة قد كتبها فيرما. والملاحظة الموضحة في الشكل
2-3 ، هي الملاحظة التي أصبحت تعرف فيما بعد بمبرهنة فيرما الأخيرة.
وفور أن وصلت ملاحظات فيرما إلى المجتمع الأكبر، صار واضحا أن الرسائل التي كان قد أرسلها إلى زملائه لم تكن سوى فتات من كنز ثمين من الاكتشافات. لقد كانت مذكراته الشخصية تتضمن مجموعة كبيرة من المبرهنات. ومن سوء الحظ إما أنها لم تكن مصحوبة بأي تفسير على الإطلاق، أو لا تتضمن سوى إشارة طفيفة عن البرهان الضمني. لقد كانت تلك المذكرات لمحات مغرية من المنطق لا تكفي لشيء إلا لترك علماء الرياضيات في شك من أن فيرما قد توصل إلى البراهين، غير أن إكمال التفاصيل قد ظل تحديا لهم ليتصدوا له بأنفسهم.
شكل 2-2: واجهة النسخة التي أصدرها كليمو-سامويل فيرما من كتاب «أريثميتيكا» الذي ألفه ديوفانتوس، ونشرها عام 1670. وتتضمن هذه النسخة الملاحظات الهامشية التي كتبها والده.
شكل 2-3: الصفحة التي ترد فيها ملاحظة بيير دو فيرما سيئة السمعة.
لقد حاول ليونهارت أويلر، أحد أعظم علماء الرياضيات في القرن الثامن عشر، أن يثبت إحدى ملاحظات فيرما الأكثر أناقة، وهي مبرهنة تتعلق بالأعداد الأولية. والعدد الأولي هو العدد الذي لا قواسم له، أي إنه لا يقبل القسمة على أي عدد دون باق للقسمة، إلا أن يقسم على العدد 1 أو على نفسه. فالعدد 13 على سبيل المثال، من الأعداد الأولية، أما العدد 14 فهو ليس كذلك. فالعدد 13 لا يقبل القسمة على أي عدد، أما العدد 14 فهو يقبل القسمة على 2 و7. ويمكن تقسيم جميع الأعداد الأولية، (فيما عدا العدد 2) إلى فئتين: الأعداد التي تساوي ، والأعداد التي تساوي ، حيث
n
تساوي أي عدد. ومن ثم؛ فالعدد 13 ينتمي إلى الفئة الأولى (4 × 3 + 1)، أما العدد 19 فهو ينتمي إلى الفئة الثانية (4 × 5 − 1). وقد كانت مبرهنة فيرما المتعلقة بالأعداد الأولية تزعم أن النوع الأول من الأعداد الأولية دائما ما يكون حاصل جمع مربعين (13 = 2
2 + 3
2 )، أما النوع الثاني فلا يمكن أبدا أن يكتب بهذه الطريقة (19 = ؟
2 + ؟
2 ). إن هذه السمة للأعداد الأولية تتميز ببساطتها الجميلة، غير أن محاولة إثبات صحتها في جميع الأعداد الأولية يصبح أمرا شديد الصعوبة. بالنسبة إلى فيرما، لم يكن ذلك سوى واحد من البراهين السرية العديدة. وبالنسبة إلى أويلر، فقد كان التحدي هو إعادة اكتشاف برهان فيرما. وفي العام 1749، بعد سبع سنوات من العمل، وبعد مرور ما يقرب من قرن على وفاة فيرما، نجح أويلر أخيرا في إثبات مبرهنة الأعداد الأولية.
لقد تنوعت مجموعة مبرهنات فيرما بين ما هو جوهري وما هو ممتع فحسب. ذلك أن علماء الرياضيات يرتبون أهمية المبرهنات وفقا لتأثيرها في بقية الرياضيات. فأولا، توصف المبرهنة بالأهمية إذا كانت تعبر عن حقيقة شاملة، أي إنها تنطبق على مجموعة بأكملها من الأعداد. وفي حالة الأعداد الأولية، فإن هذه المبرهنة لا تنطبق على بعض الأعداد الأولية فحسب، بل تنطبق عليها كلها. وثانيا، ينبغي أن تكشف المبرهنة عن حقيقة ضمنية عن العلاقات بين الأعداد. ويمكن أن تكون إحدى المبرهنات نقطة انطلاق لتوليد مجموعة كاملة من المبرهنات الأخرى، أو تكون مصدر إلهام لتطوير فروع جديدة للرياضيات. وأخيرا، توصف المبرهنة بالأهمية إذا كانت بعض المجالات البحثية ستتعطل بأكملها بسبب غياب رابط منطقي واحد. إن العديد من علماء الرياضيات قد شعروا بالاستياء الشديد؛ إذ كانوا يدركون أنهم قد يتمكنون من تحقيق نتيجة هامة، إذا استطاعوا فقط أن يقيموا رابطا واحدا مفقودا في تسلسلهم المنطقي.
نظرا إلى أن علماء الرياضيات يستخدمون المبرهنات بصفتها سبيلا للتقدم نحو نتائج أخرى، كان من الضروري إثبات جميع مبرهنات فيرما. فلم يكن من الممكن القبول بصحة مبرهنة لمجرد أن فيرما قد زعم أنه توصل إلى إثبات لها. بل كان ينبغي إثبات كل مبرهنة بدقة شديدة قبل استخدامها، وإلا فلربما كانت العواقب وخيمة. تخيل مثلا أن علماء الرياضيات قبلوا إحدى مبرهنات فيرما. كانت ستدمج بعد ذلك بصفتها عنصرا واحدا في سلسلة كاملة من براهين أخرى أكبر منها. وفي الوقت المناسب، ستدمج هذه البراهين الأكبر في براهين أكبر منها، وهكذا. وفي نهاية المطاف، قد نجد أن المئات من المبرهنات تستند إلى الحقيقة التي تنطوي عليها المبرهنة الأصلية التي لم يتحقق العلماء منها. فماذا لو أن فيرما قد ارتكب خطأ ما، وكانت هذه المبرهنة التي لم يتحقق العلماء منها معيبة في واقع الأمر؟ ستكون جميع تلك المبرهنات الأخرى التي استخدمت فيها، معيبة هي أيضا، وستنهار جوانب شاسعة من الرياضيات. إن المبرهنات هي الأساسات التي تبنى عليها الرياضيات؛ ففور إرساء حقيقتها، يمكن بعد ذلك أن تبنى فوقها بأمان مبرهنات أخرى. أما الأفكار غير المثبتة، فهي أقل قيمة من المبرهنات بدرجة كبيرة، وتسمى بالحدسيات. وكل حجة منطقية تستند إلى حدسية، هي نفسها محض حدسية.
لقد قال فيرما إن لديه إثباتا على كل ملاحظة من ملاحظاته؛ ومن ثم فقد كانت مبرهنات بالنسبة إليه. بالرغم من ذلك، فإلى أن يتوصل المجتمع بصفة عامة إلى إعادة اكتشاف البراهين، ستظل هذه الملاحظات محض حدسيات. والحق أن مبرهنة فيرما الأخيرة كان ينبغي أن تسمى على مدى آخر ثلاثمائة وخمسين عاما، بحدسية فيرما الأخيرة تحريا للدقة.
ومع مرور القرون، أثبتت جميع ملاحظاته واحدة تلو الأخرى، لكن مبرهنة فيرما الأخيرة قد أصرت بكل عناد على رفض الاستسلام بسهولة. والواقع أنها تسمى بالمبرهنة «الأخيرة» لأنها آخر ما تبقى إثباته من الملاحظات. مرت ثلاثة قرون من الجهود دون إيجاد برهان لها، مما أدى إلى اشتهارها بالسمعة السيئة؛ بوصفها اللغز الأكثر تطلبا في الرياضيات. غير أن هذه الصعوبة المعترف بها لا تعني بالضرورة أن مبرهنة فيرما الأخيرة تتسم بالأهمية على النحو الذي ذكرناه آنفا. وإنما بدا حتى وقت قريب على الأقل، أن المبرهنة الأخيرة لا تفي بالعديد من المعايير؛ فبدا أن إثباتها لن يؤدي إلى أي اكتشاف عميق أو فكرة محددة عميقة بشأن الأعداد، ولن تساعد في إثبات أي حدسيات أخرى.
إن شهرة مبرهنة فيرما الأخيرة لا تنبع إلا من الصعوبة الشديدة في إثباتها. ومن الأسباب الإضافية لهذه الشهرة أن أمير الهواة قد قال إنه يستطيع إثبات هذه المبرهنة التي حيرت أجيالا من علماء الرياضيات المحترفين منذ ذلك الوقت. لقد بدت تعليقات فيرما الارتجالية في هوامش «أريثميتيكا» تحديا للعالم. لقد أثبت فيرما مبرهنته الأخيرة، وكان السؤال هو: أيستطيع أي رياضي آخر مجاراة براعته؟
كان جي إتش هاردي يتمتع بحس فكاهة غريب، وابتكر ما كان يمكن أن يصبح إرثا مثيرا للاستياء بالقدر ذاته. وجاء تحدي هاردي في هيئة بوليصة تأمين لتساعده في التأقلم على خوفه من السفر بالسفن. إذا كان قد حدث واضطر إلى السفر بحرا، لأرسل برقية إلى زميل له يقول فيها:
حللت فرضية ريمان، توقف!
سأعطي التفاصيل عند العودة، توقف!
شكل 2-4: ليونهارت أويلر.
إن فرضية ريمان هي مسألة ظلت تزعج علماء الرياضيات منذ القرن التاسع عشر. وقد كان منطق هاردي يستند إلى أن الرب لن يسمح بغرقه؛ لأن ذلك سيترك شبحا ثانيا فظيعا يؤرق علماء الرياضيات.
بالرغم من الصعوبة الشديدة التي تتسم بها مبرهنة فيرما الأخيرة، فإنه يمكن ذكرها على نحو يفهمه تلاميذ المدارس. ما من مسألة في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء يمكن ذكرها بهذه السهولة وهذا الوضوح، وظلت دون حل لمثل هذه المدة الطويلة. ففي كتابه «المسألة الأخيرة»، كتب إي تي بيل أن الحضارة ستنتهي على الأرجح قبل حل مبرهنة فيرما الأخيرة. لقد صار إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة هو الجائزة الأثمن على الإطلاق في مجال نظرية الأعداد، ولا عجب إذن أنها قد أنتجت بعض الأوقات الأكثر إثارة في تاريخ الرياضيات. لقد اشترك في البحث عن إثبات لمبرهنة فيرما الأخيرة أعظم العقول على الكوكب، والجوائز الضخمة، واليأس القانط والنزاعات المريرة.
تجاوزت الأحجية عالم الرياضيات المغلق. حتى إنها قد ظهرت في قصة فاوستية في العام 1958. وذلك في مجموعة أدبية بعنوان «صفقات مع الشيطان» تتضمن قصة بقلم آرثر بورجس. ففي قصة «الشيطان وسايمون فلاج»، يطلب الشيطان من سايمون فلاج أن يطرح عليه سؤالا. وإذا نجح الشيطان في الإجابة عنه في غضون أربعة وعشرين ساعة، فإنه يحظى بروح سايمون، وإذا عجز عن ذلك فإنه يمنح سايمون 100000 دولار. يطرح سايمون السؤال: «هل مبرهنة فيرما الأخيرة صحيحة؟» يختفي الشيطان ويطن حول العالم ليستوعب كل ما ابتكر من المعارف الرياضية على الإطلاق. وفي اليوم التالي، يأتي ويقر بالهزيمة:
قال بصوت هامس وهو ينظر إليه باحترام صادق: «لقد فزت يا سايمون. حتى أنا لا أستطيع أن أتعلم ما يكفي من الرياضيات لحل مثل هذه المسألة الصعبة في هذه المدة القصيرة. ذلك أنني كلما تعمقت فيها، زادت صعوبتها. التحليل غير الفريد إلى عوامل، والأعداد المثالية، أف!» أسر له الشيطان قائلا: «أوتدري؟ حتى أفضل علماء الرياضيات في الكواكب الأخرى، وجميعها أكثر تقدما من كوكبك بكثير، لم يتمكنوا من حلها. ويحي! ثمة رجل على زحل، يشبه فطر عيش الغراب مرتكز على دعامات، يحل المعادلات التفاضلية الجزئية ذهنيا، وحتى هو قد يئس من المحاولة.»
الفصل الثالث
عار رياضي
ليست الرياضيات مسيرة متمهلة في طريق معبدة، بل رحلة في برية غريبة غالبا ما يضل المستكشفون طريقهم فيها. يجب أن يكون الحرص الشديد إشارة للمؤرخين بأن الخرائط قد وضعت، وأن المستكشفين الفعليين قد ذهبوا في مكان آخر.
دابليو إس أنجلين
يسترجع أندرو وايلز ذكرياته، ويتحدث في صوت متردد يشي بمشاعره تجاه المسألة، قائلا: «لقد صارت مبرهنة فيرما الأخيرة هي شغفي منذ أن صادفتها طفلا. لقد وجدت تلك المسألة التي لم يتوصل أحد إلى حلها على مدى ثلاثمائة عام. لا أعتقد أن أيا من أصدقائي قد أصيب بهوس الرياضيات؛ لذا لم أناقشها مع من هم في سني. غير أن معلما لي كان قد أجرى بعض الأبحاث في الرياضيات وأعطاني كتابا عن نظرية الأعداد أمدني ببعض الأفكار عن كيفية البدء في معالجتها. في بادئ الأمر، افترضت أن فيرما لم يكن يعرف عن الرياضيات أكثر مما أعرفه بكثير. وقد حاولت إيجاد حله المفقود باستخدام نوع الوسائل الذي يحتمل أن يكون قد استخدمه.»
كان وايلز طفلا مفعما بالبراءة والطموح، رأى فرصة للنجاح فيما قد فشلت فيه أجيال من علماء الرياضيات. ربما قد بدا ذلك للآخرين حلما أهوج، لكن أندرو الصغير كان محقا في اعتقاده أنه، هو تلميذ القرن العشرين، يعرف عن الرياضيات مقدار ما كان يعرفه بيير دو فيرما، عبقري القرن السابع عشر. فلربما، بالرغم من سذاجته، توصل إلى برهان قد غفلت عنه العقول الأكثر تعقيدا.
وبالرغم من حماسه، لم تكن جميع حساباته تسفر إلا عن طريق مسدود. وبعد أن أنهك عقله، وغربل كتبه الدراسية، لم يحقق شيئا. وبعد عام من المحاولات الفاشلة، غير خطته ورأى أنه قد يتعلم شيئا من أخطاء غيره من علماء الرياضيات العظام. «إن مبرهنة فيرما الأخيرة ترتبط بهذا التاريخ الرومانتيكي المدهش. فالعديد من الأشخاص قد فكروا فيها، وكلما زادت محاولات علماء الرياضيات في الماضي في حلها وفشلهم في ذلك، صارت تحديا أكبر ولغزا أعظم. لقد حاول العديد من علماء الرياضيات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حلها بالكثير جدا من الطرق المختلفة؛ ولهذا قررت حين كنت مراهقا أن علي أن أدرس تلك الطرق وأحاول أن أفهم ما كانوا يفعلونه.»
درس وايلز الصغير الطرق التي انتهجها جميع من حاول محاولة جادة لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة. بدأ بدراسة أعمال أغزر علماء الرياضيات إنتاجا في التاريخ، وأول من حقق إنجازا في المعركة القائمة ضد فيرما. (1) العملاق الرياضي
إن ابتكار الرياضيات تجربة مؤلمة وغامضة. فغالبا ما يكون هدف البرهان واضحا، لكن الطريق مسجى بالضباب، ويتعثر عالم الرياضيات في إحدى العمليات الحسابية مرتعبا من أن كل خطوة يمكن أن تؤدي بالحجة المنطقية في الاتجاه الخاطئ تماما. وعلاوة على ذلك، فثمة خوف من عدم وجود أي طريق أصلا. فقد يعتقد عالم الرياضيات أن إحدى العبارات صحيحة، ويقضي السنوات في محاولة إثبات صحتها، بينما هي خاطئة بأكملها في حقيقة الأمر. وحينئذ، يكون ما فعله العالم عمليا هو محاولة إثبات المستحيل.
وعلى مدى تاريخ ذلك المجال بأكمله، يبدو أن قلة من علماء الرياضيات فقط هم الذين تمكنوا من تجنب الشك الذاتي الذي يخشاه زملاؤهم. ربما يكون المثال الأبرز على مثل ذلك النوع من علماء الرياضيات هو عبقري القرن الثامن عشر، ليونهارت أويلر، وقد كان هو من حقق أول تقدم كبير في إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة. كان أويلر يتمتع بقدرة مدهشة على الحدس، وذاكرة شاسعة حتى قيل عنه: إنه كان يستطيع تصور عملية حسابية ضخمة بأكملها في رأسه، دون أن يحتاج إلى كتابة أي شيء. كان يشار إليه في أوروبا بلقب «التحليل متجسدا في إنسان»، وقال عنه الأكاديمي الفرنسي فرانسوا أراجو: «كان أويلر يجري العمليات الحسابية دون جهد واضح مثلما يتنفس البشر، أو مثلما تحافظ النسور على توازنها في الرياح.»
ولد ليونهارت أويلر في مدينة بازل عام 1707، ابنا لقس كالفيني يدعى بول أويلر. وبالرغم من أن أويلر الصغير أبدى موهبة استثنائية في الرياضيات، أصر والده أن يدرس اللاهوت ويعمل في الكنيسة. وقد أطاعه ليونهارت بإخلاص ودرس اللاهوت والعبرية في جامعة بازل.
ومن حسن حظ أويلر أن مدينة بازل كانت وطنا لعائلة برنولي العظيمة. إن هذه العائلة يحق لها الزعم بأنها أكثر العائلات موهبة في الرياضيات؛ إذ أنتجت ثمانية من أبرع العقول في أوروبا خلال ثلاثة أجيال فقط، حتى إن البعض يقولون إن عائلة برنولي تمثل للرياضيات ما تمثله عائلة باخ للموسيقى. تجاوزت شهرة هذه العائلة مجتمع الرياضيات، وثمة أسطورة محددة تمثل صورة العائلة. وهي أن دانيال برنولي كان في سفرة في أوروبا ذات مرة واشترك في محادثة مع غريب. وبعد فترة، قدم نفسه بتواضع قائلا: «أنا دانيال برنولي.» فقال رفيقه ساخرا: «وأنا إسحاق نيوتن.» وقد استحضر دانيال هذه الحادثة بإعزاز في مناسبات عديدة، معتبرا إياها أصدق ثناء قد تلقاه على الإطلاق.
كان دانيال ونيكولوس برنولي صديقين مقربين من ليونهارت أويلر، وقد أدركا أن أبرع علماء الرياضيات في طريقه إلى أن يصبح أكثر علماء اللاهوت اعتيادية . فناشدا بول أويلر وطلبا منه أن يسمح لليونهارت بالتخلي عن الإكليروس لصالح الأعداد. وقد كان أويلر الأب قد تعلم الرياضيات في الماضي على يد برنولي الكبير، جيكوب، وكان يكن احتراما كبيرا للعائلة. وبشيء من التردد تقبل أن ابنه ولد ليحسب لا ليعظ.
سرعان ما غادر ليونهارت سويسرا ليتجه إلى برلين وسانت بطرسبرج، حيث قضى الجزء الأكبر من سنواته الإبداعية. في عصر فيرما، كانت وجهة النظر السائدة تجاه علماء الرياضيات أنهم هواة من المشعوذين بالأعداد، لكن ذلك قد تغير في القرن الثامن عشر وصاروا يعدون محترفين يشتغلون بحل المسائل. لقد تغيرت ثقافة الأعداد بصورة كبيرة، وكان ذلك يعود جزئيا إلى السير إسحاق نيوتن، وحساباته العلمية.
كان نيوتن يرى أن علماء الرياضيات يهدرون وقتهم في إغاظة بعضهم بعضا بأحاجي عديمة الفائدة. أما هو، فقد كان يطبق الرياضيات على العالم المادي ويقوم بحساب كل شيء، من مدارات الكواكب إلى مسارات قذائف المدافع. وبحلول الوقت الذي توفي فيه نيوتن عام 1727، كانت أوروبا قد مرت بثورة علمية، وفي العام نفسه نشر أويلر أول ورقة بحثية له. وبالرغم من أن الورقة كانت تتضمن حسابات رياضية أنيقة ومبتكرة، فقد كان هدفها الأساسي هو وصف حل لمشكلة تقنية تتعلق بصواري السفن.
لم تكن السلطات الأوروبية تعنى باستخدام الرياضيات في استكشاف الأفكار المجردة والباطنية، بل كانت ترغب في الاستفادة من الرياضيات في حل المشكلات العملية، وتتنافس على توظيف أفضل العقول. بدأ أويلر حياته العملية مع القياصرة الروس، قبل أن يدعوه فريدريك العظيم ملك بروسيا إلى أكاديمية برلين. وقد عاد في النهاية إلى روسيا في عهد كاثرين العظيمة، حيث قضى آخر سنوات حياته. عالج على مدى حياته المهنية الكثير جدا من المشكلات التي تنوعت بين الملاحة والمالية وعلم الصوتيات والري. ولم يضعف العالم العملي المتمثل في حل المشكلات، قدرات أويلر الرياضية. بل إن معالجة كل مهمة جديدة كانت تلهمه بابتكار معارف رياضية مبتكرة وإبداعية. فقد كان شغفه الصادق يدفعه إلى كتابة العديد من الأوراق البحثية في يوم واحد، ويقال أيضا إنه كان يحاول بين النداء الأول والثاني للعشاء، أن يكتب بسرعة عملية حسابية كاملة تستحق النشر. لم يكن يهدر لحظة واحدة؛ فحتى حين كان أويلر يهدهد طفلا بإحدى يديه، فإنه كان يكتب الخطوط العريضة لبرهان بيده الأخرى.
ومن أهم إنجازات أويلر، تطوير الطريقة الخوارزمية. وقد كان الهدف من خوارزميات أويلر معالجة ما يبدو مستحيلا من المشكلات. ومنها على سبيل المثال، التنبؤ بأطوار القمر حتى وقت بعيد في المستقبل بدقة كبيرة، وتلك من المعلومات التي يمكن أن تستخدم في إعداد جداول ملاحة فعالة. كان نيوتن قد أوضح بالفعل السهولة النسبية للتنبؤ بمدار أحد الأجسام حول جسم آخر، لكن الوضع ليس بهذه السهولة في حالة القمر. فالقمر يدور حول الأرض، لكن هناك جسما ثالثا، وهو الشمس، يعقد المسألة بدرجة كبيرة. فبينما تجذب الأرض والقمر أحدهما الآخر، تقلقل الشمس موقع الأرض، ويكون لها تأثير غير مباشر على مدار القمر. يمكن استخدام المعادلات لمعرفة تأثير أي من الجسمين، غير أن علماء الرياضيات في القرن الثامن عشر لم يتمكنوا من دمج جسم ثالث في معادلاتهم. وحتى هذا اليوم، لا يمكن التنبؤ بالحل الدقيق لما يدعى باسم «مشكلة الأجسام الثلاثة».
أدرك أويلر أن الملاحين ليسوا بحاجة إلى معرفة طور القمر بدقة تامة، بل بدقة تكفي لتحديد موقعهم على مسافة بضعة أميال بحرية. وبناء على هذا، وضع أويلر وصفة للتوصل إلى حل دقيق بالدرجة الكافية وإن لم يكن مثاليا. وكانت هذه الوصفة التي تعرف باسم الخوارزمية، تبدأ بالحصول على نتيجة تقريبية وجاهزة يمكن إدخالها في الخوارزمية من جديد للحصول على نتيجة محكمة. ويمكن إدخال هذه النتيجة المحكمة في الخوارزمية من جديد، لتوليد نتيجة أكثر دقة وإحكاما، وهكذا دواليك. وبعد ما يقرب من مائة من التكرارات، صار أويلر قادرا على تحديد موقع القمر بدقة تكفي لأغراض الملاحة. وقد قدم خوارزميته إلى الأميرالية البريطانية، وكوفئ عليها بجائزة قدرها 300 جنيه إسترليني.
ذاع صيت أويلر بقدرته على حل أي مشكلة تطرح أمامه، وبدا أن هذه الموهبة تتجاوز مجال العلم. ففي المدة التي قضاها في بلاط الملكة كاثرين العظيمة، التقى الفيلسوف الفرنسي العظيم ديني ديدرو. وكان هذا الفيلسوف ملحدا صارما في إلحاده، وكان يقضي أيامه في إقناع الروس بالإلحاد. وقد أغضب هذا كاثرين، ويقال إنها طلبت من أويلر أن يضع حدا لجهود هذا الفرنسي الملحد.
فكر أويلر في الأمر لبعض الوقت، وزعم أن لديه دليلا جبريا يثبت وجود الإله. دعت كاثرين العظيمة أويلر وديدرو إلى قصرها، وجمعت بطانتها ليشهدوا هذه المناظرة اللاهوتية. وقف أويلر أمام الجمهور وقال:
سيدي، ، إذن؛ فالإله موجود، أجب عن ذلك!
ولما كان ديدرو لا يعرف من الجبر الكثير، فلم يكن يستطيع أن يجادل به أمام أعظم علماء الرياضيات في أوروبا، ولم يحر جوابا. وبعد أن تعرض للمهانة، غادر سانت بطرسبرج وعاد إلى باريس.
وفي غيابه، استمر أويلر في الاستمتاع بالعودة إلى الدراسة اللاهوتية، ونشر العديد من البراهين الهزلية الأخرى بشأن طبيعة الإله والروح البشرية.
ثمة مسألة أخرى أكثر وجاهة راقت لطبيعة أويلر الساخرة، وكانت تتعلق بالمدينة البروسية كونيسجبرج التي صارت تعرف الآن بالمدينة الروسية كالينينجراد. تقع هذه المدينة على ضفاف نهر ريجل، وتتكون من أربعة أجزاء منفصلة تصل بينها سبعة جسور. يوضح الشكل
3-1
تخطيط المدينة. وقد تساءل بعض سكان كونيسجبرج الأكثر حبا للاستطلاع عما إذا كان من الممكن تخطيط رحلة عبر الجسور السبعة بأكملها دون الحاجة إلى المرور بأي جسر أكثر من مرة واحدة. جرب مواطنو كونيسجبرج طرقا مختلفة، لكنها قد انتهت جميعا بالفشل. وقد فشل أويلر أيضا في التوصل إلى طريق يؤدي إلى تحقيق هذه الغاية، لكنه نجح في تفسير السبب الذي يجعل مثل هذه الرحلة مستحيلة.
شكل 3-1: يقسم نهر ريجل مدينة كونيسجبرج إلى أربعة أجزاء منفصلة:
A
و
B
و
C
و
D . تربط بين أجزاء البلدة المختلفة سبعة جسور، وثمة أحجية محلية تسأل عما إذا كان من الممكن القيام برحلة في البلدة؛ بشرط المرور بكل جسر مرة واحدة فقط.
شكل 3-2: تمثيل مبسط لجسور كونيسجبرج.
بدأ أويلر بخريطة للمدينة، وربما يكون قد رسم تمثيلا مبسطا، تستبدل فيه النقاط برقع الأرض والخطوط بالجسور، مثلما يوضح الشكل
3-2 . وحاجج بعد ذلك بأن إجراء رحلة ناجحة (أي عبور جميع الجسور لمرة واحدة فقط) يستلزم بصفة عامة، أن تتصل النقطة بعدد زوجي من الخطوط. والسبب في ذلك أنه حين يكون المسافر في منتصف الرحلة ويمر بقطعة من الأرض، فسيكون عليه أن يدخل من جسر، ويخرج من جسر آخر. وثمة استثناءان فقط لهذه القاعدة: وهما حين يكون المسافر في بداية الرحلة أو نهايتها. ففي بداية الرحلة، يغادر المسافر رقعة الأرض ولا يحتاج إلا إلى جسر واحد للخروج، وهو يصل في نهايتها إلى رقعة أرض ولا يحتاج إلا إلى جسر واحد للدخول. وإذا كانت الرحلة تبدأ في موقع، وتنتهي في موقع مختلف عنه، فيمكن أن تتصل رقعتا الأرض هاتان بعدد فردي من الجسور. أما إذا كانت الرحلة تبدأ وتنتهي في المكان نفسه، فيجب إذن أن تتصل هذه النقطة بعدد زوجي من الجسور، مثلها في ذلك مثل جميع النقاط الأخرى.
ومن ثم؛ فقد توصل أويلر إلى استنتاج عام وهو عدم إمكانية القيام برحلة كاملة عبر أي شبكة من الجسور، مع المرور بكل جسر منها لمرة واحدة فقط إلا في حالة اتصال جميع رقع الأرض بعدد زوجي من الجسور، أو أن تكون رقعتان منها على وجه التحديد هما اللتين تتصلان بعدد فردي من الجسور. وفي حالة مدينة كونيسجبرج، نجد أن مجموع رقع الأرض أربعة، وجميعها متصل بعدد فردي من الجسور: فثلاث من النقاط تتصل بثلاثة جسور، وتتصل نقطة واحدة بخمسة جسور. لقد تمكن أويلر من شرح السبب في استحالة عبور جميع جسور كونيسجبرج لمرة واحدة فقط، وقد توصل علاوة على ذلك إلى قاعدة يمكن تطبيقها على أي شبكة من الجسور في أي مدينة بالعالم. إن هذه الحجة المنطقية تتسم بالبساطة الجميلة، وقد تكون تلك المسألة من نوع المسائل المنطقية التي كان أويلر يكتبها على عجل قبل العشاء.
إن أحجية جسور كونيسجبرج من المسائل التي تعرف في الرياضيات التطبيقية باسم مسائل الشبكات، لكنها ألهمت أويلر بالتفكير في شبكات أكثر تجريدا . لقد واصل التفكير ليكتشف حقيقة جوهرية بشأن جميع الشبكات، وتوصل إلى ما يعرف باسم «صيغة الشبكة»، التي استطاع إثباتها ببضع خطوات منطقية فحسب. وتوضح صيغة الشبكة التي اكتملت على يد أوجستين لوي كوشي، علاقة أبدية بين السمات الثلاث التي تصف أي شبكة:
حيث:
هي عدد النقاط (التقاطعات) في الشبكة.
و
هي عدد الخطوط في الشبكة.
و
هي عدد المناطق (المساحات المغلقة) في الشبكة.
زعم أويلر أنه يمكننا إضافة عدد النقاط إلى عدد المناطق في أي شبكة وطرح عدد الخطوط منها، وستكون النتيجة النهائية دائما هي 1. فجميع الشبكات الموضحة في الشكل
3-3
على سبيل المثال، تنطبق عليها هذه القاعدة.
شكل 3-3: جميع الشبكات التي يمكن تصورها تمتثل لصيغة أويلر للشبكات.
يمكننا أن نتخيل اختبار هذه الصيغة على مجموعة كبيرة من الشبكات، وإذا اتضحت صحتها في جميع الحالات، فسوف يكون من المغري أن نفترض صحتها في جميع حالات الشبكات، وبالرغم من أن ذلك قد يكون دليلا كافيا لنظرية علمية، فإنه لا يكفي لإثبات مبرهنة رياضية. فالطريقة الوحيدة لإثبات صحة الصيغة في جميع الشبكات الممكنة هي بناء حجة أكيدة، وهو ما فعله أويلر بالضبط.
بدأ أويلر بتناول أبسط الشبكات على الإطلاق، أي: نقطة واحدة مثلما يظهر في الشكل
3-4 (أ). ومن الواضح أن الصيغة تنطبق على هذه الشبكة؛ إذ توجد نقطة واحدة، ولا توجد خطوط أو مناطق، إذن:
بعد ذلك، فكر أويلر فيما سيحدث إذا أضاف شيئا إلى هذه الشبكة الأبسط على الإطلاق. فأي امتداد للنقطة الواحدة يستلزم إضافة خط. ويمكن لهذا الخط أن يربط النقطة الموجودة بالفعل بنفسها، أو يربطها بنقطة جديدة.
فلنتناول أولا وصل النقطة الواحدة بنفسها من خلال هذا الخط الإضافي. ومثلما يوضح الشكل
3-4 (ب)، سنجد أن إضافة هذا الخط تؤدي أيضا إلى تشكل منطقة جديدة. ومن ثم؛ فإن صيغة الشبكة تظل صحيحة لأن المنطقة الإضافية (+1) تلغي الخط الإضافي (−1). وفي حالة إضافة خطوط أخرى بهذه الطريقة، فإن صيغة الشبكة ستظل صحيحة لأن كل خط جديد سيؤدي إلى تشكيل منطقة جديدة.
ولنتناول ثانيا استخدام الخط لتوصيل النقطة الأصلية بنقطة جديدة، مثلما يظهر في الشكل
3-4 (ج). ومرة أخرى، تظل صيغة الشبكة صحيحة؛ لأن النقطة الإضافية (+1) تلغي الخط الإضافي (−1). وفي حالة إضافة خطوط أخرى بهذه الطريقة، ستظل صيغة الشبكة صحيحة؛ لأن كل خط جديد سيشكل نقطة جديدة.
وهذا هو كل ما كان أويلر يحتاج إليه من أجل برهانه. وقد حاجج بأن صيغة الشبكة تنطبق على أبسط الشبكات على الإطلاق. وحاجج أيضا بأن جميع الشبكات الأخرى مهما زاد تعقيدها، يمكن أن تشكل من الشبكة الأبسط من خلال إضافة خطوط جديدة، واحدا تلو الآخر. وفي كل مرة يضاف فيها خط جديد، ستظل صيغة الشبكة صحيحة؛ لأن ذلك سيؤدي إما إلى تشكيل نقطة جديدة أو منطقة جديدة؛ مما سيكون له تأثير تعويضي. صمم أويلر استراتيجية بسيطة وفعالة في الوقت نفسه. وأثبت أن الصيغة تنطبق على أبسط شبكة على الإطلاق، وهي النقطة واحدة، ثم أثبت أن أي عملية تعقد الشبكة، لن تخل بصلاحية الصيغة. ومن ثم؛ فإن الصيغة تنطبق على ذلك العدد اللانهائي من أشكال الشبكات الممكنة.
شكل 3-4: أثبت أويلر صيغة الشبكة التي توصل إليها من خلال إثبات صحتها في حالة الشبكة الأبسط على الإطلاق، ثم إثبات أنها ستظل صحيحة أيضا بصرف النظر عن عدد الامتدادات المضافة إلى النقطة الواحدة.
لا بد أن أويلر قد تمنى حين صادف مبرهنة فيرما الأخيرة للمرة الأولى، أن يتمكن من حلها باستخدام استراتيجية مماثلة. إن المبرهنة الأخيرة وصيغة الشبكة، تنتميان إلى مجالين مختلفين للغاية من مجالات الرياضيات، لكن ثمة شيئا مشتركا بينهما، وهو أن كلتيهما تزعمان شيئا عن مجموعة لا نهائية من الأشياء. فتزعم صيغة الشبكة أنه في العدد اللانهائي من الشبكات، سنجد أن عدد النقاط مع عدد المناطق مطروحا منه عدد الخطوط يساوي 1 على الدوام. أما مبرهنة فيرما الأخيرة، فهي تزعم عدم وجود حل بأعداد صحيحة لعدد لا نهائي من المعادلات. ونستذكر هنا أن مبرهنة فيرما الأخيرة قد زعمت أنه لا توجد حلول بأعداد صحيحة للمعادلة التالية: ، حيث
n
أي عدد أكبر من 2.
وتمثل هذه المعادلة مجموعة لا نهائية من المعادلات:
تساءل أويلر عما إذا كان بإمكانه إثبات عدم وجود حل لإحدى المعادلات، ثم استقراء النتيجة على جميع المعادلات المتبقية، بالطريقة نفسها التي أثبت بها صحة صيغته في جميع حالات الشبكات من خلال تعميمها بدءا من الحالة الأبسط، أي النقطة المفردة.
حظي أويلر بنقطة انطلاق جيدة في مهمته حين اكتشف تلميحا في ملاحظات فيرما المختصرة. فبالرغم من أنه لم يكتب برهانا للمبرهنة الأخيرة، فقد وصف في مكان آخر في نسخته من كتاب «أريثميتيكا»، برهانا غامضا للحالة المحددة حيث ، واستخدمه في برهان لمسألة مختلفة تماما. وبالرغم من أن هذه العملية الحسابية هي أكثر العمليات الحسابية التي كتبها اكتمالا، فإن التفاصيل هزيلة وغامضة، وينهي فيرما البرهان بقوله إن قلة الوقت والأوراق تمنعه من كتابة تفسير أوضح. وبالرغم من قلة التفاصيل في ملاحظات فيرما السريعة، فإنها توضح دون لبس شكلا محددا من البرهان بالتناقض، يعرف باسم «طريقة التناقص بلا نهاية».
ومن أجل إثبات عدم وجود حل للمعادلة ؛ بدأ فيرما بافتراض وجود حل افتراضي:
وبدراسة خصائص (
و
و )، استطاع فيرما أن يثبت أنه إذا كان لهذا الحل الافتراضي وجود بالفعل، فإن هذا سيعني وجود حل أصغر بالضرورة (
و
و ). وبدراسة هذا الحل الجديد، استطاع فيرما أن يثبت وجود حل أصغر (
و
و )، وهكذا دواليك.
لقد اكتشف فيرما سلما تناقصيا من الحلول سيستمر نظريا إلى الأبد، مولدا أعدادا متناهية الصغر. غير أن
x
و
y
و
z ، لا بد أن تكون أعدادا صحيحة؛ ومن ثم فهذا السلم اللانهائي مستحيل، إذ لا بد من أن يكون أصغر حل ممكن موجودا. وهذا التناقض يثبت أن الافتراض المبدئي (
و
و )، لا بد أن يكون خاطئا. فباستخدام طريقة التناقص اللانهائي، أثبت فيرما استحالة وجود أي حل للمعادلة حيث ، وإلا فستكون النتائج غير منطقية.
حاول أويلر استخدام هذه الطريقة لتكون نقطة انطلاق له في تأسيس برهان عام لجميع المعادلات الأخرى. وإضافة إلى التصاعد تدريجيا حتى يصل إلى
n = ما لا نهاية، كان عليه أن يتناقص تدريجيا بقيمة
n ، حتى يصل بها إلى ، وقد كانت تلك الخطوة التناقصية الواحدة هي التي حاول القيام بها أولا. في الرابع من أغسطس عام 1753، أعلن أويلر في خطاب إلى عالم الرياضيات البروسي كريستيان جولدباخ أنه قد عدل طريقة فيرما في تطبيق التناقص اللانهائي، ونجح في إثبات الحالة . بعد مائة عام، كانت تلك هي المرة الأولى التي ينجح فيها أحدهم في إحراز أي تقدم بشأن التصدي لتحدي فيرما.
ومن أجل الانتقال ببرهان فيرما من ، ليتناول الحالة ، كان على أويلر أن يدمج المفهوم الغريب المتمثل فيما يعرف باسم «العدد التخيلي»، وهو كيان قد اكتشفه علماء الرياضيات في أوروبا في القرن السادس عشر. من الغريب أن نفكر في أعداد جديدة «تكتشف»، غير أن ذلك يعود بصفة أساسية إلى ألفتنا الشديدة مع الأعداد التي نستخدمها عادة حتى إننا ننسى أن بعض هذه الأعداد لم تكن معروفة من قبل. فقد كان السبيل الوحيد لمعرفة الأعداد السالبة والأعداد الكسرية والأعداد غير النسبية، أن تكتشف، وقد كان الدافع في كل حالة من هذه الحالات هو الإجابة عن أسئلة لا يمكن الإجابة عنها بأي طريقة أخرى.
إن تاريخ الأعداد يبدأ بأعداد العد البسيطة (1، 2، 3، ...) التي تعرف أيضا بالأعداد الطبيعية. وهذه الأعداد ملائمة تماما لجمع الكميات الصحيحة البسيطة معا، مثل الأغنام أو العملات الذهبية، من أجل الوصول إلى عدد إجمالي يمثل هو أيضا كمية صحيحة. وإضافة إلى الجمع، يمكن إجراء العملية البسيطة الأخرى المتمثلة في الضرب على الأعداد الصحيحة، للتوصل إلى أعداد صحيحة أخرى. أما عملية القسمة، فهي تطرح مشكلة غريبة. فبالرغم من أن 8 مقسوما على 2 يساوي 4، نجد أن 2 مقسوما على 8 يساوي 1 / 4. وناتج عملية القسمة الأخيرة ليس عددا صحيحا، بل كسرا.
إن القسمة عملية بسيطة تجرى على الأعداد الطبيعية، وتستلزم البحث فيما ما وراء الأعداد الطبيعية من أجل التوصل إلى الإجابة. فمن غير الوارد لعلماء الرياضيات ألا يكونوا قادرين، ولو نظريا على الأقل، على الإجابة عن أي سؤال، وتعرف هذه الضرورة التي تقتضي البحث باسم «الاكتمال». فثمة أسئلة تتعلق بالأعداد الطبيعية لا يمكن الإجابة عنها دون اللجوء إلى الكسور. ويعبر علماء الرياضيات عن ذلك بقولهم إن الكسور ضرورية للاكتمال.
إن هذه الحاجة إلى الاكتمال هي التي دفعت الهندوس إلى اكتشاف الأعداد السالبة. ذلك أنهم قد لاحظوا أن طرح 3 من 5 يساوي 2، أما طرح 5 من 3، فهو ليس بهذه السهولة. لقد كانت الإجابة تتجاوز أعداد العد الطبيعية، ولا يمكن التوصل إليها إلا بتقديم مفهوم الأعداد السالبة. لم يقبل بعض علماء الرياضيات هذا التوسع في التجريد، وكانوا يسمون الأعداد السالبة بالأعداد «غير المنطقية» أو «الزائفة». فالمحاسب يستطيع الإمساك بعملة ذهبية واحدة، أو حتى نصف عملة ذهبية، لكنه من المحال أن يمسك بعملة سالبة.
شكل 3-5: يمكن وضع جميع الأعداد على خط الأعداد الذي يمتد إلى ما لا نهاية في الاتجاهين.
كان اليونانيون أيضا يتطلعون إلى الاكتمال، وقد قادهم هذا إلى اكتشاف الأعداد غير النسبية. في الفصل الثاني تعرضنا للسؤال التالي: ما العدد الذي يمثل الجذر التربيعي للعدد 2، ؟ لقد كان اليونانيون يعرفون أن هذا العدد يساوي 7 / 5 تقريبا، لكنهم حين حاولوا معرفة العدد الكسري الدقيق، لم يجدوا له وجودا. لقد وجدوا عددا لا يمكن التعبير عنه أبدا في صورة كسر، لكن وجود هذا النوع من الأعداد كان ضروريا للإجابة عن سؤال بسيط: ما الجذر التربيعي للعدد اثنين؟ إن الحاجة إلى الاكتمال كانت تعني إضافة مستعمرة أخرى إلى إمبراطورية الأعداد.
بحلول عصر النهضة، افترض علماء الرياضيات أنهم قد اكتشفوا جميع الأعداد الموجودة في الكون. فقد كانوا يعتقدون أن الأعداد كلها تقع على «خط الأعداد»، وهو خط يمتد طوله إلى ما لا نهاية، ويقع الصفر في منتصفه مثلما يتضح في الشكل
3-5 . كانت الأعداد الصحيحة توضع على مسافات متساوية على خط الأعداد، مع كتابة الأعداد الموجبة على يمين الصفر وامتدادها إلى اللانهائية الموجبة، وكتابة الأعداد السالبة على يسار الصفر وامتدادها إلى اللانهائية السالبة. وكانت الكسور تشغل المسافات بين الأعداد الصحيحة، وتوضع الأعداد غير النسبية في المسافات التي تقع بين الكسور.
أوحى خط الأعداد بأن الاكتمال قد تحقق على ما يبدو. فقد بدا أن جميع الأعداد صارت في أماكنها على استعداد للإجابة عن جميع الأسئلة الرياضية، ولم يعد هناك من مكان إضافي على خط الأعداد يستوعب أعدادا جديدة على أي حال. غير أن القرن السادس عشر شهد أصداء متجددة من القلق. كان الرياضي الإيطالي رفايلو بومبيلي يدرس الجذور التربيعية لمختلف الأعداد حين صادف سؤالا لا إجابة له.
بدأت المشكلة بطرح السؤال: ما الجذر التربيعي للعدد 1، ؟ والإجابة الواضحة هي 1، لأن 1 × 1 = 1. أما الإجابة الأقل وضوحا، فهي −1. ذلك أن ضرب عدد سالب في عدد سالب آخر، ينتج لنا عددا موجبا. وهذا يعني أن −1 × −1 = +1. إذن؛ فالجذر التربيعي للعدد +1 هو +1 و −1 أيضا. ولا بأس في وفرة الإجابات، غير أن السؤال يطرح مرة أخرى: ما الجذر التربيعي للعدد −1، ؟ تبدو المسألة مستعصية. فلا يمكن أن يكون الحل +1 أو −1؛ لأن تربيع هذين العددين كليهما هو +1. بالرغم من ذلك، لا يبدو أن ثمة حلولا أخرى محتملة. ذلك أن الاكتمال يستلزم أن نكون قادرين على الإجابة عن السؤال.
وقد كان حل بومبيلي هو ابتكار عدد جديد، وهو «
i »، الذي يسمى «عددا تخيليا»، وقد عرف ببساطة على أنه إجابة السؤال: «ما الجذر التربيعي للعدد سالب واحد؟» وقد يبدو هذا حلا جبانا للمشكلة، لكنه لم يكن مختلفا عن الطريقة التي قدمت بها الأعداد السالبة. فحين صادف الهندوس سؤالا لم يكن من الممكن الإجابة عنه بأي طريقة أخرى، لم يفعلوا شيئا سوى أنهم قد عرفوا −1 على أنه إجابة السؤال: «ما ناتج طرح واحد من صفر؟» من الأسهل علينا أن نقبل مفهوم −1؛ لأننا نألف المفهوم المناظر له المتمثل في «الدين»، غير أننا لا نعرف في العالم الواقعي شيئا يعزز مفهوم العدد التخيلي. لقد تمكن عالم الرياضيات، جوتفريد ليبنتس، الذي عاش في القرن السابع عشر، من وصف الطبيعة الغريبة للعدد التخيلي على نحو رائع بقوله: «إن العدد التخيلي ملاذ بديع ورائع من الروح الإلهية؛ فهو أشبه ببرزخ بين الوجود واللاوجود.»
وفور أن نقوم بتعريف
i ، على أنه الجذر التربيعي للعدد −1، سنتوصل بالضرورة إلى وجود العدد ؛ فهو حاصل جمع
i
زائد
i (وهو أيضا الجذر التربيعي للعدد −4). وبالطريقة نفسها، سنستنتج بالضرورة وجود العدد
i/2 ؛ إذ إنه ناتج قسمة
i
على 2. إن إجراء العمليات الحسابية البسيطة، يمكننا من التوصل إلى عدد تخيلي مكافئ لكل ما يدعى «عددا حقيقيا». فهناك أعداد العد التخيلية، والأعداد السالبة التخيلية، والأعداد الكسرية التخيلية، والأعداد غير النسبية التخيلية.
والمشكلة التي تطرأ الآن هي أن جميع هذه الأعداد التخيلية ليس لها مكان طبيعي على خط الأعداد الحقيقي. ويتمكن علماء الرياضيات من حل هذه الأزمة بابتكار خط أعداد تخيلي منفصل يقع عموديا على خط الأعداد الحقيقي ويتقاطع معه عند الصفر، مثلما يتضح في الشكل
3-6 . لم تعد الأعداد الآن مقتصرة على خط يمتد في بعد واحد، بل صارت تشغل مستوى إحداثيا يمتد في بعدين. وبينما يقتصر وجود الأعداد التخيلية الخالصة أو الأعداد الحقيقية الخالصة، كل على الخط المخصص لها، فإن التوليفات التي تجمع بين الأعداد الحقيقية والتخيلية (مثل )، التي تسمى «الأعداد المركبة»، تقع على ما يسمى المستوى الإحداثي للأعداد.
إن ما يميز هذه الأعداد المركبة على وجه التحديد، هو إمكانية استخدامها لحل أي معادلة يمكن تصورها. فمن أجل حساب
على سبيل المثال، لا يضطر علماء الرياضيات إلى ابتكار نوع جديد من الأعداد؛ إذ يتضح أن الإجابة هي ، وهي عدد مركب آخر. ومعنى هذا أن الأعداد المركبة يبدو أنها العنصر النهائي اللازم لاكتمال الرياضيات.
شكل 3-6: إن تخصيص محور للأعداد التخيلية يحول خط الأعداد إلى مستوى إحداثي للأعداد. وأي توليفة من الأعداد الحقيقية والتخيلية، لها موقعها على المستوى الإحداثي للأعداد.
وبالرغم من أن الجذور التربيعية للأعداد السالبة قد سميت بالأعداد التخيلية؛ فعلماء الرياضيات لا ينظرون إلى العدد
i
باعتباره أكثر تجريدا من أي عدد سالب أو أي من أعداد العد. علاوة على ذلك، اكتشف الفيزيائيون أن الأعداد التخيلية هي اللغة الأنسب لوصف بعض ظواهر العالم الواقعي. فبالاستعانة ببعض التغييرات القليلة الطفيفة، تصبح الأعداد التخيلية هي الطريقة المثالية لتحليل حركة التأرجح الطبيعية في بعض الأجسام مثل البندول. وهذه الحركة التي تعرف تقنيا باسم التذبذب الجيبي، تحدث في الكثير من الظواهر الطبيعية ؛ وبهذا أصبحت الأعداد التخيلية جزءا لا يتجزأ من العديد من الحسابات الفيزيائية. وفي يومنا هذا، يبتكر مهندسو الكهرباء
i
لتحليل التيارات المتذبذبة، ويتمكن علماء الفيزياء النظرية من حساب نتائج دوال الموجات الميكانيكية الكمية المتذبذبة، باستخدام أسس الأعداد التخيلية.
وقد تمكن علماء الرياضيات البحتة أيضا من الاستفادة من الأعداد التخيلية؛ إذ استخدموها في إيجاد إجابات لمسائل لم يكن من الممكن حلها قبل ذلك. إن الأعداد التخيلية تضيف بعدا جديدا للرياضيات بالفعل، وقد كان أويلر يأمل في استخدام تلك الدرجة الإضافية من الحرية في مهاجمة مبرهنة فيرما الأخيرة.
لقد حاول علماء الرياضيات في الماضي تطبيق طريقة فيرما في التناقص اللانهائي على حالات أخرى غير ، لكن محاولات تعميم البرهان على أي حالة أخرى لم تكن تؤدي إلا إلى ثغرات في المنطق. غير أن أويلر قد أثبت أن دمج العدد التخيلي
i ، في البرهان، يمكن أن يسد بعض الثغرات، ويؤدي إلى نجاح طريقة التناقص اللانهائي مع الحالة: .
لقد كان ذلك إنجازا هائلا، لكنه لم يستطع تكراره مع الحالات الأخرى في مبرهنة فيرما الأخيرة. من سوء الحظ أن محاولات أويلر لتعديل الحجة المنطقية كي تتماشى مع جميع الحالات إلى ما لا نهاية، قد انتهت بالفشل. إن الرجل الذي ابتكر من الرياضيات أكثر مما ابتكره أي شخص في التاريخ، قد خفض الرأس أمام تحدي فيرما. وكان عزاؤه الوحيد أنه أول من أحرز تقدما في حل أصعب مسألة في العالم.
لم يثبط هذا الفشل أويلر واستمر في ابتكار معارف رياضية بديعة إلى اليوم الذي مات فيه، وهو إنجاز يصير أكثر روعة وإدهاشا حين نعرف أنه فقد بصره تماما في السنوات الأخيرة من حياته العملية. لقد بدأ فقده للبصر في العام 1753، حين عرضت أكاديمية باريس جائزة لمن يقدم حلا لمعضلة فلكية. وقد كانت المعضلة غريبة للغاية، وطلب المجتمع الرياضي من الأكاديمية مهلة لعدة أشهر كي يتمكنوا من التوصل إلى الإجابة، لكن ذلك لم يكن ضروريا لأويلر. لقد صار مهووسا بالمهمة، وظل يعمل بصورة متواصلة على مدى ثلاثة أيام، وفاز بالجائزة عن جدارة. غير أن ظروف العمل السيئة، مجتمعة مع الإجهاد الشديد، قد كلفت أويلر الذي كان لا يزال آنذاك في العشرينيات من عمره، حاسة البصر في إحدى عينيه. ويبدو هذا واضحا في العديد من صور أويلر، ومنها الصورة التي تظهر في مقدمة هذا الفصل.
بناء على نصيحة جون لو رون دالمبير، أقيل أويلر بصفته عالم رياضيات بلاط فريدريك العظيم وحل محله عالم الرياضيات جوزيف لوي لاجرانج، وهي النصيحة التي علق عليها فريدريك بعد ذلك بقوله: «كم أنا مدين لعنايتك وتوصيتك بأن أستبدل بعالم رياضيات أعمى، آخر بعينين، وهو ما سيسر أعضاء التشريح في أكاديميتي سرورا عظيما.» عاد أويلر إلى روسيا حيث رحبت كاثرين العظيمة مجددا ب «عملاقها في الرياضيات».
لم يكن فقد حاسة البصر في عين واحدة سوى إعاقة طفيفة، بل إن أويلر قد زعم أن «مصادر التشتيت صارت الآن أقل.» وبعد ذلك بأربعين عاما حين صار في سن الستين، تدهورت حالته بشدة؛ إذ أصيبت عينه السليمة بعتامة العين مما كان يعني إصابته بالعمى في النهاية. كان قد عزم على عدم الاستسلام، وبدأ في التدريب على الكتابة مغمضا عينه الواهنة كي يتقن أسلوبه قبل حلول الظلام. وفي غضون أسابيع، كان قد صار أعمى تماما. أتى التدريب بثماره لبعض الوقت، لكن خط أويلر لم يعد مقروءا بعد بضعة شهور؛ فأصبح ابنه ألبرت ناسخا له.
استمر أويلر في إنتاج الرياضيات على مدى سبعة عشر عاما بعدها، ولم يتأثر إنتاجه إطلاقا، بل كان أغزر من ذي قبل. لقد مكنته قدراته الفكرية الهائلة من معالجة الأفكار دون الحاجة إلى تسجيلها على الورق، ومكنته ذاكرته الاستثنائية من استخدام عقله وكأنه مكتبة ذهنية. كان زملاؤه يعتقدون أن العمى قد وسع من آفاق مخيلته. فمن الجدير بالذكر أن حسابات أويلر لمواقع القمر قد اكتملت في فترة عماه. وقد كان ذلك أثمن الإنجازات الرياضية لأباطرة أوروبا؛ فهي معضلة حيرت أعظم علماء الرياضيات في أوروبا، ومنهم نيوتن نفسه.
في العام 1776، خضع أويلر لعملية جراحية للتخلص من عتامة العين، وبدا أن بصره قد بدأ يعود إليه على مدى بضعة أيام.
غير أن العدوى قد ظهرت بعد ذلك، ودفع أويلر إلى الظلام من جديد. وبإقدام، واصل أويلر العمل حتى 18 من سبتمبر عام 1783، حين أصيب بجلطة فتكت به. وبتعبير عالم الرياضيات والفيلسوف، ماركيز دو كوندورسيه، «توقف أويلر عن الحياة وإجراء الحسابات.» (2) وتيرة بطيئة
بعد قرن من وفاة فيرما، لم يكن يوجد من البراهين سوى ما يثبت حالتين محددتين من حالات المبرهنة الأخيرة. لقد أعطى فيرما الرياضيين بداية واعدة بتقديم البرهان على عدم وجود حل للمعادلة:
وقد عدل أويلر البرهان ليثبت عدم وجود حلول للمعادلة:
وحتى بعد التقدم الذي أحرزه أويلر، كان لا يزال من الضروري إثبات عدم وجود حلول بأعداد صحيحة لعدد لا نهائي من المعادلات:
وبالرغم من أن تقدم علماء الرياضيات كان بطيئا على نحو مخجل؛ فلم يكن الموقف بالسوء الذي قد يبدو عليه. فالبرهان المستخدم للحالة: ، يثبت أيضا الحالات:
والسبب في ذلك أن أي عدد يمكن كتابته في صورة الأس 8 (أو 12، أو 16، أو 20، ...) يمكن أيضا إعادة كتابته في صورة الأس 4. فالعدد 256 على سبيل المثال، يساوي 2
8
وهو يساوي أيضا 4
4 . ومن ثم؛ فأي برهان يثبت حالة الأس 4، سيثبت أيضا حالة الأس 8، أو أي أس من مضاعفات 4. وبناء على هذا المبدأ نفسه، فإن برهان أويلر للحالة: ، سيثبت أيضا الحالات: .
فجأة تتداعى الأعداد، ويبدو فيرما هشا. ذلك أن البرهان الذي يثبت الحالة: ، يتسم بأهمية خاصة؛ لأن العدد 3 من «الأعداد الأولية». وقد أوضحنا سابقا أن العدد الأولي يتسم بالخاصية المميزة المتمثلة في أنه لا يقبل القسمة على أي عدد سوى نفسه والعدد 1. ومن الأمثلة الأخرى على الأعداد الأولية 5، 7، 11، 13، ... أما جميع الأعداد الأخرى، فهي مضاعفات الأعداد الأولية وتسمى بالأعداد غير الأولية، أو الأعداد المؤلفة.
إن المختصين في نظرية الأعداد يرون أن الأعداد الأولية هي أهم الأعداد على الإطلاق؛ لأنها ذرات الرياضيات. فالأعداد الأولية هي وحدات البناء العددية؛ إذ يمكن تشكيل جميع الأعداد الأخرى من خلال ضرب توليفات من الأعداد الأولية. ويبدو أن هذا الأمر يؤدي إلى تقدم مذهل. فمن أجل إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة لجميع قيم
n ، لن يستدعي الأمر سوى إثبات القيم الأولية ل
n . ذلك أن جميع الحالات الأخرى ليست سوى مضاعفات لحالات الأعداد الأولية، ويمكن إثباتها ضمنيا.
ومن البديهي أن ذلك يبسط المعضلة بدرجة هائلة؛ إذ يمكن إغفال جميع تلك المعادلات التي تكون فيها قيمة
n
من غير الأعداد الأولية. وسنجد بعد ذلك أن عدد المعادلات قد أصبح أقل كثيرا. ففي جميع الحالات التي تكون فيها قيمة
n
تصل إلى 20 أو أقل، لا يوجد سوى ست قيم يجب إثباتها:
إذا تمكن أحدهم من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة للحالات التي تكون فيها قيم
n
أعدادا أولية فحسب؛ فستثبت المبرهنة على جميع قيم
n . حين نفكر في تناول جميع الأعداد الصحيحة، يتضح أنها كثيرة إلى ما لا نهاية. أما حين نفكر في تناول الأعداد الأولية فحسب، التي لا تمثل سوى جزء صغير للغاية من الأعداد الصحيحة، فإن الأمر يصبح أبسط كثيرا بالتأكيد، أليس كذلك؟
من البديهي أن نفكر أننا إذا بدأنا بكمية لا نهائية، ثم حذفنا الجزء الأكبر منها، فسوف نتوقع أن ما يتبقى لدينا سيكون كمية نهائية. بالرغم من ذلك، فمن سوء الحظ أن البديهة ليست هي الفيصل في الحكم على الحقيقة في الرياضيات، بل المنطق هو الفيصل. وحقيقة الأمر أنه يمكن إثبات أن قائمة الأعداد الأولية لا نهائية. ومن ثم؛ فبالرغم من تجاهل الغالبية العظمى من المعادلات التي تكون فيها قيمة
n
من غير الأعداد الأولية، فإن عدد المعادلات المتبقية التي تكون فيها قيمة
n
من الأعداد الأولية سيظل لا نهائيا أيضا.
إن تاريخ البرهان الذي يثبت وجود عدد لا نهائي من الأعداد الأولية، يعود إلى إقليدس، وهو أحد الحجج الكلاسيكية في الرياضيات. في البداية، يفترض إقليدس وجود قائمة نهائية من الأعداد الأولية، ويثبت بعد ذلك أنه لا بد من وجود عدد لا نهائي من الإضافات إلى هذه القائمة. يوجد
من الأعداد الأولية في قائمة إقليدس، وهو يسميها . ويمكن لإقليدس بعد ذلك توليد عدد جديد: ، على النحو التالي:
وهذا العدد الجديد ، ، إما أن يكون أوليا أو غير أولي. فإذا كان أوليا، فسنكون قد نجحنا في تكوين عدد أولي جديد أكبر، إذن فلم تكن قائمتنا الأصلية للأعداد الأولية مكتملة. ومن الناحية الأخرى، إذا لم يكن
من الأعداد الأولية؛ فلا بد أنه يقبل القسمة على أحد الأعداد الأولية دون أن يكون هناك باق للقسمة. ولا يمكن أن يكون هذا العدد الأولي من الأعداد الأولية المعروفة؛ لأن قسمة
على أي من هذه الأعداد، لا بد أن تترك باقيا للقسمة، هو العدد 1. ومن ثم فلا بد من وجود عدد أولي جديد يمكننا أن نسميه .
والآن نكون قد وصلنا إلى المرحلة التي إما أن يكون فيها
عددا أوليا جديدا، أو يكون لدينا عدد أولي جديد هو . وفي كلتا الحالتين، نكون قد أضفنا إلى قائمتنا الأصلية للأعداد الأولية. يمكننا الآن تكرار هذه العملية مع ضم (
أو ) إلى قائمتنا الأصلية وتوليد عدد جديد . وهذا العدد الجديد إما أن يكون عددا أوليا جديدا آخر، أو سنحتاج إلى وجود عدد أولي جديد: ، لا يرد في قائمة الأعداد الأولية المعروفة. إن جوهر هذه الحجة المنطقية هو أننا نستطيع دوما إيجاد عدد جديد، بصرف النظر عن طول القائمة. إذن؛ فقائمة الأعداد الأولية لا نهائية.
فكيف يمكن لشيء أصغر دون شك من كمية لا نهائية، أن يكون لا نهائيا هو أيضا؟ لقد قال عالم الرياضيات الألماني، ديفيد هيلبرت ذات مرة: «اللانهائية! ما من سؤال آخر قد حرك روح الإنسان بهذا العمق، وما من فكرة أخرى قد حفزت عقله على هذا النحو المثمر، بالرغم من ذلك، فما من مفهوم آخر لا يزال يحتاج إلى قدر كبير من التوضيح من مفهوم اللانهائية.» إن حل مفارقة اللانهائية يستلزم تعريف ما نعنيه باللانهائية. وقد عرفها جورج كانتور الذي كان يعمل مع هيلبرت على أنها حجم القائمة التي لا تنتهي من أعداد العد (1، 2، 3، 4، ...). ومن ثم؛ فإن أي شيء يماثلها في الحجم سيكون لا نهائيا أيضا.
ووفقا لهذا التعريف، فإن عدد الأعداد الزوجية، الذي يبدو أصغر على نحو بديهي ، هو أيضا لا نهائي. من السهل إثبات أن كمية أعداد العد، وكمية الأعداد الزوجية متماثلتان؛ إذ إننا نستطيع إيجاد مقابل زوجي لأي عدد: ...
7
6
5
4
3
2
1 ... ...
14
12
10
8
6
4
2
إذا كان من الممكن مطابقة كل عنصر من عناصر قائمة أعداد العد، بعنصر من قائمة الأعداد الزوجية، فلا بد أن القائمتين بالحجم نفسه. وهذه الطريقة في المقارنة تقودنا إلى بعض الاستنتاجات المفاجئة، ومنها حقيقة وجود عدد لا نهائي من الأعداد الأولية. وبالرغم من أن كانتور كان أول من تناول اللانهائية بطريقة منهجية؛ فقد تعرض في البداية لانتقادات شديدة من المجتمع الرياضي بسبب تعريفه الجذري. وفي نهاية حياته المهنية، صارت الهجمات شخصية على نحو متزايد، وقد عانى كانتور بسببها من المرض العقلي والاكتئاب الحاد. وفي نهاية المطاف بعد وفاته، صارت أفكاره تحظى بقبول واسع بصفتها التعريف الوحيد المتسق الدقيق والفعال للانهائية. وتكريما لكانتور، قال هيلبرت: «لن يبعدنا أحد عن الفردوس الذي خلقه لنا كانتور.»
واصل هيلبرت العمل وابتكر مثالا على اللانهائية، يعرف باسم «فندق هيلبرت»، الذي يصور سماتها الغريبة بوضوح. يتسم هذا الفندق الافتراضي بميزة امتلاكه لعدد لا نهائي من الغرف. وفي أحد الأيام يصل نزيل إلى الفندق ويخيب أمله حين يعرف أن جميع الغرف مشغولة، بالرغم من حجم الفندق اللانهائي. يفكر هيلبرت، موظف الفندق، برهة، ثم يؤكد للقادم الجديد أنه سيجد له غرفة فارغة. يطلب من جميع نزلائه الحاليين الانتقال إلى الغرفة التالية؛ فينتقل النزيل المقيم بالغرفة 1 إلى الغرفة 2، وينتقل النزيل المقيم في الغرفة 2 إلى الغرفة 3، وهكذا. يظل جميع من في الفندق يحظى بغرفة له؛ مما يتيح للقادم الجديد الإقامة في الغرفة الشاغرة 1. وهذا يثبت أن ما لا نهاية زائد واحد يساوي ما لا نهاية.
في الليلة التالية، يضطر هيلبرت إلى التعامل مع مشكلة أكبر كثيرا. فالفندق لا يزال ممتلئا، بينما تصل حافلة كبيرة إلى حد لا نهائي، وبها عدد لا نهائي من النزلاء الجدد. يظل هيلبرت رابط الجأش مسرورا بالتفكير في المزيد من فواتير الفندق اللانهائية. فيطلب من جميع نزلائه الحاليين الانتقال إلى الغرفة التي يكون رقمها ضعف رقم غرفتهم الحالية. ومن ثم؛ ينتقل النزيل المقيم في الغرفة 1 إلى الغرفة 2، وينتقل النزيل المقيم في الغرفة 2 إلى الغرفة 4، وهكذا. يظل جميع من كان في لفندق يحظون بغرفة، ويصير عدد لا نهائي من الغرف، جميع الغرف الفردية، شاغرا ليتسع للقادمين الجدد. وهذا يوضح أن ضعف ما لا نهاية يساوي ما لا نهاية.
يبدو أن فندق هيلبرت يقترح أن جميع الكميات اللانهائية كبيرة بالحجم نفسه؛ إذ يبدو أن مختلف الكميات اللانهائية يمكن أن تقيم في الفندق اللانهائي نفسه، فالكمية اللانهائية المتمثلة في الأعداد الفردية يمكن أن تتطابق مع الكمية اللانهائية المتمثلة في أعداد العد بأكملها. غير أن بعض الكميات اللانهائية أكبر من بعضها الآخر بالتأكيد. ذلك أن أي محاولة لمزاوجة جميع الأعداد النسبية بجميع الأعداد غير النسبية تنتهي بالفشل، ويمكن في حقيقة الأمر إثبات أن مجموعة الأعداد غير النسبية اللانهائية أكبر من مجموعة الأعداد النسبية اللانهائية. لقد اضطر علماء الرياضيات إلى وضع نظام كامل من المصطلحات؛ للتعامل مع المستويات المختلفة من اللانهائية، وقد صار الاهتمام بهذه المفاهيم من أكثر الموضوعات المثيرة في الوقت الحالي.
وبالرغم من أن لا نهائية الأعداد الأولية قد حطمت الآمال في وجود برهان مبكر لمبرهنة فيرما الأخيرة، فإن وجود إمداد لا نهائي من الأعداد الأولية يوفر نتائج أكثر إيجابية في مجالات أخرى مثل الجاسوسية وتطور الحشرات. وقبل العودة إلى موضوع البحث عن إثبات لمبرهنة فيرما الأخيرة، يجدر بنا الإشارة سريعا إلى حالات استخدام الأعداد الأولية وحالات إساءة استخدامها.
إن نظرية الأعداد الأولية من مجالات الرياضيات البحتة القليلة التي وجدت تطبيقا مباشرا لها في العالم الواقعي، وهو مجال التشفير. ينطوي التشفير على تأليف رسائل سرية لا يستطيع فك شفرتها سوى المرسل إليه وحده دون أي شخص آخر قد يستقبلها. وتستلزم عملية تأليف الرسائل السرية استخدام مفتاح سري، وعادة ما تستلزم عملية فك التشفير تطبيق المتلقي للمفتاح السري في الاتجاه المعاكس. وفي هذه العملية، يكون المفتاح هو الحلقة الأضعف في سلسلة الأمان. فأولا، يجب أن يتفق المرسل والمرسل إليه على تفاصيل المفتاح، وتبادل هذه المعلومة عملية خطرة. ذلك أن العدو إذا تمكن من الوصول إلى المفتاح المتبادل؛ فسوف يتمكن من فك شفرة جميع الرسائل التالية. ثم إنه يجب تغيير هذه المفاتيح بانتظام لضمان الأمان، وثمة مخاطرة بأن يتلقى العدو المفتاح الجديد في كل مرة يتغير فيها.
تتمحور مشكلة المفتاح حول الحقيقة المتمثلة في أن استخدامه بطريقة معينة يشفر الرسالة، واستخدامه بالطريقة المعاكسة يفك شفرتها، وتكون عملية فك الشفرة على القدر نفسه من السهولة التي تكون عليها عملية التشفير. بالرغم من ذلك، فالتجربة تخبرنا أن عملية فك الشفرة تكون أصعب كثيرا من عملية التشفير في العديد من المواقف الحياتية؛ فمن السهل نسبيا أن نخفق بيضة، أما إلغاء هذا الخفق وإعادتها إلى هيئتها، فهو أمر أصعب كثيرا.
في سبعينيات القرن العشرين، توصل وايتفيلد ديفي ومارتن هيلمان إلى فكرة البحث عن عملية رياضية يسهل إجراؤها في أحد الاتجاهين، ويكون صعبا للغاية في الاتجاه المعاكس. وستكون مثل هذه العملية هي المفتاح المثالي. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون لدي مفتاحي الخاص المؤلف من نصفين، وأنشر نصف التشفير في دليل عمومي. وعندها، سيتمكن أي شخص من أن يرسل لي رسائل مشفرة، لكن أحدا لا يعرف النصف الخاص بفك الشفرة سواي. وبالرغم من أن الجميع يعرفون نصف المفتاح الخاص بالتشفير، فإنه لا يمت بأي صلة إلى نصفه الخاص بفك الشفرة.
في عام 1977، أدرك رونالد ريفست وعدي شامير وليونارد أدلمان، وهم فريق من علماء الرياضيات وعلماء الكمبيوتر في معهد ماساتشوستس للتقنية، أن الأعداد الأولية هي الأساس المثالي لعملية تشفير سهل وفك تشفير صعب. فلكي أصنع مفتاحي الخاص، سأختار اثنين من الأعداد الأولية الضخمة، على ألا يقل الواحد منهما عن 80 رقما، ثم أضربهما معا لكي أتوصل إلى عدد أكبر غير أولي. وكل ما يستلزمه تشفير الرسائل هو معرفة العدد غير الأولي الضخم، أما عملية فك التشفير فتستلزم معرفة العددين الأوليين الأصليين اللذين ضربا معا، وهما يعرفان باسم العاملين الأوليين. يمكنني الآن أن أنشر العدد غير الأولي الضخم: النصف الخاص بالتشفير، وأحتفظ لنفسي بالعاملين الأوليين: النصف الخاص بفك التشفير. فالمهم أنه بالرغم من معرفة الجميع للعدد غير الأولي الضخم، أنهم سيواجهون صعوبة هائلة لمعرفة العاملين الأوليين.
ولنتناول مثالا أسهل، يمكنني أن أختار العدد غير الأولي 589، الذي سيمكن الجميع من تشفير الرسائل إلي. وسأحتفظ بالعاملين الأوليين للعدد 589 سرا؛ كي لا يتمكن أحد من فك تشفير الرسائل سواي. وإذا تمكن آخرون من التوصل إلى العاملين الأوليين، فسيتمكنون هم أيضا من فك شفرة رسائلي، لكن العاملين الأوليين غير واضحين حتى في هذا العدد الصغير. وفي هذه الحالة، لن يستغرق الأمر سوى بضع دقائق على الكمبيوتر لمعرفة أن العاملين الأوليين هما 31 و19 (31 × 19 = 589)، ومن ثم؛ فإن مفتاحي لن يظل آمنا لمدة طويلة.
بالرغم من ذلك، فالعدد غير الأولي الذي يمكن أن أنشره في الواقع، لن يقل عن مائة رقم، مما يجعل من مهمة اكتشاف عامليه الأوليين أمرا مستحيلا بالفعل. والسبب في ذلك أنه حتى مع استخدام أقوى أجهزة الكمبيوتر لقسمة هذا العدد غير الأولي الضخم (مفتاح التشفير) إلى عامليه الأوليين (مفتاح فك التشفير)، فإن الأمر سيستغرق سنوات عدة للتوصل إلى الإجابة. ومن ثم؛ فكل ما سيكون علي فعله لإحباط محاولات الجواسيس الأجانب هو تغيير مفتاحي بصفة سنوية. في كل عام، أعلن العدد غير الأولي العملاق الذي اخترته، وسيكون على كل من يرغب في محاولة فك تشفير رسائلي أن يبدأ من جديد في محاولة حساب العاملين الأوليين.
وإضافة إلى الدور الذي تؤديه الأعداد الأولية في الجاسوسية، فهي تظهر أيضا في العالم الطبيعي. فحشرة الزيز الدورية، التي تشتهر باسم «ماجيسيكادا سبتنديسيم»
Magicicada septendecim ، تتسم من بين جميع الحشرات، بأطول دورة حياة. تبدأ دورة حياتها الفريدة تحت الأرض، حيث تمتص الحوريات العصارة من جذور الأشجار بصبر. وبعد 17 عاما من الانتظار، تنبثق حشرات الزيز البالغة من الأرض وتطير في أسرابها بأعداد كبيرة، وتمتلئ الأرض بها لمدة مؤقتة. وفي غضون أسابيع قليلة، تتزاوج وتضع بيضها وتموت.
أما السؤال الذي كان يحير علماء الأحياء بشأنها فهو: ما السبب في طول دورة حياة الزيزيات إلى كل هذه المدة؟ أثمة دلالة لطول هذه الدورة الذي يتمثل في عدد أولي من السنوات؟ فثمة نوع آخر يعرف باسم «ماجيسيكادا تريديسيم»
Magicicada tredecim ، تطير في أسرابها كل 13 عاما؛ مما يوحي بأن امتداد دورات الحياة لعدد أولي من السنوات يوفر ميزة تطورية ما.
تقترح إحدى النظريات أن لحشرات الزيز طفيليا يتسم هو أيضا بدورة حياته الطويلة، وتحاول حشرات الزيز تجنبه. إذا افترضنا مثلا أن دورة حياة الطفيلي تبلغ سنتين، فسوف ترغب حشرات الزيز في تجنب أن يكون طول دورة حياتها يقبل القسمة على 2، وإلا فسوف يتزامن وجود الزيزيات والطفيلي معا بانتظام. وأيضا إذا كانت دورة حياة الطفيلي تبلغ 3 سنوات، فسوف ترغب الزيزيات في تجنب أن يكون طول دورة حياتها يقبل القسمة على 3، وإلا فسوف يتزامن وجود الطفيلي والزيزيات معا بانتظام. وفي نهاية المطاف، لكي تتجنب الزيزيات اللقاء بطفيليها، فإن أنسب استراتيجية لها هي أن يبلغ طول دورة حياتها عددا أوليا من السنوات. فنظرا إلى أن العدد 17 لا يقبل القسمة على شيء؛ فنادرا ما تلتقي «ماجيسيكادا سبتنديسيم» بطفيليها. إذا كانت دورة حياة الطفيلي تبلغ سنتين، فلن يلتقيا إلا كل 34 عاما، وإذا كانت أطول من ذلك، 16 عاما على سبيل المثال، فلن يلتقيا إلا كل 272 عاما (16 × 17).
ولكي يتمكن الطفيلي من المقاومة، لن يكون لديه سوى دورتين سيزيدان من تواتر التزامن: الدورة السنوية، والدورة التي تبلغ 17 عاما مثل الزيزيات. غير أن الطفيلي لن يتمكن على الأرجح من البقاء حيا مع الظهور على مدى 17 عاما متوالية؛ فأول 16 مرة من مرات الظهور لن تتزامن مع وجود الزيزيات. ومن الناحية الأخرى، فلكي تبلغ دورة حياة الطفيلي 17 عاما، سينبغي أولا أن تتطور أجيال الطفيلي على مدى دورة الحياة التي تبلغ 16 عاما. ومعنى هذا أنه في مرحلة ما من التطور، لن يتزامن وجود الطفيلي مع الزيزيات لمدة 272 عاما! وفي أي من الحالتين، فإن دورة حياة الزيزيات التي تمتد على مدى عدد أولي من السنوات، تحميها.
وقد يكون هذا هو السبب في أن هذا الطفيلي المزعوم لم يكتشف قط! ففي سباقه للحاق بالزيزيات، ظل الطفيلي على الأرجح يطيل من دورة حياته إلى أن وصلت إلى حاجز الستة عشر عاما. وقد عجز بعد ذلك عن التزامن معها على مدى 272 عاما، وبحلول ذلك الوقت كان عدم التزامن مع الزيزيات قد أدى إلى انقراضه. والنتيجة هي أن دورة حياة الزيزيات قد بلغت 17 عاما؛ وهو ما لم تعد في حاجة إليه إذ انقرض الطفيلي. (3) السيد لو بلو
بحلول بداية القرن التاسع عشر، كانت مبرهنة فيرما الأخيرة قد رسخت بالفعل وسمها بأنها المعضلة الأسوأ سمعة في نظرية الأعداد. فمنذ التقدم الذي أحرزه أويلر لم يحدث أي تقدم آخر، غير أن إعلانا مثيرا لسيدة فرنسية قد أحيا مجال البحث عن برهان فيرما المفقود من جديد. كانت صوفي جيرمان تعيش في عصر من النعرة والتعصب، ولكي تتمكن من إجراء أبحاثها، اضطرت إلى انتحال شخصية مزيفة والدراسة في ظروف سيئة والعمل في عزلة فكرية.
شكل 3-7: صوفي جيرمان.
لقد ظلت النساء يثنين عن دراسة الرياضيات على مدى قرون، غير أن هذا التمييز لم يمنع العديد من عالمات الرياضيات من الكفاح ضد المنظومة، وغيرن أسماءهن في سجلات الرياضيات على نحو دائم. وأول سيدة قد عرفت بترك بصمتها في الرياضيات هي ثيانو التي عاشت في القرن السادس قبل الميلاد، والتي كانت واحدة من طلاب فيثاغورس في البداية، قبل أن تصبح واحدة من حوارييه البارزين، وزوجة له في نهاية المطاف. ويعرف فيثاغورس بلقب «الفيلسوف النسوي»؛ لأنه كان يشجع الباحثات من النساء؛ فلم تكن ثيانو سوى واحدة من بين ثمان وعشرين أختا أخريات من أعضاء الأخوية الفيثاغورسية.
في القرون التالية، استمر أمثال سقراط وأفلاطون في تشجيع النساء على الالتحاق بمدارسهم، لكن أيا منهن لم تؤسس مدرسة مؤثرة في الرياضيات، ولم يحدث ذلك حتى القرن الرابع الميلادي. فحينها عرفت هيباتيا، ابنة أحد أساتذة الرياضيات في جامعة الإسكندرية، بإلقاء أشهر المحاضرات في العالم المعروف، وبكونها الأعظم في حل المعضلات. كان علماء الرياضيات إذا استعصت عليهم إحدى المعضلات يرسلون إليها طالبين الحل، ونادرا ما خيبت هيباتيا معجبيها. لقد كانت شديدة الشغف بالرياضيات وبعملية البرهان المنطقي، وحين سئلت عن السبب في عدم زواجها، أجابت بأنها قد تزوجت الحقيقة. وفي نهاية المطاف، تسبب إخلاصها إلى قضية العقلانية في هلاكها، وذلك حين بدأ كيرلس الأول بطريرك الإسكندرية في قمع الفلاسفة والعلماء وعلماء الرياضيات، الذين كان يدعوهم بالهراطقة. وقد ذكر المؤرخ إدوارد جيبون وصفا مفصلا لما حدث بعد أن تآمر كيرلس الأول على هيباتيا وحرض العامة عليها.
في يوم مشئوم، في موسم الصوم الكبير المقدس، نزعت هيباتيا من عربتها، وجردت من ملابسها، وجرت إلى الكنيسة حيث ذبحت بوحشية على يد «بيتر القارئ» وحشد من المتعصبين الهمجيين عديمي الرحمة، الذين كشطوا لحمها عن عظامها بأصداف المحار، وألقوا بأطرافها المرتجفة في النيران.
بعد موت هيباتيا بمدة قصيرة، دخلت الرياضيات في مرحلة من الركود، ولم تترك امرأة أخرى اسمها في عالم الرياضيات إلا بعد عصر النهضة. ولدت ماريا أنيزي في ميلان عام 1718، وقد كانت هي أيضا ابنة أحد علماء الرياضيات، مثلها في ذلك مثل هيباتيا. عرفت بكونها واحدة من أفضل علماء الرياضيات في أوروبا، واشتهرت تحديدا بأطروحاتها عن مماسات المنحنيات. في الإيطالية، تعرف المنحنيات باسم
versiera ، وهي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية
vertere ، التي تعني الانحناء، لكنها أيضا كانت اختصارا لكلمة
avversiera
التي تعني «زوجة الشيطان». لقد ترجم أحد المنحنيات التي درستها أنيزي، وهو
versiera Agnesi
إلى الإنجليزية على نحو خاطئ باسم «مشعوذة أنيزي»، وبمرور الوقت صارت عالمة الرياضيات تعرف بالاسم نفسه.
وبالرغم من أن علماء الرياضيات في جميع أنحاء أوروبا كانوا يعترفون بقدرات أنيزي، فقد رفضت العديد من المؤسسات الأكاديمية، لا سيما الأكاديمية الفرنسية، أن تمنحها منصبا بحثيا. استمر التمييز المؤسسي ضد النساء حتى القرن العشرين، حين حرمت إيمي نويثر، التي وصفها أينشتاين بأنها «أكثر شخص عبقري ومبدع في الرياضيات قد ظهر منذ أن بدأت النساء في تلقي التعليم العالي»، منصب محاضر في جامعة جوتينجن. وقد حاججت غالبية أعضاء الكلية بما يلي: «كيف يمكن السماح لامرأة بأن تصبح محاضرة؟ وإذا أصبحت محاضرة، فسوف يمكن أن تحظى بمنصب بروفيسور أو تصبح عضوا في المجلس الأعلى للجامعة ... ماذا سيكون رأي جنودنا حين يعودون إلى الجامعة ويجدون أنهم يتعلمون تحت قدمي امرأة؟» وقد أجاب صديقها ومرشدها، ديفيد هيلبرت: «أيها السادة، لست أرى أن جنس إحدى المرشحات حجة تساق ضد قبولها في منصب محاضر. فالمجلس ليس بالحمام بالرغم من كل شيء.»
وقد سئل زميلها، إدموند لاندو، بعد ذلك عما إذا كانت من عالمات الرياضيات العظيمات، وهو ما أجاب عنه بقوله: «يمكنني أن أشهد بأنها عالمة رياضيات عظيمة، أما عن كونها امرأة، فهذا ما لا أستطيع الجزم به.»
وإضافة إلى ما عانته من التمييز، فقد كانت نويثر تشترك في الكثير مع غيرها من عالمات الرياضيات على مدى القرون، ومن ذلك أنها هي أيضا كانت ابنة لأستاذ في الرياضيات. إن العديد من علماء الرياضيات، من كلا النوعين، ينحدرون من عائلات تهتم بالرياضيات؛ مما يفضي إلى الشائعات المازحة بشأن وجود جين رياضي، غير أن النسبة في النساء أعلى كثيرا. والتفسير المحتمل لذلك هو أن معظم النساء اللائي كن يتمتعن بتلك الملكة، لم يتعرضن للمجال قط أو يشجعن على دراسته، أما أولئك اللائي ولدن لآباء من أساتذة الرياضيات، فلم يكن من الممكن أن يتجنبن الانغماس في عالم الأعداد. علاوة على ذلك، فإن نويثر تشترك مع هيباتيا وأنيزي ومعظم عالمات الرياضيات الأخريات في أنهن لم يتزوجن قط، ويعود السبب في ذلك بصفة كبيرة إلى أن عمل النساء في مثل هذه المهن لم يكن بالأمر الذي يقبله المجتمع، وقليل من الرجال هم الذين كانوا على استعداد لأن يتزوجوا من نساء ينتمين إلى مثل تلك الخلفيات المثيرة للجدل. أما عالمة الرياضيات الروسية العظيمة، سونيا كوفاليفسكي، فهي استثناء لهذه القاعدة؛ إذ إنها رتبت زواجا صوريا مع فلاديمير كوفاليفسكي، الذي وافق على العلاقة الأفلاطونية. لقد أتاح هذا الزواج للطرفين الهروب من عائلتيهما، والتركيز على أبحاثهما، ثم إن سفر سونيا في أوروبا وحدها قد صار أسهل كثيرا فور أن أصبحت سيدة متزوجة مبجلة.
من بين جميع البلدان الأوروبية ، كانت فرنسا هي الأكثر تعصبا تجاه النساء المتعلمات؛ إذ أعلنت أن الرياضيات لا تناسب النساء وتفوق قدراتهن الذهنية. وبالرغم من أن صالونات باريس قد سادت عالم الرياضيات في جل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فلم تتمكن سوى امرأة واحدة من الإفلات من قيود المجتمع الفرنسي، وأن تصبح من العالمات العظيمات في نظرية الأعداد. لقد أحدثت صوفي جيرمان ثورة في مجال دراسة مبرهنة فيرما الأخيرة، وأسهمت فيها بقدر أكبر مما أسهمه أي من الرجال الذين حاولوا قبلها.
ولدت صوفي جيرمان في الأول من أبريل عام 1776، لتاجر فرنسي يدعى أمبرواز فرانسوا جيرمان. وخارج نطاق عملها، تحكمت في حياتها أهوال الثورة الفرنسية؛ فقد سقط سجن الباستيل في العام الذي اكتشفت فيه حبها للأعداد، وكانت دراستها للتفاضل والتكامل في ظلال «عهد الذعر». وبالرغم من أن أباها كان ثريا، فلم تكن عائلة صوفي من الطبقة الأرستقراطية.
وبالرغم من أن النساء اللائي ينتمين إلى الخلفية الاجتماعية التي كانت جيرمان تنتمي إليها، لم يكن يشجعن على دراسة الرياضيات، فقد كان ينبغي عليهن أن يتمتعن بقدر كاف من المعرفة بها كي يتمكن من مناقشة الأمر إن طرح في محادثة مهذبة. ومن أجل هذا الغرض، كتبت مجموعة من الكتب الدراسية كي تساعد الشابات على الإلمام بآخر التطورات في الرياضيات والعلوم. فألف فرانشيسكو ألجروتي كتاب «شرح فلسفة السير إسحاق نيوتن للنساء». ولأن ألجروتي كان يرى أن النساء لا يثير اهتمامهن سوى الحب؛ فقد حاول شرح اكتشافات نيوتن عن طريق حديث الغزل بين ماركيزة ومحاورها. فعلى سبيل المثال، يصف المحاور قانون التربيع العكسي لقوة الجاذبية، وعندئذ تعطي الماركيزة تأويلها لهذا القانون الجوهري في الفيزياء: «لا يسعني سوى أن أفكر ... أن هذا التناسب في تربيع مسافات الأماكن، يرى حتى في الحب. ومن ثم؛ فبعد ثمانية أيام من الغياب، يصبح الحب أقل بمقدار أربع وستين مما كان عليه في اليوم الأول.»
ولا عجب أن هذا النوع الغزلي من الكتب، لم يكن مسئولا عن إشعال اهتمام صوفي جيرمان بالرياضيات. أما الحدث الذي غير حياتها ، فقد وقع ذات يوم حين كانت تستعرض الكتب في مكتبة أبيها وصادفت كتاب جان إيتيان مونتوكلا الذي يدعى «تاريخ الرياضيات». وكان الفصل الذي أسر خيالها هو مقال مونتوكلا عن حياة أرشميدس. لقد كانت روايته لاكتشافات أرشميدس شيقة بالتأكيد، لكن ما أثار افتتانها بالتحديد، هو القصة التي تدور عن وفاته. لقد قضى أرشميدس حياته في سرقوسة يدرس الرياضيات في هدوء نسبي، غير أن هذا السلام قد تهشم وهو في آخر السبعينيات من عمره مع غزو الجيش الروماني. تقول الأسطورة إنه في أثناء الغزو، كان أرشميدس منهمكا للغاية في دراسة شكل هندسي على الرمال حتى إنه لم يجب على جندي روماني كان يسأله. ونتيجة لهذا، فقد طعن ومات.
وقد استنتجت جيرمان من هذه القصة أنه إذا انهمك أحدهم في مسألة هندسية بالقدر الذي يمكن أن يؤدي إلى وفاته؛ فلا بد أن الرياضيات هي أكثر موضوع أخاذ في العالم. بدأت على الفور في تعليم نفسها مبادئ نظرية الأعداد وحساب التفاضل والتكامل، وسرعان ما صارت تسهر الليل تدرس أعمال أويلر ونيوتن. وقد كان هذا الاهتمام المفاجئ بمثل ذلك الموضوع غير الأنثوي سببا في قلق والديها. لقد ذكر أحد أصدقاء عائلتها، وهو الكونت جوليالمو ليبري كاروتشي دالا سومايا، كيف أن والد صوفي قد صادر شموعها وملابسها وأزال أي مصدر للتدفئة كي يثنيها عن الدراسة. وبعد ذلك ببضع سنوات فقط في بريطانيا، ستصادر أيضا شموع عالمة الرياضيات الشابة، ماري سمرفيل، على يد والدها الذي كان يرى أنه «لا بد من وضع حد لهذا الأمر، وإلا فسوف نجد ماري في مصحة عقلية ذات يوم.»
استجابت جيرمان بأن خبأت مخزونا سريا من الشموع وكانت تلتحف بأغطية السرير. لقد كتب ليبري-كاروتشي أن ليالي الشتاء كانت باردة للغاية حتى إن الحبر كان يتجمد في الدواة، لكن صوفي قد استمرت بالرغم من ذلك. وصفها بعض الأشخاص بأنها كانت خجولة لا تتمتع باللباقة، لكنها كانت شديدة الإصرار، وقد لان والداها في نهاية المطاف ومنحا صوفي موافقتهما ومباركتهما. لم تتزوج جيرمان قط ، وكان والدها هو الذي يمول أبحاثها على مدى حياتها العملية. وظلت جيرمان تدرس بمفردها على مدى سنوات طويلة؛ إذ لم يكن في عائلتها علماء رياضيات يستطيعون أن يعرفوها أحدث الأفكار، وقد رفض المعلمون الخصوصيون أن يأخذوها على محمل الجد.
بعد ذلك، في العام 1794، افتتحت المدرسة متعددة التقنيات في باريس. وكانت قد أسست بغرض أن تصبح أكاديمية ممتازة لتدريب الرياضيين والعلماء من أجل الوطن. كانت هذه المؤسسة لتصبح مكانا مثاليا لجيرمان تستطيع أن تطور فيه مهاراتها الرياضية، لولا أنها كانت تقتصر على الرجال. وقد منعتها طبيعتها الخجولة من مواجهة هيئة إدارة الأكاديمية؛ فلجأت إلى الدراسة فيها على نحو سري من خلال انتحال هوية طالب سابق في الأكاديمية، السيد أنطوان-أوجست لو بلو. لم تكن إدارة الأكاديمية على علم بأن السيد لو بلو الحقيقي قد غادر باريس، واستمرت في طباعة المسائل وملاحظات المحاضرات له. تمكنت جيرمان من الحصول على ما كان مخصصا للسيد لو بلو، وكانت تقدم إجابات المسائل أسبوعيا باسمها المنتحل الجديد. كان كل شيء يسير وفقا للخطة حتى بضعة شهور حين لم يسع المشرف على الدورة الدراسية، جوزيف-لوي لاجرانج، أن يتجاهل براعة الإجابات التي يقدمها السيد لو بلو. ولم يكن الأمر يقتصر على البراعة المدهشة التي تشي بها إجابات السيد لو بلو، بل إنها كانت توضح أيضا تحولا كبيرا لطالب كان يشتهر من قبل بحساباته الشنيعة. طلب لاجرانج، الذي كان أحد أبرع علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر، اللقاء بالطالب الذي انصلح حاله، واضطرت جيرمان إلى الكشف عن هويتها الحقيقية. كان لاجرانج مذهولا ومسرورا بلقاء الفتاة الشابة وأصبح معلما لها وصديقا. وأخيرا، حظيت جيرمان بمعلم يلهمها، ويمكنها أن تكون صادقة معه بشأن مهاراتها وطموحها.
تطورت جيرمان سرا، وانتقلت من حل المسائل في دورتها الدراسية إلى دراسة مجالات غير مكتشفة في الرياضيات. والأهم من ذلك، أنها صارت مهتمة بنظرية الأعداد، وسمعت بالطبع عن مبرهنة فيرما الأخيرة. ظلت تعمل على المعضلة لسنوات عدة، إلى أن بلغت في النهاية مرحلة اعتقدت عندها أنها قد أحرزت تقدما مهما. كانت تحتاج إلى مناقشة أفكارها مع زميل متخصص في نظرية الأعداد، وقررت أن تختار الأفضل وتستشير أعظم متخصصي نظرية الأعداد في العالم، عالم الرياضيات الألماني كارل فريدريش جاوس.
يعرف جاوس بكونه أحد أبرع علماء الرياضيات الذين عاشوا على الإطلاق. فبينما أشار إي تي بيل إلى فيرما باسم «أمير الهواة»، أشار إلى جاوس باسم «أمير علماء الرياضيات». كانت جيرمان قد عرفته للمرة الأولى من خلال دراسة رائعة أعماله «استفسارات حسابية»، أهم الكتب واسعة النطاق منذ كتاب «العناصر» الذي ألفه إقليدس. كان لعمل جاوس تأثير في جميع مجالات الرياضيات، لكن الغريب أنه لم ينشر أي شيء قط عن مبرهنة فيرما الأخيرة. والأكثر من ذلك أنه قد عبر في إحدى رسائله عن ازدرائه للمسألة. كان صديقه عالم الفلك الألماني هاينريش أولبرز قد كتب لجاوس يشجعه للمنافسة على جائزة عرضتها أكاديمية باريس لمن يقدم حلا لتحدي فيرما: «إنني أرى يا عزيزي جاوس، أنه يجدر بك أن تهتم بهذا الأمر.» وبعد أسبوعين، أجابه جاوس: «إنني في غاية الامتنان لما سقته إلي من أخبار بشأن جائزة باريس. غير أنني أعترف بأن مبرهنة فيرما الأخيرة بصفتها افتراضا منفصلا، لا تكاد تعنيني على الإطلاق؛ إذ إنني أستطيع وضع الكثير جدا من الافتراضات، التي لا يستطيع المرء أن يثبتها ولا أن ينفي صحتها.» لجاوس الحق في إبداء رأيه بالطبع، لكن فيرما قد أعلن عن وجود برهان، وحتى المحاولات المتتالية التي باءت بالفشل في التوصل إلى برهان أنتجت أساليب مبتكرة، مثل البرهان بطريقة «التناقص اللانهائي» واستخدام الأعداد التخيلية. ربما كان جاوس قد حاول في الماضي وفشل في ترك أي بصمة على المعضلة، ولم يكن رده على أولبرز سوى تعبير عما يشعر به من المرارة الفكرية. غير أنه حين تلقى رسائل جيرمان، أبهره التقدم الذي أحرزته بالقدر الكافي؛ حتى إنه قد نسي مؤقتا، مشاعره المتناقضة بشأن مبرهنة فيرما الأخيرة.
قبل خمسة وسبعين عاما، كان أويلر قد نشر برهانه للحالة: ، وظل علماء الرياضيات منذ ذلك الوقت يحاولون هباء إثبات غيرها من الحالات الفردية. بالرغم من ذلك، فقد وضعت جيرمان استراتيجية جديدة، ووصفت لجاوس ما سمته بالنهج العام للمسألة. ومعنى هذا أن هدفها المباشر لم يكن إثبات حالة محددة بعينها، بل التوصل إلى استنتاج بشأن العديد من الحالات في الوقت نفسه. وفي رسالتها إلى جاوس، وضحت الخطوط العريضة لعملية حسابية تركز على نوع محدد من الأعداد الأولية:
p ؛ ومن ثم فإن ( ) هو أيضا من الأعداد الأولية. تتضمن قائمة جيرمان للأعداد الأولية العدد 5؛ لأن 11 (2 × 5 + 1) هو أيضا من الأعداد الأولية، لكنها لا تتضمن العدد 13؛ لأن 27 (2 × 13 + 1) ليس من الأعداد الأولية.
في الحالات التي تساوي فيها قيم
n
أعداد جيرمان الأولية، استخدمت جيرمان حجة بسيطة لتوضح أن الأرجح أنه لا توجد حلول للمعادلة: . وكانت جيرمان تعني بقولها «على الأرجح» أنه من غير المحتمل أن توجد حلول لأنه إذا كان ثمة حل؛ فإن
x
أو
y
أو
z ، ستكون من مضاعفات
n ، مما سيشكل قيدا مشددا للغاية على أي حلول. وقد درس زملاؤها قائمة الأعداد الأولية التي وضعتها عددا تلو الآخر في محاولة منهم لإثبات أنه لا يمكن أن تكون
x
أو
y
أو
z
من مضاعفات
n ؛ موضحين بذلك أنه لا يمكن أن توجد حلول للمعادلة في حالة تلك القيمة المحددة ل
n .
في العام 1825 وجدت طريقتها أول نجاح مكتمل بفضل جوستاف لوجون دركليه وأدريان-ماري ليجاندر، وهما اثنان من علماء الرياضيات يفصلهما جيل كامل. كان ليجاندر رجلا في السبعينيات من عمره قد عاش الاضطرابات السياسية للثورة الفرنسية. وقد أدى عدم تأييده لمرشح الحكومة للمؤسسة الوطنية إلى إيقاف معاشه، وكان معدما حين قام بإسهامه في مبرهنة فيرما الأخيرة. وعلى العكس من ذلك، كان دركليه شابا طموحا مختصا في نظرية الأعداد، لم يبلغ سوى العشرين من العمر. وقد تمكن كل منهما بمفرده من إثبات عدم وجود حلول للحالة: ، لكنهما أسسا برهانيهما على التقدم الذي أحرزته صوفي جيرمان، وإليها يدينان بالفضل في النجاح.
وبعد ذلك بأربعة عشر عاما، أحرز الفرنسيون تقدما آخر. ذلك أن جابرييل لاميه قد أضاف إلى طريقة جيرمان قبل خمسة وسبعين عاما إضافات بارعة، وأثبت المبرهنة في حالة العدد الأولي . لقد أوضحت جيرمان لعلماء نظرية الأعداد كيفية إثبات المبرهنة في حالات جزء كامل من الأعداد الأولية، وكان على زملائها أن يواصلوا جهودهم لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة حالة تلو الأخرى.
كان عمل جيرمان في مبرهنة فيرما الأخيرة ليصبح أعظم إنجازاتها في الرياضيات، غير أن الفضل لم ينسب إليها على هذا الإنجاز في البداية. فحين كتبت جيرمان إلى جاوس، كانت لا تزال في العشرينيات من عمرها، وبالرغم من أنها كانت قد اشتهرت في باريس، فقد خشيت ألا يأخذها الرجل العظيم على محمل الجد بسبب نوعها الاجتماعي. ومن أجل أن تحمي نفسها، لجأت جيرمان إلى اسمها المستعار مجددا، ووقعت رسائلها باسم السيد لو بلو.
تتضح خشيتها من جاوس واحترامها له في إحدى رسائلها إليه؛ إذ تقول فيها: «يؤسفني أن عمق قدراتي الذهنية لا يعادل نهم شهيتي، وأنا أشعر ببعض المجازفة في إزعاج رجل بهذه البراعة دون أن يكون لي أي حق في استرعاء انتباهه سوى الإعجاب الذي يكنه له جميع قرائه بالتأكيد.» ولما كان جاوس غافلا عن هوية مراسله الحقيقية، فقد حاول أن يهون على جيرمان فأجاب: «إنني سعيد بأن علم الحساب قد وجد فيك صديقا على هذا القدر من البراعة.»
كان من الممكن أن يظل إسهام جيرمان منسوبا إلى الأبد عن طريق الخطأ إلى السيد الغامض لو بلو، لولا الإمبراطور نابليون. في العام 1806، غزا نابليون بروسيا، وكان الجيش الفرنسي يجتاح مدينة ألمانية تلو الأخرى. وقد خشيت جيرمان أن يصيب القدر الذي وقع بأرشميدس، بطلها العظيم الآخر جاوس ويأخذ حياته؛ فبعثت برسالة إلى صديقها الجنرال جوزيف-ماري بيرنيتي، الذي كان مسئولا عن القوات المتقدمة. وطلبت منه أن يضمن سلامة جاوس؛ فأولى الجنرال عالم الرياضيات الألماني عناية خاصة، وشرح له أنه يدين بحياته للآنسة جيرمان. كان جاوس ممتنا ومندهشا في الوقت نفسه؛ إذ إنه لم يسمع قط بصوفي جيرمان.
انكشفت الخدعة. وفي الرسالة التالية، أعلنت جيرمان لجاوس عن هويتها الحقيقية ببعض التردد. لم يكن جاوس غاضبا من الخداع على الإطلاق، بل أجاب رسالتها بكل سرور:
وكيف أصف لك إعجابي ودهشتي برؤية مراسلي المحترم، السيد لو بلو، يتحول إلى هذه الشخصية العظيمة التي تعد مثالا رائعا لما كنت أجد أنه أمر يصعب تصديقه. إن الاهتمام بالعلوم المجردة في العموم، ولا سيما ألغاز الأعداد، هو أمر نادر للغاية، وليس ذلك مما يدهش المرء؛ فالمفاتن الساحرة لهذا العلم الجليل لا تتجلى إلا لمن يملكون الشجاعة على الخوض فيها بعمق. وحين تنجح سيدة، وهي تلاقي بسبب جنسها، وفقا لأعرافنا وتحيزاتنا، صعوبات أكثر مما يجده الرجال بكثير في سبيل تعليم نفسها هذه الأبحاث الشائكة، في تخطي هذه العقبات وسبر أغوار الأجزاء الأكثر غموضا منها، فلا بد أنها تتحلى بأنبل سمات الشجاعة وبمواهب استثنائية وعبقرية فائقة. ما من شيء يمكن أن يثبت لي بطريقة أجمل ولا أوضح أن مفاتن هذا العلم، التي أثرت حياتي بالكثير من مواطن السرور، ليست وهمية، وليس كذلك الولع الذي شرفته به.
ألهمت المراسلات التي دارت بين صوفي جيرمان وكارل جاوس، الكثير من أعمالها، غير أن هذه العلاقة انتهت فجأة في العام 1808. كان جاوس قد عين في منصب بروفيسور للفلك في جامعة جوتينجن، وتحول اهتمامه من نظرية الأعداد إلى مجالات الرياضيات التطبيقية، ولم يعد يعبأ بالرد على خطابات جيرمان. وبدون معلمها، بدأت ثقتها تضعف، وتخلت عن دراسة الرياضيات البحتة في غضون عام.
وبالرغم من أنها لم تقم بإسهامات أخرى في إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة، فقد بدأت حياة مهنية حافلة بالأحداث في مجال الفيزياء الذي ستتفوق فيه هو أيضا، إلى أن تواجهها تحيزات المؤسسة. كان أهم إسهاماتها في المجال هو ورقة بحثية بعنوان «مذكرة عن اهتزازات الصفائح المرنة»، وهو بحث يتسم بالرؤية الثاقبة على نحو بارع، وقد أرسى أسس نظرية المرونة الحديثة. ونتيجة لهذا البحث، إضافة إلى عملها على مبرهنة فيرما الأخيرة، حصلت صوفي على قلادة من معهد فرنسا، وأصبحت أول امرأة تحضر محاضرات أكاديمية العلوم دون أن تكون زوجة لأحد الأعضاء. وبعد ذلك قرابة نهاية حياتها، استعادت علاقتها مع كارل جاوس الذي أقنع جامعة جوتينجن أن تمنحها درجة شرفية. ومن المأساوي أن صوفي جيرمان قد ماتت بسرطان الثدي قبل أن تمنحها الجامعة هذا الشرف.
وبالنظر إلى جميع هذه العوامل، كانت جيرمان على الأرجح هي أكثر سيدة عميقة التفكير والثقافة قد ولدتها فرنسا. ومع ذلك، وبالرغم من غرابة الأمر، فحين أصدر الموظف الحكومي شهادة وفاة هذه السيدة البارزة التي كانت شريكة وزميلة في العمل لألمع أعضاء الأكاديمية الفرنسية للعلوم، وصفها بأنها
Rentière-Annuitant (سيدة عزباء غير عاملة) لا عالمة رياضيات. وليس هذا كل شيء. فحين أقيم برج إيفل، الذي اضطر المهندسين إلى أن يولوا عناية خاصة لمرونة المواد المستخدمة، نقش على هذا المبنى العظيم أسماء اثنين وسبعين من الحكماء. غير أن أحدا لن يجد في هذه القائمة اسم تلك الفتاة العبقرية، التي ساعدت أبحاثها مساعدة جمة في تأسيس نظرية مرونة المعادن: صوفي جيرمان. استثنيت من تلك القائمة للسبب نفسه الذي حرمت من أجله أنيزي من عضوية الأكاديمية الفرنسية؛ هل لأنها امرأة؟ يبدو أن الأمر كذلك. وإذا كان هذا هو السبب بالفعل؛ فسحقا لمن كانوا مسئولين عن ذلك الجحود تجاه تلك السيدة التي كانت تستحق من العلم تقديرا كبيرا، والتي حازت بإنجازاتها على مكانة تحسد عليها في قاعة المجد.
إتش جيه موزانس، 1913 (4) الأظرف المغلقة
بعد التقدم الذي أحرزته صوفي جيرمان، عرضت الأكاديمية الفرنسية للعلوم مجموعة من الجوائز تتضمن قلادة ذهبية و3000 فرانك لعالم الرياضيات الذي يتمكن أخيرا من وضع نهاية للغز مبرهنة فيرما الأخيرة. فعلاوة على المكانة التي سيحظى بها من يتمكن من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة، صارت توجد الآن جائزة قيمة للغاية مرتبطة بالتحدي. امتلأت صالونات باريس بالشائعات عمن يتبنى أي استراتيجية، ومدى اقترابه من إعلان نتيجة. وبعد ذلك، في الأول من مارس عام 1847، عقدت الأكاديمية أكثر اجتماعاتها إثارة على الإطلاق.
تصف وقائع هذا الاجتماع كيف أن جابرييل لاميه، الذي أثبت المبرهنة في الحالة:
قبل عدة سنوات، قد اعتلى المنصة أمام أعظم علماء رياضيات العصر، وأعلن أنه على وشك إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة. وقد أقر أن برهانه غير مكتمل بعد، لكنه قد وضع الخطوط العريضة لطريقته وتنبأ باستمتاع بأنه سيتمكن في غضون الأسابيع المقبلة من نشر برهانه في دورية الأكاديمية.
كان الجمهور بأكمله مذهولا، وفور أن غادر لاميه المنصة، طلب أوجستان لوي كوشي، وهو أيضا من أبرع علماء الرياضيات في باريس، الإذن بالحديث. أعلن كوشي للأكاديمية أنه كان يعمل على خطى مشابهة لخطى لاميه، وأنه قد صار أيضا على وشك نشر برهان كامل.
أدرك كوشي ولاميه كلاهما أن الوقت مهم للغاية. فمن يسبق بتقديم برهان مكتمل، سيحظى بأثمن جائزة في الرياضيات، وأرفعها مكانة. وبالرغم من أن أيا منهما لم يكن قد توصل إلى برهان مكتمل، فقد كان المتنافسان حريصين على التأكيد على حقهما بطريقة ما؛ ومن ثم فبعد ثلاثة أسابيع فقط من إعلانيهما، قدما أظرفهما المغلقة إلى الأكاديمية. وقد كانت تلك عادة شائعة في ذلك الوقت تمكن علماء الرياضيات من توثيق أعمالهم دون الإفصاح عن تفاصيلها الدقيقة. وإذا نشأ خلاف فيما بعد بشأن أصالة الأفكار، فإن أحد الأظرف المغلقة تفتح عندها لتوفير الدليل اللازم لتحديد الأسبقية.
تزايد الترقب على مدى أبريل إذ نشر كوشي ولاميه في وقائع الأكاديمية، تفاصيل مشوقة وغامضة من برهانهما. وبالرغم من أن المجتمع الرياضي بأكمله كان متلهفا للغاية لرؤية البرهان مكتملا، فقد كان العديد منهم يأملون سرا في أن يكون لاميه هو الفائز بالسباق وليس كوشي. لقد كان كوشي متعاليا ومتدينا متعنتا، وغير محبوب على الإطلاق بين زملائه. لقد كان زملاؤه في الأكاديمية يحتملونه من أجل براعته فحسب.
شكل 3-8: جابرييل لاميه.
بعد ذلك في الرابع والعشرين من مايو، صدر إعلان قد وضع نهاية للتخمين. لم يكن من تحدث أمام الأكاديمية كوشي ولا لاميه، بل جوزيف ليوفيل. صدم ليوفيل الجمهور بأكمله بقراءة محتويات خطاب من عالم الرياضيات الألماني، إرنست كومر.
كان كومر عالما في نظرية الأعداد من الطراز الرفيع، غير أن حسه الوطني العنيف الذي أشعلته كراهية نابليون قد أزاغه عن شغفه الحقيقي على مدى الجزء الأكبر من حياته المهنية. فحين كان كومر طفلا، غزا الجيش الفرنسي مسقط رأسه مدينة سورو، وجلب معه وباء التيفوس. كان والد كومر هو طبيب المدينة، وتوفي بالمرض في غضون أسابيع. ولما فجع كومر بهذه التجربة، فقد أقسم على أن يبذل قصارى جهده للدفاع عن بلده من أي هجمات أخرى، وفور أن تخرج في الجامعة، سخر قدراته الذهنية لمشكلة تخطيط مسارات قذائف المدافع. وقد انتهى به الحال إلى تدريس قوانين علم حركة المقذوفات في كلية برلين الحربية.
شكل 3-9: أوجستين كوشي.
شكل 3-10: إرنست كومر.
وبالتوازي مع حياته المهنية العسكرية، كان كومر يسعى بنشاط في مجال أبحاث الرياضيات البحتة، وصار مدركا تمام الإدراك للقصة الدائرة في الأكاديمية الفرنسية. كان قد قرأ الوقائع وحلل التفاصيل القليلة التي جرؤ كل من كوشي ولاميه على إعلانها. كان كومر يرى بوضوح أن كلا الفرنسيين متجهان نحو النهاية المسدودة المنطقية نفسها، وقد أوضح أسبابه في الخطاب الذي أرسله إلى ليوفيل.
كان كومر يرى أن المشكلة الجوهرية في برهاني كوشي ولاميه، هي أنهما كانا يعتمدان على استخدام خاصية من خصائص الأعداد تعرف باسم التحليل الفريد. تتمثل خاصية التحليل الفريد في وجود توليفة ممكنة واحدة من الأعداد الأولية يمكن ضربها معا لإنتاج أي عدد محدد. فمجموعة الأعداد الأولية الوحيدة التي تنتج العدد 18 على سبيل المثال هي:
18 = 2 × 3 × 3.
وبالطريقة نفسها، فإن التحليل الفريد للأعداد التالية يكون بالطرق التالية:
35 = 5 × 7,
180 = 2 × 2 × 3 × 3 ×5,
106260 = 2 × 2 × 3 × 5 × 7 × 11 ×23.
لقد اكتشف التحليل إلى العوامل في القرن الرابع قبل الميلاد على يد إقليدس الذي أثبت أنه ينطبق على جميع أعداد العد، وأوضح البرهان في الجزء التاسع من كتابه «العناصر». وحقيقة أن التحليل الفريد ينطبق على جميع أعداد العد، هي عنصر مهم في العديد من البراهين الأخرى، وهي تعرف اليوم باسم «المبرهنة الأساسية في الحساب».
للوهلة الأولى، يبدو أنه ما من سبب ينبغي أن يمنع كوشي ولاميه من الاعتماد على التحليل الفريد مثلما فعل المئات من علماء الرياضيات من قبلهما. غير أن برهانيهما كانا يتضمنان الأعداد التخيلية للأسف. وبالرغم من أن التحليل الفريد ينطبق على جميع الأعداد الحقيقية، فقد أوضح كومر أنه لا ينطبق بالضرورة مع وجود الأعداد التخيلية. وقد كان ذلك عيبا فادحا في رأيه.
ذلك أننا إذا اقتصرنا على استخدام الأعداد الحقيقية، فإن العدد 12 لا يمكن تحليله إلا إلى 2 × 2 × 3. أما عند استخدام الأعداد التخيلية في البرهان، فسوف يمكن تحليل العدد 12 على النحو التالي أيضا:
وفي هذا المثال، نجد أن (1 + ) عدد مركب، أي: توليفة من الأعداد الحقيقية والتخيلية. وبالرغم من أن عملية الضرب أكثر تعقيدا مما هي عليه في حالة الأعداد العادية، فإن وجود الأعداد المركبة يؤدي إلى وجود طرق إضافية لتحليل العدد 12. فمن الطرق الأخرى لتحليل العدد 12: (2 + ) × (2 − ). فلم يعد ثمة تحليل فريد، بل اختيار من ضمن طرق متعددة للتحليل.
إن فقدان التحليل الفريد قد أضر ببرهاني كوشي ولاميه إضرارا كبيرا، لكنه لم يحطمهما تماما بالضرورة. لقد كان من المفترض أنهما يثبتان عدم وجود حلول للمعادلة ، حيث
n
تمثل أي عدد أكبر من 2. ومثلما ناقشنا سابقا في هذا الفصل، ليس على البرهان سوى أن يثبت الحالات التي تمثل فيها
n
أعدادا أولية. وقد أوضح كومر إمكانية استعادة التحليل الفريد في العديد من قيم
n ، وذلك من خلال استخدام بعض التقنيات الإضافية. فعلى سبيل المثال، يمكن الاحتيال على مشكلة التحليل الفريد في حالات جميع الأعداد الأولية حتى الحالة . أما حالة العدد الأولي ، فلا يمكن التعامل معها بهذا القدر من السهولة. ومن بين الأعداد الأولية الأصغر من 100، كانت الحالتان: ، و ، من الحالات الغريبة أيضا. لقد صارت هذه الأعداد الأولية، التي تدعى بالأعداد الأولية غير المنتظمة، والتي توجد أيضا بين الأعداد الأولية المتبقية، هي العقبة التي تقف أمام وجود برهان مكتمل.
أوضح كومر أنه ما من عالم رياضيات معروف يمكنه أن يعالج هذه الأعداد الأولية غير المنتظمة مرة واحدة. بالرغم من ذلك، فقد كان يرى أنه يمكن التعامل مع جميع الأعداد الأولية غير المنتظمة كل على حدة، من خلال التصميم الدقيق لتقنيات تتناسب مع كل منها. والحق أن تصميم هذه التقنيات المخصصة عملية بطيئة وشاقة، والأسوأ أن عدد الأعداد الأولية غير المنتظمة لا نهائي. ومن ثم؛ فسيكون التخلص منها واحدا تلو الآخر مهمة تشغل المجتمع الرياضي بأكمله حتى نهاية الزمان.
كان لخطاب كومر تأثير مدمر للغاية على لاميه. وبالنظر إلى الوراء، اتضح أن افتراض التحليل الفريد كان مفرط التفاؤل على أفضل تقدير، ومندفعا في أسوأ تقدير. أدرك لاميه أنه كان من الممكن أن يكتشف خطأه في وقت أبكر، لو أنه كان أكثر انفتاحا بشأن عمله، وبعث لزميله ديركليه في برلين يقول: «لو أنك كنت في باريس، أو كنت أنا في برلين، لما حدث كل هذا.»
شعر لاميه بالإهانة، أما كوشي فقد رفض أن يقبل الهزيمة. لقد شعر بأن برهانه كان أقل اعتمادا على التحليل الفريد مقارنة ببرهان لاميه، وقد كان ثمة احتمال بأن يكون تحليل كومر معيبا إلى أن يخضع للمراجعة بالكامل. ظل لعدة أسابيع ينشر مقالات عن الموضوع، لكنه أيضا قد توقف بحلول الصيف.
لقد أوضح كومر أن وجود برهان مكتمل لمبرهنة فيرما الأخيرة، هو أمر يتجاوز النهج الرياضية الحالية. كان مقطوعة رائعة من المنطق الرياضي، لكنه ضربة هائلة لجيل بأكمله من علماء الرياضيات كانوا يأملون في أن يتمكنوا من حل أصعب مسألة رياضية في العالم بأكمله.
ولخص كوشي هذا الموقف عام 1857 حين كتب تقرير الأكاديمية الختامي بشأن جائزتها لمبرهنة فيرما الأخيرة:
تقرير عن المنافسة على الجائزة الكبيرة في علوم الرياضيات. حددت في المنافسة لعام 1853، وأرجئت إلى عام 1856.
إحدى عشرة مذكرة قد قدمت إلى الأمانة العامة. غير أن أيا منها لم يقدم حلا للسؤال المطروح. ومن ثم؛ فبعد مرات عديدة قد عرضت فيها الجوائز للإجابة عن السؤال، فإنه يظل حيث تركه السيد كومر. بالرغم من ذلك، يجدر بالعلوم الرياضية أن تهنئ نفسها على الأعمال التي قام بها علماء الهندسة رغبة منهم في حل السؤال، ولا سيما أعمال السيد كومر، ويعتقد المفوضون أنه سيكون قرارا مشرفا ومفيدا أن تستبعد الأكاديمية السؤال من المنافسة، وتمنح القلادة للسيد كومر تقديرا لأبحاثه الرائعة بشأن الأعداد المركبة التي تتألف من جذور الوحدة والأعداد الصحيحة.
على مدى ما يزيد على قرنين من الزمان، انتهت جميع المحاولات لإعادة اكتشاف برهان مبرهنة فيرما الأخيرة بالفشل. وفي سنوات مراهقته، درس أندرو وايلز أعمال أويلر وجيرمان وكوشي ولاميه، وأخيرا كومر. كان يأمل في أن يتعلم من أخطائهم، لكنه حين صار طالبا في جامعة أوكسفورد، واجه الحائط نفسه الذي واجهه كومر.
كان بعض معاصري وايلز بدءوا يشكون في أن المسألة قد تكون مستحيلة. فربما خدع فيرما نفسه، ومن ثم فالسبب في أن أحدا لم يتمكن من إعادة اكتشاف برهان فيرما هو أن ذلك البرهان غير موجود. وبالرغم من هذا التشكك، استمر وايلز في البحث عن برهان. لقد ألهمته معرفته بأن ثمة حالات عديدة في ماضي البراهين التي لم تكتشف أخيرا إلا بعد قرون من المحاولة. وفي بعض تلك الحالات، لم يكن وميض البصيرة الذي أدى إلى حل المشكلة يستند إلى المعارف الرياضية الحديثة، بل هو برهان كان من الممكن التوصل إليه قبل مدة طويلة.
شكل 3-11: نجد في هذين المخططين أن كل نقطة تتصل بجميع النقاط الأخرى بخطوط مستقيمة. فهل من الممكن رسم مخطط يتضمن كل خط مستقيم فيه ثلاث نقاط على الأقل؟
من أمثلة البراهين التي استعصت على الحل لعقود، «حدسية النقاط». وينطوي التحدي على مجموعة من النقاط التي تربطها بعضها ببعض خطوط مستقيمة، كرسوم النقاط الموضحة في الشكل
3-11 . تزعم الحدسية استحالة رسم مخطط من النقاط يوجد على كل خط مستقيم به ما لا يقل عن ثلاث نقاط، باستثناء المخطط الذي تكون النقاط فيه جميعها على خط واحد. يبدو هذا الزعم صحيحا بالفعل بعد التجربة على عدد من المخططات. ففي الشكل
3-11 (أ) على سبيل المثال، توجد خمس نقاط يتصل بعضها ببعض من خلال ست خطوط مستقيمة. وأربعة من هذه الخطوط لا توجد عليها ثلاث نقاط؛ ومن ثم فإن هذا المخطط لا يستوفي شرط وجود ما لا يقل عن ثلاث نقاط على جميع الخطوط. ومن خلال إضافة نقطة زائدة والخط المتصل بها، مثلما يرد في الشكل
3-11 (ب)، يقل عدد الخطوط الذي لا يتضمن ثلاث نقاط إلى ثلاثة خطوط فقط. غير أن محاولة تعديل المخطط أكثر من ذلك كي توجد على جميع الخطوط ثلاث نقاط، تبدو مهمة مستحيلة. وهذا لا يثبت بالطبع عدم وجود مثل ذلك المخطط.
شكل 3-12: بول ولفسكيل.
حاولت أجيال من علماء الرياضيات إيجاد برهان لحدسية النقاط التي تبدو حدسية مباشرة، لكن جميع هذه المحاولات قد باءت بالفشل. وما جعل حدسية النقاط أكثر إثارة للسخط هو أنه حين اكتشف أحد البراهين أخيرا، لم يكن ينطوي إلا على قدر ضئيل للغاية من المعرفة الرياضيات، مع قدر أكبر قليلا من التحايل. يرد هذا البرهان في الملحق 6.
كان ثمة احتمال بأن تكون جميع التقنيات اللازمة لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة، موجودة بالفعل، وأن العنصر الوحيد المفقود هو البراعة. لم يكن وايلز مستعدا للاستسلام؛ فقد تحول إيجاد برهان لمبرهنة فيرما الأخيرة من ولع الطفولة إلى هوس ناضج. وبعد أن تعلم وايلز كل ما يمكن تعلمه من رياضيات القرن التاسع عشر، قرر أن يتسلح بمعرفة تقنيات القرن العشرين.
الفصل الرابع
نحو التجريد
البرهان معبود يعذب الرياضي نفسه أمامه.
السير آرثر إدينجتون
بعد بحث إرنست كومر، بدت الآمال بشأن إيجاد برهان للمبرهنة الأخيرة أضعف من أي وقت مضى. علاوة على ذلك، كانت الرياضيات قد بدأت تنتقل إلى مجالات مختلفة من الدراسة، وكان ثمة مجازفة بأن يتجاهل الجيل الجديد من علماء الرياضيات ما كان يبدو أنه مشكلة لا حل لها. في بداية القرن العشرين، كانت المسألة لا تزال تحتل مكانة مميزة في قلوب علماء نظرية الأعداد، لكنهم كانوا ينظرون إلى مبرهنة فيرما الأخيرة، بالطريقة نفسها التي ينظر بها الكيميائيون إلى علم الكيمياء القديمة. كلاهما حلم رومانتيكي أحمق من زمن ماض.
وفي العام 1908، منح بول ولفسكيل، وهو رجل صناعة ألماني من مدينة دارمشتات، المسألة فرصة جديدة في الحياة. كانت عائلة ولفسكيل تشتهر بثرائها ورعايتها للآداب والعلوم، ولم يكن بول استثناء. كان قد درس الرياضيات في الجامعة، وبالرغم من أنه كرس الجزء الأكبر من حياته لبناء إمبراطورية الأعمال الخاصة بالعائلة، فقد ظل على تواصل مع علماء الرياضيات المحترفين، وظل يخوض بعض الشيء في نظرية الأعداد. لقد رفض ولفسكيل الاستسلام لمبرهنة فيرما الأخيرة تحديدا.
لم يكن ولفسكيل عالم رياضيات نابغا بأي حال من الأحوال، ولم يكن مقدرا له أن يقوم بإسهام كبير في إيجاد برهان لمبرهنة فيرما الأخيرة. بالرغم من ذلك، فبسبب سلسلة غريبة من الأحداث؛ أصبح مرتبطا بمسألة فيرما إلى الأبد، وصار مصدر إلهام للآلاف بأن يتصدوا للتحدي.
تبدأ القصة بافتتان ولفسكيل بامرأة جميلة لم تتأكد هويتها قط. ومن المؤسف أن هذه المرأة الغامضة قد رفضته؛ فصار في حالة من اليأس الشديد حتى إنه قرر الانتحار. لقد كان رجلا شغوفا، لكنه لم يكن أرعن، وخطط لموته بأدق التفاصيل. حدد تاريخا لانتحاره، وقرر أنه سيطلق الرصاص على نفسه في الرأس عند دقة الساعة في منتصف الليل. في الأيام المتبقية له أرسى جميع شئون عمله الناجح، وفي اليوم الأخير كتب وصيته وكتب الرسائل لجميع أصدقائه المقربين وأفراد عائلته.
كان ولفسكيل على درجة كبيرة من الكفاءة حتى إنه قد انتهى من كل شيء قبيل موعده النهائي المحدد في منتصف الليل، ولكي يسلي نفسه ريثما تنقضي الساعات ذهب إلى المكتبة وبدأ يستعرض المنشورات الرياضية. لم يمض وقت طويل حتى وجد نفسه محدقا في ورقة كومر الكلاسيكية التي تفسر سبب فشل كوشي ولاميه. كانت تلك الورقة من أفضل العمليات الحسابية في العصر، ومادة مناسبة للقراءة في اللحظات الأخيرة لعالم رياضيات ذي نزعة انتحارية. قرأ ولفسكيل العملية الحسابية سطرا تلو الآخر. وقد بهت فجأة مما بدا له فجوة منطقية: لقد ذكر كومر افتراضا ولم يقدم تسويغا لإحدى الخطوات في حجته المنطقية. تساءل ولفسكيل عما إذا كان قد كشف عن عيب خطير، أم أن افتراض كومر له ما يسوغه. إذا كان الاختيار الأول هو الصواب، فثمة احتمال بأن يكون إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة أسهل كثيرا مما افترض الكثيرون.
جلس وأخذ يستكشف ذلك الجزء غير المناسب من البرهان، وانهمك للغاية في وضع برهان مصغر كان سيرسخ حجة كومر أو يثبت أن افتراضه كان خاطئا، وفي هذه الحالة سيصير بحث كومر بأكمله باطلا. بحلول الفجر، كان قد انتهى من مهمته. أما الأخبار السيئة فيما يتعلق بالرياضيات فهي أن برهان كومر قد أصلح، وظلت المبرهنة الأخيرة بعيدة المنال. أما الأخبار الجيدة فهي أن الوقت المحدد للانتحار قد فات، وكان ولفسكيل فخورا للغاية بأنه اكتشف ثغرة منطقية في عمل العظيم إرنست كومر وصوبها، حتى إن مشاعر اليأس والأسى قد تلاشت . لقد جددت الرياضيات رغبته في الحياة.
مزق ولفسكيل خطابات الوداع التي كتبها، وأعاد كتابة وصيته على ضوء ما حدث في تلك الليلة. وعقب موته في العام 1908 قرئت الوصية الجديدة، وصدمت عائلة ولفسكيل إذ عرفت أن بول قد وهب جزءا كبيرا من ثروته لتكون جائزة لمن يتمكن من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة. كانت الجائزة التي بلغت 100000 مارك، أي ما يزيد على 1000000 جنيه إسترليني في الوقت الحالي، هي طريقته لرد الدين للأحجية التي أنقذت حياته.
وضعت النقود تحت تصرف «الجمعية الملكية للعلوم في جوتينجن» التي أعلنت المنافسة على جائزة ولفسكيل في ذلك العام نفسه:
بموجب السلطة التي منحنا إياها د. بول ولفسكيل، المتوفى في دارمشتات، فإننا نقدم جائزة قدرها مائة ألف مارك تمنح لأول من يثبت مبرهنة فيرما العظيمة.
ويجب اتباع القواعد التالية: (1)
تتمتع الجمعية الملكية للعلوم في جوتينجن بالحرية المطلقة في إصدار القرار بشأن من يمنح الجائزة. سترفض الجمعية قبول أي مخطوطة كان الهدف الوحيد من كتابتها هو دخول المسابقة للحصول على الجائزة. ولن تنظر الجمعية بعين الاعتبار إلا إلى المذكرات الرياضية التي ظهرت على هيئة أبحاث في الدوريات، أو تلك التي تطرح للبيع في المكتبات. وتطلب الجمعية من مؤلفي مثل هذه المذكرات إرسال ما لا يقل عن خمس نسخ مطبوعة. (2)
الأعمال المنشورة بلغة لا يفهمها المتخصصون الأكاديميون المعينون في لجنة التحكيم، سوف تستبعد من المسابقة. ويسمح لمؤلفي مثل هذه الأعمال بأن يستبدلوا بها ترجمات يضمنون تطابقها. (3)
الجمعية غير مسئولة عن فحص الأعمال التي لا تقدم إليها، ولا عن الأخطاء التي قد تنشأ عن حقيقة جهل الجمعية بمؤلف عمل ما، أو جزء من عمل. (4)
تحتفظ الجمعية بحق اتخاذ القرار في حالة أن يكون عدة أشخاص قد عالجوا حل المسألة، أو في حالة أن يكون الحل نتيجة جهود مجمعة لعدد من الباحثين، لا سيما فيما يتعلق بتقسيم الجائزة. (5)
لن تمنح الجمعية الجائزة إلا بعد عامين من نشر المذكرة التي ستفوز. والهدف من هذه الفترة البينية هو السماح لعلماء الرياضيات الألمان والأجانب بالتعبير عن آرائهم بشأن صحة الحل المنشور. (6)
فور أن تحدد الجمعية من ستمنحه الجائزة، ستخبر الأمانة العامة الفائز نيابة عن الجمعية، وسوف تنشر النتيجة أينما أعلنت الجائزة خلال العام السابق. ولن يكون قرار تخصيص الجائزة الذي اتخذته الجمعية موضوعا لأي مناقشات تالية. (7)
سيقدم مبلغ الجائزة إلى الفائز في الشهور الثلاثة التالية لإعلان الجائزة، عن طريق أمين الصندوق الملكي لجامعة جوتينجن، أو في أي مكان يحدده المتلقي، على أن يكون ذلك على مسئوليته الشخصية. (8)
يجوز تقديم مبلغ الجائزة مقابل إيصال وفقا لمشيئة الجمعية، ويمكن أن يكون ذلك نقدا أو بتحويل القيمة المالية. وتعتبر عملية دفع مبلغ الجائزة قد اكتملت عند تحويل هذه القيمة المالية، حتى إن كانت القيمة الإجمالية لا تبلغ حينها 100000 مارك. (9)
إذا لم يفز أحد بالجائزة حتى الثالث عشر من سبتمبر عام 2007، فلن تقبل أي مطالبة بها بعد ذلك.
تبدأ المنافسة على جائزة ولفسكيل من اليوم، وفقا للشروط السابقة.
جوتينجن، 27 يونيو 1908
الجمعية الملكية للعلوم
من الجدير بالذكر أن اللجنة ستمنح 100000 مارك لأول عالم رياضيات يثبت صحة مبرهنة فيرما الأخيرة، لكنها، لن تمنح بيفنجا واحدا لأي شخص قد يثبت خطأها.
أعلنت جائزة ولفسكيل في جميع دوريات الرياضيات، وراحت أخبار المنافسة تنتشر سريعا في جميع أنحاء أوروبا. وبالرغم من حملة الإعلان والحافز الإضافي المتمثل في الجائزة المالية الضخمة، فقد عجزت اللجنة عن إثارة قدر كبير من الحماس لدى علماء الرياضيات الجادين. كان غالبية علماء الرياضيات المحترفين ينظرون إلى مبرهنة فيرما الأخيرة باعتبارها قضية خاسرة، وقرروا أنهم لا يملكون أن يهدروا حيواتهم المهنية في العمل على مسعى عقيم. بالرغم من ذلك، فقد نجحت الجائزة في تقديم المعضلة إلى جمهور جديد تماما، حشد من أصحاب العقول المتحمسة الذين كانوا على استعداد لتكريس أنفسهم للأحجية الكبرى وأن يقتربوا منها من مسار البراءة التامة. (1) عصر الألغاز والأحجيات والطلاسم
منذ عصر اليونانيين وعلماء الرياضيات يسعون إلى إضافة طابع من الإثارة في كتبهم عن طريق صياغة البراهين والمبرهنات في صورة حلول لألغاز الأعداد. وفي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وجد هذا النهج الفكاهي في معالجة الموضوع طريقه إلى الصحافة الشعبية، وصارت ألغاز الأعداد توجد بجوار ألعاب الكلمات المتقاطعة وإعادة ترتيب الأحرف. وفي التوقيت المناسب، بدأ جمهور الألغاز الرياضية يتزايد، بينما أخذ الهواة يتأملون كل شيء، سواء أكان من أتفه الأحجيات أم من المعضلات الرياضية العميقة، مثل مبرهنة فيرما الأخيرة.
وربما يكون أغزر مؤلفي الأحجيات إنتاجا هو هنري دوديني الذي كان يكتب لعشرات الصحف والمجلات، ومنها «ذا ستراند» و«كاسلز» و«ذا كوين» و«تيت-بيتس» و«ذا ويكلي ديسباتش» و«بلايتلي». ومن مؤلفي الألغاز العظام في العصر الفيكتوري أيضا، المبجل تشارلز دودجسون، الذي كان محاضرا للرياضيات في كنيسة كرايست بأوكسفورد، والذي يشتهر باسم المؤلف لويس كارول. كرس دودجسون سنوات عديدة في تجميع مجموعة ضخمة من الألغاز تحت عنوان «كوريوسا ماثيماتيكا»، وبالرغم من أن السلسلة لم تكتمل، فقد كتب منها عدة أجزاء، ومنها «مسائل الوسادة».
أما مؤلف الأحجيات الأعظم من بينهم جميعا، فهو العبقري الأمريكي سام لويد (1841-1911)، الذي كان يحقق ربحا كبيرا في سنوات مراهقته بتأليف ألغاز جديدة، وإعادة ابتكار ألغاز قديمة. وقد ذكر في كتابه «سام لويد وألغازه: استعراض للسيرة الذاتية» أن بعضا من ألغازه الأولى قد ابتكرت لمالك السيرك وصاحب الحيل: بي تي بارنم:
قبل عدة سنوات، حين كان سيرك بارنم هو «أعظم استعراض على وجه الأرض» بحق، طلب مني صاحب الاستعراض الشهير أن أعد له سلسلة من أحاجي الجوائز لأغراض الدعاية. وقد أصبحت تشتهر على نطاق كبير باسم «أسئلة أبي الهول»، بسبب الجوائز الضخمة التي كانت تعرض لمن يتمكن من حلها.
من الغريب أن هذه السيرة الذاتية قد كتبت عام 1928، أي بعد وفاة لويد بسبعة عشر عاما. ورث سام دهاءه لابنه الذي كان هو أيضا يدعى سام، وهو المؤلف الفعلي للكتاب؛ إذ كان يعرف تمام المعرفة أن من يشتريه سيظن عن طريق الخطأ أن مؤلفه هو سام لويد الأب، الأكثر شهرة.
شكل 4-1: رسم كرتوني يعبر عن الهوس الذي سببته أحجية سام لويد «14-15».
كانت أشهر الأحجيات التي ابتكرها لويد، هي المعادل الفيكتوري لمكعب روبيك، الأحجية «14-15»، التي لا تزال توجد في متاجر الألعاب حتى اليوم. تتمثل هذه الأحجية في خمس عشرة بلاطة ترتب في شبكة مساحتها 4 × 4، والهدف هو زحلقة البلاط وإعادة ترتيبه على النحو الصحيح. كانت أحجية «14-15» التي ابتكرها لويد تباع بالترتيب الموضح في الشكل
4-1 ، وقد عرض جائزة قيمة لمن يتمكن من إكمال الأحجية بتبديل القطعتين «14» و«15» إلى موقعيهما الصحيحين من خلال أي مجموعة من حركات زحلقة قطع البلاط. كتب ابن لويد عن الضجة التي أحدثتها هذه الأحجية العملية وإن كانت أحجية رياضية في جوهرها:
فالجائزة التي تبلغ قيمتها 1000 دولار، والتي عرضت لأول من يتمكن من تقديم الحل الصحيح، لم تؤخذ قط، بالرغم من أن آلاف الأشخاص قالوا إنهم تمكنوا من تحقيق الحركة المطلوبة. صار الناس مهووسين بالأحجية، وثمة حكايات هزلية عن أصحاب متاجر قد غفلوا عن فتح متاجرهم، وعن قس شهير قد وقف تحت أحد مصابيح الشارع في ليلة شتوية في محاولة لتذكر الطريقة التي نفذ بها الحركة. إن السمة المميزة لهذه الأحجية هو أن أحدا لا يستطيع على ما يبدو تذكر سلسلة الحركات التي يكونون على يقين من أنهم قد نجحوا في حل الأحجية باستخدامها. يحكى أن طيارين قد حطموا طائراتهم، ومهندسين قد اندفعوا بقطاراتهم بعد المحطة. ويحكي أحد محرري بالتيمور المشهورين كيف أنه قد ذهب لتناول غدائه في فترة الظهيرة، ليجده طاقم عمله المهتاج بعد منتصف الليل، وهو يدفع قطعا صغيرة من فطيرته على الطبق.
كان لويد واثقا على الدوام من أنه لن يضطر أبدا إلى دفع الألف دولار؛ لأنه كان يعرف استحالة تبديل قطعتين فقط دون تدمير الترتيب في أماكن أخرى في الأحجية. فبالطريقة نفسها التي يستطيع الرياضي أن يستخدمها لإثبات عدم وجود حل لمعادلة معينة، استطاع لويد إثبات عدم وجود حل لأحجيته «14-15».
بدأ برهان لويد بتحديد كمية تقيس حجم الاضطراب في أحجيته، وهي معامل الاضطراب . يعرف معامل الاضطراب في أي شكل محدد بأنه عدد أزواج البلاط الموجودة في الترتيب الخاطئ، ومثلما يتضح في الشكل
4-2 (
a )، فإن ، بسبب عدم وجود أي من قطع البلاط في الترتيب الخاطئ.
إذا بدأنا بالأحجية المرتبة، ثم حركنا قطع البلاط من أماكنها، فسوف يكون من السهل نسبيا أن نصل إلى الترتيب الموضح في الشكل
4-2 (
b ). نجد أن قطع البلاط في أماكنها الصحيحة إلى أن نصل إلى القطعة رقم 11 والقطعة رقم 12. من الواضح أن القطعة رقم 11 يجب أن تأتي قبل القطعة رقم 12؛ ومن ثم فإن هذين الزوجين من البلاط موضوعان بالترتيب الخاطئ. والقائمة الكاملة لأزواج البلاط الموضوع بالترتيب الخاطئ هي كما يلي: (12، 11) و(15، 13) و(15، 14) و(15، 11) و(13، 11) و(14، 11). ونظرا إلى وجود ستة أزواج من البلاط في الترتيب الخاطئ في هذا الشكل، فإن . لاحظ أن القطعتين 10 و12 متجاورتان، وهو غير صحيح بالطبع، لكنهما ليستا في الترتيب الخاطئ. ولهذا؛ فإن هذا الزوج من البلاط لا يدخل في معامل الاضطراب.
وبعد القليل من تحريك قطع البلاط، نصل إلى التوليفة الموضحة في الشكل
4-2 (
c ). وإذا جمعنا قائمة بأزواج البلاط الموجودة في الترتيب الخاطئ، فسوف نجد أن . والأمر المهم الذي ينبغي ملاحظته هو أن قيمة معامل الاضطراب في جميع هذه الحالات (
a ) و(
b ) و(
c )، عدد زوجي: (0 و6 و12). والحق أنك إذا بدأت بالتوليفة الصحيحة وواصلت إعادة ترتيبها، فسوف تجد أن هذه العبارة صحيحة على الدوام. ما دام الحال ينتهي بالمربع الفارغ في أسفل الركن الأيمن، فإن أي مقدار من تحريك قطع البلاط سينتج لنا على الدوام قيمة زوجية ل . والقيمة الزوجية لمعامل الاضطراب هي خاصية جوهرية لأي توليفة مشتقة من التوليفة الأصلية الصحيحة. وفي الرياضيات، تعرف الخاصية التي تنطبق صحتها بصرف النظر عن أي شيء قد يجرى على الجسم، باسم «الثابت».
شكل 4-2: من خلال تحريك قطع البلاط، يمكن تشكيل العديد من التوليفات المضطربة. ويمكن قياس كمية الاضطراب في كل توليفة منها من خلال معامل الاضطراب .
بالرغم من ذلك، إذا تفحصنا التوليفة التي كان لويد يبيعها، والتي قد بدلت فيها القطعتان 14 و15، فسوف نجد أن معامل الاضطراب ، أي إن الزوجين الوحيدين من قطع البلاط الذي يقع في غير ترتيبه الصحيح هما الزوجان 14 و15. إن قيمة معامل الاضطراب في توليفة لويد عدد فردي! غير أننا نعرف أن قيمة معامل الاضطراب في أي توليفة مشتقة من التوليفة الصحيحة لا بد أن تكون عددا زوجيا. نستنتج من ذلك أن توليفة لويد ليست مشتقة من التوليفة الصحيحة، وفي المقابل، من المحال أن نعيد توليفة لويد إلى الشكل الصحيح؛ لقد كانت الألف دولار التي أعلنها لويد جائزة في أمان.
إن أحجية لويد ومعامل الاضطراب يوضحان فعالية الثابت. والثوابت توفر لعلماء الرياضيات استراتيجية مهمة لإثبات استحالة تحويل شيء إلى شيء آخر. فمن المجالات التي تسترعي كثيرا من الاهتمام في الوقت الحالي، دراسة العقد، ويهتم منظرو العقد بالطبع بمحاولة إثبات ما إذا كان من الممكن تحويل عقدة إلى عقدة أخرى من خلال الجدل أو تكوين الحلقات لكن دون القطع. ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال، يحاولون إيجاد خاصية في العقدة الأولى لا يمكن تدميرها مهما زاد مقدار الجدل وتكوين الحلقات، أي ثابت العقدة. وبعد ذلك، يقومون بحساب قيمة هذه الخاصية نفسها في العقدة الثانية. إذا كانت هذه القيمة مختلفة؛ فسوف يكون الاستنتاج هو استحالة الانتقال من العقدة الأولى إلى العقدة الثانية.
حتى ابتكار هذا الأسلوب في عشرينيات القرن العشرين على يد كيرت ريديمستر، لم يكن من الممكن إثبات استحالة تحويل عقدة إلى أي عقدة أخرى. ومعنى هذا أنه قبل اكتشاف ثوابت العقد، لم يكن من الممكن إثبات أن العقدة المزدوجة سهلة الفك تختلف اختلافا جوهريا عن العقدة الشراعية أو عن النصف العقدة، أو حتى عن حلقة بسيطة ليس بها أي عقدة على الإطلاق. إن مفهوم الخاصية الثابتة مفهوم جوهري في العديد من البراهين الرياضية الأخرى، ومثلما سنرى في الفصل الخامس، فإنه سوف يعيد مبرهنة فيرما الأخيرة إلى تيار الرياضيات مرة أخرى.
بحلول نهاية القرن، صار هناك بسبب أمثال سام لويد وأحجيته «14-15»، الملايين من هواة حل المشكلات في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الذين يتطلعون بنهم إلى التحديات الجديدة. وفور أن وصلت أنباء إرث ولفسكيل إلى هؤلاء الرياضيين الناشئين، صارت مبرهنة فيرما الأخيرة هي أشهر معضلات العالم من جديد. لقد كانت المبرهنة الأخيرة أكثر تعقيدا من أصعب أحجيات لويد على نحو لا نهائي، لكن الجائزة كانت أعظم كثيرا. كان الهواة يحلمون بأن يتمكنوا من التوصل إلى خدعة سهلة تكون قد غفل عنها أساتذة الماضي العظام. كان هواة القرن العشرين يتعادلون مع بيير دو فيرما إلى حد كبير فيما يتعلق بالمعرفة بالأساليب الرياضية. غير أن التحدي كان يتمثل في مجاراة البراعة التي استخدم بها فيرما أساليبه.
في غضون أسابيع قليلة من إعلان جائزة ولفسكيل، انهال على جامعة جوتينجن سيل من المشاركات. ولا غرو أن جميع البراهين كانت مغلوطة. وبالرغم من أن جميع المشاركين في المسابقة كانوا مقتنعين بأنهم حلوا هذه المعضلة التي يعود تاريخها لقرون، فقد ارتكبوا جميعا في حججهم المنطقية، أخطاء خفية أو غير خفية في بعض الأحيان. إن فن نظرية الأعداد يتسم بدرجة كبيرة من التجريد، حتى إنه من السهل للغاية أن ينحرف المرء عن المسار المنطقي دون أن يعي انحرافه ذاك على الإطلاق. ويوضح الملحق 7 أمثلة على الأخطاء الكلاسيكية التي يسهل على الهواة المتحمسين أن يغفلوا عنها.
وبصرف النظر عن هوية مرسل البرهان، كان يجب مراجعة كل منها بدقة، تحسبا لأن يكون أحد الهواة المجهولين قد توصل إلى البرهان الأكثر طلبا في الرياضيات. كان رئيس قسم الرياضيات في جامعة جوتينجن في المدة بين 1909 و1934 هو البروفيسور إدموند لاندو، وكان فحص المشاركات في جائزة ولفسكيل من مسئولياته. وجد لاندو أن أبحاثه تقاطع باستمرار لاضطراره إلى فحص العشرات من البراهين المغلوطة التي تصل إلى مكتبه كل شهر. وللتكيف مع هذا الوضع، ابتكر البروفيسور وسيلة بارعة للتخفيف من عبء هذا العمل. لقد طبع مئات البطاقات التي ورد فيها ما يلي:
العزيز ...
شكرا على مخطوطتك بشأن برهان مبرهنة فيرما الأخيرة.
الخطأ الأول يرد في:
الصفحة ... السطر ...
وهذا يبطل البرهان.
البروفيسور إي إم لاندو
كان لاندو بعد ذلك يعطي كل مشاركة جديدة مع بطاقة إلى أحد طلابه ويطلب منه أن يملأ الفراغات.
تتابعت المشاركات بلا انقطاع على مدى سنوات، حتى بعد الانخفاض الكبير لقيمة جائزة ولفسكيل نتيجة للتضخم المفرط الذي تلا الحرب العالمية الأولى. ثمة شائعات تقول بأن من يفوز في المنافسة اليوم، لن تكفيه نقود الجائزة إلا في شراء كوب من القهوة، غير أن هذه المزاعم تبالغ بعض الشيء. فثمة خطاب قد كتبه د. إف شليكتينج الذي كان مسئولا عن التعامل مع المشاركات في سبعينيات القرن العشرين، يشرح أن قيمة الجائزة في ذلك الوقت كانت لا تزال تبلغ ما يزيد على 10000 مارك. وهذا الخطاب الذي كان قد كتب إلى باولو ريبينبويم، ونشر في كتابه «ثلاث عشرة محاضرة عن مبرهنة فيرما الأخيرة»، يقدم رؤية فريدة بشأن عمل لجنة ولفسكيل:
سيدي العزيز
لم يحص العدد الإجمالي ل «الحلول» المقدمة حتى الآن. في العام الأول (1907-1908) سجل 621 حلا في ملفات الأكاديمية، واليوم قد خزنوا ما يقرب من ثلاثة أمتار من المراسلات بشأن معضلة فيرما. في العقود الأخيرة، كان التعامل معها يجري على النحو التالي: تقسم الأكاديمية المخطوطات الواردة إلى ما يلي: (1)
هراء مطلق يرد إلى المرسل على الفور. (2)
محتوى يبدو شبيها بالرياضيات.
يعطى الجزء الثاني إلى قسم الرياضيات، وهناك تحال مهمة القراءة والكشف عن الأخطاء والإجابة إلى أحد المساعدين العلميين (وهؤلاء في الجامعات الألمانية، هم خريجون يعملون لنيل درجة الدكتوراه) وأنا هذه الضحية في الوقت الحالي. ثمة ثلاث رسائل أو أربع للرد عليها كل شهر، وهي تحوي الكثير من المواد الطريفة والغريبة، منها على سبيل المثال ذلك الشخص الذي أرسل النصف الأول من حله ووعد بالنصف الآخر إذا دفعنا له 1000 مارك ألماني مقدما، أو ذلك الآخر الذي وعدني بمقدار 1٪ من أرباحه من المنشورات واللقاءات الإذاعية والتليفزيونية بعد أن يشتهر، على شرط أن أدعمه الآن، وإلا، فقد هدد هو بإرساله إلى أحد أقسام الرياضيات الروسية ليحرمنا من مجد اكتشافه. وبين الحين والآخر، يحضر شخص إلى جوتينجن ويصر على المناقشة بصفة شخصية.
إن «الحلول» كلها تقريبا مكتوبة بمستوى بدائي للغاية (باستخدام مفاهيم رياضية في مستوى المدارس الثانوية، وربما بعض الأوراق البحثية في نظرية الأعداد التي قرئت ولم تفهم)، غير أنها مع ذلك يمكن أن تستعصي على الفهم. من الناحية الاجتماعية، غالبا ما يكون المرسلون أشخاصا قد تلقوا تعليما فنيا لكنهم فشلوا في بناء حياة مهنية، ويحاولون تحقيق النجاح ببرهان لمعضلة فيرما. لقد عرضت بعض المخطوطات على أطباء شخصوا كاتبوها بحالة متقدمة من الفصام.
لقد كان أحد الشروط في وصية ولفسكيل الأخيرة أن تنشر الأكاديمية إعلان الجائزة سنويا في دوريات الرياضيات الأساسية. غير أن الدوريات قد صارت ترفض نشر الإعلان بعد السنوات الأولى؛ إذ كانت تنهال عليها الرسائل المجنونة والمخطوطات.
أرجو أن تكون هذه المعلومات مفيدة لك.
المخلص لك
إف شليكتينج
ومثلما يذكر د. شليكتينج، فإن المتسابقين لم يكتفوا بإرسال «حلولهم» إلى الأكاديمية. بل إن جميع أقسام الرياضيات في جميع أنحاء العالم تحوي على الأرجح خزانة من البراهين المزعومة التي أرسلها الهواة. وبينما تتجاهل معظم هذه المؤسسات براهين الهواة، فإن بعض متلقيها قد تعاملوا معها بطرق أكثر ابتكارا. فيذكر الكاتب في مجال الرياضيات، مارتن جاردنر، أن صديقا له كان يرد على الخطاب برسالة يشرح فيها أنه ليس أهلا لمراجعة البرهان. ولهذا؛ فإنه يقدم له اسما وعنوانا لخبير في المجال يستطيع مساعدته، ويرسل له بيانات آخر هاو قد أرسل له برهانا. ويذكر أن صديقا آخر كان يكتب: «لدي تفنيد رائع لمحاولتك هذه في البرهان، لكن من سوء الحظ أن هذه الصفحة ليست كبيرة بالقدر الذي يتسع له.»
وبالرغم من أن هواة الرياضيات في جميع أنحاء العالم قضوا هذا القرن في محاولات فاشلة لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة والفوز بجائزة ولفسكيل، فإن المحترفين قد استمروا إلى حد بعيد في تجاهل المعضلة. وبدلا من البناء على أعمال كومر وغيره من علماء الأعداد في القرن التاسع عشر، بدأ علماء الرياضيات في دراسة أساسات العلم من أجل معالجة بعض الأسئلة الأكثر جوهرية بشأن الأعداد. وقد حاول بعض من أعظم الشخصيات في القرن العشرين، ومنهم برتراند راسل وديفيد هيلبت وكورت جودل، فهم بعض الخصائص الأكثر جوهرية للأعداد، وذلك من أجل فهم معناها الحقيقي ومعرفة الأسئلة التي تستطيع نظرية الأعداد الإجابة عنها، والأهم من ذلك تلك التي لا تستطيع الإجابة عنها. وقد أدت أعمالهم إلى زعزعة أساسات الرياضيات، وكان لها بالطبع في نهاية المطاف انعكاسات على مبرهنة فيرما الأخيرة. (2) أسس المعرفة
على مدى مئات الأعوام، ظل علماء الرياضيات منشغلين باستخدام البرهان المنطقي لاستنتاج المجهول من المعلوم. وقد كان التقدم مذهلا مع كل جيل جديد من علماء الرياضيات الذين يتوسعون في بنائهم العظيم ويبتكرون مفاهيم عددية وهندسية جديدة. غير أنه مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر، بدأ علماء المنطق الرياضي ينصرفون عن التطلع إلى الأمام، وراحوا بدلا من ذلك يراجعون أسس الرياضيات التي بني عليها كل شيء. لقد كانوا يرغبون في التحقق من مبادئ الرياضيات وأن يعيدوا بناء كل شيء من المبادئ الأولى بصرامة شديدة، كي يتأكدوا بأنفسهم أن تلك المبادئ الأولى جديرة بالثقة.
يشتهر علماء الرياضيات بسمعتهم السيئة في التمسك الشديد بالحصول على برهان مطلق قبل قبول أي ادعاء. ويعبر أيان ستيوارت عن هذه السمعة بوضوح في قصة ترد في كتابه «مفاهيم الرياضيات الحديثة».
يقال إن عالم فلك وعالم فيزياء وعالم رياضيات كانوا يقضون عطلة في اسكتلندا. وحين أطلوا من نافذة القطار، رأوا خروفا أسود. فقال عالم الفلك: «يا له من أمر مثير للاهتمام أن تكون جميع الخراف الاسكتلندية سوداء!» فأجاب عليه عالم الفيزياء قائلا: «كلا، كلا! «بعض» الخراف الاسكتلندية سوداء!» أما عالم الرياضيات، فقد نظر نحو السماء في تضرع ثم قال مترنما: «يوجد في اسكتلندا حقل واحد على الأقل، وبه خروف واحد على الأقل، «وأحد جانبيه على الأقل أسود اللون».»
والأكثر صرامة من علماء الرياضيات العاديين، هم علماء الرياضيات الذين يتخصصون في دراسة المنطق الرياضي. وقد بدأ علماء المنطق الرياضي في التشكيك في الأفكار التي اتخذها غيرهم من علماء الرياضيات من المسلمات على مدى قرون. فعلى سبيل المثال، ينص قانون الانقسام الثلاثي على أن الأعداد جميعها إما سالبة أو موجبة أو صفر. يبدو هذا واضحا، وقد افترض علماء الرياضيات ضمنيا أنه صحيح، لكن أحدا لم يعبأ قط بإثبات أن ذلك هو الصحيح فعليا. وقد أدرك علماء المنطق أن قانون الانقسام الثلاثي قد يكون خاطئا إلى أن يتوفر برهان على صحته، وإن اتضح أنه خاطئ بالفعل، فسوف ينهار صرح كامل من المعرفة، وسينهار كل شيء قد بني على هذا القانون. من حسن حظ علماء الرياضيات أن قانون الانقسام الثلاثي قد أثبتت صحته في نهاية القرن الماضي.
منذ عصر اليونانيين القدماء والرياضيات تراكم المزيد والمزيد من المبرهنات والحقائق، وبالرغم من أن معظمها قد أثبت بدقة، كان علماء الرياضيات قلقين من أن يكون بعضها قد تسلل دون أن يخضع للفحص الدقيق. فبعض الأفكار أصبحت جزءا من الثقافة الشعبية، ولا أحد متيقن في حقيقة الأمر من الكيفية التي أثبتت بها في الأصل، هذا إن كانت قد أثبتت بالفعل؛ ومن ثم قرر علماء المنطق إثبات جميع المبرهنات من المبادئ الأولى. بالرغم من ذلك، فقد كان لا بد من استنتاج هذه الحقائق من حقائق أخرى. وكان ينبغي إثبات تلك الحقائق بدورها من حقائق أخرى أكثر جوهرية، وهكذا دواليك. وفي نهاية المطاف، وجد علماء المنطق أنهم يتعاملون مع بضعة من الادعاءات الأساسية التي كانت جوهرية للغاية، حتى إنه لم يكن من الممكن إثباتها. وهذه الافتراضات الجوهرية هي مسلمات الرياضيات.
ومن أمثلة هذه المسلمات «قانون الإبدال في الجمع»، الذي ينص على أنه في حالة أي عددين
m
و
n :
تعد هذه المسلمة وذلك العدد القليل من المسلمات الأخرى أمورا بديهية، ويمكن اختبارها عن طريق تطبيقها على أعداد محددة. وقد اجتازت المسلمات حتى الآن جميع الاختبارات، وقبلت بصفتها الأساس للرياضيات. وتمثل التحدي الكامن أمام علماء المنطق في إعادة بناء الرياضيات من هذه المسلمات. وفي الملحق 8، نوضح مجموعة المسلمات الحسابية، ونقدم نبذة عن الطريقة التي بدأ بها علماء المنطق في مهمة إعادة بناء بقية الرياضيات.
شارك فيلق من علماء المنطق في العملية البطيئة الشاقة المتمثلة في إعادة بناء هيكل المعرفة الرياضية شديد التعقيد باستخدام الحد الأدنى من المسلمات. وكان الهدف من ذلك هو ترسيخ ما كان علماء الرياضيات يعتقدون أنهم يعرفونه بالفعل باستخدام معايير المنطق شديدة الصرامة فحسب. لخص عالم الرياضيات الألماني، هيرمان فايل، المزاج السائد في هذا العصر بقوله: «المنطق هو عادات النظافة الشخصية التي يمارسها عالم الرياضيات للحفاظ على أفكاره قوية وفي صحة جيدة.» وإضافة إلى تطهير ما كان معروفا، كان ثمة أمل بأن يلقي هذا النهج المعني بالأصول، بعض الضوء على المعضلات التي لم تحل بعد، ومنها مبرهنة فيرما الأخيرة.
لقد تصدر هذا البرنامج أبرز شخصيات ذلك العصر، ديفيد هيلبرت. كان هيلبرت يعتقد أنه يمكن إثبات كل شيء في الرياضيات بناء على هذه المسلمات الأساسية، وأن هذا هو ما ينبغي فعله. وسينتج عن هذا إثبات العنصرين الأهم في النظام الرياضي على نحو حاسم. أول هذين العنصرين هو أن الرياضيات ينبغي أن تكون قادرة على الإجابة عن جميع الأسئلة دون استثناء، وإن كان ذلك نظريا على الأقل، وذلك هو سمت الاكتمال نفسه الذي استلزم في الماضي ابتكار أعداد جديدة كالأعداد السالبة والأعداد التخيلية. وثاني هذين العنصرين هو أن الرياضيات يجب أن تكون خالية من أي تضارب، أي إنه إذا أثبتت صحة إحدى العبارات بطريقة ما، فلا يمكن إثبات خطأ العبارة نفسها باستخدام طريقة أخرى. لقد كان هيلبرت مقتنعا بأن افتراض عدد قليل فقط من المسلمات سيتيح إمكانية الإجابة عن أي سؤال رياضي يمكن تخيله دون خشية التناقض.
وفي الثامن من أغسطس عام 1900، ألقى هيلبرت خطبة تاريخية في المؤتمر الدولي لعلماء الرياضيات في باريس. طرح هيلبرت ثلاثا وعشرين مسألة رياضية لم تحل بعد كان يعتقد أنها ذات أهمية بالغة. كان بعض هذه المسائل يتعلق بمجالات عامة في الرياضيات، لكن أغلبها كان يركز على الأسس المنطقية للعلم. كان الهدف من هذه المسائل هو تركيز انتباه عالم الرياضيات عليها وتوفير برنامج للبحث. كان هيلبرت يرغب في تحفيز المجتمع الرياضي على مساعدته في تحقيق رؤيته لتأسيس نظام رياضي خال من الشك والتضارب، وهو الطموح الذي عبر عنه بنقش على شاهد قبره، يقول:
Wir müssen wissen,
Wir werden wissen.
أي: لا بد أن نعرف،
وسوف نعرف.
بالرغم من أن جوتلوب فريجه كان منافسا لدودا لهيلبرت في بعض الأحيان، فقد كان أحد المنارات الرائدة فيما يدعى ببرنامج هيلبرت. لقد كرس فريجه حياته على مدى أكثر من عقد من الزمان لاشتقاق المئات من المبرهنات من المسلمات البسيطة، وقد قاده نجاحه إلى الاعتقاد بأنه في طريقه إلى إكمال جزء كبير من حلم هيلبرت. ومن الإنجازات المهمة التي حققها فريجه وضع تعريف للعدد. فما الذي نعنيه تحديدا بالعدد 3 على سبيل المثال؟ وقد اتضح أنه من أجل تعريف العدد 3، كان على فريجه أن يعرف «الثلاثية» أولا.
و«الثلاثية» هي السمة المجردة التي تعزى إلى التوليفات أو المجموعات التي تضم ثلاثة أشياء. فيمكن أن تستخدم «الثلاثية» لوصف مجموعة الفئران العمياء المذكورة في أغنية الروضة الشهيرة على سبيل المثال، وهي ملائمة بالقدر نفسه لوصف مجموعة الأضلاع الثلاثة الموجودة في المثلث. لاحظ فريجه وجود العديد من المجموعات التي تتسم بصفة «الثلاثية»، واستخدم فكرة المجموعات لوصف العدد «3» نفسه. لقد ابتكر مجموعة جديدة وضم إليها جميع المجموعات التي تتسم بصفة «الثلاثية»، وأطلق على هذه المجموعة الجديدة التي تضم المجموعات «3». ومن ثم؛ فإن المجموعة تحتوي على ثلاثة أعداد في حالة واحدة فقط، وهي أن تقع ضمن المجموعة «3».
شكل 4-3: ديفيد هيلبرت.
وقد يبدو هذا التعريف معقدا للغاية لأن يكون تعريفا لمفهوم نستخدمه كل يوم، لكن تعريف فريجه للعدد «3» دقيق ويقيني، وهو ضروري تماما لبرنامج هيلبرت الصارم.
في عام 1902، بدا أن معاناة فريجه في طريقها إلى الانتهاء؛ إذ راح يعد لنشر «القوانين الأساسية لعلم الحساب»، وهو كتاب ضخم ثقة يتألف من جزأين كان الهدف منه هو وضع معيار جديد لليقين في الرياضيات. وفي الوقت نفسه، توصل عالم المنطق الإنجليزي، برتراند راسل، الذي كان يسهم هو أيضا في مشروع هيلبرت العظيم، إلى اكتشاف مدمر. فبالرغم من اتباع بروتوكول هيلبرت الصارم، فإنه قد صادف حالة من التضارب. وقد ذكر راسل ردة فعله تجاه ذلك الإدراك المروع بأن الرياضيات قد تكون متناقضة في جوهرها:
لقد ظننت في بادئ الأمر أنني سأتمكن من التغلب على التناقض بسهولة، وأن ثمة خطأ تافها في التبرير المنطقي على الأرجح. بالرغم من ذلك، فقد اتضح تدريجيا أن ذلك ليس صحيحا ... على مدى النصف الثاني من العام 1901، كنت أفترض أن الحل سيكون سهلا، لكنني توصلت بنهاية ذلك الوقت إلى أنه سيكون مهمة صعبة ... صار من عاداتي أن أتفكر فيما هو شائع كل ليلة من الحادية عشرة إلى الواحدة، وبحلول ذلك الوقت تمكنت من معرفة الأصوات الثلاثة التي تصدرها طيور السبد. (معظم الناس لا يعرفون إلا واحدا.) كنت أحاول بجد لحل التناقض. كنت أجلس كل صباح أمام صفحة خالية من الورق. وأحدق في هذه الورقة على مدى اليوم بأكمله إلا من مدة قصيرة للغداء. وغالبا ما كانت تظل فارغة بحلول المساء.
لم يكن ثمة مهرب من التناقض. وقد تسبب عمل راسل في ضرر كبير لحلم تأسيس نظام رياضي خال من الشك والتضارب والمفارقات. بعث بخطاب إلى فريجه الذي كانت مخطوطة كتابه لدى الناشر بالفعل. وقد جعل هذا الخطاب من العمل الذي أنفق فيه فريجه حياته، عملا عديم القيمة في حقيقة الأمر، لكنه نشر كتابه «القوانين الأساسية لعلم الحساب» بالرغم من تلك الضربة القاضية، واكتفى بإضافة تذييل في الجزء الثاني: «ليس أبغض على العالم من أن ينقض الأساس فور أن ينتهي من العمل. وقد وجدت نفسي في هذا الوضع إذ تلقيت خطابا من السيد برتراند راسل، بعد أن كان الكتاب قد أوشك على الخروج من المطبعة.»
ومن المفارقات أن تناقض راسل ظهر من المجموعات أو التشكيلات الأحب لدى فريجه. لقد ذكر بعد سنوات عديدة في كتابه «تطوري الفلسفي»، الأفكار التي أوعزت إليه بالتشكك في عمل فريجه: «لقد بدا لي أن الفئة تكون عضوا في نفسها في بعض الأحيان، ولا تكون كذلك في أحيان أخرى. ففئة ملاعق الشاي على سبيل المثال، ليست ملعقة شاي أخرى، لكن فئة الأشياء التي هي ليست بملاعق شاي، من الأشياء التي هي ليست بملاعق شاي.» كانت تلك الملاحظة الغريبة التي تبدو غير مؤذية في ظاهرها، هي التي أدت إلى تلك المفارقة الكارثية.
غالبا ما تشرح مفارقة راسل باستخدام حكاية أمين المكتبة شديد التدقيق. وهي أن أمين المكتبة قد اكتشف في أحد الأيام بينما كان يتجول بين الأرفف، مجموعة من الفهارس. وهي فهارس منفصلة للروايات والمراجع والشعر وغير ذلك. ويلاحظ أمين المكتبة أن بعض الفهارس تورد نفسها، أما البعض الآخر فلا يورد نفسه.
شكل 4-4: برتراند راسل.
ومن أجل تبسيط النظام، يضع أمين المكتبة فهرسين آخرين، أحدهما يورد جميع الفهارس التي تورد نفسها، والأكثر إثارة للاهتمام أن الآخر يورد جميع الفهارس التي لا تورد نفسها. وبعد إكمال المهمة، يواجه أمين المكتبة مشكلة: هل ينبغي أن يورد الفهرس الذي يورد جميع الفهارس التي لا تورد نفسها، نفسه؟ إذا أورد نفسه، فلا ينبغي أن يورد وفقا للتعريف. أما إذا لم يورد نفسه، فسوف ينبغي أن يورد وفقا للتعريف. إن أمين المكتبة في موقف لا يمكن أن يربح فيه.
والفهارس الواردة في هذا المثال شديدة الشبه بالمجموعات أو الفئات التي استخدمها فريجه لتكون التعريف الجوهري للأعداد. ومن ثم فإن التضارب الذي يزعج أمين المكتبة، سيسبب المشكلات فيما يفترض أن يكون بناء منطقيا للرياضيات. إن الرياضيات لا يمكن أن تتسامح مع التضارب أو المفارقات أو التناقض. فأداة البرهان بالتناقض الفعالة على سبيل المثال، تعتمد على خلو الرياضيات من المفارقات. يذكر هذا البرهان أنه إذا أدى أحد الافتراضات إلى نتيجة غير منطقية، فلا بد أن يكون هذا الافتراض خاطئا، أما راسل، فهو يرى أنه حتى المسلمات يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير منطقية. ومن ثم؛ فمن الممكن أن يوضح البرهان بالتناقض أن إحدى المسلمات خاطئة، غير أن المسلمات هي أسس الرياضيات ومعترف بصحتها.
تشكك العديد من المفكرين في عمل راسل بزعمهم أن الرياضيات مسعى ناجح بلا شك ولا تشوبه شائبة. وقد أجاب هو عن ذلك بشرح أهمية عمله بالطريقة التالية: «بالرغم من ذلك»، قد تقول: «كل ذلك لا يزعزع اعتقادي بأن 2 زائد 2 يساوي 4.» وأنت محق في هذا إلا في حالات ضئيلة، وحالات ضئيلة فقط هي التي تشك فيها بشأن ما إذا كان حيوان معين كلبا أم لا، أو ما إذا كان طول محدد أقل من المتر أم لا. لا بد أن يكون العدد اثنين، اثنين من شيء محدد، وسيكون الافتراض القائل بأن «2 زائد 2 يساوي 4» عديم الفائدة ما لم يكن من الممكن تطبيقه. فاثنان من الكلاب زائد اثنين من الكلاب على سبيل المثال، يساوي أربعة من الكلاب بالتأكيد، لكن ثمة حالات تظهر لا تكون متأكدا فيها مما إذا كان اثنان منهما من الكلاب أم لا. وقد تقول: «حسنا، ثمة أربعة حيوانات على أي حال.» غير أن بعض الكائنات الدقيقة ما من يقين بشأن ما إذا كانت من النباتات أم من الحيوانات. وسوف تقول: «حسنا، هي من الكائنات الحية إذن.» غير أن بعض الأشياء ليس من المؤكد ما إذا كانت حية أم لا. وسوف يدفعك هذا إلى القول: «حسنا، كيانان وكيانان يساوي أربعة كيانات.» وحين تخبرني بما تعنيه بلفظة «كيان»، سنواصل الجدال.
لقد زعزع عمل راسل أسس الرياضيات، ودفع بدراسة المنطق الرياضي إلى حالة من الفوضى. كان علماء المنطق يدركون أن وجود مفارقة تترصد في أسس الرياضيات قد يؤدي عاجلا أم آجلا إلى أن تطل برأسها غير المنطقي وتتسبب في مشكلات عميقة. فبدأ راسل مع هيلبرت وغيرهما من علماء المنطق في محاولة علاج هذا الموقف وإعادة التعقل إلى الرياضيات.
لقد جاء هذا التضارب نتيجة مباشرة للتعامل مع مسلمات الرياضيات، التي كان من المفترض حتى ذلك الوقت أنها بديهية وكافية لتعريف بقية الرياضيات. وكان من النهج المقترح ابتكار مسلمة إضافية تمنع أن تكون الفئة عضوا في نفسها. وسيمنع هذا من حدوث مفارقة راسل بالاستغناء عن السؤال بشأن إيراد فهرس الفهارس التي لا تورد نفسها من عدمه.
قضى راسل العقد التالي في التفكير في مسلمات الرياضيات، وهي جوهر العلم نفسه. وفي العام 1910، وبالتعاون مع ألفريد نورث وايتهيد، نشر الجزء الأول من كتاب «مبادئ الرياضيات» المكون من ثلاثة أجزاء، الذي كان فيما يبدو محاولة ناجحة لتقديم معالجة جزئية للمعضلة التي خلفتها مفارقته. على مدى العقدين التاليين، استخدم آخرون «مبادئ الرياضيات» دليلا لتأسيس صرح رياضي لا تشوبه شائبة، وبحلول الوقت الذي تقاعد فيه هيلبرت في العام 1930، كان واثقا من أن الرياضيات تسير جيدا في طريقها نحو التعافي. كان يبدو أن حلمه بوضع أساس منطقي متسق وفعال بالدرجة التي تكفي للإجابة عن جميع الأسئلة، في طريقه لأن يصبح حقيقة.
وبعد ذلك في العام 1931، نشر رياضي مجهول يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، ورقة حطمت آمال هيلبرت إلى الأبد. لقد أجبر كورت جودل علماء الرياضيات على تقبل أن الرياضيات لا يمكن أن تكون مثالية من الناحية المنطقية، تضمنت أعماله فكرة أن معضلات كمبرهنة فيرما الأخيرة قد يكون حلها أمرا مستحيلا.
ولد كورت جودل في الثامن والعشرين من أبريل عام 1906 في مورافيا التي كانت في ذلك الوقت جزءا من الإمبراطورية النمساوية المجرية، وصارت الآن جزءا من جمهورية التشيك. عانى من أمراض خطيرة منذ الصغر، وكان أكثرها خطورة نوبة من الحمى الروماتيزمية في سن السادسة. وقد تسبب هذا اللقاء المبكر مع الموت في إصابة جودل بمرض الوسواس الذي لازمه طوال حياته. فبعد أن قرأ كتابا دراسيا في الطب وهو في سن الثامنة، صار مقتنعا بأن قلبه ضعيف، بالرغم من أن أطباءه لم يجدوا دليلا على ذلك. وبعد ذلك في نهاية حياته، اعتقد خطأ أنه يتعرض للتسمم ورفض أن يتناول الطعام حتى كاد أن يموت جوعا.
حين كان جودل طفلا، ظهرت موهبته في العلوم والرياضيات، ودفعت طبيعته المحبة للاستطلاع عائلته لأن يطلقوا عليه لقب «دير هير فاروم» أي (السيد لماذا). التحق بجامعة فيينا وهو لا يدري أي تخصص في الرياضيات أو الفيزياء، غير أن محاضرة ملهمة تمتلئ بالشغف في مقرر دراسي عن نظرية الأعداد ألقاها البروفيسور بي فورتوانجلر، قد أقنعت جودل بأن يكرس حياته للأعداد. وقد زاد من الطبيعة الاستثنائية للمحاضرات أن فورتوانجلر كان يعاني من الشلل بداية من الرقبة إلى أسفل جسده؛ لذا كان مضطرا إلى إلقاء المحاضرات من كرسيه المتحرك دون ملاحظات، بينما كان مساعده يكتب على السبورة.
في أوائل العشرينيات من عمره، كان جودل قد أثبت نفسه في قسم الرياضيات، لكنه كان يتجول مع زملائه أحيانا في الردهة لحضور اجتماعات «الدائرة الفينيسية»، وهي مجموعة من الفلاسفة كانوا يجتمعون لمناقشة كبرى الأسئلة المنطقية في العصر. وكانت هذه المدة هي التي طور فيها جودل الأفكار التي حطمت أسس الرياضيات.
في العام 1931، نشر جودل كتابه «عن قضايا صورية غير مكتملة في «مبادئ الرياضيات» والنظم ذات الصلة»، الذي كان يتضمن مبرهناته التي تدعى باسم مبرهنات عدم الاكتمال. فور أن وصلت أنباء المبرهنات إلى أمريكا، ألغى عالم الرياضيات العظيم جون فون نيومان، سلسلة محاضرات كان يلقيها عن برنامج هيلبرت، واستبدل بالجزء المتبقي من السلسلة مناقشة لعمل جودل الثوري.
شكل 4-5: كورت جودل.
لقد أثبت جودل أن محاولة وضع نظام رياضي مكتمل ومتسق مهمة مستحيلة. ويمكن تجسيد أفكاره في عبارتين:
المبرهنة الأولى لعدم الاكتمال
إذا كانت نظرية مجموعة المسلمات متسقة، فسوف توجد حدسيات لا يمكن إثباتها ولا نفيها.
المبرهنة الثانية لعدم الاكتمال
ما من إجراء بناء سيثبت اتساق نظرية مجموعة المسلمات.
إن ما تقوله مبرهنة جودل الأولى في الأساس هو أنه ستظل هناك أسئلة لا تستطيع الرياضيات الإجابة عنها، أيا كانت مجموعة المسلمات المستخدمة: أي إن الاكتمال لا يمكن أن يتحقق أبدا. والأسوأ من ذلك أن المبرهنة الثانية تقول إن علماء الرياضيات لا يمكن أبدا أن يتيقنوا من أن المسلمات التي اختاروها لن تؤدي إلى تضارب: أي إن إثبات الاتساق غير ممكن أبدا. لقد أوضح جودل أن برنامج هيلبرت كان مهمة مستحيلة.
بعد ذلك بعقود، ذكر برتراند راسل في كتابه «صور من الذاكرة»، ردة فعله بشأن اكتشاف جودل:
كنت أريد اليقين على النحو الذي يريده الناس في الإيمان الديني. وقد ظننت أن اليقين سيوجد في الرياضيات أكثر مما يوجد في أي مجال آخر. غير أنني اكتشفت أن العديد من البراهين الرياضية التي كان المعلمون يتوقعون مني أن أتقبلها، مليئة بالمغالطات، وأنه إذا كان من الممكن اكتشاف اليقين في الرياضيات بالفعل، فسوف يكون ذلك في مجال جديد في الرياضيات يتمتع بأساسات أكثر رسوخا من تلك التي كان يعتقد حتى ذلك الوقت أنها ثابتة. بالرغم من ذلك، فمع مواصلة العمل، كنت أتذكر حكاية الفيل والسلحفاة باستمرار. فبعد أن صممت فيلا يمكن للعالم الرياضي أن يستقر عليه وجدت الفيل يترنح، وبدأت في تصميم سلحفاة لكي تمنع الفيل من السقوط. غير أن السلحفاة لم تكن أكثر ثباتا من الفيل، وبعد حوالي عشرين عاما من العمل الشاق، توصلت إلى استنتاج أنه ما من شيء آخر يمكنني القيام به في سبيل جعل المعرفة الرياضية يقينية.
وبالرغم من أن مبرهنة جودل الثانية تقول باستحالة إثبات اتساق المسلمات، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنها متضاربة. فقد كان العديد من علماء الرياضيات لا يزالون يعتقدون في صميم قلوبهم أن الرياضيات ستظل متسقة، لكنهم لم يستطيعوا إثبات ذلك عقليا. لقد كان عالم نظرية الأعداد العظيم أندريه ويل يقول: «الإله موجود لأن الرياضيات متسقة، والشيطان موجود لأننا لا نستطيع إثبات ذلك.»
إن برهان مبرهنتي جودل لعدم الاكتمال معقد للغاية، والحق أن التعبير الأدق عن المبرهنة الأولى يجب أن يكون على النحو التالي:
في أي نظام صوري متسق يمكن إجراء قدر معين من العمليات الحسابية في إطاره، توجد صيغ رياضية للنظام لا يمكن إثباتها أو نفيها من داخل النظام نفسه.
ومن حسن الحظ أنه، مثلما هي الحال مع مفارقة راسل وحكاية أمين المكتبة، يمكن توضيح مبرهنة جودل الأولى عن طريق قياس منطقي آخر بفضل إيبيمينيداس، وتعرف أيضا بمفارقة الكريتي أو مفارقة الكاذب. كان إيبيمينيداس رجل كريتي قد صاح:
أنا كاذب!
وتنشأ المفارقة حين نحاول أن نحدد ما إذا كانت هذه العبارة صحيحة أم خاطئة. فلنر أولا ما يحدث حين نفترض أن العبارة صحيحة. إذا كانت العبارة صحيحة، فإن هذا يعني أن إيبيمينيداس كاذب، لكننا افترضنا في البداية أنه قد صرح بعبارة صحيحة؛ إذن فهو ليس بكاذب، وبهذا تكون لدينا حالة من التضارب. ولنر الآن ما يحدث حين نفترض أن العبارة خاطئة. إذا كانت العبارة خاطئة، فإن هذا يعني أن إيبيمينيداس ليس بكاذب، لكننا قد افترضنا في البداية أنه قد صرح بعبارة خاطئة؛ إذن فهو كاذب، وبهذا تكون لدينا حالة أخرى من التضارب. سواء افترضنا أن العبارة صحيحة أو افترضنا أنها خاطئة، ينتهي بنا الأمر إلى حالة من التضارب؛ ومن ثم، فإن العبارة ليست بالصحيحة ولا بالخاطئة.
أعاد جودل تأويل مفارقة الكاذب وطرح مفهوم البرهان. وقد تمثلت النتيجة في عبارة على غرار:
ما من برهان على هذه العبارة.
إذا كانت العبارة خاطئة لأمكن إثباتها، لكن هذا يعارض العبارة. ومن ثم؛ فلا بد أن تكون العبارة صحيحة لتفادي التضارب. ومع ذلك، بالرغم من أن العبارة صحيحة، فإنه لا يمكن إثباتها؛ لأن هذه العبارة (التي نعرف الآن أنها صحيحة) تقول ذلك.
ونظرا إلى أن جودل قد تمكن من ترجمة العبارة سابقة الذكر إلى ترميز رياضي، فقد تمكن من إثبات وجود عبارات صحيحة في الرياضيات لكن لا يمكن إثبات صحتها، وهي العبارات التي تسمى بالعبارات غير القابلة للحسم. وقد كانت تلك هي الضربة القاضية لبرنامج هيلبرت.
لقد توازى عمل جودل مع اكتشافات مشابهة تجرى في مجال فيزياء الكم. فقبل أربع سنوات فقط من نشر عمل جودل، كان الفيزيائي الألماني فرنر هيزنبرج قد اكتشف مبدأ اللايقين. فمثلما أن ثمة حدا لما يستطيع علماء رياضيات المبرهنات إثباته، أوضح هيزنبرج أن ثمة حدا لما يستطيع علماء فيزياء الخواص قياسه. إذا أرادوا على سبيل المثال قياس الموقع المحدد لجسم ما ، فإنهم لا يستطيعون قياس سرعته المتجهة إلا بدقة ضعيفة نسبيا. ويعود السبب في هذا إلى أن قياس موقع الجسم، يحتم إضاءته بفوتونات من الضوء، ومن أجل تحديد موقعه الدقيق، لا بد من أن تكون طاقة الفوتونات الضوئية ضخمة. غير أنه إذا أطلقت على الجسم فوتونات ضوئية تتمتع بطاقة عالية، فإن ذلك سيؤثر في سرعته المتجهة ويجعلها غير يقينية على نحو جوهري. ومن ثم، فمن أجل معرفة موقع الجسم، سيضطر الفيزيائيون إلى التخلي عن درجة من الدقة بشأن معرفة سرعته المتجهة.
إن مبدأ اللايقين الذي اكتشفه هيزنبرج لا يتضح إلا على المستويات الذرية حين تصبح القياسات عالية الدقة أمرا شائكا. ولهذا؛ فقد أمكن للجزء الأكبر من الفيزياء أن يستمر على أي حال، بينما انشغل علماء فيزياء الكم بأسئلة عميقة عن حدود المعرفة. وقد كان الأمر نفسه يحدث في عالم الرياضيات. فبينما انشغل علماء المنطق بجدال حصري للغاية عن عدم قابلية الحسم، استمر بقية المجتمع الرياضي في العمل على أي حال. فبالرغم من أن جودل قد أثبت وجود بعض العبارات التي لا يمكن إثباتها، كان ثمة الكثير من العبارات التي يمكن إثباتها ولم يؤد اكتشافه إلى إبطال صحة أي شيء قد أثبت في الماضي. وعلاوة على ذلك، فقد كان العديد من علماء الرياضيات يرون أن عبارات جودل التي لا يمكن حسمها لا توجد إلا في مجالات الرياضيات الأكثر غموضا وتطرفا؛ ومن ثم فقد لا يصادفونها على الإطلاق. فبالرغم من كل شيء، لم يقل جودل شيئا سوى أن هذه العبارات موجودة، لكنه لم يتمكن في واقع الأمر من الإشارة إلى أي منها. غير أنه في العام 1963، أصبح كابوس جودل النظري واقعا متأصلا.
ذلك أن بول كوهين، وهو عالم رياضيات في جامعة ستانفورد يبلغ من العمر تسعة وعشرين عاما، قد ابتكر تقنية لاختبار ما إذا كان أحد الأسئلة قابلا للحسم أم لا. لا تنطبق هذه التقنية إلا في حالات قليلة خاصة للغاية، لكنه بالرغم من ذلك كان أول من يكتشف أسئلة محددة لم تكن قابلة للحسم بالفعل. وبعد أن توصل إلى اكتشافه، سافر فورا إلى برينستون وبرهانه في يده ليصدق جودل بنفسه على صحته. كان جودل قد وصل في هذه المرحلة من حياته إلى طور الجنون الوهامي، ففتح الباب قليلا وخطف الأوراق، ثم أوصده. بعد ذلك بيومين، تلقى كوهين دعوة لتناول الشاي في منزل جودل، وهي علامة على أن الأستاذ قد صدق على البرهان بختم سلطته. وما كان مثيرا على وجه التحديد أن بعض هذه الأسئلة غير القابلة للحسم من الأسئلة الجوهرية في الرياضيات. ومن المفارقات أن كوهين قد أثبت أن أحد الأسئلة التي ضمها هيلبرت إلى قائمة الأسئلة الثلاثة والعشرين الأهم في الرياضيات، وهو فرضية الاستمرارية، من الأسئلة غير القابلة للحسم.
لقد أرسل عمل جودل بعد أن أكملته عبارات كوهين غير القابلة للحسم رسالة مزعجة إلى جميع أولئك المهتمين بالرياضيات، المحترفين منهم والهواة، الذين كانوا يثابرون في محاولاتهم لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة؛ فربما كانت مبرهنة فيرما الأخيرة من الأسئلة التي لا يمكن حسمها! ماذا لو أن بيير دو فيرما قد ارتكب خطأ حين زعم أنه قد توصل إلى برهان؟ إذا كانت الحال كذلك، فثمة احتمال أن تكون المبرهنة الأخيرة غير قابلة للحسم. قد يكون إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة أكثر من مجرد مهمة صعبة؛ قد يكون مهمة مستحيلة. إذا كانت مبرهنة فيرما الأخيرة غير قابلة للحسم؛ إذن فقد أهدر علماء الرياضيات قرونا في البحث عن برهان لا وجود له.
من الغريب أنه إذا اتضح أن مبرهنة فيرما الأخيرة غير قابلة للحسم، فإن هذا يعني أنها لا بد أن تكون صحيحة. ويتمثل السبب فيما يلي. تنص مبرهنة فيرما الأخيرة على أنه لا توجد حلول بأعداد صحيحة للمعادلة: ، حيث
n
أكبر من 2.
وإذا كانت المبرهنة الأخيرة خاطئة في واقع الأمر، فسوف يكون من الممكن إثبات ذلك بتحديد حل لها (مثال مضاد). ومن ثم؛ فسوف تكون المبرهنة الأخيرة قابلة للحسم. إن كونها خاطئة يتعارض مع كونها غير قابلة للحسم. أما إذا كانت المبرهنة الأخيرة صحيحة، فليس من المؤكد أن تكون هناك طريقة جلية لإثبات ذلك، أي إنها قد تكون غير قابلة للحسم. موجز القول إن مبرهنة فيرما الأخيرة قد تكون صحيحة، لكن ربما لا توجد طريقة لإثباتها. (3) القوة القهرية للفضول
لقد أدت الملاحظات السريعة التي تركها بيير دو فيرما في كتاب «أريثميتيكا»، إلى الأحجية الأكثر إغاظة في التاريخ. وبالرغم من مرور ثلاثة قرون من الفشل الذريع، واقتراح جودل أن علماء الرياضيات ربما يبحثون عن برهان لا وجود له، ظل بعض علماء الرياضيات ينجذبون للمسألة. لقد كانت المبرهنة الأخيرة غانية تغوي إليها العباقرة، لتحطم آمالهم فحسب. كان أي رياضي ينخرط في مبرهنة فيرما الأخيرة يخاطر بإهدار حياته المهنية، لكن من يتمكن من تحقيق الإنجاز الأساسي سيذكر في التاريخ أنه قد حل أصعب مسألة في العالم.
لقد ظلت أجيال من علماء الرياضيات مهووسة بمبرهنة فيرما الأخيرة لسببين. أولهما هو إحساس المنافسة العنيف. لقد كانت مبرهنة فيرما الأخيرة هي الاختبار الأصعب، ومن يتمكن من إثباتها، يكون قد نجح فيما فشل فيه كوشي وأويلر وكومر والكثيرون جدا غيرهم. فمثلما كان فيرما نفسه يستمتع كثيرا بحل المسائل التي كانت تحير معاصريه، كان من يتمكن من إثبات المبرهنة الأخيرة سيستمتع بحقيقة أنه حل مسألة قد حيرت المجتمع الرياضي بأكمله على مدى مئات الأعوام. وثاني هذه الأسباب أنه أيا من كان سيتغلب على تحدي فيرما، فإنه سيستمتع بشعور الرضا البريء الذي ينبع من حل أحجية. إن البهجة المستمدة من حل الأسئلة ذات الطبيعة الغامضة في نظرية الأعداد، لا يختلف كثيرا عن شعور الفرحة البسيطة المستمد من حل أحاجي سام لويد التافهة. لقد قال لي أحد علماء الرياضيات ذات مرة، إن السرور الذي كان يستمده من حل المسائل الرياضية، شبيه بذلك الذي يشعر به مدمنو حل الكلمات المتقاطعة. إن التوصل إلى التلميح الأخير في أحد أحاجي الكلمات المتقاطعة الصعبة، دائما ما يولد لدى المرء شعورا بالرضا، فما بالك بشعور الإنجاز الذي يشعر به المرء بعد قضاء سنوات في حل أحجية لم يتمكن أحد سواه في العالم على الإطلاق من حلها، والتوصل بعد ذلك إلى الحل.
وهذان السببان هما ما جعلا أندرو وايلز مولعا بفيرما: «إن علماء الرياضيات البحتة يحبون التحديات فحسب. فهم يحبون المسائل التي لم يتوصل أحد إلى حلها. وممارسة الرياضيات تمنح المرء مثل تلك المشاعر الرائعة. ففي بداية الأمر، تجد مسألة تثير حيرتك. لا تفهمها بسبب تعقيدها البالغ، ولا تستطيع أن تفهم منها أي شيء على الإطلاق. غير أنك حين تتمكن من حلها أخيرا، يعتريك هذا الشعور المذهل بمدى جمالها وتناسقها معا بأناقة شديدة. أما المسائل الأكثر خداعا فهي تلك التي تبدو سهلة، ثم يتضح أنها شديدة التعقيد. ومبرهنة فيرما هي أجمل مثال على ذلك. لقد كانت تبدو أن لها حلا بالتأكيد، ومما يزيد من تميزها أن فيرما قال إنه قد توصل إلى الحل.»
للرياضيات تطبيقاتها في العلوم والتكنولوجيا، لكن ذلك ليس هو ما يحفز علماء الرياضيات. فما يلهمهم هو بهجة الاكتشاف. لقد حاول جي إتش هاردي أن يقدم تفسيرا وتبريرا لحياته المهنية في كتاب بعنوان «اعتذار عالم رياضيات»، وقد ساقه فيما يلي:
لن أقول إلا أنه إذا كانت معضلة الشطرنج «عديمة الجدوى» بالمعنى البدائي، فإن الأمر نفسه ينطبق على الجزء الأكبر من الرياضيات ... إنني لم أقم بشيء «مجد» قط. ما من اكتشاف توصلت إليه كان له أي تأثير طفيف مباشر أو غير مباشر، بالإيجاب أو بالسلب على مرافق العالم، وليس من المحتمل أيضا أن يكون له. وفقا لجميع المعايير العملية، فإن قيمة حياتي الرياضياتية تساوي صفرا، وهي تافهة على أي حال فيما لا يتعلق بالرياضيات. وليس لي من مهرب من الحكم بالتفاهة التامة إلا أن يرى أنني قد ابتكرت شيئا يستحق الابتكار. ولا شك بأنني قد ابتكرت شيئا، لكن التساؤل يتعلق بقيمته.
إن الرغبة الكامنة وراء إيجاد حل لإحدى المسائل الرياضية، غالبا ما تكون مدفوعة بحب الاستطلاع، وصحيح أن الجائزة بسيطة، لكن ثمة شعورا هائلا بالرضا ينبع من حل أي أحجية. لقد قال عالم الرياضيات إي سي تيتشمارش ذات مرة: «ربما لا توجد أي فائدة عملية لمعرفتنا أن
π
عدد غير نسبي، لكننا إذ عرفنا، فسوف يكون عدم المعرفة أمرا لا يحتمل دون شك.»
وفي حالة مبرهنة فيرما الأخيرة، لم يكن هناك من نقص في حب الاستطلاع. لقد أضاف عمل جودل في موضوع عدم قابلية الحسم، عنصرا من الشك بشأن ما إذا كانت المسألة قابلة للحل أم لا، غير أن ذلك لم يكن كافيا لإحباط مهووسي فيرما الحقيقيين. ما كان أكثر إحباطا هو أنه بحلول ثلاثينيات القرن العشرين، كان علماء الرياضيات قد استنفدوا جميع الأساليب، ولم يعد في جعبتهم سوى القليل للغاية. كانت الحاجة تتمثل في وجود أداة جديدة، شيء لرفع الروح المعنوية الرياضية. وقد كانت الحرب العالمية الثانية هي ما لبى تلك الحاجة تماما، القفزة الكبرى في فعالية الحساب منذ اختراع المسطرة الحاسبة. (4) نهج القوة الغاشمة
حين أعلن إتش جي هاردي عام 1940 أن أفضل الرياضيات غالبا ما تكون عديمة الجدوى، أسرع بإضافة أن ذلك ليس أمرا سيئا بالضرورة: «ليس للرياضيات الحقيقية أي تأثير على الحرب. فلم يكتشف أحد حتى الآن أغراضا تتعلق بالحرب يمكن تلبيتها من خلال نظرية الأعداد.» وسرعان ما ثبت أن هاردي كان مخطئا.
في العام 1944، شارك جون فون نيومان في كتابة كتاب «نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي»، الذي صك فيه مصطلح «نظرية الألعاب». كانت نظرية الألعاب محاولة من نيومان لاستخدام الرياضيات في وصف هيكل الألعاب والكيفية التي يلعبها بها البشر. وقد بدأ بدراسة الشطرنج والبوكر، ثم توجه إلى نمذجة بعض الألعاب الأكثر تعقيدا مثل الممارسات الاقتصادية. بعد الحرب العالمية الثانية، أدركت مؤسسة «راند» أهمية أفكار نيومان ووظفته للعمل على تطوير استراتيجيات الحرب الباردة. ومنذ هذه المرحلة حتى وقتنا هذا، أصبحت نظرية الألعاب الرياضية أداة أساسية يستخدمها قادة الجيوش لاختبار استراتيجياتهم العسكرية بالتعامل مع المعارك على أنها مباريات معقدة من الشطرنج. ومن الأمثلة البسيطة التي توضح تطبيق نظرية الألعاب في المعارك، قصة «المبارزة الثلاثية».
والمبارزة الثلاثية تشبه المبارزة المعتادة، غير أنها تتضمن ثلاثة مشاركين لا اثنين فحسب. ذات صباح، يقرر السيد بلاك والسيد جراي والسيد وايت تسوية نزاع من خلال الاشتراك في مبارزة ثلاثية بالمسدسات إلى أن ينجو أحدهم. السيد بلاك هو أسوأهم في إطلاق الرصاص؛ إذ يصيب هدفه بمعدل مرة واحدة كل ثلاث مرات. والسيد جراي أفضل منه إذ يصيب هدفه بمعدل مرتين كل ثلاث مرات. أما السيد وايت، فهو الأفضل على الإطلاق إذ يصيب هدفه كل مرة. ولكي تكون المبارزة الثلاثية أكثر إنصافا، يسمح للسيد بلاك بإطلاق الرصاص أولا، ويليه السيد جراي (إذا كان لا يزال حيا)، ويليه السيد وايت (إذا كان لا يزال حيا)، ويتكرر الترتيب نفسه مجددا إلى أن يظل واحد منهم فقط حيا. والسؤال هو: أين يجب أن يوجه السيد بلاك ضربته الأولى؟ ربما ترغب في التخمين وفقا للحدس، أو وفقا لنظرية الألعاب وهو الأفضل. ترد الإجابة في الملحق 9.
والأكثر تأثيرا في زمن الحرب من نظرية الألعاب، الرياضيات المتعلقة بفك التشفير. فخلال الحرب العالمية الثانية، أدرك الحلفاء أنه يمكن من الناحية النظرية، استخدام المنطق الرياضي لفك تشفير الرسائل الألمانية، إذا أجريت الحسابات بالسرعة الكافية. وقد كان التحدي هو إيجاد طريقة لميكنة الرياضيات كي تتمكن آلة من إجراء الحسابات، وقد كان الإنجليزي الذي أسهم بالدرجة الكبرى في جهود فك التشفير هو آلان تورينج.
في العام 1938، عاد تورينج إلى كامبريدج بعد أن أكمل مدة من العمل في جامعة برينستون. كان قد شهد بنفسه الفوضى التي نتجت عن مبرهنتي جودل لعدم الاكتمال، وصار منخرطا في محاولة لملمة شتات حلم هيلبرت. كان يرغب على وجه التحديد في معرفة ما إذا كانت توجد طريقة لمعرفة أي الأسئلة قابلة للحسم وأيها غير قابل للحسم، وحاول وضع طريقة منهجية للإجابة عن هذا السؤال. في ذلك الوقت، كانت الأجهزة الحاسبة بدائية للغاية وعديمة الجدوى فعليا حين كان الأمر يتعلق بجوانب جادة من الرياضيات؛ لذا فقد بنى تورينج أفكاره على مفهوم آلة تخيلية قادرة على عدد لا نهائي من العمليات الحسابية. وهذه الآلة الافتراضية التي استهلكت كمية لا نهائية من شريط المبرقة التخيلي، وكانت تستطيع إجراء الحسابات إلى الأبد، كانت هي كل ما احتاج إليه لاستكشاف أسئلته المجردة المتعلقة بالمنطق. ما كان تورينج يجهله هو أن طريقته التخيلية في ميكنة الأسئلة الافتراضية كانت ستؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق تقدم كبير في إجراء الحسابات الحقيقية على آلات حقيقية.
بالرغم من اندلاع الحرب، واصل تورينج أبحاثه وهو عضو في كلية «كينجز كوليدج» حتى الرابع من سبتمبر عام 1939، حين انتهت حياته السعيدة بصفته مدرسا في جامعة كامبريدج على غفلة. فقد جندته المدرسة الحكومية للترميز والتشفير، التي كانت مهمتها فك رموز رسائل العدو المشفرة. قبل الحرب، كان الألمان قد كرسوا مجهودات كبيرة لتطوير نظام فائق للتشفير، كان ذلك مصدر قلق بالغ للمخابرات البريطانية التي كانت قادرة في الماضي على فك شفرات مراسلات العدو بسهولة نسبية. يصف التاريخ الرسمي للحرب الصادر عن مكتب مطبوعات صاحبة الجلالة «المخابرات البريطانية في الحرب العالمية الثانية»، الحالة الراهنة في ثلاثينيات القرن العشرين على النحو التالي:
بحلول العام 1937، ترسخ أنه على خلاف نظرائه اليابانيين والإيطاليين، يستخدم الجيش الألماني والأسطول الألماني والقوات الجوية الألمانية أيضا على الأرجح، إضافة إلى بعض مؤسسات الدولة الأخرى مثل السكك الحديدية وقوات «شوتوشتافل»، في جميع المراسلات عدا المراسلات التكتيكية؛ نسخا مختلفة من نظام التشفير نفسه: الآلة «إنيجما» التي طرحت في السوق في عشرينيات القرن العشرين، التي زاد الألمان من تأمينها بإجراء تعديلات تقدمية. وفي العام 1937، اخترقت المدرسة الحكومية للترميز والتشفير، النموذج الأقل تعديلا والأقل أمنا من هذه الآلة، الذي كانت تستخدمه القوات الألمانية والإيطالية والقوات القومية الإسبانية. أما بخلاف ذلك، فقد ظلت «إنيجما» تقاوم الهجوم، وكان يبدو أنها ستستمر في ذلك على الأرجح.
شكل 4-6: آلان تورينج.
كانت الآلة «إنيجما» تتألف من لوحة مفاتيح تتصل بوحدة لفك الشفرات. وتتألف وحدة فك التشفير من ثلاثة أقراص دوارة منفصلة تحدد مواقعها طريقة تشفير كل حرف على لوحة المفاتيح. وما جعل من فك شفرة «إنيجما» أمرا في غاية الصعوبة هو ضخامة عدد الطرق التي يمكن إعداد الآلة بها. فأولا كانت الأقراص الدوارة الثلاثة مختارة من خمسة، وكان من الممكن تغييرها وتبديلها لتشويش مخترقي الشفرات. وثانيا، كان يمكن وضع كل قرص بطريقة واحدة من ست وعشرين طريقة مختلفة. ومعنى هذا أن الآلة كان يمكن أن تعد بأكثر من مليون طريقة مختلفة. وإضافة إلى التباديل التي توفرها الأقراص الدوارة، كان يمكن تغيير توصيلات لوحة التوصيل الموجودة في ظهر الآلة يدويا، لتوفير ما يزيد عن 150 مليون مليون مليون طريقة مختلفة من الإعدادات. ولتوفير درجة أعلى من الأمان، كانت الأقراص الدوارة الثلاثة تغير من اتجاهها على الدوام، كي يتغير إعداد الآلة بعد إرسال كل حرف؛ فتتغير طريقة تشفير الحرف التالي تباعا. وبهذه الطريقة، عند كتابة
DODO ، تتولد الرسالة
FGTB ؛ فالحرف
D
والحرف
O
قد أرسلا مرتين، لكن طريقة التشفير قد اختلفت في كل مرة.
قدمت آلات «إنيجما» إلى الجيش الألماني، والأسطول الألماني والقوات الجوية الألمانية وحتى السكك الحديدية وغيرها من الإدارات الحكومية الألمانية. ومثلما هي الحال في جميع أنظمة التشفير المستخدمة في تلك الفترة، كان من نقاط ضعف «إنيجما» أن المستقبل كان لا بد أن يعرف إعداد «إنيجما» الذي يستخدمه المرسل. ولضمان الأمان، كان لا بد من تغيير إعدادات «إنيجما» بصفة يومية. ومن الطرق التي كان يستخدمها المرسلون لتغيير الإعدادات وإبلاغ المستقبلين بها هي نشر الإعدادات اليومية في كتاب سري للشفرة. ومن مخاطر هذه الطريقة احتمالية أن يقبض البريطانيون على إحدى الغواصات الحربية الألمانية ويحصلوا على الإعدادات اليومية للشهر التالي بأكمله. أما الطريقة البديلة، التي استخدمت على مدى الجزء الأكبر من الحرب، فهي إرسال الإعدادات اليومية في ديباجة الرسالة الفعلية مع تشفيرها باستخدام إعدادات اليوم السابق.
في بداية الحرب، كانت الغالبية العظمى من العاملين في المدرسة البريطانية للتشفير، من علماء الكلاسيكيات واللغويات. غير أن وزارة الخارجية سرعان ما أدركت أن علماء نظرية الأعداد لديهم فرصة أفضل في إيجاد الطريق لفك الشفرات التي يستخدمها الألمان، وللبدء في ذلك، جمع تسعة من أبرع علماء نظريات الأعداد في بريطانيا في المقر الجديد لمدرسة التشفير في حديقة بليتشلي في قصر من العصر الفيكتوري في بليتشلي بمقاطعة باكينجهامشير . اضطر تورينج إلى التخلي عن آلته الافتراضية ذات شريط التيكرز اللانهائي والمعالجة اللانهائية، وتقبل التعامل مع مشكلة عملية ذات موارد محدودة وموعد نهائي جدي للغاية.
إن التشفير هو معركة فكرية بين صانع الشفرة ومحطمها. يتمثل التحدي لصانع الشفرة في إخفاء رسالة صادرة وتعميتها إلى الحد الذي يجعلها طلسما عويصا على الفهم إذا استقبلها العدو. بالرغم من ذلك، فثمة حد لمقدار المعالجة الرياضية التي يمكن تنفيذها بسبب الحاجة إلى إرسال الرسائل بسرعة وكفاءة. وقد كان مكمن القوة في شفرة الآلة إنيجما الألمانية هي أن الرسائل المشفرة كانت تمر بمستويات عدة من التشفير وبسرعة كبيرة للغاية. وكان التحدي لمحطمي الشفرة يتمثل في معالجة إحدى الرسائل المستقبلة وفك شفرتها، بينما لا تزال لمحتويات الرسالة أهمية. فرسالة ألمانية تأمر بتحطيم سفينة بريطانية كان يجب أن تفك شفرتها قبل غرق السفينة.
قاد تورينج فريقا من علماء الرياضيات الذين كانوا يحاولون بناء نسخ مطابقة للآلة إنيجما. ودمج تورينج أفكاره المجردة من وقت ما قبل الحرب في هذه الأجهزة التي كان يمكنها من الناحية النظرية أن تراجع جميع الإعدادات الممكنة للآلة إنيجما بطريقة منهجية، حتى فك الشفرة. كانت الآلات البريطانية التي بلغت من الطول ما يزيد عن مترين ومن العرض المقدار نفسه، تستخدم مرحلات كهروميكانيكية لمراجعة جميع إعدادات إنيجما المحتملة. وبسبب صوت الطقطقة المستمر الذي كان يصدر عن هذه المرحلات، فقد أطلق عليها لقب «القنابل». وبالرغم من سرعتها، كان من المحال أن تستطيع القنابل مراجعة جميع الإعدادات المحتملة للآلة إنيجما التي يبلغ عددها 150 مليون مليون مليون إعداد، في مدة زمنية مناسبة؛ ولهذا فقد اضطر فريق تورينج إلى إيجاد طريقة لتقليل عدد التباديل على نحو بارز، وذلك من خلال جمع أي معلومات يستطيعون الحصول عليها من الرسائل المرسلة.
ومن أعظم الإنجازات التي حققها البريطانيون هي أنهم قد أدركوا أن الآلة إنيجما لا يمكن أبدا أن تشفر الحرف بنفسه، أي إنه إذا نقر المرسل على الحرف
R ؛ فيمكن أن ترسل الآلة أي حرف بناء على إعداد الآلة، فيما عدا الحرف
R . وهذه الحقيقة التي تبدو تافهة كانت هي كل ما يلزم لتقليل الوقت الذي تستغرقه عملية فك تشفير رسالة بدرجة كبيرة. وقد قاوم الألمان بالحد من طول الرسائل التي كانوا يرسلونها. كانت جميع الرسائل تنطوي على تلميحات لفريق فك الشفرات بالطبع، وكلما زاد طول الرسالة، تضمنت عددا أكبر من التلميحات. كان الألمان يأملون في أن يؤدي تقليل طول الرسائل إلى 250 حرفا بحد أقصى، إلى التعويض عن حقيقة أن إنيجما لا تشفر الحرف بنفسه.
من أجل أن يتمكن تورينج من فك الشفرات، كان غالبا ما يحاول تخمين الكلمات المفتاحية في الرسائل. وإذا كان تخمينه صحيحا، فإن ذلك كان يزيد من سرعة فك بقية الشفرة بدرجة هائلة. إذا شك محطمو الشفرة في أن رسالة ما تتضمن تقريرا عن الطقس على سبيل المثال، وهو من الأنواع الشائعة في التقارير المشفرة، فإنهم سيخمنون أن الرسالة تتضمن كلمات مثل «ضباب» أو «سرعة الرياح». وإذا كان تخمينهم صحيحا، فإن ذلك سيمكنهم من فك شفرة تلك الرسالة بسرعة، ومن ثم يستنتجون إعدادات إنيجما لذلك اليوم. ومن ثم، يمكن فك شفرات رسائل أخرى أهم في بقية اليوم بسهولة.
وحين كان البريطانيون يفشلون في تخمين كلمات الطقس، كانوا يحاولون أن يفكروا مثلما قد يفكر مشغلو إنيجما ليخمنوا كلمات دلالية أخرى. فقد يخطئ مشغل إنيجما ويخاطب المستقبل باسمه الأول أو ربما يطور سمة خاصة تكون معروفة بالنسبة إلى فريق فك الشفرة. وحين كانت تفشل جميع المحاولات وتتدفق الرسائل الألمانية دون أن يتمكن الفريق من فك شفرتها، يقال إن مدرسة التشفير البريطانية كانت تلجأ إلى القوات الجوية الملكية لتطلب منها تلغيم ميناء ألماني محدد. وعندها سوف يرسل مسئول الميناء الألماني على الفور رسالة مشفرة سيستقبلها البريطانيون. وحينها، يصبح من يفكون الشفرات واثقين من أن الرسالة تتضمن كلمات مثل «تلغيم» أو «تجنب» أو «مرجع الخريطة». وبعد فك شفرة هذه الرسالة، سيكون تورينج قد توصل إلى إعدادات إنيجما لذلك اليوم، وتصير جميع الرسائل الألمانية التالية في ذلك اليوم عرضة لفك شفرتها بسرعة.
في الأول من فبراير عام 1942، أضاف الألمان عجلة رابعة لآلات إنيجما التي كانت تستخدم لإرسال المعلومات شديدة السرية. وقد كان ذلك أكبر تصعيد في مستوى التشفير خلال وقت الحرب، لكن فريق تورينج تمكن من المقاومة رغم ذلك عن طريق زيادة كفاءة القنابل. وبفضل مدرسة التشفير، تمكن الحلفاء من معرفة الكثير عن أعدائهم بأكثر مما كان الألمان يظنون بدرجة كبيرة. قل تأثير الغواصات الحربية الألمانية في المحيط الأطلنطي بدرجة كبيرة، وتمكن البريطانيون من تقديم التحذيرات بشأن هجمات سلاح الجو الألماني. وقد تمكن محطمو الشفرات أيضا من استقبال الرسائل بشأن المواقع المحددة لسفن الإمدادات الألمانية وفك شفرتها؛ مما أتاح إرسال المدمرات البريطانية لإغراقها.
وقد كان على قوات الحلفاء أن تحرص دائما على ألا تشي إجراءات المراوغة التي تتخذها بقدرتها على فك شفرة المراسلات الألمانية. ذلك أن الألمان إذا شكوا بأن شفرة إنيجما قد اخترقت، كانوا سيزيدون من مستوى التشفير، وقد يعود البريطانيون إلى مربع الصفر من جديد. ولهذا السبب، فقد كان يحدث في بعض الأحيان أن تخبر مدرسة التشفير قوات الحلفاء بهجمة وشيكة، وتختار قوات الحلفاء ألا تتخذ إجراءات مضادة متطرفة. علاوة على ذلك، فثمة شائعات تقول بأن تشرشل عرف أن مدينة كوفنتري كانت ستتعرض لغارة جائحة، لكنه اختار ألا يتخذ احتياطات خاصة لئلا يرتاب الألمان. غير أن ستيوارت ميلنر-باري الذي كان يعمل مع تورينج، ينكر هذه الشائعة ويقول إن شفرة الرسالة المتعلقة بكوفنتري لم تفك إلا بعد فوات الأوان.
لقد أتى تقييد استخدام المعلومات التي جرى فك شفرتها بثماره على النحو الأمثل. فحتى حين كانت القوات البريطانية تستخدم المراسلات التي تلقتها لتكبد العدو خسائر فادحة، لم يشك الألمان بأن شفرة إنيجما قد اخترقت. لقد كانوا يعتقدون أن مستوى التشفير الذي يستخدمونه متقدم للغاية حتى إنه ليستحيل فك شفرته. وبدلا من ذلك، كانوا يعوزون أي خسائر فادحة إلى تسلل جهاز الاستخبارات البريطانية بين قياداتهم.
بسبب السرية المحيطة بالعمل الذي كان يجريه تورينج وفريقه في بليتشلي، لم يكن من الممكن الاعتراف بإسهاماتهم الضخمة في جهود الحرب بشكل علني، حتى بعد الحرب بسنوات طويلة. لقد كان يقال إن الحرب العالمية الأولى هي حرب علماء الكيمياء، والحرب العالمية الثانية هي حرب علماء الفيزياء. والواقع أنه بناء على المعلومات التي كشفت في العقود الأخيرة، سيكون من الصواب على الأرجح القول بأن الحرب العالمية الثانية كانت حرب علماء الرياضيات أيضا، وسوف تكون إسهاماتهم أكثر أهمية حتى من ذلك في حالة وقوع حرب عالمية ثالثة.
على مدى المدة التي قضاها تورينج في العمل على فك الشفرات، لم يغفل أبدا عن أهدافه المتعلقة بالرياضيات. لقد استبدلت بالآلات الافتراضية أخرى حقيقية، غير أن الأسئلة العويصة قد ظلت. بنهاية الحرب، كان تورينج قد أسهم في بناء «كولوسس»، وهي آلة إلكترونية بالكامل تتكون من 1500 صمام كانت أسرع كثيرا من المرحلات الكهروميكانيكية التي استخدمت في القنابل. لقد كانت الآلة «كولوسس» جهاز كمبيوتر بالمعنى الحديث للكلمة، ونظرا إلى سرعتها الإضافية وتعقيدها، بدأ تورينج يفكر فيها على أنها دماغ بدائي: لقد كانت تتمتع بذاكرة، وكانت تستطيع معالجة المعلومات والحالات داخل نطاق حالات الكمبيوتر الشبيهة بالحالات الذهنية. لقد حول تورينج آلته التخيلية إلى أول جهاز كمبيوتر فعلي.
حين انتهت الحرب، استمر تورينج في بناء آلات متزايدة التعقيد، مثل «محرك الحوسبة التلقائي» (ACE) . وفي العام 1948، انتقل إلى جامعة مانشستر وأنشأ أول جهاز كمبيوتر في العالم يعمل ببرنامج مخزن إلكترونيا. لقد قدم تورينج لبريطانيا أجهزة الكمبيوتر الأكثر تطورا في العالم، لكنه لم يعش طويلا ليرى حساباتها المذهلة.
في السنوات التي تلت الحرب، كان تورينج يخضع للمراقبة من أفراد جهاز المخابرات البريطانية الذين كانوا على علم بأنه يمارس المثلية الجنسية. كانوا يخشون أن يكون الرجل الذي كان يعرف عن شفرات الأمان التي تستخدمها بريطانيا أكثر من أي شخص آخر، عرضة للابتزاز وقرروا أن يراقبوا جميع تحركاته. كان تورينج قد تقبل فكرة وجود من يراقبه على الدوام بدرجة كبيرة، لكنه اعتقل في العام 1952 بتهمة انتهاك قوانين المثلية الجنسية البريطانية. وقد جعل هذا الإذلال الحياة لا تطاق بالنسبة إلى تورينج. ويصف أندرو هودجز ، كاتب السيرة الذاتية لتورينج، الأحداث التي أدت إلى وفاته على النحو التالي:
لقد جاء موت آلان تورينج صدمة لجميع من كانوا يعرفونه ... لم يكن يخفى على أحد أنه كان تعيسا متوتر الأعصاب، وأنه كان يستشير طبيبا نفسيا، وأنه قد تلقى ضربة كانت لتودي بالكثيرين من الأشخاص. غير أن المحاكمة كانت قد انتهت قبل عامين، وانتهى العلاج الهرموني قبل عام، وبدا أنه قد تجاوز كل ذلك.
أثبت التحقيق الذي أجري في العاشر من يونيو عام 1954 أنه مات منتحرا. عثر عليه مستلقيا في فراشه بعناية. كان ثمة رغوة حول فمه وقد استطاع اختصاصي علم الأمراض الذي أجرى تشريح الجثة أن يحدد بسهولة سبب الوفاة على أنه التسمم بالسيانيد ... كان يوجد في المنزل وعاء من سيانيد البوتاسيوم ووعاء من محلول السيانيد أيضا. وعلى جانب الفراش، كانت توجد نصف تفاحة قضمت منها بضع قضمات. لم يحللوا التفاحة؛ ولهذا فلم يثبت أبدا على النحو الملائم، أن التفاحة قد غمست في السيانيد، وهو ما كان جليا للغاية.
لقد تمثل إرث تورينج في آلة كانت تستطيع إجراء عمليات حسابية ستستغرق طويلا للغاية إذا أجراها إنسان، لكنها تنهيها في ساعات معدودة. إن أجهزة الكمبيوتر في العصر الحالي تستطيع إجراء مجموعة من العمليات الحسابية في جزء من الثانية أكثر مما قد أجراه فيرما على مدى حياته المهنية بأكملها. وقد بدأ علماء الرياضيات الذين ظلوا يواجهون صعوبة مع مبرهنة فيرما الأخيرة في استخدام أجهزة الكمبيوتر لمعالجة المسألة بالاستناد إلى نسخة محوسبة من النهج الذي ابتكره كومر في القرن التاسع عشر.
بعد أن اكتشف كومر عيبا في عمل كوشي ولاميه، أوضح أن المشكلة البارزة في إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة تتلخص في الحالات التي يكون فيها
n
مساويا لأحد الأعداد الأولية غير المنتظمة: أي إنه في حالات قيم
n
حتى العدد 100، لا توجد سوى ثلاثة أعداد أولية غير منتظمة هي 37 و59 و67. وفي الوقت نفسه، أوضح كومر أنه من الممكن نظريا التعامل مع الأعداد الأولية غير المنتظمة كل على حدة، والمشكلة الوحيدة هي أن كلا منها سيستلزم قدرا ضخما من العمليات الحسابية. ومن أجل إثبات وجهة نظره؛ أمضى كومر وزميله ديمتري ميريمانوف عدة أسابيع في الحسابات اللازمة للانتهاء من أمر الأعداد الأولية غير المنتظمة الثلاثة الأقل من 100. بالرغم من ذلك، فلم يكونا هما ولا غيرهما من علماء الرياضيات جاهزين للبدء في حسابات المجموعة التالية من الأعداد الأولية غير المنتظمة فيما بين 100 و1000.
وبعد ذلك بعدة عقود، بدأت مشكلة الحسابات الضخمة في التلاشي. فمع ظهور أجهزة الكمبيوتر، صار من الممكن إجراء الحسابات المتعلقة بالحالات الغريبة من مبرهنة فيرما الأخيرة بسرعة عالية، وبعد الحرب العالمية الثانية، أثبتت فرق من علماء الكمبيوتر وعلماء الرياضيات، مبرهنة فيرما الأخيرة لجميع قيم
n
حتى العدد 500، ثم 1000، ثم 10000. وفي ثمانينيات القرن العشرين، رفع صامويل إس واجستاف من جامعة إلينوي، هذا الحد إلى العدد 25000، وبعد ذلك تمكن علماء الرياضيات من الزعم بصحة مبرهنة فيرما الأخيرة لجميع قيم
n
حتى العدد 4 ملايين.
وبالرغم من أن غير المتخصصين في الرياضيات قد شعروا بأن التكنولوجيا الحديثة ستتمكن أخيرا من التغلب على المبرهنة الأخيرة، كان المجتمع الرياضي يدرك أن نجاحهم ظاهري فحسب. فحتى إذا قضت أجهزة الكمبيوتر الفائقة عقودا تثبت إحدى قيم
n
تلو الأخرى، فلن يمكن أبدا أن تثبت جميع قيم
n
إلى ما لا نهاية؛ ومن ثم فلا يمكن أبدا الزعم بأنها قد أثبتت النظرية بأكملها. حتى إذا أثبتت صحة النظرية حتى العدد مليار، فما من سبب يدعو إلى تصديق صحتها في حالة العدد مليار وواحد. وحتى إذا أثبتت صحة النظرية حتى العدد تريليون فما من سبب يدعو إلى تصديق صحتها في حالة العدد تريليون وواحد، وهكذا إلى ما لا نهاية. إن اللانهائية أمر لا يمكن تحقيقه بالقوة الغاشمة لسحق الأعداد المحوسب.
يقدم ديفيد لودج في كتابه «رواد السينما»، وصفا جميلا للأبدية، ينطبق أيضا على المفهوم الموازي المتمثل في اللانهائية: «تخيل كرة من الفولاذ بحجم العالم، وتحط عليها ذبابة مرة كل مليون عام. حين تتحرك كرة الفولاذ بعيدا بفعل الاحتكاك، لن تكون الأبدية قد بدأت حتى.»
إن كل ما تمكنت أجهزة الكمبيوتر من تقديمه هو دليل في صالح مبرهنة فيرما الأخيرة. قد يبدو الدليل قاطعا للملاحظ العابر، غير أنه ما من مقدار من الأدلة يمكن أن يرضي علماء الرياضيات، وهم جماعة من المتشككين الذين لا يقبلون بأي شيء سوى البرهان المطلق. إن استقراء نظرية تشمل مقدارا لا نهائيا من الأعداد، بناء على أدلة مستمدة من بضعة أعداد فقط، هو مجازفة ومقامرة (غير مقبولة).
ثمة تسلسل محدد من الأعداد الأولية يوضح أن الاستقراء الخارجي ركيزة من الخطر الاستناد إليها. ففي القرن السابع عشر، أوضح علماء الرياضيات بالفحص التفصيلي أن الأعداد التالية جميعها من الأعداد الأولية:
31; 331; 3331; 33331; 333331; 3333331; 33333331.
إن الأعداد التالية في السلسلة تزداد ضخامة، وكان التحقق مما إذا كانت من الأعداد الأولية أم لا، سيستلزم مجهودات كبيرة. في ذلك الوقت، شعر بعض علماء الرياضيات بإغراء الاستناد إلى الاستقراء الخارجي من هذا النمط، وافتراض أن جميع الأعداد التي تتخذ هذه الصورة أعداد أولية. بالرغم من ذلك، فقد اتضح أن العدد التالي في هذا التسلسل، وهو 333333331، ليس عددا أوليا:
133333333 = 17 × 19607843.
ومن الأمثلة الجيدة الأخرى التي توضح السبب في رفض علماء الرياضيات الاقتناع بأدلة أجهزة الكمبيوتر، حالة حدسية أويلر. فقد زعم أويلر أنه ما من حلول لمعادلة شبيهة بمعادلة فيرما:
وعلى مدى مائتي عام، لم يتمكن أحد من إثبات حدسية أويلر، لكن أحدا لم يتمكن أيضا من دحضها عن طريق إيجاد مثال مضاد. عجزت أساليب البحث اليدوي في البداية، وعجزت غربلة أجهزة الكمبيوتر من بعدها، عن إيجاد حل. لقد كان الافتقار إلى وجود مثال مضاد دليلا قويا يؤيد الحدسية. غير أنه في العام 1988، اكتشف نعوم إلكيز من جامعة هارفارد، الحل التالي:
2682440
4 + 15365639
4 + 18796760
4 = 20615673
4 .
فبالرغم من كل الأدلة، اتضح أن حدسية أويلر خاطئة. والواقع أن إلكيز أثبت وجود عدد كبير للغاية من الحلول لهذه المعادلة. والعبرة هنا أنه لا يمكن استخدام الدليل المستمد من أول مليون عدد لإثبات حدسية تضم كل الأعداد.
بالرغم من ذلك، فالطبيعة الخادعة التي تتسم بها حدسية أويلر، لا تعد شيئا إذا ما قورنت بحدسية الأعداد الأولية «المبالغ في تقديرها». فعند البحث في أنظمة أكبر وأكبر من الأعداد، يتضح أن العثور على الأعداد الأولية يزداد صعوبة. فبين العدد 0 والعدد 100 على سبيل المثال، يوجد 25 من الأعداد الأولية، أما بين العدد 10000000 والعدد 10000100، فلا يوجد سوى عددين أوليين. في العام 1791، حين كان كارل جاوس في الرابعة عشرة من عمره فحسب، تنبأ على نحو تقريبي بالأسلوب الذي سيستمر به تواتر الأعداد الأولية بين الأعداد الأخرى في التضاؤل. وكانت الصيغة دقيقة إلى درجة مناسبة، لكن بدا دائما أنها تبالغ قليلا في تقدير توزيع الأعداد الأولية بين الأعداد. فعند اختبار الصيغة على الأعداد الأولية حتى المليون أو المليار أو التريليون، يتضح دائما أن صيغة جاوس تبالغ بدرجة طفيفة، وكان علماء الرياضيات يميلون ميلا شديدا إلى افتراض أن ذلك سينطبق على جميع الأعداد إلى ما لا نهاية، ومن ثم؛ فقد ولدت حدسية الأعداد الأولية المبالغ في تقديرها.
وبعد ذلك، في العام 1914، أثبت جيه إي ليتلوود، وهو شريك جي إتش هاردي في العمل بجامعة كامبريدج، أن صيغة جاوس «تقلل من تقدير» عدد الأعداد الأولية، حين يكون النظام كبيرا بالدرجة الكافية. وأوضح إس سكيوز عام 1955 أن انخفاض التقدير سيحدث قبل بلوغ العدد:
10
10
10000000000000000000000000000000000 .
إن هذا العدد يتجاوز قدرات الخيال ويتجاوز أي تطبيق عملي. لقد قال هاردي عن عدد سكيوز إنه «أكبر عدد على الإطلاق يقدم أي فائدة محددة في الرياضيات.» لقد أجرى عملية حسابية تفيد بأنه إذا لعب المرء الشطرنج بجميع الجسيمات الموجودة في الكون (10
87 )، وكانت الحركة هي التبديل فقط بين أي جسيمين، فسوف يكون عدد المباريات الممكنة هو عدد سكيوز تقريبا.
لم يكن ثمة سبب يمنع من أن تكون مبرهنة فيرما الأخيرة قاسية وخادعة كحدسية أويلر أو كحدسية الأعداد الأولية المبالغ في تقديرها. (5) طالب الدراسات العليا
في عام 1975، بدأ أندرو وايلز حياته المهنية بعد أن تخرج في جامعة كامبريدج. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، كان يعمل في رسالة الدكتوراه؛ ويتلقى بتلك الطريقة تدريبه الرياضياتي. كان لكل طالب مشرف يرشده ويرعاه، وكان ذلك المشرف في حالة وايلز هو الأسترالي جون كوتس، البروفيسور بكلية إيمانويل، وهو في الأصل من بوسم براش في نيو ساوث ويلز.
لا يزال كوتس يتذكر ما أدى به إلى تبني وايلز: «أتذكر أن زميلا أخبرني أن لديه طالبا ممتازا كان ينهي للتو الجزء الثالث من امتحانات درجة الشرف في الرياضيات، وحثني على أن أكون مشرفا عليه. وقد حالفني الحظ في أن أكون مشرفا على طالب مثل أندرو. ذلك أنه كان يأتي بأفكار عميقة للغاية، حتى وهو لا يزال طالبا باحثا، وبدا جليا أنه عالم رياضيات سيقوم بأعمال عظيمة. لم يكن من الوارد في تلك المرحلة بالطبع أن يبدأ طالب باحث بالعمل على مبرهنة فيرما الأخيرة مباشرة. فهي مسألة شديدة الصعوبة حتى على علماء الرياضيات المحنكين.»
على مدى العقد الماضي، كان كل ما قام به وايلز موجها لإعداده للتصدي لتحدي فيرما، لكنه وقد انضم الآن إلى مصاف علماء الرياضيات المحترفين، كان عليه أن يتحلى بقدر أكبر من العملية. وهو يتذكر كيف أنه اضطر إلى التنازل عن حلمه لبعض الوقت: «لقد نحيت مبرهنة فيرما بالفعل حين ذهبت إلى كامبريدج. وليس ذلك لأنني نسيت أمرها، بل كان حاضرا على الدوام، لكنني أدركت أن الأساليب التي نملكها لمعالجتها موجودة منذ 130 عاما. وبدا أن هذه الأساليب لم تكن تصل إلى جذور المسألة. ومشكلة العمل على مبرهنة فيرما هي أنك قد تقضي أعواما دون أن تصل إلى أي شيء. لا بأس في العمل على أي مسألة رياضية ما دامت تنتج معرفة رياضية مثيرة للاهتمام، حتى إن لم تتمكن من حلها في نهاية المطاف. إن تعريف المسألة الرياضية الجيدة هو ما تنتجه من معارف رياضية، لا المسألة نفسها.»
شكل 4-7: أندرو وايلز في سنوات الكلية.
وقد كانت المسئولية تقع على جون كوتس في أن يجد لأندرو هوسا جديدا يشغل أبحاثه على مدى السنوات الثلاث التالية على الأقل. «أعتقد أن كل ما يمكن لمشرف بحثي أن يقوم به تجاه طالبه هو أن يحاول دفعه في اتجاه مثمر. من المحال بالطبع أن نكون متيقنين بشأن ماهية الاتجاهات المثمرة فيما يتعلق بمجال البحث، لكن ربما يكون أحد الأمور التي يستطيع الرياضي الأكبر القيام بها هو استخدام فطرته السليمة وحدسه بشأن أي المجالات سيكون جيدا، ثم يئول القرار إلى الطالب بعد ذلك بشأن المسافة التي يستطيع قطعها في ذلك الاتجاه.» في نهاية المطاف، قرر كوتس أن وايلز ينبغي أن يدرس مجالا في الرياضيات يعرف باسم «المنحنيات الإهليلجية». وسيثبت أن ذلك القرار سيصبح نقطة تحول في مسار وايلز المهني، وسيزوده بالأساليب التي سيحتاج إليها لتبني نهج جديد في معالجة مبرهنة فيرما الأخيرة.
إن اسم «المنحنيات الإهليلجية» مضلل بعض الشيء في حقيقة الأمر؛ إذ إنها ليست إهليلجية ولا هي حتى بالمنحنيات بالمعنى المعتاد للكلمة. وإنما هي في حقيقة الأمر أي معادلة تتخذ الصورة: ، حيث
a
و
b
و
c
أي عدد من الأعداد الصحيحة.
وقد اتخذت ذلك الاسم لأنها كانت تستخدم في الماضي لقياس محيطات الأشكال الإهليلجية لمدارات الكواكب، وأطوالها، لكنني سأشير إليها باسم «المعادلات الإهليلجية» لا المنحنيات الإهليلجية؛ سعيا إلى الوضوح.
والتحدي في المعادلات الإهليلجية هو نفسه التحدي في مبرهنة فيرما الأخيرة، وهو يتمثل في معرفة ما إذا كانت توجد لها حلول بأعداد صحيحة أو لا، وما هو عدد هذه الحلول إن وجدت. فالمعادلة الإهليلجية التالية على سبيل المثال: ، حيث ، ، .
لها مجموعة حل واحدة بأعداد صحيحة وهي كما يلي:
25 = 27 − 2
أو
5
2 = 3
3 − 2 .
وإثبات أن هذه المعادلة الإهليلجية ليس لها سوى مجموعة حل واحدة بأعداد صحيحة، مهمة في غاية الصعوبة، والواقع أن بيير دو فيرما هو من اكتشف البرهان. لعلك تتذكر من الفصل الثاني أن بيير دو فيرما هو من اكتشف أن العدد 26، هو العدد الوحيد في الكون الذي يقع بين عدد مربع وعدد مكعب. وهذا مكافئ لإثبات أن المعادلة الإهليلجية السابقة ليس لها سوى حل واحد فقط، أي إن 5
2
و3
3
هما المربع والمكعب الوحيدان اللذان نجد أن الفارق بينهما يساوي 2؛ ومن ثم، فالعدد 26 هو العدد الوحيد الذي يمكن أن يقع بين مثل هذين العددين.
إن ما يجعل المعادلات الإهليلجية ساحرة على نحو خاص هو أنها تشغل قطاعا مثيرا للفضول، فيما بين غيرها من المعادلات الأبسط التي تكاد تكون تافهة، وغيرها من المعادلات الأكثر تعقيدا التي يكاد يكون من المحال حلها. فمن خلال تغيير بسيط يتمثل في تغيير قيم
a
و
b
و
c
في المعادلة الإهليلجية العامة، يمكن لعلماء الرياضيات إنتاج تشكيلة لا نهائية من المعادلات، لكل منها سماتها الخاصة، لكنها تقع جميعا في نطاق القابلية للحل.
شكل 4-8: ظل جون كوتس، المشرف على وايلز في سبعينيات القرن العشرين، على تواصل مع تلميذه السابق.
درست المعادلات الإهليلجية في الأصل على يد علماء الرياضيات من اليونانيين القدماء، ومنهم ديوفانتوس الذي خصص أجزاء كبيرة من كتابه «أريثميتيكا» لاستكشاف خواصها. فيرما أيضا قد تصدى لتحدي المعادلات الإهليلجية، وكان ديوفانتوس هو مصدر إلهامه بذلك على الأرجح، ولأن بطله قد درسها، رحب وايلز بالتوسع في دراستها. وحتى بعد مرور ألفي عام، ظلت المعادلات الإهليلجية تنتج مسائل تستعصي على طلاب مثل وايلز: «إنها أبعد ما يكون عن أن تكون مفهومة على نحو تام. فيمكنني أن أطرح بشأن المعادلات الإهليلجية، الكثير من الأسئلة التي تبدو بسيطة، لكنها لم تزل عالقة. حتى بعض الأسئلة التي تناولها فيرما نفسه بالتفكير، لم تزل عالقة. إن جميع المعارف الرياضية التي عالجتها، يمكن تتبع أصولها إلى فيرما، إن لم يكن إلى مبرهنة فيرما الأخيرة.»
في المعادلات التي درسها وايلز بعد التخرج، كان تحديد العدد الدقيق للحلول أمرا صعبا للغاية؛ حتى إن الطريقة الوحيدة لتحقيق أي تقدم تمثلت في تبسيط المسألة. فمن المحال مثلا معالجة المعادلة الإهليلجية التالية مباشرة:
ويكمن التحدي في معرفة عدد ما يوجد للمعادلة من حلول بأعداد صحيحة، ومن الحلول التافهة نسبيا،
و :
0
3 − 0
2 = 0
2 + 0.
وأحد الحلول المثيرة للاهتمام بعض الشيء،
و :
1
3 − 1
2 = 0
2 + 0.
ربما تكون هناك حلول أخرى، لكن وجود كمية لا نهائية من الأعداد الصحيحة التي يجب البحث فيها، يجعل من إيراد قائمة كاملة بحلول هذه المعادلة المحددة مهمة مستحيلة. غير أن ثمة مهمة أبسط تتمثل في البحث عن حلول في فضاء محدد من الأعداد ، وهو ما يطلق عليه اسم الحساب الساعاتي.
رأينا سابقا كيف أنه يمكن تخيل الأعداد علامات على خط الأعداد الذي يمتد إلى ما لا نهاية، مثلما يرد في الشكل
4-9 . ومن أجل جعل فضاء الأعداد محدودا، ينطوي الحساب الساعاتي على بتر الخط ولفه على نفسه لتكوين حلقة عددية بدلا من خط عددي. يوضح الشكل
4-10
حساب الساعة الخامسة، حيث اقتطع الخط عند العدد 5، وعقد على نفسه عند الصفر. يختفي العدد 5 ويصبح مكافئا للصفر؛ ومن ثم فالأعداد التي توجد في حساب الساعة الخامسة هي 0 و1 و2 و3 و4 فحسب.
شكل 4-9: يمكن تخيل الحساب التقليدي في صورة حركات تقدما ورجوعا على خط الأعداد.
في الحساب العادي، يمكننا تخيل الإضافة على أنها حركة على طول الخط لعدد محدد من المسافات. فحين نقول 4 + 2 = 6 على سبيل المثال، هو نفسه قولنا: ابدأ عند 4 وتحرك على خط الأعداد لمسافتين، وتوقف عند 6.
أما في حساب الساعة الخامسة:
4 + 2 = 1.
ذلك أننا إذا بدأنا عند 4 وتحركنا على مدار الدائرة لمسافتين؛ فإننا نعود مجددا إلى 1. قد يبدو حساب الساعة غير مألوف، لكنه يستخدم يوميا في حقيقة الأمر حين يناقش الناس الوقت، مثلما يوحي بذلك اسمه. فأربع ساعات بعد الحادية عشرة على سبيل المثال (أي 11 + 4)، لا تدعى عادة بالساعة الخامسة عشرة، بل الساعة الثالثة. وهذا هو حساب الساعة الثانية عشرة.
وإضافة إلى الجمع، يمكن إجراء جميع العمليات الحسابية المعتادة كالضرب. ففي حساب الساعة الثانية عشرة، 5 × 7 = 11. ويمكن تخيل عملية الضرب هذه على النحو التالي: إذا بدأت عند الصفر، ثم تحركت على مدار خمس مجموعات تتكون الواحدة منها من سبع مسافات، فإنك ستصل في النهاية إلى 11. وبالرغم من أن هذه الطريقة هي إحدى الطرق التي يمكن الاستعانة بها لتخيل الضرب في حساب الساعة؛ فثمة طرق مختصرة تزيد من سرعة العمليات الحسابية. فمن أجل حساب 5 × 7 في حساب الساعة الثانية عشرة على سبيل المثال، يمكننا أن نبدأ بإيجاد النتيجة المعتادة، وهي 35. بعد ذلك، نقسم 35 على 12، ونوجد باقي القسمة، وهو ما سيكون إجابة السؤال الأصلي. إذن؛ لا يمكن قسمة 12 على 35 إلا لمرتين فقط، ويكون باقي القسمة 11، وبالفعل فإن 5 × 7 في حساب الساعة الثانية عشرة يساوي 11. وهذا يماثل تخيل الدوران بالساعة مرتين، مع تبقي 11 مسافة ينبغي قطعها.
شكل 4-10: في حساب الساعة الخامسة، يبتر خط الأعداد عند العدد 5، ويعقد على نفسه. يتطابق العدد 5 مع الصفر؛ ولهذا يستبدل به.
ونظرا إلى أن حساب الساعة لا يتعامل إلا مع فضاء محدد من الأعداد؛ فمن السهل نسبيا إيجاد جميع الحلول الممكنة لمعادلة إهليلجية في حساب ساعة محددة. فمن خلال العمل في نطاق حساب الساعة الخامسة على سبيل المثال ، يمكن إيجاد جميع الحلول الممكنة للمعادلة الإهليلجية:
والحلول هي:
بالرغم من أن بعض هذه الحلول لن يكون صالحا في الحساب المعتاد، فإنها يقبل بها في حساب الساعة الخامسة. فالحل الرابع على سبيل المثال ( ، )، يجري على النحو التالي:
لكن تذكر أن 20 تكافئ 0 في حساب الساعة الخامسة؛ لأن 5 سوف تقسم على 20، وباقي القسمة هو 0.
ونظرا إلى أن علماء الرياضيات، ومنهم وايلز، لم يتمكنوا من ذكر جميع الحلول الممكنة لأي معادلة إهليلجية عند التعامل في فضاء لا نهائي، فقد استقروا على إيجاد عدد الحلول في جميع حسابات الساعة المختلفة. فالمعادلة الإهليلجية سابقة الذكر على سبيل المثال، لها أربعة حلول في حساب الساعة الخامسة؛ لذا يقول علماء الرياضيات . ويمكن أيضا حساب عدد الحلول في حسابات ساعة مختلفة. ففي حساب الساعة السابعة على سبيل المثال، عدد الحلول 9؛ لذا فإن .
ومن أجل تلخيص نتائجهم، يذكر علماء الرياضيات عدد الحلول في كل حساب ساعاتي ويطلقون على هذه القائمة اسم السلسلة
L
للمعادلة الإهليلجية. إن ما يرمز إليه الحرف
L
صار في طي النسيان منذ مدة طويلة، لكن البعض قد اقترحوا أن المقصود به هو حرف
L
الوارد في اسم جوستاف لوجون-ديركليه، الذي عمل على المعادلات الإهليلجية. وبهدف الوضوح سوف أستخدم مصطلح السلسلة
E ، أي السلسلة المشتقة من معادلة إهليلجية. وفي المثال الذي ذكرناه سابقا، نجد أن السلسلة
E
هي كما يلي:
المعادلة الإهليلجية:
السلسلة
E :
ولأن علماء الرياضيات لا يستطيعون تحديد عدد الحلول لبعض المعادلات الإهليلجية في فضاء الأعداد المعتاد الذي يمتد إلى ما لا نهاية؛ يبدو أن السلسلة
E
هي أفضل اختيار بعد ذلك. والواقع أن السلسلة
E
تجسد قدرا كبيرا من المعلومات عن المعادلة الإهليلجية التي تصفها. فمثلما يحمل شريط الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين، جميع المعلومات اللازمة لتشكيل كائن حي، تحمل السلسلة
E ، جوهر المعادلة الإهليلجية. وقد كان علماء الرياضيات يأملون في أن تمكنهم دراسة السلسلة
E ، هذا الحمض النووي الرياضي، من حساب كل ما يرغبون في معرفته عن إحدى المعادلات الإهليلجية.
شكل 4-11: يوتاكا تانياما.
في أثناء عمله مع جون كوتس، سرعان ما اكتسب وايلز سمعة بكونه رياضيا بارعا في نظرية الأعداد، ويتمتع بفهم عميق للمعادلات الإهليلجية والسلسلة
E . وبينما كان وايلز يتوصل إلى نتائج جديدة وينشر أوراقا بحثية، فإنه لم يكن يدرك أنه كان يجمع الخبرات التي ستقربه بعد سنوات عديدة من التوصل إلى برهان لمبرهنة فيرما الأخيرة.
وبالرغم من أن أحدا لم يكن على وعي بذلك وقتها، كان رياضيو اليابان في مرحلة ما بعد الحرب، قد بدءوا بالفعل سلسلة من الأحداث ربطت المعادلات الإهليلجية بمبرهنة فيرما الأخيرة على نحو لا ينفصم. فبتشجيع وايلز على دراسة المعادلات الإهليلجية، أمده كوتس بالأدوات التي مكنته لاحقا من العمل على حلمه.
الفصل الخامس
البرهان بالتناقض
لا بد لأنماط الرياضي أن تكون جميلة، مثلها في ذلك مثل أنماط الرسام أو الشاعر؛ إذ يجب أن تتلاءم الأفكار معا في تناغم، مثلما تتناغم الألوان أو الكلمات. إن الجمال هو الاختبار الأول؛ فالرياضيات القبيحة لا تحظى بمكان دائم في العالم.
جي إتش هاردي
في شهر يناير من العام 1954، قام أحد علماء الرياضيات الشباب الموهوبين في جامعة طوكيو بزيارة معتادة إلى المكتبة الموجودة في قسمه. كان جورو شيمورا يبحث عن نسخة من دورية «ماتيماتيشا أنالين»، العدد 24. لقد كان يبحث تحديدا عن ورقة بحثية بقلم دويرنج يناقش فيها نظريته الجبرية عن الضرب المعقد؛ إذ كان يحتاج إليها كي تساعده في عملية حسابية شديدة الغرابة والغموض.
ومما أثار دهشته وقلقه أن العدد كان مستعارا بالفعل. وكان المستعير هو يوتاكا تانياما، وهو أحد المعارف البعيدين لشيمورا، ويسكن في الجانب المقابل من الحرم الجامعي. كتب له شيمورا يشرح له أنه في أمس الحاجة إلى هذا العدد من المجلة ليكمل تلك العملية الحسابية البغيضة، وسأله بأدب عن الموعد الذي سيعيده فيه.
بعد ذلك ببضعة أيام، كانت ثمة بطاقة بريدية على مكتب شيمورا. لقد أجابه تانياما مخبرا إياه أنه يعمل هو أيضا على حل تلك العملية الحسابية نفسها، وأنه متوقف عند النقطة نفسها في الحجة المنطقية. واقترح أن يشاركا أفكارهما معا، وربما يتعاونان أيضا في حل المسألة . إن هذا اللقاء الذي حدث بالصدفة بسبب كتاب في المكتبة، بدأ شراكة غيرت مسار التاريخ الرياضي.
شكل 5-1: جورو شيمورا.
ولد تانياما في الثاني عشر من نوفمبر عام 1927 في بلدة صغيرة تقع على بعد بضعة أميال في الشمال من طوكيو. وكان المقصود من الرمز الياباني الذي يمثل اسمه الأول أن يقرأ «طويو»، غير أن معظم الناس من خارج عائلته أساءوا فهمه وقرءوه «يوتاكا»، ومع مرور السنوات، تقبل تانياما هذا الاسم وتبناه. كان تعليم تانياما في مرحلة الطفولة يتعرض للمقاطعات باستمرار. فقد عانى من وعكات صحية عديدة، وأصيب بالدرن في سنوات مراهقته فاضطر إلى التخلف عامين عن المدرسة الثانوية. وجاء بعد ذلك اندلاع الحرب الذي أدى إلى عرقلة تعليمه المدرسي بدرجة أكبر.
أما جورو شيمورا، الذي كان يصغر تانياما بعام واحد، فقد توقف تعليمه بالكامل في سنوات الحرب. أغلقت المدرسة التي كان يدرس بها، وبدلا من حضور الدروس، كان على شيمورا أن يساعد في الجهود الحربية من خلال العمل في مصنع لتجميع أجزاء الطائرات. كان يحاول في كل ليلة أن يعوض ما فاته من التعليم، ووجد نفسه منجذبا إلى الرياضيات على نحو خاص. «لا شك بأنه يوجد الكثير من المواد التي ينبغي تعلمها، لكن الرياضيات كانت هي الأسهل؛ فكل ما كان علي فعله هو قراءة المقررات الدراسية للرياضيات. لقد تعلمت حساب التفاضل والتكامل بقراءة الكتب. أما إذا كنت قد رغبت في تعلم الكيمياء أو الفيزياء، لاحتجت إلى معدات علمية، ولم تكن مثل هذه الأشياء متوفرة لدي. إنني لم أفكر قط بأنني موهوب. كنت أتمتع بحب الاستطلاع فحسب.»
بعد بضع سنوات من انتهاء الحرب، وجد شيمورا وتانياما نفسيهما في الجامعة. وفي الوقت الذي تبادلا فيه البطاقات البريدية بشأن كتاب المكتبة، كانت الحياة في طوكيو قد بدأت في العودة إلى طبيعتها، وتمكن الباحثان الشابان من الاستمتاع ببضعة من الرفاهيات البسيطة. كانا يقضيان أوقات العصر في المقاهي، وفي المساء يتناولان العشاء في مطعم صغير متخصص في لحم الحيتان، وفي عطلات نهاية الأسبوع يتمشيان في الحدائق النباتية أو في منتزه المدينة. وجميعها مواقع مثالية لمناقشة أحدث أفكارهما الرياضية.
وبالرغم من أن شيمورا كان يتمتع بحس الدعابة، إذ لا يزال يحتفظ حتى اليوم بحبه لفكاهات الزن، فقد كان على درجة من التحفظ والتقليدية أكبر من تلك التي يتسم بها شريكه الفكري. كان شيمورا يستيقظ ويبدأ في العمل على الفور، بينما يكون زميله لا يزال مستيقظا في هذا الوقت، بعد أن يكون قد قضى الليل في العمل. وكثيرا ما كان من يزورون تانياما في شقته يجدونه مستغرقا في النوم في وقت العصر.
وبينما كان شيمورا شديد التدقيق، كان تانياما مهملا إلى درجة الكسل. ومن المدهش أن تلك من السمات التي كانت تحظى بإعجاب شيمورا: «لقد حبي تلك القدرة المميزة المتمثلة في ارتكاب الكثير من الأخطاء، وغالبا ما تكون في الاتجاه الصحيح. كنت أغبطه على هذا وحاولت عبثا أن أقلده، لكنني وجدت أن ارتكاب الأخطاء الجيدة أمر صعب.»
كان تانياما مثالا على العبقري الشارد الذهن، وانعكس ذلك على مظهره. لم يكن يستطيع أن يربط عقدة جيدة؛ ومن ثم فقد قرر ألا يربط رباط حذائه على الإطلاق، بدلا من أن يربطه عشرات المرات في اليوم. وكان دائما ما يرتدي بذلة خضراء غريبة تلمع لمعانا معدنيا غريبا. وكانت مصنوعة من نسيج صارخ للغاية حتى إن أفراد عائلته الآخرين قد رفضوها.
حين التقى تانياما وشيمورا في العام 1954، كانا يبدآن للتو مسارهما المهني في الرياضيات. وقد كان التقليد السائد حينها، الذي لا يزال سائدا حتى الآن، أن يتلقى الباحثون الشباب الرعاية من بروفيسور يرشد عقولهم الناشئة، لكن تانياما وشيمورا رفضا ذلك النوع من التدريب. ففي سنوات الحرب، توقفت الأبحاث تدريجيا، وحتى في الخمسينيات من القرن العشرين، لم تكن كلية الرياضيات قد تعافت بعد. فوفقا لشيمورا، كان الأساتذة «مرهقين ومنهكين ومحبطين.» وعلى العكس من ذلك، كان طلاب ما بعد الحرب متحمسين ومتشوقين للتعلم، وسرعان ما أدركوا أن الطريقة الوحيدة للتقدم إلى الأمام هي أن يعلموا أنفسهم بأنفسهم. نظم الطلاب حلقات نقاشية منتظمة يديرونها بالتناوب ليخبروا بعضهم بعضا بأحدث الأساليب والإنجازات. وبالرغم من التكاسل الذي كان يتسم به تانياما، فقد كان قوة محفزة شرسة في هذه الحلقات النقاشية. كان يشجع الطلاب الأكبر على استكشاف المجالات التي لم يتطرق إليها أحد من قبل، أما الطلاب الأصغر، فقد كان بمثابة أب لهم.
وبسبب انعزالهم، كانت الحلقات النقاشية تتناول في بعض الأحيان مواضيع، تعد في أوروبا وأمريكا من قضايا الماضي. وكانت سذاجة الطلاب تعني أنهم درسوا معادلات لم تعد تدرس في الغرب. وقد فتن كل من تانياما وشيمورا بأحد الموضوعات القديمة على وجه التحديد، وهو دراسة «الأشكال النمطية».
تعد الأشكال النمطية من الأشياء الأكثر غرابة وروعة في الرياضيات. فهي من الكيانات الأكثر غموضا في الرياضيات، غير أن عالم نظرية الأعداد الذي عاش في القرن العشرين، مارتن آيشلر، قد صنفها ضمن العمليات الخمس الأساسية: الجمع والطرح والضرب والقسمة والأشكال النمطية. ومعظم المتخصصين في الرياضيات يعدون أنفسهم بارعين في العمليات الأربع الأولى، لكنهم يجدون العملية الخامسة محيرة بعض الشيء.
إن السمة الأساسية في الأشكال النمطية هي مستوى التناظر المفرط الذي توجد عليه. وبالرغم من أن معظم الأشخاص يعرفون مفهوم التناظر المستخدم في الحياة اليومية، فإن له في الرياضيات معنى محددا للغاية؛ وهو أن الجسم يتسم بالتناظر إذا كان من الممكن تغييره بطريقة معينة، لكنه يبدو بعد ذلك وكأنه لم يتغير على الإطلاق. ومن أجل إدراك ما تتسم به الأشكال النمطية من تناظر هائل، فسيكون من المفيد أن نبدأ بدراسة التناظر في أجسام أكثر اعتيادية مثل مربع بسيط.
في حالة المربع، سنجد أن أحد أشكال التناظر فيه هو التناظر الدوراني. أي إننا إذا تخيلنا محور ارتكاز عند النقطة التي يتقاطع فيها المحور
x
والمحور
y ، فيمكن تدوير المربع الموضح في الشكل
5-2
بمقدار ربع دورة، وسيبدو بعدها كما لو أنه لم يتغير على الإطلاق. وينطبق الأمر نفسه على الدوران بمقدار نصف دورة وثلاثة أرباع دورة ودورة كاملة؛ إذ إنها جميعا ستجعل المربع يبدو كما لو أنه لم يتغير على الإطلاق.
شكل 5-2: يتسم المربع البسيط بالتناظر الدوراني والتناظر الانعكاسي.
علاوة على التناظر الدوراني، يتسم المربع أيضا بالتناظر الانعكاسي. إذا تخيلنا مرآة موضوعة على امتداد المحور
x ، فإن النصف العلوي من المربع سينعكس بالضبط على النصف السفلي، والعكس أيضا صحيح؛ لذا فبعد التغيير سيبدو المربع كما لو أنه لم يتغير بعد. وبالطريقة نفسها، يمكننا تحديد ثلاث مرايات أخرى (واحدة على امتداد المحور
y ، واثنتان على امتداد الخطين القطريين) ويبدو المربع المنعكس فيهما نسخة مطابقة للمربع الأصلي.
إن المربع البسيط من الأشكال المتناظرة نسبيا؛ فهو يتسم بالتناظر الدوراني والتناظر الانعكاسي، لكنه لا يتسم بأي تناظر انتقالي. وهذا يعني أن المربع إذا حرك في أي اتجاه، فإن المشاهد سيلاحظ الحركة على الفور؛ لأن موقعه بالنسبة إلى المحورين سيكون قد تغير. بالرغم من ذلك، إذا غطي المكان بأكمله بالمربعات، مثلما يرد في الشكل
5-3 ، فإن هذه المجموعة اللانهائية من المربعات ستتمتع حينها بالتناظر الانتقالي. وإذا حرك هذا السطح اللانهائي المغطى بالمربعات إلى الأعلى أو إلى الأسفل بمقدار مساحة مربع واحد أو أكثر، فإن هذا الجزء المنقول سيبدو متطابقا مع الجزء الأصلي.
شكل 5-3: يتمتع السطح اللانهائي المغطى بالمربعات، بالتناظر الدوراني والانعكاسي والانتقالي أيضا.
إن تناظر الأسطح المغطاة بالمربعات، هو فكرة مباشرة نسبيا، غير أنها كغيرها من المفاهيم التي تبدو بسيطة، تنطوي على بعض الأمور الغامضة الكامنة فيها. ففي السبعينيات من القرن العشرين على سبيل المثال، بدأ الفيزيائي البريطاني وعالم الرياضيات الترفيهية، روجر بنروز، في اللهو بعض الشيء بقطع بلاط مختلفة على السطح نفسه. وفي نهاية المطاف، ميز شكلين مثيرين للاهتمام على نحو خاص، وهما الطائرة الورقية والسهم اللذان يظهران في الشكل
5-4 . وثمة طريقة واحدة يمكن استخدام كل من هذين الشكلين بمفرده بها؛ لتغطية سطح دون فجوات أو تشابك، لكنهما يمكن أن يستخدما معا لتشكيل مجموعة ثرية من الأنماط لتغطية السطح. يمكن التوفيق بين الطائرات الورقية والأسهم معا بعدد لا نهائي من الطرق، وبالرغم من أن الأنماط تبدو متشابهة، فإنها تختلف جميعا في التفاصيل. ويوضح الشكل
5-4
أحد الأنماط التي يمكن تشكيلها من الطائرات الورقية والأسهم.
ثمة سمة مميزة أخرى في بلاط بنروز (أي: الأنماط التي تشكلها قطع البلاط على غرار الطائرة الورقية والسهم) وهي أنها يمكن أن تتمتع بمستوى محدود للغاية من التناظر. فللوهلة الأولى، قد يبدو أن نمط التبليط الموضح في الشكل
5-4 ، سيتسم بالتناظر الانتقالي، غير أن أي محاولة لتحريك النمط بحيث يظل ثابتا بالفعل، تنتهي بالفشل. إن أنماط بلاط بنروز غير متناظرة على نحو خادع؛ ولهذا فهي تفتن علماء الرياضيات وقد أصبحت نقطة الانطلاق لمجال جديد بأكمله في الرياضيات.
ومن المثير للفضول أن بلاط بنروز كان له انعكاسات في العلوم المادية أيضا. فدائما ما كان علماء البلورات يعتقدون أنه لا بد من بناء البلورات استنادا إلى المبادئ الكامنة وراء التبليط بالمربعات؛ إذ تتسم بمستوى عال من التناظر الانتقالي. فمن الناحية النظرية، كان بناء البلورات يعتمد على تركيب يتمتع بدرجة عالية من الانتظام والتكرار. بالرغم من ذلك، ففي العام 1984، اكتشف العلماء بلورة معدنية تتكون من الألومنيوم والمنجنيز قد بنيت وفقا لمبادئ بنروز. وتصرفت فسيفساء الألومنيوم والمنجنيز على غرار الطائرات الورقية والأسهم، مكونة بذلك بلورة منتظمة تقريبا، لكنها ليست منتظمة تماما. وحديثا طورت شركة فرنسية إحدى بلورات بنروز إلى طبقة تغلف أواني القلي.
شكل 5-4: من خلال استخدام شكلين مختلفين من قطع البلاط: الطائرة الورقية والسهم، تمكن روجر بنروز من تغطية أحد الأسطح. بالرغم من ذلك، لا يتسم هذا السطح المغطى بالبلاط الذي شكله بنروز، بالتناظر الانتقالي.
وبالرغم من أن الشيء المذهل بشأن أسطح بنروز المغطاة بالبلاط هو درجة التناظر المحدودة التي تتسم بها، فإن الخاصية المثيرة للاهتمام بشأن الأشكال النمطية هو ما تتسم به من تناظر لا نهائي. إن الأشكال النمطية التي درسها تانياما وشيمورا، يمكن نقلها وتحويلها والتبديل بينها وعكسها وتدويرها بعدد لا نهائي من الطرق، غير أنها تظل ثابتة؛ مما يجعلها الأجسام الأكثر تناظرا في الرياضيات. حين درس العالم الموسوعي الفرنسي هنري بوانكاريه الأشكال النمطية في القرن التاسع عشر، واجه صعوبة كبيرة في تقبل ما تتسم به من تناظر هائل. فبعد أن درس نوعا محددا من الأشكال النمطية، وصف لزملائه كيف أنه كان يستيقظ كل صباح على مدى أسبوعين ليحاول أن يجد خطأ في حساباته. وفي اليوم الخامس عشر، أدرك أن الأشكال النمطية متناظرة بالفعل على نحو مفرط، وتقبل ذلك.
من سوء الحظ أن رسم أحد الأشكال النمطية، أو حتى تخيله هو أمر مستحيل. ففي حالة مربع البلاط، يكون لدينا جسم يوجد في بعدين، ويحدد مكانه بالمحور
x
والمحور
y . والشكل النمطي أيضا يحدد بمحورين، لكن المحورين كليهما مركبان، بمعنى أن كل محور منهما يكون له جزء حقيقي وآخر تخيلي، ويصبح عمليا محورين. ولهذا؛ فلا بد من تمثيل المحور المركب الأول بمحورين: محور (حقيقي) ومحور (تخيلي)، وتمثيل المحور المركب الثاني بمحورين: محور (حقيقي) ومحور (تخيلي). وبصورة أكثر تحديدا، توجد الأشكال النمطية في النصف العلوي من المستوى الإحداثي لهذا الفضاء المركب، لكن أهم ما ينبغي فهمه هو أن هذا الفضاء رباعي الأبعاد ( ).
يعرف هذا الفضاء رباعي الأبعاد باسم «الفضاء الزائدي»، وصحيح أن الكون الزائدي من المفاهيم الغريبة على البشر بعض الشيء؛ إذ تقتصر خبراتهم على العيش في عالم تقليدي ثلاثي الأبعاد، لكن الفضاء رباعي الأبعاد من المفاهيم السليمة رياضيا، وهذا البعد الزائد هو ما يعطي الأشكال النمطية مستوى فائق الضخامة من التناظر. لقد كان الفنان موريتس إيشر مفتونا بالأفكار الرياضية وحاول التعبير عن مفهوم الفضاء الزائدي في بعض من نقوشاته ورسوماته. ويوضح الشكل
5-5
العمل الرابع من سلسلة حدود الدائرة لإيشر، الذي يجسد العالم الزائدي في صفحة ثنائية الأبعاد. في الفضاء الزائدي الفعلي، سيكون الشياطين والملائكة بالحجم نفسه، ويدل التكرار على مستوى التناظر المرتفع. وبالرغم من أن جزءا من هذا التناظر يمكن أن يرى على الصفحة ثنائية الأبعاد، فثمة تشويه متزايد باتجاه حافة الصورة.
شكل 5-5: العمل الرابع من سلسلة حدود الدائرة للفنان موريتس إيشر يوضح بعضا من التناظر الذي تتسم به الأشكال النمطية.
تأتي الأشكال النمطية التي توجد في فضاء زائدي، في أشكال وأحجام مختلفة، لكنها جميعا قد بنيت من المكونات الأساسية نفسها. وما يميز كل شكل من الأشكال النمطية عن غيره هو الكمية التي يحتوي عليها من كل مكون. تسمى مكونات الشكل النمطي من الواحد إلى ما لا نهاية على النحو التالي
ومن ثم فيمكن أن يحتوي شكل نمطي محدد على مقدار واحد من المكون الأول ، وعلى ثلاثة مقادير من المكون الثاني ، وعلى مقدارين من المكون الثالث ، وهكذا. ويمكن تلخيص هذه المعلومات التي تصف كيفية بناء شكل نمطي محدد، فيما يعرف باسم السلسلة النمطية أو السلسلة
M ، وهي قائمة بالمكونات والكمية اللازمة من كل منها:
السلسلة
M :
شكل 5-6: في العام 1955، حضر كل من جورو شيمورا ويوتاكا تانياما ندوة دولية في طوكيو.
ومثلما أن السلسلة
E
هي الحمض النووي للمعادلات الإهليلجية، فالسلسلة
M
هي الحمض النووي للأشكال النمطية. فكمية كل مكون من المكونات المذكورة في السلسلة
M
مهمة للغاية. وبناء على طريقة تغيير كمية المكون الأول على سبيل المثال، يمكنك إنتاج شكل نمطي مختلف تماما، لكنه على درجة مساوية من التناظر، أو يمكنك تدمير التناظر بأكمله وإنتاج جسم جديد ليس من الأشكال النمطية. وإذا كانت كمية كل مكون من المكونات قد اختيرت عشوائيا، فسوف تكون النتيجة على الأرجح جسما لا يتسم إلا بدرجة قليلة من التناظر أو لا يتسم بأي تناظر على الإطلاق.
إن الأشكال النمطية هي موضوع مستقل للغاية في الرياضيات. وكان سيبدو على وجه الخصوص أنها لا تتصل إطلاقا بالموضوع الذي كان وايلز سيدرسه في جامعة كامبريدج، وهو المعادلات الإهليلجية. فالأشكال النمطية وحوش هائلة التعقيد تدرس عادة لتناظرها ، وهي لم تكتشف إلا في القرن التاسع عشر. أما المعادلات الإهليلجية، فيعود تاريخها إلى اليونانيين القدماء، وليست لها أي علاقة بالتناظر على الإطلاق. فالأشكال النمطية والمعادلات الإهليلجية ينتميان إلى منطقتين مختلفتين تماما من الكون الرياضي، ولم يظن أحد قط بوجود أي علاقة بين الموضوعين ولو من بعيد. بالرغم من ذلك، صدم كل من تانياما وشيمورا المجتمع الرياضي باقتراح أن المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية ليسا سوى الشيء نفسه فعليا. فقد كان هذان العالمان المنشقان يريان أنهما يستطيعان توحيد العالمين الإهليلجي والنمطي. (1) التفكير القائم على التمني
في سبتمبر من العام 1955، عقدت في طوكيو ندوة دولية. وكانت تلك فرصة فريدة للباحثين اليابانيين الشباب الكثيرين؛ كي يظهروا لبقية العالم ما قد تعلموه. وزعوا على الحاضرين مجموعة تتألف من ست وثلاثين مسألة تتعلق بأعمالهم، وأرفقوها بمقدمة متواضعة: بعض المسائل التي لا حل لها في الرياضيات: لم نجر إعدادات مدروسة؛ لذا فقد يوجد فيما بينها مسائل تافهة أو مسائل قد جرى حلها بالفعل. يطلب من المشاركين التعليق على أي من هذه المسائل.
أربعة من هذه الأسئلة جاءت من تانياما، وأشارت إلى وجود علاقة غريبة بين الأشكال النمطية والمعادلات الإهليلجية. أدت هذه الأسئلة البريئة في النهاية إلى ثورة في نظرية الأعداد. لقد درس تانياما الحدود الأولى في السلسلة
M
لشكل نمطي محدد. وميز النمط وأدرك أنه يتطابق مع قائمة الأعداد المذكورة في السلسلة
E
لمعادلة إهليلجية مشهورة. وقد أجرى الحسابات لبضعة حدود إضافية في كل من السلسلتين، وكانت السلسلة
M
للشكل النمطي، والسلسلة
E
للمعادلة الإهليلجية لا تزالان متطابقتين تماما.
كان ذلك اكتشافا مذهلا؛ إذ كان يعني إمكانية الربط بين هذا الشكل النمطي وبين معادلة إهليلجية من خلال السلسلتين
M
و
E
على التوالي، دون سبب واضح؛ فقد كانت هاتان السلسلتان متطابقتين. فالحمض النووي الذي يكون كلا منهما، هو نفسه بالضبط. كان هذا الاكتشاف عميقا من ناحيتين؛ أولاهما أنه كان يقترح وجود علاقة جوهرية عميقة بين الشكل النمطي والمعادلة الإهليلجية، وهما شيئان ينتميان إلى طرفين متعاكسين في الرياضيات. وثانيتهما أنه كان يعني أن علماء الرياضيات الذين يعرفون السلسلة
M
للشكل النمطي بالفعل، لن يضطروا إلى حساب السلسلة
E
للمعادلة الإهليلجية المناظرة؛ لأنها ستكون هي السلسلة
M
نفسها.
إن العلاقات بين الموضوعات التي تبدو مختلفة مهمة من الناحية الإبداعية في الرياضيات، بقدر أهميتها في أي مجال آخر. ذلك أن العلاقة تشير إلى حقيقة دفينة تثري كلا الموضوعين. فعلى سبيل المثال، كان العلماء في البداية يدرسون الكهربية والمغناطيسية على أنهما ظاهرتان مختلفتان تماما. وبعد ذلك في القرن العشرين، أدرك العلماء النظريون والتجريبيون أن القوتين الكهربية والمغناطيسية ترتبطان ارتباطا وثيقا . وقد أدى ذلك إلى تعميق فهم كلتا الظاهرتين. فالتيارات الكهربية تنتج حقولا مغناطيسية، ويمكن للمغانط أن تولد طاقة كهربية في الأسلاك التي تمر بالقرب منها. وأدى هذا إلى اختراع المولدات الكهربية والمحركات الكهربية، ثم أدى في النهاية إلى اكتشاف أن الضوء نفسه هو نتيجة حقول مغناطيسية وحقول كهربية تتذبذب في تناغم.
درس تانياما بضعة أشكال نمطية أخرى، وكانت النتيجة في كل مرة أن السلسلة
M
تتطابق تماما مع السلسلة
E
لإحدى المعادلات الإهليلجية. بدأ يتساءل عما إذا كان من الممكن مطابقة كل شكل من الأشكال النمطية مع معادلة إهليلجية. فهل يكون لكل شكل نمطي الحمض النووي نفسه الذي يؤلف إحدى المعادلات الإهليلجية، أم يكون كل شكل من الأشكال النمطية هو معادلة إهليلجية متخفية؟ كانت الأسئلة التي وزعها في الندوة تتعلق بهذه الفرضية.
لقد كانت الفكرة القائلة بارتباط كل معادلة إهليلجية بأحد الأشكال النمطية استثنائية للغاية، حتى إن من ألقوا النظر على أسئلة تانياما رأوا أنها لا تزيد عن كونها ملاحظة مثيرة للفضول. وقد أثبت تانياما بالطبع إمكانية ربط بضعة من المعادلات الإهليلجية بأشكال نمطية محددة، لكنهم زعموا أن ذلك ليس سوى مصادفة. فوفقا للمتشككين، بدا ادعاء تانياما بوجود علاقة أكثر عمومية وشمولية، ادعاء لا أساس له. كانت الفرضية مبنية على الحدس دون أي دليل فعلي.
كان حليف تانياما الوحيد هو شيمورا الذي كان مقتنعا بقوة فكرة صديقه وعمقها. وبعد الندوة، عمل مع تانياما في محاولة لتطوير الفرضية إلى المستوى الذي يدفع بقية العالم إلى عدم تجاهل عملهما مرة أخرى. أراد شيمورا إيجاد المزيد من الأدلة التي تدعم العلاقة بين العالم النمطي والعالم الإهليلجي. وتوقف هذا التعاون مؤقتا حين دعي شيمورا في العام 1957 للعمل في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون. وبعد مرور عامين عمل فيهما أستاذا زائرا في أمريكا، اعتزم شيمورا مواصلة العمل مع تانياما، لكن ذلك لم يحدث أبدا. ففي السابع عشر من نوفمبر عام 1958، انتحر يوتاكا تانياما.
شكل 5-7: لا يزال جورو شيمورا يحتفظ بالرسالة التي تلقاها من صديقه وزميله يوتاكا تانياما . (2) موت عبقري
لا يزال شيمورا يحتفظ بالبطاقة البريدية التي أرسلها له تانياما حين تراسلا لأول مرة بشأن كتاب المكتبة. وهو يحتفظ أيضا بآخر رسالة كتبها تانياما إليه بينما كان بعيدا في برينستون، لكنها لا تتضمن أي إشارة ولو طفيفة عما كان سيحدث بعد ذلك بشهرين. وحتى هذا اليوم، لا يفهم شيمورا شيئا عما دفع تانياما إلى الانتحار. «كنت متحيرا للغاية. ربما تكون الحيرة هي الوصف الأنسب. كنت حزينا بالطبع، لكن الأمر كان مباغتا للغاية. لقد وصلتني رسالته في سبتمبر، ومات هو في بداية نوفمبر، ولم أستطع أن أفهم هذا على الإطلاق. سمعت أشياء عديدة بعد ذلك بالطبع، وحاولت أن أتصالح مع موته. قال بعض الأشخاص إنه فقد الثقة في نفسه، لكن ذلك لم يكن من الناحية الرياضية.»
وما كان شديد الإرباك لأصدقاء تانياما، هو أنه كان قد وقع للتو في غرام ميساكو سوزوكي، وخطط للزواج بها في وقت لاحق من العام. في إشادة شخصية نشرت في نشرة الجمعية الرياضية في لندن «بوليتن أوف ذا لندن ماثيماتيكال سوسايتي»، يسرد جورو شيمورا ذكريات خطبة تانياما إلى ميساكو، والأسابيع التي انتهت بانتحاره:
حين علمت بخطبتهما كنت مندهشا بعض الشيء؛ إذ إنني كنت أشعر على نحو غامض بأنها ليست من النوع المفضل له، لكن لم تراودني أي هواجس. وعلمت بعد ذلك أنهما قد وقعا على عقد لاستئجار شقة أفضل فيما يبدو، لتكون منزلهما الجديد، واشتريا بعض أواني المطبخ معا، وكانا يعدان لزفافهما. كان كل شيء يبدو مبشرا لهما ولأصدقائهما. وبعد ذلك، حلت الكارثة.
في صباح يوم الإثنين الموافق للسابع عشر من نوفمبر عام 1958، وجده حارس شقته في غرفته ميتا، ووجد رسالة متروكة على مكتبه. كانت الرسالة مكتوبة على ثلاث صفحات من ورق مفكرة من النوع الذي كان يستخدمه في عمله الدراسي، وورد في الفقرة الأولى منها ما يلي:
حتى أمس، لم تكن لدي نية محددة في قتل نفسي. غير أن البعض لاحظ ولا بد أنني قد أصبحت مؤخرا مرهقا من الناحيتين البدنية والذهنية. أما عن سبب انتحاري، فأنا نفسي لا أفهمه على وجه التحديد، لكنه ليس نتيجة لحادثة معينة أو أمر محدد. لا يمكنني سوى القول إنني أشعر بفقدان الثقة في مستقبلي. ثمة شخص ما قد يشعر بأن انتحاري مزعج له أو صادم إلى حد ما. وأنا أتمنى بصدق ألا تترك هذه الحادثة ظلا أسود على مستقبل ذلك الشخص. إنني لا أستطيع أن أنكر على أي حال أن ذلك نوع من الخيانة، لكنني أرجو أن تعذروني فيها باعتبارها آخر فعل أقوم به في طريقي الخاص، مثلما أنني سرت في طريقي الخاص طوال حياتي.
واصل بعد ذلك ليشرح بطريقة منهجية للغاية، رغبته بشأن كيفية التخلص من ممتلكاته، مع تحديد أي الكتب والتسجيلات كان قد استعارها من المكتبة أو من أصدقائه، إلى آخر ذلك. وقد قال تحديدا: «إنني أرغب في ترك التسجيلات والمشغل لميساكو سوزوكي إذا لم يكن تركي إياها لها سيزعجها.» وأوضح أيضا ما وصل إليه في المناهج الدراسية الجامعية التي كان يدرسها في التفاضل والتكامل والجبر الخطي، واختتم بالاعتذار إلى زملائه عما قد يسببه هذا الفعل من مضايقات لهم.
وعلى هذا النحو أنهى أحد أكثر العقول براعة وابتكارا حياته بإرادته. وكان قد بلغ من العمر الواحدة والثلاثين قبل ذلك بخمسة أيام فقط.
وبعد حادثة الانتحار ببضعة أسابيع، حلت المأساة مرة أخرى. فقد أنهت خطيبته ميساكو سوزوكي حياتها. ويقال إنها تركت رسالة جاء فيها: «لقد وعد أحدنا الآخر بأننا لن نفترق أبدا أينما ذهبنا . والآن وقد رحل، فلا بد أن أذهب أيضا كي أكون معه.» (3) فلسفة الخيرية
على مدى حياته المهنية القصيرة، أسهم تانياما في الرياضيات بالعديد من الأفكار الجذرية. تضمنت الأسئلة التي وزعها في الندوة أعظم رؤاه، لكنها كانت تسبق عصرها بالكثير حتى إنه لم يعش ليرى تأثيرها الضخم على نظرية الأعداد. لقد فقد إبداعه الفكري على نحو محزن، وكذلك دوره الإرشادي في مجتمع العلماء اليابانيين الشباب. ويتذكر شيمورا تأثير تانياما على نحو واضح فيقول: «لقد كان عطوفا للغاية مع زملائه، لا سيما مع الأصغر سنا منهم، وكان يهتم بسعادتهم اهتماما صادقا. كان مصدر دعم معنوي للعديد ممن تواصلوا معه بشأن الرياضيات، وأنا منهم بالطبع. والأرجح أنه لم يكن مدركا لهذا الدور الذي كان يؤديه قط. غير أنني أشعر الآن بكرمه النبيل في هذا الجانب، بدرجة أقوى مما كنت أشعر به في حياته. بالرغم من ذلك، لم يستطع أحد أن يمده بالدعم حين كان في أمس الحاجة إليه. وحين أفكر في هذا، يغمرني شعور شديد بالأسى.»
بعد موت تانياما، ركز شيمورا جميع مجهوداته على فهم العلاقة الدقيقة بين المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية. ومع مرور السنوات، كان يناضل لجمع المزيد من الأدلة مع بعض الحجج المنطقية لدعم النظرية. وكان اقتناعه يزيد تدريجيا بأن كل معادلة إهليلجية لا بد أن تكون مرتبطة بشكل نمطي ما. أما علماء الرياضيات الآخرون فقد كانوا لا يزالون متشككين، ويذكر شيمورا محادثة له مع زميل بارز. وسأله هذا البروفيسور: «سمعت أنك تقترح إمكانية الربط بين بعض المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية.»
وقد جاءت إجابة شيمورا على النحو التالي: «كلا، أنت لا تفهم. ليس «بعض» المعادلات الإهليلجية فحسب، بل «جميع» المعادلات الإهليلجية!»
لم يستطع شيمورا إثبات صحة ذلك، غير أنه كان كلما اختبر فرضيته، بدا أنها صحيحة، ثم إنها كانت تتلاءم مع فلسفته العامة في الرياضيات على أي حال. «إنني أعتنق فلسفة الخيرية. ينبغي أن توجد الخيرية في الرياضيات. ولهذا؛ ففي حالة المعادلة الإهليلجية، يمكن للمرء أن يصف المعادلة بالخيرية إذا كان من الممكن التعبير عنها بالحدود من خلال شكل نمطي. وأنا أتوقع أن تكون المعادلات الإهليلجية جميعها خيرة. صحيح أنها فلسفة أولية، لكن يمكن للمرء دوما أن يتخذها كنقطة انطلاق. كان علي بعد ذلك بالطبع تطوير عدة أسباب تقنية للحدسية. يمكنني القول إن الحدسية قد نبعت من فلسفة الخيرية تلك. إن معظم علماء الرياضيات يمارسون الرياضيات انطلاقا من وجهة نظر جمالية، وفلسفة الخيرية تلك تنبع من وجهة نظري الجمالية.»
وفي نهاية المطاف، كان تراكم أدلة شيمورا يعني أن نظريته عن المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية قد حظيت بالقبول على نطاق أوسع. لم يستطع أن يثبت صحتها لبقية العالم، لكنها كانت قد أصبحت الآن أكثر من محض تفكير نابع من التمني على الأقل. صار هناك من الأدلة ما يكفي ليجعلها جديرة بلقب الحدسية. وقد سميت في بادئ الأمر بحدسية تانياما-شيمورا، تقديرا للرجل الذي استلهمها وزميله الذي واصل العمل لتطويرها على نحو كامل.
وفي الوقت المناسب، كان أندريه ويل، وهو أحد الآباء الروحيين لنظرية الأعداد في القرن العشرين، سيتبنى الحدسية ويروج لها في الغرب. درس ويل فكرة شيمورا وتانياما، ووجد المزيد من الأدلة القوية التي تؤيدها. ونتيجة لهذا؛ فكثيرا ما كان يشار إلى الفرضية باسم حدسية تانياما- شيمورا-ويل، وباسم حدسية تانياما- ويل في بعض الأحيان، وباسم حدسية ويل من وقت إلى آخر. والحق أن الاسم الرسمي للحدسية قد شهد الكثير من الجدال والخلاف. ربما يعلم المهتمون بالرياضيات التوافقية أنه يوجد 15 من التوافيق الممكنة في ظل وجود الأسماء الثلاثة المحددة، ومن المحتمل أن يكون كل من هذه التوافيق قد ظهر في المنشورات على مدى السنين. بالرغم من ذلك، فسوف أشير إلى الحدسية باسمها الأصلي، وهو حدسية تانياما-شيمورا.
كان البروفيسور جون كوتس، الذي أرشد أندرو وايلز حين كان طالبا، هو نفسه طالبا حين صارت حدسية تانياما-شيمورا موضع الحديث في الغرب. «لقد بدأت البحث عام 1966 حين كانت حدسية تانياما-شيمورا تجتاح العالم. كان الجميع مندهشين وبدءوا يدرسون بجدية إمكانية أن تكون المعادلات الإهليلجية جميعها نمطية. كان ذلك وقتا مثيرا للغاية، لكن المشكلة الوحيدة بالطبع هي أن إحراز تقدم قد بدا صعبا للغاية. أعتقد أنه من الإنصاف القول إنه بالرغم من جمال هذه الفكرة، فقد كان إثباتها فعليا أمرا صعبا للغاية، وهذا هو ما نهتم به نحن - المتخصصين في الرياضيات - بصفة أساسية.»
خلال أواخر الستينيات من القرن العشرين، قامت جموع من علماء الرياضيات باختبار حدسية تانياما-شيمورا. كانوا يبدءون بإحدى المعادلات الإهليلجية والسلسلة
E
الخاصة بها، ويحاولون البحث عن شكل نمطي تكون السلسلة
M
الخاصة به متطابقة مع السلسلة
E . وفي جميع الحالات، كانوا يجدون لكل معادلة من المعادلات الإهليلجية شكلا نمطيا مرتبطا بها. وبالرغم من أن ذلك كان دليلا جيدا يؤيد حدسية تانياما- شيمورا، فإنه لم يكن برهانا بأي حال من الأحوال. كان علماء الرياضيات يظنون أنها صحيحة، لكنها تظل محض حدسية إلى أن يتمكن أحد من إيجاد برهان منطقي لها.
شهد باري ميزور، البروفيسور بجامعة هارفارد، بزوغ حدسية تانياما-شيمورا. «لقد كانت حدسية رائعة، ذلك التخمين القائل بأن كل معادلة إهليلجية ترتبط بشكل نمطي ما، لكن علماء الرياضيات تجاهلوها في البداية؛ لأنها كانت سابقة لعصرها كثيرا. وهي لم تقبل حين اقترحت لأول مرة؛ لأنها كانت مذهلة للغاية. فمن ناحية ما، لديك العالم الإهليلجي، وعلى الناحية الأخرى لديك العالم النمطي. إن كلا من هذين الفرعين من فروع الرياضيات، قد درسا بصورة مكثفة لكن على نحو منفصل. فعلماء الرياضيات الذين يدرسون المعادلات الإهليلجية قد لا يكونون ضليعين في الأشكال النمطية، والعكس أيضا صحيح. ثم تأتي من بعد ذلك حدسية تانياما-شيمورا، وهي ذلك التخمين العظيم بوجود جسر بين هذين العالمين المختلفين تمام الاختلاف. وعلماء الرياضيات يحبون بناء الجسور.»
للجسور الرياضية قيمة ضخمة للغاية. ذلك أنها تمكن، مجتمعات علماء الرياضيات الذين كانوا يعيشون على جزر منفصلة من تبادل الأفكار واستكشاف بعضهم ابتكارات بعض. فالرياضيات تتألف من جزر من المعرفة في بحر من الجهل. فعلى سبيل المثال، هناك الجزيرة التي يسكنها علماء الهندسة الذين يدرسون الأشكال والأجسام، وهناك جزيرة الاحتمالات حيث يناقش علماء الرياضيات المخاطر والفرص. توجد العشرات من مثل هذه الجزر، ولكل منها لغتها الفريدة التي لا يفهمها سكان الجزر الأخرى. فلغة الهندسة تختلف كثيرا عن لغة الاحتمالات، واللغة العامية للتفاضل والتكامل لا تعني أي شيء لمن لا يتحدثون سوى لغة الإحصائيات.
وقد كانت الإمكانية العظيمة التي تحملها حدسية تانياما-شيمورا هي الربط بين جزيرتين، والسماح لهما بأن تتحدث إحداهما إلى الأخرى للمرة الأولى. يرى باري ميزور أن حدسية تانياما-شيمورا بمثابة أداة للترجمة مثل حجر رشيد، الذي تضمن اللغة المصرية الديموطيقية واللغة اليونانية القديمة واللغة الهيروغليفية. ولأن اللغتين الديموطيقية واليونانية كانتا مفهومتين بالفعل، فقد تمكن علماء الآثار من فك شفرة الرموز الهيروغليفية للمرة الأولى. ويقول ميزور: «إن الأمر يشبه كما لو أنك تعرف لغة واحدة، وسيمنحك حجر رشيد هذا فهما عميقا للغة الأخرى. غير أن حدسية تانياما-شيمورا هي حجر رشيد يتمتع بقوة سحرية محددة. ذلك أن الحدسية تتسم بتلك الخاصية الرائعة المتمثلة في أن الأمور الحدسية البسيطة في العالم النمطي، تترجم إلى حقائق عميقة في العالم الإهليلجي. وعلاوة على ذلك، فإن المسائل شديدة العمق في العالم الإهليلجي، يمكن حلها في بعض الأحيان من خلال ترجمتها باستخدام حجر رشيد هذا إلى العالم النمطي، واكتشاف أننا نمتلك في العالم النمطي الأفكار والأدوات اللازمة لمعالجة المسألة المترجمة. أما في العالم الإهليلجي، فقد كنا سنصبح في حيرة من أمرنا.»
إذا اتضح أن حدسية تانياما-شيمورا صحيحة، فإنها ستمكن علماء الرياضيات من معالجة المعادلات الإهليلجية التي ظلت دون حل على مدى قرون طويلة، وذلك من خلال دراستها عن طريق العالم النمطي. لقد ألهمت الحدسية علماء الرياضيات بالأمل في توحيد مجالي المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية معا. وألهمتهم أيضا بالأمل في إمكانية وجود روابط بين العديد من الموضوعات الرياضية الأخرى.
في ستينيات القرن العشرين، أدرك روبرت لانجلاندز من معهد برينستون للدراسات المتقدمة، فعالية حدسية تانياما-شيمورا. فبالرغم من أن الحدسية لم تكن قد أثبتت بعد، كان لانجلاندز يعتقد أنها عنصر واحد في مخطط أكبر كثيرا للتوحيد. لقد كان واثقا من وجود روابط بين جميع الموضوعات الأساسية في الرياضيات، وبدأ في البحث عن روابط التوحيد تلك. وفي غضون بضع سنوات، بدأ عدد من الروابط في الظهور. وصحيح أن جميع حدسيات التوحيد الأخرى كانت أضعف كثيرا من حدسية تانياما- شيمورا وتخمينية بدرجة أكبر، فإنها كونت شبكة متشابكة من الصلات الافتراضية تربط بين العديد من مجالات الرياضيات. كان لانجلاندز يحلم برؤية هذه الحدسيات وقد أثبتت واحدة تلو الأخرى؛ مما يؤدي إلى توحيد مجال الرياضيات الكبير.
ناقش لانجلاندز خطته للمستقبل، وحاول أن يقنع غيره من علماء الرياضيات بالاشتراك فيما أصبح معروفا باسم برنامج لانجلاندز، وهو مجهود منسق لإثبات حدسياته الكثيرة. لم يبد أن ثمة طريقا واضحا لإثبات تلك الروابط التخمينية، لكن إذا تحول الحلم إلى حقيقة، فستكون الجائزة ضخمة. فأي مسألة لا يمكن حلها في أحد مجالات الرياضيات، سيمكن تحويلها إلى مسألة مناظرة في مجال آخر حيث توجد ترسانة جديدة بأكملها من التقنيات التي يمكن استخدامها في معالجة المسألة. وإذا كان أحد الحلول لا يزال صعب المنال، فيمكن تحويل المسألة ونقلها إلى مجال آخر من مجالات الرياضيات، وهكذا دواليك إلى أن يمكن حلها. ووفقا لبرنامج لانجلاندز، سيتمكن علماء الرياضيات ذات يوم من حل أكثر المسائل غموضا وأصعبها في الحل من خلال تحريكها بين أرجاء المشهد الرياضي.
كان البرنامج ينطوي أيضا على نتائج مهمة في مجالات العلوم التطبيقية والهندسة. فسواء أكان الأمر يتعلق بتصميم نماذج التفاعلات بين الكواركات المتصادمة أم اكتشاف الطريقة الأكثر كفاءة لتنظيم شبكة اتصالات، فغالبا ما يتمثل الحل في إجراء عملية حسابية رياضية. وفي بعض مجالات العلوم والتكنولوجيا، يصل تعقيد العمليات الحسابية إلى درجة هائلة، حتى إنه يعيق من تقدم المجال كثيرا. فلو أن علماء الرياضيات قد تمكنوا من إثبات حدسيات الربط التي يتضمنها برنامج لانجلاندز، لأصبح لديهم طرق مختصرة لحل المسائل العملية والمجردة.
وبحلول السبعينيات من القرن العشرين، كان برنامج لانجلاندز قد أصبح مخططا لمستقبل الرياضيات، لكن هذا الطريق إلى فردوس حل المسائل كان مغلقا بسبب الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن أحدا لم يكن يمتلك أدنى فكرة عن كيفية إثبات أي من حدسيات لانجلاندز. لقد ظلت الحدسية الأقوى في البرنامج هي حدسية تانياما- شيمورا، لكن حتى هذه الحدسية بدت بعيدة المنال. كان برهان حدسية تانياما-شيمورا سيصبح هو الخطوة الأولى في برنامج لانجلاندز، ومن ثم فقد أصبح أحد أكبر الجوائز في نظرية الأعداد الحديثة.
وبالرغم من وضع حدسية تانياما-شيمورا بوصفها حدسية غير مثبتة، فقد استمر ذكرها في المئات من الأوراق البحثية الرياضية التي تتضمن تخمينات بشأن ما سيحدث إذا أمكن إثباتها. كانت الأوراق تبدأ بذكر التحذير بكل وضوح «بافتراض صحة حدسية تانياما-شيمورا، ...» ثم تواصل في إيضاح حل لإحدى المسائل التي لا حل لها. وقد تكون هذه النتائج نفسها محض افتراضات بالطبع؛ إذ اعتمدت على صحة حدسية تانياما-شيمورا. وهذه النتائج الافتراضية الجديدة دمجت بدورها في نتائج أخرى إلى أن صار لدينا وفرة من المعارف الرياضية التي قامت على أساس صحة حدسية- تانياما شيمورا. إن هذه الحدسية الواحدة قد أصبحت أساسا لبناء جديد كامل من الرياضيات، غير أن هذا المبنى بأكمله يظل هشا إلى أن تثبت الحدسية.
في ذلك الوقت، كان أندرو وايلز باحثا شابا في جامعة كامبريدج، وهو يذكر القلق الذي أصاب مجتمع الرياضيات في سبعينيات القرن العشرين قائلا: «لقد بنينا الكثير والكثير من الحدسيات التي امتدت إلى ما هو أبعد وأبعد في المستقبل، غير أنها ستكون جميعا بلا قيمة إذا لم تكن حدسية تانياما-شيمورا صحيحة. ولهذا؛ كان علينا أن نثبت حدسية تانياما-شيمورا لنوضح أن هذا التصميم الكامل الذي نأمل أن نكون قد خططناه للمستقبل صحيح.»
بنى علماء الرياضيات بيتا ضعيفا من الورق. وقد كانوا يحلمون بأن يتمكن أحد ذات يوم من أن يمنح بناءهم الأساس المتين الذي كان في حاجة إليه. وكان عليهم أيضا أن يتعايشوا مع الكابوس المتمثل في أن أحدهم قد يثبت ذات يوم أن حدسية تانياما-شيمورا خاطئة في حقيقة الأمر؛ فيؤدي بذلك إلى إهدار مقدار عقدين من البحث هباء. (4) الرابط المفقود
في خريف العام 1984، اجتمعت مجموعة مختارة من علماء نظرية الأعداد لندوة في أوبرفولفاخ، وهي بلدة صغيرة تقع في قلب الغابة السوداء في ألمانيا. وقد اجتمعوا معا لمناقشة العديد من الإنجازات في مجال دراسة المعادلات الإهليلجية، ولا شك أن بعض المتحدثين كانوا سيتطرقون أحيانا لذكر أي تقدم أحرزوه في إثبات حدسية تانياما-شيمورا، وإن كان طفيفا. كان جيرارد فراي أحد المتحدثين، وهو رياضي من ساربروكن، ولم يقدم أي فكرة جديدة بشأن كيفية التصدي للحدسية، لكنه قدم زعما بارزا، مفاده أنه إذا تمكن أحدهم من إثبات حدسية تانياما- شيمورا، فسوف يتمكن على الفور من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة.
حين نهض فراي للحديث، بدأ بكتابة معادلة فيرما: ، حيث
n
أكبر من 2.
تزعم مبرهنة فيرما الأخيرة أنه لا توجد حلول بأعداد صحيحة لهذه المعادلة، لكن فراي قد تساءل عما سيحدث إذا كانت المبرهنة خاطئة، أي إذا كان ثمة حل واحد على الأقل. لم يكن فراي يعرف على الإطلاق ما قد يكون حله الافتراضي الابتداعي هذا، ولهذا فقد أسمى الأعداد المجهولة بالحروف
A
و
B
و
C :
واصل فراي بعد ذلك ليقوم ب «إعادة ترتيب» المعادلة. وهو إجراء رياضي دقيق يتمثل في تغيير مظهر المعادلة دون أن يغير من صحتها. ومن خلال سلسلة حاذقة من المناورات المعقدة، حول فراي معادلة فيرما الأصلية وحلها الافتراضي، إلى الصورة:
وبالرغم من أن هذا الترتيب يبدو مختلفا للغاية عن المعادلة الأصلية، فهو نتيجة مباشرة للحل الافتراضي. أي إننا نفترض - ويجب التأكيد هنا على كلمة «نفترض» - أنه يوجد حل لمعادلة فيرما، وأن مبرهنة فيرما الأخيرة خاطئة، ومن ثم فلا بد أيضا من وجود هذه المعادلة المعاد ترتيبها. في بادئ الأمر، لم يكن جمهور فراي منبهرا بطريقة ترتيبه الجديدة للمعادلة، لكنه أوضح بعد ذاك أن هذه المعادلة الجديدة هي معادلة إهليلجية في حقيقة الأمر، وإن كانت معقدة وغريبة بعض الشيء. فالمعادلات الإهليلجية تتخذ الصورة:
وإذا افترضنا أن:
فسوف يسهل علينا إدراك الطبيعة الإهليلجية لمعادلة فراي.
ومن خلال تحويل معادلة فيرما إلى معادلة إهليلجية، ربط فراي بين مبرهنة فيرما الأخيرة وبين حدسية تانياما-شيمورا. بعد ذلك، أوضح فراي لجمهوره أن معادلته الإهليلجية التي ابتدعها من حل معادلة فيرما، شاذة للغاية. وقد زعم فراي بالفعل أن معادلته الإهليلجية شديدة الغرابة حتى إن تداعيات وجودها ستكون مدمرة لحدسية تانياما-شيمورا.
يجب أن نتذكر أن معادلة فراي الإهليلجية ليست سوى معادلة وهمية. فوجودها مشروط بحقيقة أن تكون مبرهنة فيرما الأخيرة خاطئة. بالرغم من ذلك، إذا كانت معادلة فراي الإهليلجية موجودة بالفعل، فهي إذن شاذة للغاية حتى إنه ليبدو من المحال أن تكون مرتبطة بشكل نمطي. غير أن حدسية تانياما-شيمورا تقترح أن «كل» معادلة إهليلجية لا بد أن ترتبط بشكل نمطي. ومن ثم؛ فإن وجود معادلة فراي الإهليلجية يعارض حدسية تانياما-شيمورا.
بعبارة أخرى، تتمثل الحجة المنطقية التي يسوقها فراي فيما يلي: (1)
إذا كانت مبرهنة فيرما الأخيرة خاطئة، (ففي هذه الحالة فحسب) ستكون معادلة فراي الإهليلجية موجودة بالفعل. (2)
معادلة فراي الإهليلجية شاذة للغاية بدرجة لا يمكن معها أبدا أن تكون نمطية. (3)
تزعم حدسية تانياما-شيمورا أن جميع المعادلات الإهليلجية لا بد أن تكون نمطية. (4)
إذن؛ فلا بد أن تكون حدسية تانياما-شيمورا خاطئة!
ثمة بديل آخر أهم، وهو أن فراي يمكن أن يسوق حجته عكسيا على النحو التالي: (1)
إذا أمكن إثبات صحة حدسية تانياما-شيمورا، فلا بد أن تكون المعادلات الإهليلجية جميعها أشكالا نمطية. (2)
وإذا كانت المعادلات الإهليلجية جميعها أشكالا نمطية، فلا يمكن أن تكون معادلة فراي الإهليلجية موجودة. (3)
إذا كانت معادلة فراي الإهليلجية غير موجودة، فلا يمكن أن يكون ثمة حل لمعادلة فيرما. (4)
ومن ثم؛ فإن مبرهنة فيرما الأخيرة صحيحة!
لقد توصل جيرارد فراي إلى الاستنتاج المثير بأن صحة مبرهنة فيرما الأخيرة ستكون نتيجة مباشرة لإثبات حدسية تانياما-شيمورا. زعم فراي أنه إذا تمكن علماء الرياضيات من إثبات حدسية تانياما-شيمورا، فسوف يثبتون مبرهنة فيرما الأخيرة تلقائيا. للمرة الأولى على مدى مائة عام، بدت المسألة الرياضية الأصعب في العالم بأكمله هشة. فوفقا لفراي، صار إثبات حدسية تانياما-شيمورا هو العقبة الوحيدة أمام إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة.
وبالرغم من انبهار الجمهور بفكرة فراي اللامعة، فقد أدركوا أيضا وجود خطأ أولي في حجته المنطقية. لقد اكتشفه جميع من في القاعة فيما عدا فراي نفسه. وبالرغم من أن الخطأ لم يبد خطيرا، فقد ظل عمل فراي غير مكتمل في وجوده. وكان أول من يتمكن من تصحيح هذا الخطأ، سينسب إليه الفضل في الربط بين فيرما وتانياما-شيمورا.
أسرع جمهور فراي بمغادرة قاعة المحاضرة وتوجهوا إلى غرفة التصوير. وغالبا ما يمكن قياس أهمية إحدى المحاضرات عن طريق طول الصف الذي ينتظر لطباعة نسخ من المحاضرة. وفور أن حصلوا على صورة كاملة لأفكار فراي، عاد كل منهم إلى المؤسسة التي يعمل بها، وبدءوا في محاولة سد الثغرات.
كانت حجة فراي تستند إلى حقيقة أن معادلته الإهليلجية المشتقة من معادلة فيرما شاذة جدا لدرجة أنها لا ترتبط بشكل نمطي. وقد كان عمله غير مكتمل؛ لأنه لم يثبت أن معادلته الإهليلجية شاذة بالدرجة الكافية. وفقط في حالة أن يتمكن أحد من إثبات الشذوذ «المطلق» الذي تتسم به معادلة فراي الإهليلجية، يمكن أن ينطوي إثبات حدسية تانياما-شيمورا على إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة.
شكل 5-8: كين ريبت.
اعتقد علماء الرياضيات في بادئ الأمر أن إثبات شذوذ معادلة فراي الإهليلجية سيكون عملية اعتيادية بدرجة كبيرة. فللوهلة الأولى، بدا خطأ فراي أوليا وافترض جميع من حضروا ندوة أوبرفولفاخ أنه سيكون ثمة سباق لرؤية من يستطيع تعديل الجبر بأكبر سرعة. فقد كانت التوقعات أن أحدهم سيرسل بريدا إلكترونيا في غضون بضعة أيام يشرح فيه الطريقة التي تمكن بها من إثبات غرابة معادلة فراي الإهليلجية.
انقضى أسبوع دون ظهور مثل ذلك البريد الإلكتروني. انقضت الشهور أيضا وما كان من المفترض به أن يكون سباقا جنونيا رياضيا، صار يتحول إلى ماراثون. وبدا كما لو أن فيرما لا يزال يغيظ أحفاده ويعذبهم. لقد قدم فراي استراتيجية جذابة لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة، لكن الخطوة الأولى في حد ذاتها ، وهي إثبات أن معادلة فراي الافتراضية الإهليلجية ليست نمطية، كانت تحير علماء الرياضيات في جميع أرجاء العالم.
ولإثبات أن إحدى المعادلات الإهليلجية غير نمطية، راح علماء الرياضيات يبحثون عن ثوابت كتلك المذكورة في الفصل الرابع. فقد برهن ثابت العقدة على أنه لا يمكن تحويل عقدة ما إلى عقدة أخرى، وبرهن ثابت لويد على أنه لا يمكن وضع أحجيته 14-15 في الترتيب الصحيح. إذا تمكن علماء نظرية الأعداد من اكتشاف ثابت ملائم لوصف معادلة فراي الإهليلجية، لتمكنوا من إثبات أنه لا يمكن أبدا تحويلها إلى شكل نمطي، أيا ما كان التغيير الذي يطرأ عليها.
كان أحد هؤلاء الذي يكدون لإثبات الرابط بين حدسية تانياما-شيمورا ومبرهنة فيرما الأخيرة وإكماله، كين ريبت، البروفيسور بجامعة كاليفورنيا الموجودة في مدينة بيركلي. فمنذ محاضرة أوبرفولفاخ، أصبح ريبت مهووسا بمحاولة إثبات أن معادلة فراي الإهليلجية شديدة الغرابة بدرجة لا يمكن معها أن تكون نمطية. وبعد ثمانية عشر شهرا من الجهود، لم يكن هو ولا غيره قد حققوا أي شيء على الإطلاق. وبعد ذلك في صيف عام 1986، كان أحد زملاء ريبت، وهو البروفيسور باري ميزور، في زيارة إلى بيركلي لحضور المؤتمر الدولي لعلماء الرياضيات. التقى الصديقان لتناول مشروب القهوة بالحليب في مقهى «كافيه سترادا»، وبدآ يتشاركان قصص الحظ السيئ والتذمر بشأن حالة الرياضيات.
وفي نهاية المطاف، بدآ يتناقشان بشأن أحدث أخبار المحاولات العديدة لإثبات شذوذ معادلة فراي الإهليلجية، وبدأ ريبت في شرح استراتيجية تجريبية كان يستكشفها. بدا النهج مبشرا على نحو غامض، لكنه لم يستطع إثبات سوى جزء صغير للغاية منه. «جلست مع باري وأخبرته بما كنت أعمل عليه. ذكرت أنني قد أثبت حالة خاصة للغاية، لكنني لم أعرف ما أفعله بعد ذلك لتعميمها لكي يحظى البرهان بالقوة الكاملة.»
احتسى البرفيسور ميزور قهوته واستمع إلى فكرة ريبت، ثم توقف وحدق إلى كين بذهول: «ألا ترى؟ لقد توصلت إلى البرهان بالفعل! كل ما عليك فعله هو إضافة صفر جاما لتركيب (
M )، ومراجعة حجتك المنطقية وستجد أنها صالحة. سيصبح لديك كل ما تحتاج إليه.»
نظر ريبت إلى ميزور، ثم إلى قهوته، ثم نظر إلى ميزور مجددا. لقد كانت هذه اللحظة هي الأهم في مسار ريبت المهني، وهو يتذكرها بالتفصيل بحب. «قلت: «إنك محق تماما - بالطبع - كيف لم أدرك هذا؟ لقد كنت مذهولا تماما؛ إذ لم يخطر ببالي قط أن أضيف صفر جاما الإضافي لتركيب (
M )، بالرغم من بساطة الأمر».»
ينبغي الإشارة هنا إلى أنه بالرغم من أن «إضافة صفر جاما لتركيب (
M )»، يبدو بسيطا لكين ريبت، فهي خطوة خفية في المنطق، قلة من علماء الرياضيات في العالم بأكمله هم من يمكنهم ابتكارها في محادثة عابرة أثناء احتساء القهوة. «كانت هذه الخطوة هي المكون الضروري الذي لم أكن أمتلكه، وقد كان أمامي مباشرة. تجولت في طريق العودة إلى شقتي هائما، وأنا أفكر: رباه، أهذا صحيح حقا؟ كنت مسلوب اللب تماما، وجلست أكتب بسرعة على دفتر من الورق. بعد ساعة أو اثنتين، كنت قد كتبت كل شيء وتحققت من أنني أعرف الخطوات الأساسية، وأنها تتلاءم جميعا معا. راجعت حجتي المنطقية وقلت: «أجل، سيفلح هذا حتما.» كان آلاف علماء الرياضيات بالطبع قد حضروا المؤتمر الدولي لعلماء الرياضيات، وقد ذكرت عرضا لعدد قليل من الأشخاص أنني برهنت على أن حدسية تانياما-شيمورا تنطوي على مبرهنة فيرما الأخيرة. انتشر الخبر كالنار في الهشيم، وسرعان ما عرف الكثيرون، وكانوا يهرعون إلي يسألونني: «أصحيح حقا أنك أثبت أن معادلة فراي الإهليلجية ليست نمطية؟» كان علي أن أفكر لبرهة، ثم قلت فجأة: «أجل، قد فعلت».»
الآن قد صارت مبرهنة فيرما الأخيرة مرتبطة بحدسية تانياما-شيمورا، ارتباطا لا ينفصم. إذا استطاع أحدهم أن يثبت أن المعادلات الإهليلجية جميعها نمطية، فسوف يعني هذا أنه لا يوجد أي حل لمعادلة فيرما، وتثبت مبرهنة فيرما الأخيرة تلقائيا.
شكل 5-9: في العام 1986، أدرك أندرو وايلز أنه قد يكون من الممكن إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة عن طريق حدسية تانياما-شيمورا.
على مدى ثلاثة قرون ونصف القرن، ظلت مبرهنة فيرما الأخيرة مسألة منعزلة، لغزا مثيرا للفضول يستحيل حله يقبع على حافة الرياضيات. والآن، قد أحضره كين ريبت الذي استلهم فكرته من جيرارد فراي، إلى قلب المسرح. اقترنت المسألة الأهم في القرن السابع عشر، بالمسألة الأبرز في القرن العشرين. ارتبطت مسألة ذات أهمية تاريخية وعاطفية مهولة، بحدسية يمكن أن تحدث ثورة في الرياضيات الحديثة. وبالفعل، كان علماء الرياضيات يستطيعون في ذلك الوقت مهاجمة مبرهنة فيرما الأخيرة باستخدام استراتيجية البرهان بالتناقض. فلكي يتمكن علماء الرياضيات من إثبات صحة المبرهنة الأخيرة، سيبدءون بافتراض أنها خاطئة. وسوف ينطوي خطأ المبرهنة الأخيرة، على خطأ حدسية تانياما-شيمورا. بالرغم من ذلك، إذا أمكن إثبات صحة حدسية تانياما-شيمورا، فلن يتوافق هذا مع خطأ مبرهنة فيرما الأخيرة، ومن ثم؛ فلا بد أن تكون هي أيضا صحيحة.
كان فراي قد حدد المهمة التالية بوضوح. سيتمكن علماء الرياضيات من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة تلقائيا، إذا تمكنوا أولا من إثبات حدسية تانياما-شيمورا.
انتشر بصيص جديد من الأمل في بادئ الأمر، ثم بدأت حقيقة الموقف تسطع. لقد ظل علماء الرياضيات يحاولون إثبات حدسية تانياما-شيمورا منذ ثلاثين عاما وعجزوا عن ذلك. فلماذا قد يحرزون أي تقدم الآن؟ رأى المتشككون أن ما كان يوجد من أمل ضئيل في إثبات حدسية تانياما-شيمورا قد تلاشى الآن. وكان منطقهم في هذا أن أي شيء قد يؤدي إلى حل مبرهنة فيرما الأخيرة، لا بد أن يكون محالا في جوهره.
حتى كين ريبت الذي حقق الإنجاز الضروري، كان متشائما: «كنت واحدا من الغالبية العظمى التي كانت ترى أن حدسية تانياما-شيمورا منيعة تماما. لم أعبأ بمحاولة إثباتها. إنني لم أفكر حتى بمحاولة إثباتها. لقد كان أندرو وايلز على الأرجح واحدا من بضعة أفراد فقط هم الذين كانت لديهم الجسارة على الحلم بإمكانية إثبات هذه الحدسية بالفعل.»
الفصل السادس
العملية الحسابية السرية
لا بد للخبير في حل المسائل أن يتحلى بصفتين متضاربتين: خيال لا يفتر، والصبر على المثابرة.
هاوارد دابليو إيفز «في إحدى الأمسيات في نهاية صيف العام 1986 كنت أحتسي الشاي المثلج في منزل صديق . وقد أخبرني عرضا في منتصف الحديث أن كين ريبت أثبت الرابط بين حدسية تانياما- شيمورا ومبرهنة فيرما الأخيرة. كنت في حالة من الإثارة الشديدة. لقد عرفت في تلك اللحظة أن مسار حياتي بأكمله يتغير؛ إذ كان ذلك يعني أن كل ما علي فعله لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة هو إثبات حدسية تانياما-شيمورا. كان يعني أن حلم طفولتي صار الآن مجالا معتبرا يمكنني أن أعمل فيه. لقد عرفت ببساطة أنني لن أستطيع التخلي عن هذا أبدا. عرفت أنني سأذهب إلى البيت وأبدأ العمل لإثبات حدسية تانياما- شيمورا.»
كان عقدان من الزمان قد انقضيا منذ أن عثر أندرو وايلز على الكتاب الذي ألهمه بالتصدي لتحدي فيرما، لكنه يرى الآن للمرة الأولى طريقا نحو تحقيق حلم طفولته. يحكي وايلز التغير الذي طرأ على موقفه إزاء حدسية تانياما-شيمورا بين عشية وضحاها: «تذكرت أحد علماء الرياضيات الذين كتبوا عن حدسية تانياما-شيمورا، وأشار بتطاول إلى أنها تمرين للقارئ المهتم. حسنا، أعتقد أني قد صرت الآن مهتما!»
منذ أن أتم وايلز درجة الدكتوراه مع البروفيسور جون كوتس في جامعة كامبريدج، انتقل عبر المحيط الأطلنطي إلى جامعة برينستون، حيث كان هو نفسه يعمل الآن في منصب بروفيسور. وبفضل إرشاد كوتس، كان وايلز يعرف عن المعادلات الإهليلجية أكثر مما يعرفه أي شخص آخر في العالم على الأرجح، لكنه كان يدرك جيدا أنه بالرغم من خلفيته المعرفية الضخمة ومهاراته الرياضية، لا تزال المهمة التي تنتظره هائلة.
معظم علماء الرياضيات الآخرين، ومنهم جون كوتس، رأوا أن محاولة التوصل إلى برهان ليس سوى ممارسة عقيمة: «لقد كنت أنا نفسي أشك للغاية في أن الرابط الجميل بين مبرهنة فيرما الأخيرة وحدسية تانياما-شيمورا سيؤدي إلى أي شيء؛ إذ لا بد لي أن أعترف بأنني لم أكن أعتقد أن حدسية تانياما-شيمورا تقبل الإثبات. فبالرغم من جمال هذه المسألة، بدا أن إثباتها محال في حقيقة الأمر. وينبغي أن أعترف بأنني ظننت أنني لن أشهد إثباتها في حياتي.»
أدرك وايلز أن الاحتمالات لم تكن في صالحه، لكنه شعر بأن جهوده لن تضيع هباء حتى إن فشل في إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة في نهاية المطاف: «ظلت حدسية تانياما-شيمورا مسألة مفتوحة على مدى العديد من السنوات بالطبع. ولم يكن أحد يعرف أي طريقة للتعامل معها، لكنها كانت من الموضوعات الرياضية السائدة على الأقل. كان يمكنني أن أحاول إثبات النتائج، التي حتى إذا اتضح أنها لا تغطي المسألة كلها، فسوف أكون قد بذلت جهدي في موضوع رياضي يستحقه. لم أشعر أنني سأهدر وقتي. ومن ثم؛ فقد صار الطابع الرومانتيكي لمبرهنة فيرما التي أسرتني طوال حياتي، يرتبط الآن بمسألة مقبولة من الناحية المهنية.» (1) ناسك العلية
في مطلع القرن، سئل عالم المنطق العظيم ديفيد هيلبرت عن السبب في أنه لم يحاول قط إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة. وقد أجاب عن ذلك بقوله: «قبل البدء، سيكون علي أن أقضي ثلاث سنوات في الدراسة المكثفة، وليس لدي من الوقت الكثير لأهدره على مهمة ستبوء بالفشل على الأرجح.» أدرك وايلز أن عليه أن ينغمس تماما في المسألة أولا لكي يكون لديه أي أمل في التوصل إلى برهان، لكنه كان مستعدا للمخاطرة على خلاف هيلبرت. قرأ أحدث الدوريات العلمية كلها، وتمرن على أحدث التقنيات مرارا وتكرارا إلى أن أصبحت طبيعة ثانية لديه. كان جمع الأسلحة الضرورية للمعركة المستقبلية سيستلزم من وايلز أن يقضي الثمانية عشر شهرا التالية في التعرف على جميع التفاصيل الرياضية التي استخدمت قبل ذلك في المعادلات الإهليلجية أو الأشكال النمطية أو اشتقت منهما. وكان هذا استثمارا هينا بعض الشيء، ذلك أنه كان قد توقع أن أي محاولة جادة للتوصل إلى برهان ستتطلب عشر سنوات من الجهد المنفرد.
هجر وايلز أي عمل لا يرتبط ارتباطا مباشرا بإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة، وتوقف عن حضور تلك الدورة التي لا تنتهي من المؤتمرات والندوات. ولأنه كان لا يزال ملتزما ببعض المسئوليات في قسم الرياضيات بجامعة برينستون، استمر وايلز في حضور الحلقات النقاشية، وإلقاء المحاضرات على الطلاب الجامعيين وتقديم الدروس لهم. وكلما أمكن، كان يتجنب مصادر التشتيت النابعة من كونه أحد أعضاء الكلية بالعمل في المنزل حيث يستطيع اللجوء إلى مكتبه بالعلية. في هذا المكان، كان يحاول زيادة قدرة التقنيات المثبتة وتعميمها؛ أملا في وضع استراتيجية لهجومه على حدسية تانياما-شيمورا. «كنت أصعد إلى غرفة مكتبي وأبدأ في محاولة إيجاد الأنماط. حاولت إجراء عمليات حسابية تفسر جزءا صغيرا من الرياضيات. وحاولت دمجها في فهم سابق شامل لمفاهيم جزء من الرياضيات من شأنه أن يوضح المشكلة المحددة التي أفكر فيها. كان هذا يتضمن في بعض الأحيان أن أراجع كتابا لأرى كيفية تطبيق ذلك. وفي أحيان أخرى، كان الأمر يتعلق بتعديل بعض الأمور قليلا، وإجراء عملية حسابية إضافية. وفي بعض الأحيان، كنت أدرك أنه ما من فائدة لأي شيء قد استخدم قبل ذلك. حينها كنت أضطر إلى الإتيان بشيء جديد تماما، ومصدر هذه الأفكار أمر ملغز تماما.» «يتلخص الأمر بصفة أساسية في التفكير. غالبا ما يكتب المرء شيئا لتوضيح أفكاره، لكن هذا لا يحدث على الدوام. لا سيما حين يكون المرء في ورطة حقيقية، حين تكون ثمة مشكلة فعلية يرغب المرء في التغلب عليها، حينها لا يجدي التفكير الرياضي المعتاد نفعا. وللوصول إلى ذلك النوع من الأفكار الجديدة، لا بد أن يسبق ذلك مدة طويلة من التركيز المهول على المشكلة دون أي تشتيت. يجب ألا تفكر في أي شيء سوى تلك المشكلة، يجب أن تركز عليها فحسب. بعد ذلك، تتوقف. وتلي ذلك مرحلة تبدو أنها مرحلة استرخاء، يهيمن اللاوعي فيها، وتلك هي المرحلة التي ترد فيها الرؤى الجديدة.»
ومنذ اللحظة التي بدأ فيها وايلز في العمل على البرهان، اتخذ قراره البارز بالعمل في عزلة وسرية على نحو تام. لقد طورت الرياضيات الحديثة ثقافة من التعاون والمشاركة، لذا فقد بدا أن قرار وايلز يذكر بعصر سابق. بدا كما لو أنه يحاكي أسلوب فيرما نفسه، وهو أشهر النساك في عالم الرياضيات. شرح وايلز أن جزءا من السبب الذي دفعه إلى اتخاذ قرار العمل في سرية يتمثل في رغبته في العمل دون تشتيت: «أدركت أن أي شيء يتعلق بمبرهنة فيرما الأخيرة يثير الكثير من الاهتمام. ولا يمكن للمرء التركيز على مدى سنوات ما لم يكن تركيزه كاملا، وهو الأمر الذي كانت ستدمره كثرة الأشهاد.»
لا بد أن أحد الدوافع الأخرى وراء سرية وايلز قد تمثل في توقه إلى المجد. لقد خشي ما قد يحدث إذا أكمل الجزء الأكبر من البرهان، وكان لم يزل يفتقر إلى العنصر الأخير في العملية الحسابية. إذا تسربت أنباء إنجازاته في هذه المرحلة، فما من شيء يمنع عالما منافسا من البناء على عمل وايلز وإكمال البرهان وسرقة الجائزة.
في السنوات التالية، توصل وايلز إلى العديد من الاكتشافات المذهلة التي لم يناقش أي منها أو ينشر إلا بعد اكتمال برهانه. حتى الأصدقاء المقربون لم يكونوا يعلمون شيئا عن أبحاثه. يتذكر جون كوتس بعض الأحاديث مع وايلز لم يعرف منها أي تلميح عما كان يجري: «أتذكر أنني قلت له في عدد من المناسبات: «إن هذا الرابط بمبرهنة فيرما الأخيرة جيد للغاية، لكن محاولة إثبات حدسية تانياما-شيمورا لا تزال أمرا ميئوسا منه.» أعتقد أنه ابتسم فحسب.»
حتى كين ريبت الذي أكمل الرابط بين فيرما وتانياما-شيمورا، لم يكن يعلم على الإطلاق بأنشطة وايلز السرية. «هذه هي الحالة الوحيدة على الأرجح التي أعلم بها عن شخص عمل هذه المدة الطويلة دون أن يفصح عما يفعله، ودون أن يتحدث عن التقدم الذي يحرزه. إنه شيء لم أختبره من قبل. ففي مجتمعنا، كان الأشخاص يتشاركون أفكارهم على الدوام. يجتمع علماء الرياضيات معا في المؤتمرات، ويزور بعضهم بعضا لعقد الحلقات النقاشية، ويرسلون رسائل البريد الإلكتروني بعضهم إلى بعض، ويتحادثون في الهاتف، ويطلبون الأفكار والتعقيب، فعلماء الرياضيات يتواصلون على الدوام. حين تتحدث إلى الآخرين، يربتون على ظهرك ويخبرونك بأن ما قمت به مهم، ويقدمون لك الأفكار. إنها أجواء مغذية وإذا عزلت نفسك عنها، فما تفعله غريب للغاية من الناحية النفسية على الأرجح.»
كيلا يثير الشكوك؛ ابتكر وايلز حيلة ماكرة من شأنها أن تضلل زملاءه. في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، عمل وايلز على مشروع بحثي كبير عن نوع محدد من المعادلات الإهليلجية، وكان على وشك أن ينشره دفعة واحدة، لكن اكتشافات ريبت وفراي جعلته يغير من رأيه. فقرر وايلز أن ينشر البحث على أجزاء، وراح ينشر ورقة بحثية صغيرة كل ستة أشهر تقريبا. وكان هذا الإنتاج الظاهر سيقنع زملاءه بأنه لا يزال يواصل أبحاثه المعتادة. ذلك أنه ما دام وايلز محافظا على خدعته، فسيتمكن من مواصلة العمل على هوسه الحقيقي دون الإفصاح عن أي من إنجازاته.
الشخص الوحيد الذي كان يعرف سر وايلز هو زوجته نادا. لقد تزوجا بعد أن بدأ وايلز العمل على البرهان بمدة قصيرة، ومع التقدم الذي كان يحرزه في العمل، أسر لها وحدها دون غيرها. في السنوات التالية، كانت أسرة وايلز هي مصدر إلهائه الوحيد. «لم تعرفني زوجتي إلا وأنا أعمل على مبرهنة فيرما. لقد أخبرتها ونحن في شهر العسل بعد زواجنا ببضعة أيام. كانت زوجتي قد سمعت بمبرهنة فيرما الأخيرة، لكنها لم تكن تعرف آنذاك ما تحمله من دلالات رومانتيكية بالنسبة إلى علماء الرياضيات، وأنها ظلت شوكة في أجسادنا على مدى سنوات طويلة.» (2) مبارزة مع اللانهائية
لكي يتمكن وايلز من إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة، كان عليه أولا أن يثبت حدسية تانياما-شيمورا: يمكن ربط كل معادلة من المعادلات الإهليلجية بأحد الأشكال النمطية. وحتى قبل ربطها بمبرهنة فيرما الأخيرة، كان علماء الرياضيات يحاولون باستماتة إثبات الحدسية، لكن المحاولات جميعها قد باءت بالفشل. كان وايلز على دراية بالمحاولات الفاشلة في الماضي: «بصفة أساسية، ما كنت سأحاول فعله بسذاجة، وما قد حاول الآخرون القيام به بالفعل، هو عد المعادلات الإهليلجية وعد الأشكال النمطية، وتوضيح أنه يوجد العدد نفسه من كل منهما. غير أن أحدا لم يتمكن على الإطلاق من التوصل إلى طريقة سهلة لفعل ذلك. فالمشكلة الأولى هي وجود عدد لا نهائي من كل منهما، ولا يمكنك أن تعد عددا لا نهائيا. ما من طريقة تمكننا من ذلك فحسب.»
لكي يتمكن وايلز من إيجاد حل، استخدم نهجه المعتاد في حل المسائل الصعبة. «أحيانا أترك ملاحظات سريعة أو رسومات، وهي ليست بالشيء المهم، بل ما يمليه اللاوعي فحسب. وأنا لا أستخدم الكمبيوتر أبدا.» ففي هذه الحالة، ومثلما هي الحال أيضا في العديد من مسائل نظرية الأعداد، ستكون أجهزة الكمبيوتر عديمة الجدوى تماما. فحدسية تانياما-شيمورا تنطبق على عدد لا نهائي من المعادلات، وبالرغم من أن الكمبيوتر يستطيع التحقق من حالة واحدة في بضع ثوان، فهو لا يستطيع أبدا التحقق من جميع الحالات . وما كان مطلوبا بدلا من ذلك، هو حجة منطقية تسير خطوة بخطوة، وتقدم سببا فعليا وتفسيرا لحقيقة أن المعادلات الإهليلجية جميعها لا بد أن تكون مرتبطة بأشكال نمطية. ولكي يجد البرهان، لم يعتمد وايلز إلا على ورقة وقلم رصاص وعقله. «كنت أحتفظ بهذه الفكرة في عقلي طوال الوقت. كانت أول فكرة تخطر على بالي حين أستيقظ في الصباح، وأظل أفكر بها طوال اليوم، وحين أخلد إلى النوم. كانت الفكرة نفسها تظل تدور وتدور في عقلي دون أن أحول ذهني عنها.»
بعد عام من التأمل، قرر وايلز استخدام استراتيجية عامة تعرف باسم «الاستقراء» أساسا لبرهانه. يعد الاستقراء شكلا قويا للغاية من أشكال البرهان؛ لأنه يتيح للرياضي إمكانية إثبات صحة عبارة معينة على عدد لا نهائي من الحالات، من خلال إثباتها على حالة واحدة فقط. تخيل على سبيل المثال أن أحد علماء الرياضيات يرغب في إثبات صحة عبارة على جميع الأعداد إلى ما لا نهاية. ستكون الخطوة الأولى هي إثبات صحة العبارة على العدد 1، وهي خطوة من المفترض بها أن تكون مباشرة نسبيا. والخطوة التالية هي إثبات أنه إذا كانت العبارة صحيحة في حالة العدد 1، فلا بد أنها ستكون صحيحة أيضا في حالة العدد 2، وإذا كانت صحيحة في حالة العدد 2، فلا بد أنها ستكون صحيحة أيضا في حالة العدد 3، وإذا كانت صحيحة في حالة العدد 3، فلا بد أنها ستكون صحيحة أيضا في حالة العدد 4، إلى آخر ذلك. وبصورة أعم، ينبغي على الرياضي أن يوضح أنه إذا كانت العبارة صحيحة في حالة أي عدد
n ، فلا بد أن تكون صحيحة في حالة العدد التالي .
يتمثل البرهان بالاستقراء بصفة جوهرية في عملية من خطوتين: (1)
إثبات صحة العبارة في الحالة الأولى. (2)
إثبات أنه إذا كانت العبارة صحيحة في أي حالة أولى، فلا بد أنها ستكون صحيحة أيضا في الحالة التالية.
ثمة طريقة أخرى يمكن استخدامها لفهم البرهان بالاستقراء، وهي تخيل أن العدد اللانهائي من الحالات بمثابة صف لا نهائي من قطع الدومينو. ولإثبات كل حالة من الحالات، لا بد من وجود طريقة لإيقاع كل قطعة من قطع الدومينو. غير أن إيقاعها واحدة تلو الأخرى سيستغرق قدرا لا نهائيا من الوقت والمجهود، أما البرهان بالاستقراء فهو يتيح للرياضي إيقاعها جميعا من خلال إيقاع القطعة الأولى فحسب. إذا كانت قطع الدومينو مرتبة بعناية، فسوف يؤدي إيقاع القطعة الأولى إلى إيقاع القطعة الثانية، مما سيؤدي بدوره إلى إيقاع القطعة الثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية. إن البرهان بالاستقراء يسبب تأثير الدومينو. وهذه الصيغة الرياضية من الإطاحة بقطع الدومينو، تتيح إمكانية إثبات عدد لا نهائي من الحالات من خلال إثبات الحالة الأولى. ويوضح الملحق 10 مثالا على كيفية استخدام البرهان بالاستقراء لإثبات عبارة رياضية بسيطة نسبيا على كل الأعداد.
كان التحدي الذي يكمن أمام وايلز هو بناء حجة استقرائية توضح أن كل معادلة من المعادلات الإهليلجية اللانهائية يمكن أن تتطابق مع كل شكل من الأشكال النمطية اللانهائية. لقد كان عليه بطريقة ما أن يقسم البرهان إلى عدد لا نهائي من الحالات، ثم يثبت الحالة الأولى. بعد ذلك، كان عليه أن يثبت أن جميع الحالات الأخرى ستتساقط بعد إثبات الحالة الأولى. وفي نهاية المطاف، وجد الخطوة الأولى لبرهانه الاستقرائي في عمل أحد العباقرة التراجيديين كان يعيش في فرنسا في القرن التاسع عشر.
ولد إيفاريست جالوا في بور لا رين، وهي قرية صغيرة بجنوب باريس، في الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1811، أي بعد اثنين وعشرين عاما بالضبط من الثورة الفرنسية. كان نابليون بونابرت في أوج قوته، لكن العام التالي قد شهد الحملة الروسية الكارثية، ثم نفي في العام 1814، وحل محله الملك لويس الثامن عشر. في عام 1815، هرب نابليون من إلبا، ودخل باريس واستعاد السلطة، لكنه هزم في غضون مائة يوم في معركة واترلو، وأرغم مرة أخرى على التنازل عن العرش للويس الثامن عشر. مثل صوفي جيرمان، نشأ جالوا في فترة من الاضطرابات الشديدة، وعلى عكس صوفي جيرمان التي عزلت نفسها عن أهوال الثورة الفرنسية وركزت على الرياضيات، وجد جالوا نفسه مرارا وتكرارا وسط الخلافات السياسية، وهو الأمر الذي أبعده عن مسار مهني أكاديمي لامع، كما أدى إلى وفاته المبكرة أيضا.
شكل 6-1: إيفاريست جالوا.
علاوة على الاضطراب العام الذي أثر في حياة الجميع، كان اهتمام جالوا بالسياسة مستلهما من أبيه، نيكولا جابرييل جالوا. فحين كان إيفاريست في الرابعة من عمره، انتخب والده عمدة لقرية بور لا رين. وكان ذلك في مدة نجاح نابليون في العودة إلى السلطة، وهي مدة كانت القيم الليبرالية القوية التي يعتنقها أبوه تتماشى فيها مع مزاج الأمة. كان نيكولا جابرييل جالوا رجلا مثقفا دمثا، وحظي في السنوات الأولى التي شغل فيها منصب العمدة باحترام المجتمع؛ لذا فقد احتفظ بمنصبه الذي انتخب له حتى بعد عودة لويس الثامن عشر. خارج مجال السياسة، يبدو أن اهتمامه الأساسي كان يتمثل في تأليف القصائد الفكاهية التي كان يقرؤها في اجتماعات المدينة للترفيه عن ناخبيه. بعد ذلك بالعديد من السنوات، أدت هذه الموهبة الساحرة التي كان يتمتع بها في تأليف الحكم الساخرة إلى سقوطه.
في سن الثانية عشرة، التحق إيفاريست جالوا بمدرسته الأولى، مدرسة لويس الكبير الثانوية، وهي مؤسسة رفيعة المستوى لكن سلطوية. لم يصادف في بداية الأمر مقررات في الرياضيات وكان سجله الأكاديمي جيدا لكنه لم يكن مميزا. بالرغم من ذلك، فقد وقع حدث في أول فصله الدراسي الأول، أثر في مسار حياته. كانت المدرسة الثانوية قبل ذلك مدرسة يسوعية، وانتشرت بعض الشائعات التي تشير إلى عودتها إلى سلطة الكهنة. في غضون هذه المرحلة، كان ثمة صراع مستمر بين الجمهوريين والملكيين للتأثير على ميزان القوى بين لويس الثامن عشر وممثلي الشعب، وكان النفوذ المتزايد للكهنة يرى على أنه ابتعاد عن الشعب باتجاه الملك. خطط طلاب المدرسة الثانوية الذين كانت ميولهم جمهورية في الأساس، للقيام بثورة، لكن مدير المدرسة السيد بيرثو، قد اكتشف المخطط وطرد مجموعة الطلاب الذين كانوا يتزعمون الثورة على الفور. في اليوم التالي، حين طلب بيرثو من الطلاب الأكبر المتبقين في المدرسة إظهار الولاء، رفضوا أن يشربوا نخب لويس الثامن عشر، ومن ثم فقد طرد من الطلاب مائة آخرون. كان جالوا صغيرا للغاية على الاشتراك في هذه الثورة التي باءت بالفشل؛ ولهذا ظل في المدرسة الثانوية. بالرغم من ذلك، فإن رؤيته لزملائه الطلاب يهانون بهذه الطريقة قد أشعلت ميوله الثورية.
لم يلتحق جالوا بأولى الدورات الدراسية في الرياضيات حتى سن السادسة عشرة، وهي دورة دراسية قد حولته في رأي أساتذته من تلميذ حريص إلى طالب جامح. ذلك أن تقارير مدرسته تشير إلى أنه قد أهمل جميع المواد الأخرى وركز على شغفه المكتشف حديثا فحسب:
لا يعمل هذا الطالب إلا في أرقى عوالم الرياضيات. إن جنون الرياضيات يتملك هذا الفتى. أعتقد أن الأفضل له أن يسمح له والداه بألا يدرس شيئا سواها. فيما عدا ذلك، فإنه يهدر وقته هنا، ولا يفعل شيئا سوى أنه يعذب مدرسيه ويجلب على نفسه الكثير جدا من العقوبات.
بعد مدة قصيرة، تجاوزت رغبة جالوا في دراسة الرياضيات قدرات معلميه؛ فتعلم مباشرة من أحدث الكتب التي كتبها أساتذة العصر. كان يستوعب أكثر المفاهيم تعقيدا بيسر، وحين صار في السابعة عشرة من عمره، نشر أول ورقة له في دورية «أنال دي جيرجون». بدا المسار المستقبلي واضحا للنابغة، إلا أن براعته الخالصة نفسها قد مثلت أكبر عقبة أمام تقدمه. فبالرغم من أنه كان يعرف من الرياضيات أكثر مما يكفي لاجتياز اختبارات المدرسة الثانوية، فكثيرا ما كانت حلوله مبتكرة ومعقدة للغاية؛ مما أعجز ممتحنيه عن فهمها. وما زاد الأمر سوءا أنه كان يجري الكثير من العمليات الحسابية في ذهنه حتى إنه لم يكن يعبأ بكتابة حجته بوضوح على الورق؛ فيترك الممتحنين القاصرين أكثر ارتباكا وإحباطا.
ولم يحسن العبقري الصغير من الوضع بما كان يتسم به من سرعة الانفعال والاندفاع؛ وهو ما لم يحببه إلى معلميه أو إلى أي شخص آخر قد صادفه في حياته. حين تقدم جالوا إلى المدرسة المتعددة التقنيات، وهي الكلية الأكثر تميزا في البلاد، أدى عدم الترابط والاقتضاب في الشروحات التي كان يقدمها في الاختبار الشفهي إلى رفض دخوله . كان جالوا يتحرق إلى الالتحاق بالمدرسة متعددة التقنيات، وليس ذلك لتميزها الأكاديمي فحسب، بل لسمعتها بأنها مركز للنشاط الجمهوري. وبعد عام، تقدم من جديد، ومرة أخرى لم تؤد وثباته المنطقية في الامتحان الشفهي إلا إلى إرباك ممتحنه السيد دينيه. ولما شعر أنه على وشك أن يرسب مرة أخرى وقد أحبطه عدم تقدير براعته، فقد ثارت ثائرة جالوا وقذف دينيه بممحاة لوح الكتابة؛ فسددها فيه مباشرة. ولم يعد جالوا إلى قاعات المدرسة متعددة التقنيات المبجلة مرة أخرى.
لم يؤثر الرفض في جسارة جالوا وظل واثقا من موهبته الرياضية وواصل أبحاثه الخاصة. انصب اهتمامه الأساسي على إيجاد حلول للمعادلات، مثل المعادلات التربيعية. تتخذ المعادلات التربيعية الصورة التالية: ، حيث يمكن أن تتخذ
a
و
b
و
c
أي قيمة من القيم.
يتمثل التحدي في إيجاد قيمتي
x
التي تجعل المعادلة التربيعية صحيحة. وبدلا من الاعتماد على المحاولة والخطأ، يفضل علماء الرياضيات أن تكون لديهم وصفة لإيجاد الحلول، ومن حسن الحظ أن مثل هذه الوصفة موجودة بالفعل:
وبالتعويض عن قيم
a
و
b
و
c
في الوصفة السابقة فحسب، يمكن حساب القيمتين الصحيحتين ل
x . فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام الوصفة لحل المعادلة التالية: ، حيث
و
و .
من خلال وضع قيم
a
و
b
و
c
في الوصفة، يتضح أن الحل هو
أو .
والمعادلة التربيعية هي نوع من فئة أكبر كثيرا تعرف باسم المعادلات متعددة الحدود. ثمة نوع أكثر تعقيدا من المعادلات متعددة الحدود، وهو المعادلة التكعيبية:
يأتي التعقيد الإضافي من الحد الإضافي . وبإضافة حد آخر: ، ننتقل إلى المستوى التالي من المعادلات متعددة الحدود، وهو يعرف باسم المعادلات الرباعية:
بحلول القرن التاسع عشر، كان علماء الرياضيات قد توصلوا إلى وصفات يمكن استخدامها لحل المعادلات التكعيبية والرباعية أيضا، غير أنه لم تكن توجد طريقة معروفة لإيجاد حلول المعادلات الخماسية:
صار جالوا مهووسا بإيجاد طريقة لحل المعادلات الخماسية، أحد التحديات العظيمة في عصره، وبحلول الوقت الذي بلغ فيه السابعة عشرة، كان قد أحرز تقدما كافيا لتقديم ورقتين بحثيتين إلى أكاديمية العلوم. كان الحكم المعين للحكم على الأوراق هو أوجستين-لوي كوشي، الذي تجادل مع لاميه بعد ذلك بالعديد من السنوات بشأن برهان به عيب جوهري لمبرهنة فيرما الأخيرة. انبهر كوشي بعمل الشاب وقرر أنه جدير بجائزة الأكاديمية الكبيرة في الرياضيات. ولكي تتأهل الورقتان لدخول المسابقة، كان ينبغي تقديمهما من جديد في صورة مذكرة واحدة؛ لذا فقد أعادهما كوشي إلى جالوا وانتظر اشتراكه في المسابقة.
نجت عبقرية جالوا من نقد معلميه ورفض المدرسة متعددة التقنيات وصارت على وشك الاعتراف بها، لكن سلسلة من الأحداث المأساوية الشخصية والمهنية على مدى السنوات الثلاث التالية قد حطمت طموحه. ففي يوليو من العام 1829، وصل كاهن يسوعي جديد إلى قرية بور لا رين، حيث كان والد جالوا لا يزال في منصب العمدة. اعترض الكاهن على الميول الجمهورية لدى العمدة، وبدأ حملة لعزله من المنصب عن طريق نشر شائعات تهدف إلى تشويه سمعته. وقد استغل الكاهن المتآمر اشتهار نيكولا-جابرييل جالوا بتأليف القصائد الساخرة. فكتب مجموعة من الأبيات الشعرية المبتذلة يهزأ فيها من بعض أفراد المجتمع، ووقعها باسم العمدة. لم يستطع الأب جالوا أن يتحمل ما نتج عن ذلك من عار وخزي، وقرر أن الخيار النبيل الوحيد هو الانتحار.
عاد إيفاريست جالوا لحضور جنازة أبيه، وشهد بنفسه الانقسامات التي خلقها الكاهن في القرية. ففي أثناء خفض النعش لوضعه في المقبرة، اندلع شجار بين الكاهن اليسوعي الذي كان يقوم بالمراسم، ومؤيدي العمدة الذين أدركوا أن مكيدة قد دبرت للإطاحة به. أصيب الكاهن بشج في رأسه، وتحول الشجار إلى حالة من الشغب، وترك النعش ليسقط إلى مقبرته على نحو فظ. إن رؤية المؤسسة الفرنسية تهين والده وتدمره، لم تسهم في شيء إلا أن رسخت تأييد جالوا المتقد للقضية الجمهورية.
حين عاد جالوا إلى باريس، دمج ورقتيه البحثيتين في مذكرة واحدة قبل الموعد النهائي للمسابقة بمدة جيدة، وقدم المذكرة إلى أمين الأكاديمية، جوزيف فورييه، الذي كان من المفترض به أن يقدمها إلى لجنة التحكيم. لم تقدم ورقة جالوا حلا لمسألة المعادلات الخماسية، لكنها قدمت رؤية ثاقبة بارعة ، وكان العديد من علماء الرياضيات، ومنهم كوشي، يرون أنها ستفوز على الأرجح. بالرغم من ذلك، فقد صدم جالوا وأصدقاؤه عندما لم يفز بالجائزة، بل إنه لم يدخلها رسميا على الإطلاق. كان فورييه قد توفي قبل بضعة أسابيع من التحكيم، وبالرغم من أن كومة من المشاركات قد قدمت إلى اللجنة، فلم تكن مذكرة جالوا من بينها. لم يعثر على المذكرة قط، وسجل أحد الصحفيين الفرنسيين هذا الإجحاف.
قبل الأول من مارس في العام الماضي، أعطى السيد جالوا أمين المؤسسة مذكرة عن حل المعادلات العددية. وكان من المفترض أن تدخل هذه المذكرة في مسابقة للجائزة الكبرى في الرياضيات. لقد كانت تستحق الجائزة؛ إذ كانت تقدم حلولا لبعض الصعوبات التي لم يتمكن لاجرانج من حلها. عبر السيد كوشي للمؤلف عن ثنائه الشديد على الموضوع. وماذا حدث؟ ضاعت المذكرة، وها هي الجائزة تمنح دون مشاركة النابغة الشاب.
لو جلوب، 1831
شعر جالوا بأن مذكرته قد فقدت عمدا بسبب انحياز الأكاديمية السياسي، وترسخ هذا الاعتقاد بعد عام إذ رفضت الأكاديمية مخطوطته التالية؛ بزعمها أن «حجته المنطقية ليست واضحة ولا مكتملة بالقدر الكافي الذي يتيح لنا الحكم على دقتها.» قرر جالوا أن ثمة مؤامرة لاستبعاده من المجتمع الرياضي؛ ومن ثم فقد أهمل أبحاثه لصالح النضال في سبيل القضية الجمهورية. في هذا الوقت، كان طالبا في المدرسة العليا للأساتذة «إيكول نورمال سوبيريور»، وهي أقل تميزا من المدرسة متعددة التقنيات بدرجة طفيفة. في المدرسة العليا للأساتذة كانت سمعة جالوا السيئة بأنه من مثيري الشغب تطغى على سمعته كرياضي. وقد بلغت هذه السمعة السيئة ذروتها في ثورة يوليو عام 1830 حين هرب تشارلز العاشر من فرنسا، وتقاتلت الفصائل السياسية في شوارع باريس من أجل السيطرة. كان مدير المدرسة، السيد جينيوه المؤيد للملكية، يدرك أن غالبية طلابه من الجمهوريين المتطرفين؛ لذا فقد احتجزهم في مساكنهم المخصصة للطلبة، وأغلق بوابات الكلية. منع جالوا من النضال إلى جانب إخوته، وتضاعف إحباطه وغضبه حين هزم الجمهوريون في النهاية. حين سنحت الفرصة، شن جالوا هجمة مريرة على مدير الكلية، متهما إياه بالجبن. ولا غرو في أن جينيوه قد طرد الطالب المتمرد، ووصلت حياة جالوا المهنية الرسمية في الرياضيات إلى نهايتها.
في الرابع من ديسمبر، حاول العبقري المحبط أن يصبح ثائرا مهنيا بالانضمام إلى «مدفعية الحرس الوطني»، وهي فرع جمهوري من قوات الميليشيا كانوا يعرفون أيضا باسم «أصدقاء الشعب». قبل نهاية الشهر، قام الملك الجديد، لويس-فيليب، الذي كان حريصا على تجنب حدوث ثورة أخرى، بإلغاء مدفعية الحرس الوطني، وترك جالوا مفلسا ومشردا. صار أكثر الشباب نبوغا في باريس بأكملها يتعرض للاضطهاد في كل منعطف، وازداد قلق بعض زملائه السابقين في مجال الرياضيات بشأن حالته اليائسة. فقد عبرت صوفي جيرمان، التي أصبحت بحلول ذلك الوقت السيدة العجوز الخجولة التي تحظى بالاحترام في مجال الرياضيات الفرنسية، عن قلقها لأحد أصدقاء العائلة، وهو الكاونت ليبيري كاروتشي:
لا شك بأن جميع من يمارسون الرياضيات يعيشون الآن في محنة. فقد كان موت السيد فورييه هو الضربة القاضية لهذا الطالب جالوا، الذي أبدى بالرغم من وقاحته، ما يدل على البراعة. لقد طرد من المدرسة العليا للأساتذة، وهو لا يملك مالا، ولا تملك أمه سوى أقل القليل أيضا، وهو يواصل عادته في السب. إنهم يقولون إنه سيجن تماما. ويؤسفني أن هذا صحيح.
وما دام شغف جالوا بالسياسة لم يتوقف، فقد كان من الحتمي أن تتدهور أموره بدرجة أكبر. وتلك حقيقة سجلها الكاتب الفرنسي العظيم ألكسندر دوما. كان أليكسندر دوما في مطعم «فوندونج دو بورجانيا» حين صادف أن شهد مأدبة احتفال على شرف تسعة عشر من الجمهوريين الذين برئوا من تهم التآمر:
وفجأة، في خضم محادثة خاصة كنت أجريها مع الشخص الذي كان يجلس إلى يساري، سمعت اسم لويس-فيليب متبوعا بخمس صافرات أو ست. التفت ناحية الصوت ووجدت أحد المشاهد الأكثر حيوية يجري على بعد خمسة عشر أو عشرين مقعدا مني. سيكون من الصعب أن تجد في باريس بأكملها مائتي شخص يعادون الحكومة بدرجة أكبر من تلك التي تجدها في هؤلاء الذين يجتمعون في الساعة الخامسة عصرا في القاعة الطويلة التي تقع بالطابق الأرضي فوق الحديقة.
كان ثمة شاب يرفع كأسه ويمسك بخنجر مفتوح في اليد نفسها، يحاول أن يجعل نفسه مسموعا؛ فقد كان إيفاريست جالوا واحدا من أشد الجمهوريين حماسة. كانت الجلبة قوية للغاية، حتى إن سببها نفسه لم يعد مفهوما. كل ما استطعت فهمه هو أنه كان ثمة تهديد، وأن اسم لويس-فيليب قد ذكر، وقد أفصح الخنجر المفتوح عن النية بوضوح.
كان هذا يتجاوز آرائي الجمهورية بدرجة كبيرة. استسلمت لضغط جاري الموجود على اليسار، الذي لم يكن يرغب في تعريض نفسه للخطر؛ إذ كان أحد بهلوانات الملك، فقفزنا من النافذة إلى الحديقة. ذهبت إلى البيت قلقا بعض الشيء. كان من الواضح أن هذه الحادثة سيكون لها تبعاتها. وقد حدث ذلك بالفعل؛ فبعد يومين أو ثلاثة، اعتقل إيفاريست جالوا.
بعد أن احتجز إيفاريست جالوا في سجن سانت بيلاجي لمدة شهر، اتهم بتهديد حياة الملك وخضع للمحاكمة. بالرغم من عدم وجود أدنى شك في أن جالوا مذنب بناء على أفعاله؛ فقد كانت الطبيعة الصاخبة للمأدبة تعني ألا أحد يستطيع التأكيد بالفعل على سماعه يقوم بأي تهديدات مباشرة. ومن ثم فقد أدى تعاطف القاضي، وصغر سن الثائر، الذي كان لا يزال في العشرين من عمره في ذلك الوقت، إلى تبرئته. وفي الشهر التالي، اعتقل مجددا.
في يوم الباستيل، الرابع عشر من يوليو 1831، سار جالوا في شوارع باريس مرتديا زي حرس المدفعية الخارجين على القانون. وبالرغم من أن ارتداء هذا الزي لم يكن سوى علامة على التحدي، فقد حكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر، وعاد إلى سجن سانت بيلاجي. خلال الشهور التالية، انساق الشاب الممتنع عن الخمر إلى شربها؛ تأثرا بالأشقياء الذين كان محاطا بهم. وقد كتب عالم النباتات والجمهوري شديد الحماس، فرانسوا راسبيل، الذي سجن لأنه رفض قبول صليب جوقة الشرف من لويس-فيليب، روايته للمرة الأولى التي يشرب فيها جالوا الخمر:
يمسك الكأس الصغيرة مثلما أمسك سقراط سم الشوكران بشجاعة، ثم يبتلعه على مرة واحدة، غير أن هذا لا يعني أنه لم يغمض عينيه ويلوي قسمات وجهه. يفرغ الكأس الثانية بسهولة أكبر، ثم تأتي الكأس الثالثة. يفقد المبتدئ توازنه. النصر! الثناء على باخوس، السجن! لقد سممت روحا بريئة تمسك النبيذ في هلع.
بعد أسبوع، صوب قناص الرصاص من علية مقابل السجن على أحد الزنازين؛ فأصاب الرجل المجاور لجالوا. كان جالوا مقتنعا بأن الرصاصة كانت تستهدفه وأن ثمة مؤامرة حكومية لاغتياله. كان الخوف من المحاكمة السياسية يملؤه بالهلع، وقد دفعه انعزاله عن أصدقائه وعائلته ورفض أفكاره الرياضية إلى حالة من الاكتئاب. وفي نوبة من هذيان السكر، حاول طعن نفسه حتى الموت، لكن راسبيل والآخرين تمكنوا من تقييده وتجريده من السلاح. يذكر راسبيل كلمات جالوا التي نطق بها قبل محاولة الانتحار مباشرة:
أتدري ما ينقصني يا صديقي؟ إنني أسر بهذا إليك وحدك: شخص يمكنني أن أحبه، وأحبه لروحه فحسب. لقد فقدت أبي ولم يعوضني عنه أي أحد، أتسمعني ...؟
في مارس عام 1832، أي قبل شهر من انتهاء مدة السجن التي حكم على جالوا بقضائها، تفشى وباء الكوليرا في باريس، وأطلق سراح سجناء سانت بيلاجي. ما حدث لجالوا على مدى الأسابيع القليلة التالية كان موضوعا للكثير من التخمينات، لكن المؤكد هو أن أحداث هذا الوقت تعزى بدرجة كبيرة إلى علاقة عاطفية مع سيدة غامضة تعرف باسم ستيفاني-فيليشي بوترين دو موتل، التي كانت ابنة لطبيب باريسي يحظى بالاحترام. وبالرغم من عدم وجود أي تلميحات تشير إلى كيفية بدء العلاقة، فإن تفاصيل نهايتها المأساوية قد وثقت جيدا.
كانت ستيفاني مخطوبة بالفعل لسيد يدعى باسم بيشو ديبرينفي، الذي اكتشف خيانة خطيبته. كان ديبرينفي غاضبا، ولما كان أحد أفضل الرماة في فرنسا، فإنه لم يتردد على الإطلاق في تحدي جالوا في مبارزة على الفور. كان جالوا يدرك سمعة خصمه تمام الإدراك. وفي المساء السابق للمواجهة، الذي رأى أنه سيكون الفرصة الأخيرة لتسجيل أفكاره على الورق، كتب إلى أصدقائه خطابا يشرح فيه ظروفه:
إنني أتوسل إلى الوطنيين أصدقائي ألا يعتبوا علي أنني قد مت في سبيل أخرى دون سبيل بلادي. لقد مت ضحية غانية شائنة وحبيبيها المخدوعين. إنها لمذلة بائسة أنني أنهي حياتي. آه! لم أموت في سبيل شيء شديد الضآلة والدناءة؟ إنني أدعو للسماء أن تشهد أنني أجبرت مقهورا على الاستسلام لتحريض حاولت تجنبه بكل السبل.
شكل 6-2: في الليلة السابقة للمبارزة، حاول جالوا أن يكتب جميع أفكاره الرياضية. غير أن بعض التعليقات الأخرى تظهر في هذه الملاحظات. في هذه الصفحة، نجد في الركن الأيسر السفلي كلمة
une femme (امرأة)، وقد طمس ملامح الجزء الثاني من الكلمة بالحبر، وهو يشير على الأرجح إلى المرأة التي هي سبب المبارزة.
شكل 6-3: بينما كان جالوا يحاول باستماتة تسجيل كل شيء قبل الساعة المصيرية، خطر له أنه قد لا يتمكن من إكمال المهمة. فنجد الكلمات
je n’ai pas le temps (ليس لدي وقت) في نهاية السطرين الموجودين في الجزء السفلي الأيسر من الصفحة.
بالرغم من إخلاصه للقضية الجمهورية، وارتباطه العاطفي، فقد احتفظ جالوا دائما بشغفه للرياضيات، وكان من أعظم مخاوفه أن يضيع بحثه الذي رفضته الأكاديمية بالفعل إلى الأبد. وفي محاولة يائسة ليحظى بالتقدير، عمل على مدى الليل في كتابة جميع المبرهنات التي كان يرى أنها تشرح لغز المعادلات الخماسية بالكامل. ويوضح الشكلان
6-2
و
6-3
بعض الصفحات الأخيرة التي كتبها جالوا. كانت هذه الصفحات بمثابة نسخ للأفكار التي قدمها إلى كوشي وفورييه بالفعل، غير أنها كانت تحمل في ثناياها إشارات عرضية إلى «ستيفاني» أو «امرأة»، وبعض علامات اليأس: «ليس لدي وقت ، ليس لدي وقت!» وفي نهاية الليلة حين اكتملت حساباته، كتب رسالة توضيحية إلى صديقه أوجست شوفالييه، يطلب فيها أن توزع أوراقه على أعظم علماء الرياضيات في أوروبا:
صديقي العزيز
لقد توصلت إلى بعض الاكتشافات الجديدة في التحليل. وأولها يتعلق بنظرة المعادلات الخماسية، ويتعلق غيرها بالدوال التكاملية.
لقد بحثت في نظرية المعادلات عن ظروف إمكانية حل المعادلات بالجذور، وهو ما أتاح لي الفرصة لتعميق هذه النظرية ووصف جميع التحولات الممكنة في معادلة ما، بالرغم من عدم إمكانية حلها بالجذور. وقد شرحت هذا كله في ثلاث مذكرات هنا ...
كثيرا ما كنت أجرؤ في حياتي على تقديم اقتراحات لم أكن متأكدا منها. غير أن كل ما كتبته هنا واضح في ذهني منذ أكثر من عام، وليس من مصلحتي أن أترك نفسي للشك يمنعني من إعلان مبرهنات لا أمتلك برهانا مكتملا على صحتها.
قدم طلبا علنيا لجاكوبي أو لجاوس بأن يدلوا بآرائهم في هذه المبرهنات من حيث أهميتها لا صحتها. بعد ذلك، آمل أن يجد بعض الرجال نفعا في تنظيم هذه الفوضى.
عناقي الحار إليك.
إي جالوا
في الصباح التالي، الموافق ليوم الأربعاء في الثلاثين من مايو عام 1832، وفي حقل منعزل، واجه جالوا وديبرينفي أحدهما الآخر على مسافة خمس وعشرين خطوة، وهما مسلحان بالمسدسات. رافق ديبرينفي آخرون، أما جالوا فقد وقف وحده. لم يخبر أحدا بشأن ورطته؛ فلم يكن الرسول الذي أرسله لأخيه ألفريد سيخبره بأنباء المبارزة إلا بعد انتهائها، ولم تكن الرسائل التي كتبها في الليلة السابقة ستصل أصدقاءه إلا بعد أيام عدة.
رفعت المسدسات وأطلقت منها النيران. ظل ديبرينفي صامدا، وأصيب جالوا في معدته. رقد على الأرض عاجزا. ولم يكن ثمة جراح يساعده، وقد ابتعد المنتصر بهدوء تاركا خصمه الجريح للموت. بعد ساعات عدة، وصل ألفريد إلى موقع الحادثة ونقل أخاه إلى مستشفى كوتشان. كان الأوان قد فات، إذ التهب الغشاء الصفاقي ومات جالوا في اليوم التالي.
كانت جنازته صاخبة بقدر ما كانت جنازة أبيه. رأت الشرطة أنها ستكون مركز تجمع سياسي واعتقلت ثلاثين من الرفاق في الليلة السابقة. بالرغم من ذلك، تجمع ألفان من الجمهوريين لحضور المراسم، ولم يكن ثمة بد من اندلاع الشجار بين زملاء جالوا وبين الضباط الحكوميين الذين أتوا لمراقبة الأحداث.
كان المعزون غاضبين لاعتقادهم المتزايد بأن ديبرينفي لم يكن خطيبا خانته خطيبته، بل عميلا للحكومة، وأن ستيفاني لم تكن محض حبيبة، بل غاوية متآمرة. فقد كانت أحداث مثل الرصاصة التي أطلقت على جالوا وهو في سجن سانت بيلاجي، تشير بالفعل إلى وجود مؤامرة لاغتيال الثائر الشاب، ومن ثم فقد استنتج أصدقاؤه أنه خدع للتورط في علاقة عاطفية كانت جزءا من مؤامرة سياسية لقتله. جادل المؤرخون بشأن ما إذا كانت المبارزة نتيجة لعلاقة حب مأساوية، أم كانت لها دوافع سياسية، لكن في كلتا الحالتين، قتل أحد أعظم علماء الرياضيات في سن العشرين، بعد أن درس الرياضيات لخمس سنوات فحسب.
قبل أن يقوم أوجست شوفالييه وأخو جالوا بتوزيع أوراقه، أعادا كتابتها لتوضيح الشروحات والاستفاضة فيها. فلا شك بأن عادة جالوا في شرح أفكاره على عجل وعلى نحو غير كامل، قد تفاقمت تحت وطأة حقيقة أنه لا يملك سوى ليلة واحدة ليضع فيها خلاصة سنوات من البحث. وبالرغم من أنهما قد التزما بالواجب وأرسلا نسخا من المخطوطات إلى كارل جاوس وكارل جاكوبي وغيرهما، فإن عمل جالوا لم يحظ بالتقدير إلا بعد عقد من الزمان، حين وصلت نسخة إلى جوزيف ليوفيل في العام 1846. أدرك ليوفيل قبس العبقرية في الحسابات وقضى شهورا في محاولة تفسير معناها. وفي نهاية المطاف، حرر الأوراق ونشرها في الدورية المرموقة «جورنال دو ماثيماتيك بيوريه إيه أبليكيه» (مجلة الرياضيات البحتة والتطبيقية) وجاءت الاستجابة من علماء الرياضيات الآخرين فورية ومذهلة؛ إذ كان جالوا قد صاغ بالفعل فهما كاملا لكيفية إيجاد الحلول للمعادلات الخماسية. ففي البداية، صنف جالوا المعادلات الخماسية إلى نوعين: نوع يمكن حله، ونوع لا يمكن حله. بعد ذلك، ابتكر وصفة لإيجاد حلول المعادلات الخماسية التي يمكن حلها. علاوة على ذلك، درس جالوا معادلات تنتمي إلى رتب أعلى من الخماسية، أي تلك التي تتضمن
و ، وما إلى ذلك، وتمكن من معرفة أي هذه المعادلات يمكن حلها وأيها لا يمكن حلها. لقد كان هذا العمل أحد روائع الرياضيات في القرن التاسع عشر، وقد ابتكره أحد أبطالها المأساويين.
في مقدمته للورقة البحثية، كتب ليوفيل رأيه عن السبب في الرفض الذي لاقاه الرياضي الشاب ممن يكبرونه سنا وقامة، وكيف أن الجهود التي بذلها قد بعثت جالوا من جديد:
كانت الرغبة الشديدة في الإيجاز هي السبب في هذا الخلل الذي ينبغي على المرء أن يحاول جاهدا تجنبه أكثر من أي شيء آخر عند معالجة القضايا المجردة الغامضة في الجبر البحت. فلا شك بأن الوضوح ضروري للغاية حين يحاول المرء توجيه القارئ بعيدا عن الطريق المعتادة إلى المناطق الأكثر غرابة. ومثلما قال ديكارت: «حين تناقش الأمور المتسامية، يجب أن تكون واضحا بدرجة متسامية.» كثيرا ما تجاهل جالوا هذا المبدأ، ويمكننا أن نفهم كيف أن علماء الرياضيات البارزين قد رأوا أنه من الملائم أن يحاولوا، بصرامة نصيحتهم الحكيمة، إعادة مبتدئ عبقري وقليل الخبرة في الوقت نفسه إلى الطريق الصحيح. لقد كان المؤلف الذي انتقدوه أمامهم شديد التوقد والنشاط؛ كان يمكن أن يستفيد من نصحهم.
أما الآن، فقد تغير كل شيء. لم يعد جالوا موجودا! فلنتجنب الانغماس في انتقاد عديم الجدوى، ولنترك المساوئ حيث هي وننظر إلى المحاسن ...
لقد كوفئت على حماسي خير مكافأة، وشعرت بسرور شديد بعد أن أكملت بعض الثغرات الطفيفة، ورأيت الطريقة التي يثبت بها جالوا هذه المبرهنة الجميلة على وجه التحديد وقد صارت صحيحة تماما. (3) إيقاع قطعة الدومينو الأولى
كان يكمن في صميم حسابات جالوا مفهوم يعرف باسم «نظرية المجموعة»، وهي فكرة طورها إلى أداة فعالة يمكن استخدامها للتعامل مع المسائل التي لم تكن قابلة للحل فيما سبق. والمجموعة في الرياضيات هي عدة عناصر يمكن دمجها معا عن طريق عملية ما، مثل الجمع أو الضرب، وهي تستوفي أيضا شروطا معينة. من الخواص المهمة المحددة للمجموعة هي أنه عند دمج أي عنصرين من عناصرها في العملية الحسابية، تكون النتيجة عنصرا آخر في المجموعة. وتوصف المجموعة بأنها «مغلقة» في تلك العملية.
على سبيل المثال، تشكل الأعداد الصحيحة الموجبة والأعداد الصحيحة السالبة مجموعة في عملية «الجمع». وعند دمج عدد صحيح مع آخر في عملية الجمع يؤدي ذلك إلى عدد صحيح ثالث، مثل:
4 + 12 = 16.
يقول علماء الرياضيات إن «الأعداد الصحيحة الموجبة والسالبة تكون مغلقة في عملية الجمع وتشكل مجموعة.» وعلى العكس من ذلك، لا تشكل الأعداد الصحيحة مجموعة في عملية «القسمة»؛ لأن قسمة عدد صحيح على آخر ، لا ينتج لنا بالضرورة عددا صحيحا، فعلى سبيل المثال:
فالكسر 1 / 3 ليس عددا صحيحا ولا ينتمي إلى المجموعة الأصلية. بالرغم من ذلك، إذا تناولنا مجموعة أكبر تتضمن الكسور بالفعل، وهي المجموعة التي تعرف باسم الأعداد النسبية، فسيمكن تحقيق الانغلاق من جديد: «الأعداد النسبية مغلقة في عملية القسمة.» وبالرغم من هذا، لا يزال علينا الانتباه؛ لأن القسمة على العنصر صفر تنتج لنا اللانهائية، مما يؤدي إلى العديد من الكوابيس الرياضية. ولهذا السبب؛ فالأدق أن نقول: «الأعداد النسبية (باستثناء الصفر) مغلقة في عملية القسمة.» إن الانغلاق يشبه مفهوم الاكتمال الذي ناقشناه في الفصول السابقة من نواح عديدة.
تشكل الأعداد الصحيحة والكسور مجموعات كبيرة بدرجة لا نهائية من الأعداد، وقد يفترض المرء أنه كلما زاد حجم المجموعة، كانت المعارف الرياضية التي تتولد عنها أكثر إثارة للاهتمام. غير أن جالوا كان يتبنى فلسفة «الأقل هو الأفضل»، وأثبت أن المجموعات الصغيرة المؤسسة بعناية، يمكن أن تتسم بثرائها الخاص. وبدلا من استخدام المجموعات اللانهائية، بدأ جالوا بمعادلة محددة، وأسس مجموعته من حفنة الحلول لهذه المعادلة. لقد كانت مجموعات مكونة من حلول المعادلات الخماسية التي أتاحت لجالوا اشتقاق نتائجه بشأن هذه المعادلات. وبعد قرن ونصف من الزمان، استخدم وايلز عمل جالوا أساسا لبرهانه الذي يثبت حدسية تانياما-شيمورا.
لإثبات حدسية تانياما-شيمورا، كان على علماء الرياضيات أن يثبتوا أن كل معادلة من المعادلات الإهليلجية اللانهائية يمكن أن تقترن بشكل نمطي. وفي البداية، حاولوا إثبات أنه يمكن مطابقة الحمض النووي الكامل لإحدى المعادلات الإهليلجية (السلسلة
E ) مع الحمض النووي الكامل لأحد الأشكال النمطية (السلسلة
M )، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى المعادلة الإهليلجية التالية، وبالرغم من أن هذا النهج منطقي تماما، فلم يتمكن أحد من إيجاد طريقة لتكرار هذه العملية مرارا وتكرارا لذلك العدد اللانهائي من المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية.
أما وايلز، فقد تعامل مع المشكلة بطريقة مختلفة جذريا. فبدلا من محاولة مطابقة جميع العناصر في إحدى سلاسل
E
وإحدى سلاسل
M ، ثم الانتقال إلى السلسلتين
E
و
M
التاليتين، حاول مطابقة عنصر واحد في جميع السلاسل
E
و
M ، ثم الانتقال إلى العنصر التالي. بعبارة أخرى، تتضمن كل سلسلة من سلاسل
E
قائمة لا نهائية من العناصر، جينات منفردة تشكل الحمض النووي، وقد أراد وايلز أن يثبت أنه يمكن مطابقة الجين الأول في جميع سلاسل
E ، مع الجين الأول في جميع سلال
M . وبعد ذلك، ينتقل إلى إثبات إمكانية مطابقة الجين الثاني في جميع سلاسل
E ، مع الجين الثاني في جميع سلاسل
M ، إلى آخر ذلك.
ثمة مشكلة تتعلق باللانهائية يواجهها المرء في الطريقة التقليدية؛ ذلك أنه حتى إذا تمكن المرء من إثبات أن جميع عناصر إحدى سلاسل
E
تتطابق مع جميع عناصر إحدى سلاسل
M ، فسوف يظل هناك الكثير جدا من سلاسل
E
وسلاسل
M
ينبغي مطابقتها. كان النهج الذي تبناه وايلز لا يزال يتضمن التعامل مع اللانهائية؛ لأنه حتى إذا تمكن من إثبات أن الجين الأول في جميع سلاسل
E
يتطابق مع الجين الأول في جميع سلاسل
M ، فسوف يظل هناك الكثير جدا من الجينات التي ينبغي مطابقتها. بالرغم من ذلك، كان نهج وايلز يتمتع بميزة مهمة لا يتمتع بها النهج التقليدي.
ففي الطريقة القديمة، فور أن تتمكن من إثبات أن جميع عناصر إحدى سلاسل
E
تتطابق مع جميع عناصر إحدى سلاسل
M ، يصبح عليك أن تطرح السؤال التالي: أي من سلاسل
E
و
M
ينبغي أن أحاول مطابقتهما في الخطوة التالية؟ فالعدد اللانهائي من سلاسل
E
و
M
لا يتسم بترتيب طبيعي؛ ومن ثم فإن اختيار السلسلة التالية التي يجري معالجتها هو اختيار عشوائي إلى حد كبير. ومن الأمور المهمة للغاية في طريقة وايلز أن الجينات في السلسلة
E
لها ترتيب طبيعي؛ ومن ثم فبعد إثبات أن الجين الأول في جميع سلاسل
E
يتطابق مع الجين الأول في جميع سلال
M ، ستكون الخطوة التالية بالطبع هي إثبات تطابق الجين الثاني في جميع سلاسل
E
مع الجين الثاني في جميع سلاسل
M ، وهكذا.
كان هذا الترتيب الطبيعي هو ما يحتاج إليه وايلز بالضبط لبناء برهان استقرائي. في البداية، كان على وايلز أن يثبت إمكانية مطابقة العنصر الأول في جميع سلاسل
E
مع العنصر الأول في جميع سلاسل
M . بعد ذلك، كان عليه إثبات أن إمكانية مطابقة العنصر الأول في نوعي السلاسل، تعني إمكانية مطابقة العنصر الثاني أيضا، وإذا أمكن مطابقة العنصر الثاني، فسيمكن أيضا مطابقة العنصر الثالث، وهكذا. كان عليه أن يوقع قطعة الدومينو الأولى، ثم يثبت بعد ذلك أن قطعة الدومينو التي تقع، ستوقع التي تليها أيضا.
تحققت الخطوة الأولى حين أدرك وايلز فعالية مجموعات جالوا. فمن الممكن استخدام بضعة حلول من كل معادلة إهليلجية لتشكيل مجموعة. وبعد شهور من التحليل، أثبت وايلز أن المجموعة قد أدت إلى استنتاج قاطع، وهو أنه يمكن بالفعل مطابقة العنصر الأول في جميع سلاسل
E
بالعنصر الأول في جميع سلاسل
M . وبفضل جالوا، تمكن وايلز من إيقاع قطعة الدومينو الأولى. كانت الخطوة التالية في برهانه الاستقرائي تتطلب إيجاد طريقة لإثبات أنه إذا كان أي من عناصر السلسلة
E
يتطابق مع العنصر المناظر له في السلسلة
M ، فلا بد أن يكون العنصران التاليان متطابقين أيضا.
إن الوصول إلى هذه المرحلة قد استغرق عامين بالفعل، ولم يكن ثمة إشارة عن المدة التي سيستغرقها إيجاد طريقة لتوسيع نطاق البرهان. كان وايلز يدرك المهمة القادمة إدراكا جيدا: «قد تتساءل كيف أمكنني تكريس مدة غير محددة من الوقت لمسألة قد لا يكون من الممكن حلها أصلا. والإجابة هي أنني كنت أحب العمل على هذه المسألة، وكنت مهووسا بها. كنت أستمتع باختبار معرفتي وذكائي أمامها. ثم إنني كنت أعرف دوما أن الرياضيات التي كنت أفكر فيها ستثبت شيئا ما، حتى وإن لم تكن قوية بالدرجة الكافية لإثبات حدسية تانياما-شيمورا؛ ومن ثم مبرهنة فيرما. لم أكن أهدر وقتي في إنتاج رياضيات سيئة، لقد كانت جيدة بكل تأكيد، وكنت أعرف ذلك من البداية. كان ثمة احتمال بالطبع بأنني لن أتمكن أبدا من إثبات مبرهنة فيرما، لكن المؤكد أنني لم أكن أهدر وقتي فحسب.» (4) «هل جرى حل مبرهنة فيرما الأخيرة؟»
بالرغم من أنها لم تكن سوى خطوة أولى نحو إثبات حدسية تانياما-شيمورا، فقد كانت استراتيجية جالوا التي تبناها وايلز إنجازا رياضيا رائعا يستحق النشر لذاته. ونتيجة للعزلة التي فرضها على نفسه، لم يكن باستطاعة وايلز أن يعلن للآخرين اكتشافه، لكنه لم يكن يعرف أيضا من عساه قد يكون يحقق إنجازات بهذا القدر من الأهمية.
يستذكر وايلز موقفه الفلسفي تجاه أي منافسين محتملين: «حسنا، لا شك بأنه لا أحد يرغب في قضاء سنوات في محاولة حل شيء ما، ثم يجد أن شخصا آخر قد تمكن من حله قبله ببضعة أسابيع فقط. لكن الطريف أنني لم أكن أخشى من المنافسة كثيرا؛ إذ إنني كنت أعمل على حل مسألة يعد حلها مستحيلا. الأمر كله أنني لم أكن أعتقد أن أحدا يعرف في حقيقة الأمر كيف يمكن حلها، لا أنا ولا غيري.»
في الثامن من مارس عام 1988، صدم وايلز بقراءة العناوين الرئيسية في الصفحات الأولى للصحف تعلن التوصل إلى حل لمبرهنة فيرما الأخيرة. فقد زعمت صحيفة «واشنطن بوست» وصحيفة «نيويورك تايمز» أن يوتشي مياوكا البالغ من العمر ثمانية وثلاثين عاما، الذي يعمل بجامعة طوكيو متروبوليتان، قد اكتشف حلا لأصعب مسألة في العالم. في هذه المرحلة، لم يكن مياوكا قد نشر برهانه بعد، وإنما شرح مخططه العام فحسب في معهد ماكس بلانك للرياضيات في بون. وقد لخص دون زاجير الذي كان ضمن الحضور، تفاؤل المجتمع الرياضي: «إن برهان مياوكا مثير للاهتمام للغاية، وهناك من يشعرون بأن ثمة فرصة جيدة في نجاحه. لا يزال الأمر غير مؤكد، لكن البرهان يبدو جيدا حتى الآن.»
في بون، وصف مياوكا كيفية معالجته للمسألة من زاوية جديدة تماما، وهي الهندسة التفاضلية. فعلى مدى العقود، طور علماء الهندسة التفاضلية فهما ثريا للأشكال الرياضية؛ ولا سيما خصائص أسطحها. وفي سبعينيات القرن العشرين، حاول فريق من الروس بقيادة البروفيسور إس أراكيلوف، استخلاص أوجه التشابه بين مسائل الهندسة التفاضلية ومسائل نظرية الأعداد. كان ذلك أحد خيوط برنامج لانجلاندز، وكان علماء الرياضيات يأملون في أن يتمكنوا من حل مسائل نظرية الأعداد التي لم تحل حتى الآن، من خلال دراسة السؤال المناظر لها في الهندسة التفاضلية، الذي قد جرى حله بالفعل. وقد عرف هذا التوجه باسم «فلسفة التوازي».
أصبح علماء الهندسة التفاضلية الذين كانوا يحاولون معالجة مسائل نظرية الأعداد يعرفون باسم «علماء الهندسة الجبرية الحسابية»، وقد أعلنوا أول انتصار مهم لهم في العام 1983 حين قدم جيرد فولتينجز الذي كان يعمل في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، إسهاما كبيرا نحو فهم مبرهنة فيرما الأخيرة. لعلك تتذكر أن فيرما قد زعم أنه لا توجد حلول بأعداد صحيحة للمعادلة: ، حيث
n
أكبر من 2.
كان فولتينجز يرى أنه يستطيع تحقيق تقدم نحو إثبات المبرهنة الأخيرة من خلال دراسة الأشكال الهندسية المرتبطة بالقيم المختلفة ل
n . فالأشكال التي تتناظر مع كل من المعادلات جميعها مختلفة، لكنها تشترك في شيء واحد، وهي أن جميعها مثقب بالثقوب. فهذه الأشكال رباعية الأبعاد، أي إنها شبيهة بالأشكال النمطية، ويوضح الشكل
6-4
تمثيلا بصريا ثنائي الأبعاد لشكلين منها. تشبه هذه الأشكال كعك دوناتس متعدد الأبعاد، وهي تحتوي على ثقوب عديدة لا ثقب واحد. وكلما زادت قيمة
n
في المعادلة، زاد عدد الثقوب في الشكل المناظر لها.
شكل 6-4: صمم هذان السطحان باستخدام برنامج كمبيوتر يدعى «ماثيماتيكا». وهما تمثيلان هندسيان للمعادلة ، حيث
للصورة الأولى، و
للصورة الثانية. في هذه الحالة، يعد
x
و
y
من المتغيرات المركبة.
تمكن فولتينجز من إثبات أنه لما كانت هذه الأشكال تحتوي دائما على أكثر من ثقب واحد، فلا بد أن يكون لمعادلة فيرما المرتبطة بها عدد نهائي من الحلول بأعداد صحيحة. وهذا العدد النهائي من الحلول يمكن أن يكون أي شيء، بداية من الصفر، وهو ما زعمه فيرما نفسه، إلى المليون أو المليار. ومن ثم؛ فإن فولتينجز لم يثبت مبرهنة فيرما الأخيرة، لكنه قد تمكن على الأقل من استبعاد احتمالية وجود عدد لا نهائي من الحلول.
بعد ذلك بخمس سنوات، زعم مياوكا أنه يستطيع التقدم خطوة أخرى. لقد وضع وهو لا يزال في بداية العشرينيات حدسية تتعلق بما يعرف باسم متباينة مياوكا. صار من الجلي أن برهانا مستمدا من حدسيته الهندسية سيثبت أن عدد حلول معادلة مبرهنة فيرما ليس محدودا فحسب ، بل هو صفر أيضا. كان النهج الذي تبناه مياوكا مشابها لنهج وايلز من حيث إنهما كانا يحاولان إثبات مبرهنة فيرما الأخيرة عن طريق ربطها بحدسية جوهرية في مجال آخر في الرياضيات. في حالة مياوكا، كانت الحدسية في مجال الهندسة التفاضلية، وفي حالة وايلز كان البرهان من خلال المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية. من سوء حظ وايلز أنه كان لا يزال يحاول إثبات حدسية تانياما-شيمورا حين أعلن مياوكا برهانا مكتملا لحدسيته؛ ومن ثم برهانا لمبرهنة فيرما الأخيرة.
بعد أسبوعين من إعلانه في بون، نشر مياوكا خمس صفحات من الجبر تضم تفاصيل برهانه، ثم بدأ التدقيق. راح علماء نظرية الأعداد والهندسة التفاضلية في جميع أنحاء العالم يفحصون برهانه سطرا بسطر، بحثا عن أي ثغرة طفيفة في المنطق، أو أي إشارة تدل على وجود افتراض خاطئ. وفي غضون بضعة أيام، أوضح عدد من علماء الرياضيات ما بدا أنه تناقض مقلق في البرهان. كان جزء من عمل مياوكا يؤدي إلى استنتاج محدد في مجال نظرية الأعداد، وعند ترجمة هذا الاستنتاج إلى الهندسة التفاضلية، يتعارض مع نتيجة قد أثبتت بالفعل قبل سنوات. وبالرغم من أن هذا لم يكن يبطل برهان مياوكا كله بالضرورة، فإنه كان يتعارض مع فلسفة التوازي بين نظرية الأعداد والهندسة التفاضلية.
مر أسبوعان آخران قبل أن يعلن جريد فولتينجز، الذي مهد الطريق لمياوكا، أنه قد توصل إلى السبب المحدد لهذا الخلل الواضح في التوازي: ثغرة في المنطق. لقد كان الرياضي الياباني متخصصا في الهندسة في الأساس، ولم يكن دقيقا تمام الدقة في ترجمة أفكاره إلى مجال نظرية الأعداد الذي هو أقل ألفة به. حاول حشد كبير من علماء نظرية الأعداد مساعدة مياوكا في تصحيح الخطأ، لكن جهودهم قد انتهت بالفشل. وبعد شهرين من الإعلان الأولي، كان الإجماع على أن البرهان الأصلي محكوم عليه بالفشل.
ومثلما هي الحال مع العديد من البراهين التي فشلت في الماضي، ابتكر مياوكا معارف رياضية مثيرة للاهتمام. فبعض أجزاء البرهان كانت في حد ذاتها تطبيقات عبقرية للهندسة التفاضلية في نظرية الأعداد، وقد استخدمها رياضيون آخرون في السنوات اللاحقة، وأكملوا عليها لإثبات مبرهنات أخرى، لكنها لم تستخدم أبدا لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة.
سرعان ما انتهى الصخب بشأن مبرهنة فيرما الأخيرة، ونشرت الصحف تحديثات قصيرة تفيد بأن الأحجية التي يبلغ عمرها 300 عام، لم تحل بعد. وبعد كل هذه الاهتمام الإعلامي، وجدت قطعة جديدة من فن الجرافيتي طريقها إلى محطة مترو أنفاق إيث ستريت في نيويورك، وقد جاء فيها: : لا حلول!
لقد اكتشفت برهانا رائعا لهذا بالفعل،
لكني لا أستطيع كتابته الآن؛ لأن قطاري قادم. (5) القصر المظلم
تنفس وايلز الصعداء دون أن يعرف العالم شيئا. ظلت مبرهنة فيرما الأخيرة لم تقهر بعد، وكان باستطاعته الاستمرار في معركته لإثبات حدسية تانياما- شيمورا. «كنت أقضي معظم الوقت في الجلوس إلى مكتبي للكتابة، لكنني كنت أتمكن أحيانا من اختزال المسألة إلى شيء محدد للغاية، وكنت أجد في ذلك تلميحا، شيء يسترعي انتباهي لغرابته، شيء كامن فيما وراء الكتابة، لكنني لا أستطيع تحديده بالضبط. عندما كنت أجد أن شيئا محددا يشغل ذهني آنذاك، لم أكن أحتاج إلى أي أدوات للكتابة أو إلى مكتب أعمل عليه؛ لذا كنت أذهب بدلا من ذلك للتجول بجوار البحيرة. حين أمشي، أجد أنني أستطيع تركيز تفكيري على جانب واحد محدد من المسألة، وأنهمك فيه تماما. وكنت أحمل بعض الأوراق وقلم رصاص على الدوام، حتى إذا ما خطرت لي فكرة، جلست على مقعد وبدأت في كتابتها بسرعة.»
بعد ثلاث سنوات من الجهد المتواصل، توصل وايلز إلى مجموعة من الاكتشافات. طبق مجموعات جالوا على المعادلات الإهليلجية، وقسم المعادلات الإهليلجية إلى عدد لا نهائي من الأجزاء، ثم أثبت أن القطعة الأولى من جميع المعادلات الإهليلجية، لا بد أن تكون نمطية. لقد أسقط قطعة الدومينو الأولى، وانتقل إلى استكشاف الأساليب التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار القطع المتبقية بأكملها. وعند التفكير في الأمر لاحقا، بدا أن هذا هو الطريق الطبيعي للبرهان، لكن الوصول إلى هذه المرحلة قد استلزم قدرا ضخما من العزم للتغلب على فترات الشك في الذات. يصف وايلز تجربته في ممارسة الرياضيات بأنها رحلة في قصر مظلم غير مستكشف. «تدخل الغرفة الأولى من القصر وتجدها مظلمة. مظلمة تماما. تتخبط في طريقك وتتعثر في الأثاث، لكنك تعرف تدريجيا موضع كل قطعة منها. وأخيرا، بعد ستة أشهر تقريبا، تجد مفتاح الإضاءة وتشغله؛ وفجأة يضيء كل شيء. وتستطيع أن ترى مكانك بالتحديد. بعد ذلك، تنتقل إلى غرفة أخرى وتقضي ستة أشهر أخرى في الظلام. لذا؛ فبالرغم من أن هذه الإنجازات تكون لحظية في بعض الأحيان وقد تحدث على مدى يوم أو اثنين أحيانا، فهي نتاج الشهور العديدة التي سبقتها وقضاها المرء في التخبط في الظلام، ولا يمكن أن تحدث دونها.»
في عام 1990، وجد وايلز نفسه فيما بدا أنه أكثر الغرف عتمة على الإطلاق. لقد قضى قرابة عامين في الاستكشاف. بالرغم من ذلك، لم يكن قد توصل بعد إلى طريقة يثبت بها أنه إذا كان أحد أجزاء المعادلة الإهليلجية نمطيا، فلا بد أن يكون الجزء التالي نمطيا أيضا. وبعد أن جرب جميع الأدوات والأساليب التي وجدها في الأعمال المنشورة، وجد أنها جميعا غير ملائمة. «كنت أعتقد حقا أنني أسير في الطريق الصحيح، لكن ذلك لم يكن يعني بالضرورة أنني سأصل إلى وجهتي. فقد يتضح أن الطرق اللازمة لحل هذه المعضلة أكثر تقدما مما وصلت إليه الرياضيات في الوقت الحالي. ربما لن تخترع الأداة التي كنت أحتاج إليها لإكمال البرهان إلا بعد مائة عام. لذا؛ حتى إذا كنت على الطريق الصحيح، فقد أكون في القرن الخطأ.»
بشجاعة ثابر وايلز على مدى عام آخر. بدأ في العمل على أسلوب يدعى نظرية إيواساوا. كانت هذه النظرية طريقة لتحليل المعادلات الإهليلجية قد تعلمها وهو طالب في جامعة كامبريدج تحت إشراف جون كوتس. وبالرغم من أن الطريقة لم تكن ملائمة كما هي، فقد كان يأمل في أن يتمكن من تعديلها لتصبح فعالة بالدرجة التي تكفي لتوليد تأثير الدومينو.
بعد أن حقق الإنجاز الأولي مع مجموعات جالوا، صار وايلز يزداد إحباطا. متى ما كان الضغط كبيرا للغاية، كان يلجأ إلى أسرته. منذ أن بدأ العمل على مبرهنة فيرما في عام 1986، صار وايلز أبا لطفلتين. «كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن أن أسترخي بها هي قضاء الوقت مع طفلتي. فالأطفال الصغار لا يهتمون بفيرما ببساطة، وكل ما يريدونه هو أن تحكي لهم قصة، ولن يسمحوا لك بفعل أي شيء آخر.» (6) طريقة كوليفاجين وفلاخ
بحلول صيف عام 1991، شعر وايلز أنه خسر معركة تعديل نظرية إيواساوا. كان عليه إثبات أنه إذا وقعت أي قطعة من قطع الدومينو، فإنها ستوقع القطعة التالية: أي إنه إذا تطابق أحد عناصر السلسلة
E
في المعادلة الإهليلجية مع أحد عناصر السلسلة
M
في الشكل النمطي، فسوف ينطبق الأمر نفسه على العنصر التالي أيضا. كان عليه أيضا أن يتيقن من أن ذلك سينطبق على جميع المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية. لم تضمن له نظرية إيواساوا ما كان يحتاج إليه. أجرى بحثا مستفيضا آخر في الأعمال المنشورة ولم يتمكن من إيجاد أسلوب بديل يمنحه الانفراجة التي كان يحتاج إليها. وبعد أن كان قد أصبح بمثابة ناسك حقيقي في برينستون على مدى السنوات الخمسة الماضية، قرر أنه قد حان الوقت للعودة إلى المشاركة مرة أخرى لمعرفة أحدث الأخبار في النميمة الرياضية. فربما كان أحدهم يعمل في مكان ما على أسلوب جديد مبتكر، ولم ينشره بعد لأي سبب من الأسباب. توجه شمالا إلى بوسطن لحضور مؤتمر مهم عن المعادلات الإهليلجية، حيث كان سيرى بالتأكيد أهم المشتغلين بالمجال .
تلقى وايلز الترحيب من زملائه من جميع أنحاء العالم الذين سرتهم رؤيته بعد كل هذا الغياب الطويل عن دوائر المؤتمرات. كانوا لا يزالون على غير علم بمشروعه، وقد حرص وايلز على ألا يفشي بأي تلميحات. لم يشكوا في دافع وايلز الخفي حين سألهم عن أحدث الأنباء في مجال المعادلات الإهليلجية. وفي البداية، لم تكن الإجابات ذات صلة بمأزق وايلز، لكن لقاءه بمشرفه السابق جون كوتس، كان أجدى نفعا: «أخبرني كوتس بأن طالبا لديه يدعى ماثيوس فلاخ كان يكتب ورقة بحثية رائعة يحلل فيها المعادلات الإهليلجية. كان يكمل طريقة ابتكرها كوليفاجين، وبدا أن طريقته قد صممت خصيصى لمشكلتي. بدا أنها ما كنت أحتاج إليه بالضبط، بالرغم من معرفتي أنه سيظل علي أن أطور تلك الطريقة المسماة بطريقة كوليفاجين-فلاخ. نحيت النهج القديم الذي كنت أحاول تطبيقه تماما، وكرست وقتي بأكمله ليلا ونهارا لتوسيع نطاق كوليفاجين-فلاخ.»
من الناحية النظرية، كان يمكن لهذه الطريقة الجديدة توسيع نطاق حجة وايلز من القطعة الأولى من المعادلة الإهليلجية، إلى جميع قطع المعادلة الإهليلجية، وكان من المحتمل أيضا أن تنطبق على جميع المعادلات الإهليلجية. لقد ابتكر البروفيسور كوليفاجين أسلوبا رياضيا شديد الفعالية، وحسنه ماثيوس فلاخ ليزيد من فعاليته أكثر فأكثر. لم يكن أي منهما على علم بأن وايلز ينتوي دمج عملهما في البرهان الأهم في العالم.
عاد وايلز إلى برينستون، وقضى شهورا عدة في التعرف على الأسلوب الذي اكتشفه حديثا، ثم بدأ في المهمة العملاقة المتمثلة في تعديله وتطبيقه. بعد ذلك بمدة قصيرة، تمكن من وضع البرهان الاستقرائي لمعادلة إهليلجية محددة؛ أي إنه تمكن من إيقاع جميع قطع الدومينو. غير أن أسلوب كوليفاجين-فلاخ الذي كان مجديا مع معادلة إهليلجية لم يكن مجديا بالضرورة مع الأسف عند استخدامه في معادلة إهليلجية أخرى. أدرك وايلز في نهاية المطاف أنه يمكن تصنيف المعادلات الإهليلجية إلى عائلات متعددة. وفور تعديل أسلوب كوليفاجين-فلاخ لينجح عند استخدامه في معادلة إهليلجية محددة، فإنه سينجح أيضا عند استخدامه في جميع المعادلات الإهليلجية التي تنتمي إلى تلك العائلة. كان التحدي إذن هو تعديل أسلوب كوليفاجين-فلاخ، حتى يمكن استخدامه مع كل عائلة. وبالرغم من أن تعديله كان صعبا لبعض العائلات أكثر من غيرها، فقد كان وايلز واثقا من أنه يستطيع شق طريقه عبرها واحدة تلو الأخرى.
بعد ست سنوات من المجهود الشاق، ظن وايلز أنه يرى النهاية في الأفق. كان يحقق تقدما أسبوعا بعد أسبوع، ويثبت أن عائلات أحدث وأكبر من المنحنيات الإهليلجية هي أشكال نمطية دون شك. بدا أن كل ما يتطلبه الأمر هو بعض الوقت فحسب قبل أن ينتهي من المعادلات الإهليلجية بأكملها. في أثناء هذه المرحلة الأخيرة من البرهان، بدأ وايلز يدرك أن برهانه بأكمله يعتمد على استخدام أسلوب لم يكتشفه إلا قبل بضعة أشهر. بدأ يتساءل عما إذا كان يستخدم أسلوب كوليفاجين-فلاخ على نحو صارم تماما. «على مدى ذلك العام، كنت أعمل بجد شديد للغاية في محاولة للاستفادة من أسلوب كوليفاجين-فلاخ، لكن ذلك كان يتطلب قدرا كبيرا من الآليات المعقدة التي لم أكن على دراية جيدة بها. كان الأمر يتضمن الكثير من الجبر الذي استلزم مني أن أتعلم الكثير من الرياضيات الجديدة. وبعد ذلك في بداية يناير عام 1993، قررت أنني أحتاج إلى أن أركن إلى شخص يكون خبيرا في الأساليب الهندسية التي كنت أستشهد بها في البرهان. أردت اختيار الشخص الذي أخبره بعناية شديدة؛ إذ سيكون عليه أن يبقيه سرا. واخترت أن أخبر نيك كاتس.»
شكل 6-5: نيك كاتس.
كان البروفيسور نيك كاتس يعمل هو أيضا في قسم الرياضيات بجامعة برينستون، وقد عرف وايلز لسنوات عديدة. وبالرغم من القرب بينهما، لم يكن كاتس يعرف شيئا على الإطلاق عما يدور في الردهة نفسها حرفيا. وهو يذكر جميع تفاصيل اللحظة التي أفصح وايلز له فيها عن سره: «زارني أندرو ذات يوم في موعد الشاي وسألني إذا كان بإمكاني أن أزوره في مكتبه؛ إذ كان يرغب في الحديث إلي بشأن أمر ما. لم تكن لدي أي فكرة عما قد يكون هذا الأمر. ذهبت إلى مكتبه وأغلق الباب. قال إنه يعتقد أن باستطاعته أن يثبت حدسية تانياما-شيمورا. كنت مندهشا فحسب، بل مذهولا؛ فقد كان ذلك رائعا.» «شرح أن جزءا كبيرا من البرهان يعتمد على ما قام به من توسيع لنطاق عمل فلاخ وكوليفاجين، لكنه تقني للغاية. كان يشعر بأنه يفتقر إلى الثقة في هذا الجزء التقني للغاية من البرهان، وكان يرغب في مراجعته مع شخص آخر ليتأكد من صحته. كان يرى أنني الشخص المناسب لمراجعته معه، لكني أعتقد أن ثمة سببا آخر دفعه إلى أن يطلب ذلك مني بالتحديد. كان موقنا من أنني سأحفظ السر ولن أخبر آخرين بشأن البرهان.»
بعد ست سنوات من العزلة، قرر وايلز أن يتخلى عن سره. والآن، صارت مهمة كاتس أن يعالج قدرا هائلا من الحسابات المذهلة التي تستند إلى طريقة كوليفاجين-فلاخ. كان كل ما قام به وايلز ثوريا بالفعل، وقد فكر كاتس كثيرا في الطريقة الأنسب لمراجعته بدقة: «كان على وايلز أن يشرح قدرا ضخما سيستغرق وقتا طويلا؛ ومن ثم لم يكن من الممكن أن يشرحه لي في مكتبه في محادثات رسمية. فمشروع بهذه الضخامة كان يتطلب هيكلا منهجيا يتمثل في محاضرات محددة كل أسبوع، وإلا انهار المشروع بأكمله. ولهذا؛ فقد قررنا عقد دورة من المحاضرات.»
قررا أن الاستراتيجية الأنسب هي الإعلان عن سلسلة من المحاضرات يتاح لطلاب الدراسات العليا حضورها. كان وايلز سيلقي المحاضرات ويجلس كاتس بين الحضور. كانت الدورة ستتناول بالفعل جزء البرهان الذي يستدعي المراجعة، لكن طلاب الدراسات العليا لن يدركوا شيئا من هذا. إن الميزة الرائعة لإخفاء عملية التحقق من البرهان بهذه الطريقة هي أنها كانت ستجبر وايلز على شرح كل شيء خطوة بخطوة دون أن يثير ذلك أي شكوك في القسم. فقد كان الجميع يرون أن تلك ليست سوى إحدى الدورات الدراسية لطلاب الدراسات العليا.
يستطرد كاتس في الذكرى وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة: «وهكذا أعلن أندرو عن دورة المحاضرات تلك تحت عنوان «حسابات على المنحنيات الإهليلجية»، وهو عنوان آمن تماما؛ إذ يمكن أن يعني أي شيء. لم يذكر شيئا عن فيرما، ولا عن تانياما-شيمورا، بل بدأ على الفور بالدخول إلى الحسابات التقنية. كان محالا أن يتمكن أحد من تخمين الهدف الحقيقي لهذه المحاضرات. لقد صممت بطريقة تجعلك ترى أن هذه الحسابات تقنية ومملة للغاية، ما لم تكن تعرف الهدف الحقيقي منها. وإذا كنت لا تعرف الهدف من الرياضيات التي تقدم إليك، فمحال أن تفهمها. الحق أن فهمها صعب للغاية حتى مع معرفة الهدف منها. على أي حال ، ابتعد الطلاب واحدا تلو الآخر، وبعد بضعة أسابيع صرت أنا الوحيد المتبقي من بين الحضور.»
جلس كاتس في قاعة المحاضرات واستمع بعناية إلى كل خطوة من حسابات وايلز. وفي نهاية السلسلة، كان التقييم بأن طريقة كوليفاجين-فلاخ ناجحة تماما على ما يبدو. لم يدرك أي شخص آخر في القسم ما كان يجري على الإطلاق. لم يشك أحد بأن وايلز على وشك الفوز بأهم جائزة في الرياضيات. لقد نجحت خطتهما.
فور الانتهاء من سلسلة المحاضرات، كرس وايلز جميع جهوده لإكمال البرهان. كان قد نجح بالفعل في تطبيق طريقة كوليفاجين-فلاخ على عائلة تلو الأخرى من عائلات المعادلات الإهليلجية، ولم تتبق في هذه المرحلة سوى عائلة واحدة هي التي كانت تستعصي على تلك الطريقة. يصف وايلز محاولاته لإكمال العنصر الأخير في البرهان قائلا: «ذات صباح في أواخر مايو، كانت نادا بالخارج مع الطفلتين، وكنت أنا جالسا إلى مكتبي أفكر في العائلة المتبقية من المعادلات الإهليلجية. كنت أنظر إلى ورقة لباري ميزور، واسترعت انتباهي جملة فيها. ورد في الجملة ذكر لتركيب من القرن التاسع عشر، وقد أدركت فجأة أن بوسعي استخدامه لكي أتمكن من تطبيق طريقة كوليفاجين-فلاخ على العائلة الأخيرة من المعادلات الإهليلجية بنجاح. واصلت العمل حتى العصر ونسيت أن أنزل لتناول الغداء، وبحلول الساعة الثالثة أو الرابعة، كنت مقتنعا بالفعل بأن ذلك سيحل المشكلة الأخيرة. توقفت عن العمل في موعد الشاي تقريبا ونزلت إلى الطابق السفلي لأجد نادا مندهشة جدا من تأخري. وحينذاك أخبرتها بأنني قد حللت مبرهنة فيرما الأخيرة.» (7) محاضرة القرن
بعد سبع سنوات من المجهود الذهني الفردي، أكمل وايلز برهانا لحدسية تانياما-شيمورا. ونتيجة لذلك؛ فقد أثبت أيضا مبرهنة فيرما الأخيرة بعد أن قضى ثلاثين عاما يحلم بإثباتها. كان الوقت قد حان آنذاك ليخبر بقية العالم.
يسرد وايلز ذكرياته قائلا: «إذن بحلول مايو من العام 1993، كنت مقتنعا بأنني تمكنت من مبرهنة فيرما الأخيرة تماما. كنت أرغب في مراجعة البرهان أكثر من ذلك، لكن ثمة مؤتمرا كان سيعقد في نهاية يونيو في كامبريدج، ورأيت أنها ستكون مكانا رائعا لإعلان البرهان؛ فهي مسقط رأسي وقد كنت طالبا بالدراسات العليا في جامعتها.»
كان المؤتمر سيعقد في معهد إسحاق نيوتن. وكان المعهد قد خطط في هذه المرة لورشة عمل في نظرية الأعداد تحمل العنوان الغامض «الدوال اللامية وعلم الحساب». كان أحد المنظمين هو المشرف على وايلز في مرحلة الدكتوراه، جون كوتس الذي يقول عن هذا المؤتمر: «لقد دعونا من جميع أنحاء العالم الأشخاص الذين كانوا يعملون في نطاق هذه الدائرة العامة من المسائل، وكان وايلز ممن دعوناهم بالطبع. خططنا لأسبوع من المحاضرات المكثفة، ولم أخصص لأندرو في بادئ الأمر سوى فقرتين من فقرات المحاضرات؛ إذ كان الطلب كبيرا عليها. غير أنني أدركت بعد ذلك أنه يحتاج إلى فقرة ثالثة؛ لذا رتبت بالفعل للتنازل عن فقرتي له ليلقي محاضرة ثالثة. كنت أعرف أنه على وشك إعلان نتيجة مهمة لا أعرف شيئا عنها.»
حين وصل وايلز إلى كامبريدج كان لديه أسبوعان ونصف أسبوع قبل بدء محاضراته؛ فأراد أن يستفيد من الفرصة على النحو الأمثل. «قررت أن أراجع البرهان مع خبير أو اثنين، لا سيما الجزء المتعلق بطريقة كوليفاجين-فلاخ. كان الشخص الأول الذي قدمته إليه هو باري ميزور. أعتقد أنني قلت له: «لدي مخطوطة هنا تضم برهانا لمبرهنة ما.» بدا متحيرا للغاية لبرهة، ثم قلت له: «حسنا، فلتلق نظرة عليها.» أعتقد أنه استغرق بعض الوقت ليتمكن من التعبير. بدا مشدوها. أخبرته على أي حال أنني آمل في الحديث عنها في المؤتمر، وأنني راغب أشد الرغبة في أن يراجعها.»
بدأ أبرز أعلام نظرية الأعداد يصلون إلى معهد إسحاق نيوتن واحدا تلو الآخر، وكان من بينهم كين ريبت الذي كانت حساباته التي أجراها عام 1986 قد بدأت محنة وايلز التي استمرت لسبع سنوات. «وصلت إلى هذا المؤتمر المنعقد بشأن الدوال اللامية والمنحنيات الإهليلجية، ولم يبد أنه شيء خارج عن المألوف إطلاقا، إلى أن بدأ الناس يخبرونني بأنهم سمعوا شائعات غريبة عن سلسلة محاضرات أندرو وايلز المقترحة.» كانت الشائعة أنه أثبت مبرهنة فيرما الأخيرة، وقد ظننت أن ذلك جنون تام. ظننت أن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحا. ففي حالات كثيرة، تنتشر الشائعات في مجال الرياضيات، لا سيما من خلال البريد الإلكتروني، وقد علمتنا التجارب أنه لا ينبغي علينا أن نعول عليها كثيرا. غير أن الشائعة ظلت مستمرة ملحة، ورفض أندرو الإجابة عن أي أسئلة وكان يتصرف على نحو غريب للغاية. لقد تحدث إليه جون كوتس قائلا: «ما الذي أثبته يا أندرو؟ أندعو الصحافة؟» واكتفى أندرو بهز رأسه فحسب، وأبقى فمه مغلقا. كان يرغب حقا في تحقيق تأثير درامي قوي. «وفي عصر أحد الأيام بعد ذلك، أتاني وايلز وبدأ يسألني عما حققته عام 1986، وعن جزء من تاريخ أفكار فراي. فكرت بيني وبين نفسي أن ذلك لا يصدق، فلا بد أنه قد أثبت حدسية تانياما-شيمورا، ومبرهنة فيرما الأخيرة، وإلا لما سألني عن ذلك. لم أسأله مباشرة إذ رأيت أنه يتصرف بتحفظ شديد وعرفت أنني لن أحصل منه على إجابة واضحة. ولهذا؛ فقد قلت شيئا من قبيل: «حسنا يا أندرو، إذا كانت لديك فرصة للحديث عن هذا العمل، فإليك ما حدث.» نظرت إليه بطريقة توحي بأنني أعرف شيئا، لكنني لم أكن أعرف ما يجري حقا. كنت أخمن فحسب.»
كان رد فعل وايلز على الشائعات والضغط المتزايد بسيطا: «كان الناس يسألونني قبل محاضراتي عما سأقوله تحديدا. وقد كنت أجيب عن ذلك بأن تعالوا إلى محاضراتي ولتروا بأنفسكم.»
في عام 1920، ألقى ديفيد هيلبرت البالغ من العمر ثمانية وخمسين عاما آنذاك، محاضرة عامة في جوتينجن عن مبرهنة فيرما الأخيرة. وحين سئل عما إذا كانت المبرهنة ستحل في وقت من الأوقات أو لا، أجاب بأنه لن يعيش ليرى ذلك، لكن الأفراد الأصغر سنا من الحضور ربما يشهدون الحل. بدأ يتضح أن تقدير هيلبرت لتاريخ الحل دقيق إلى حد كبير. كان توقيت محاضرة وايلز مناسبا جدا أيضا فيما يتعلق بجائزة ولفسكيل. ذلك أن بول ولفسكيل كان قد حدد موعدا نهائيا لجائزته يوافق الثالث عشر من سبتمبر عام 2007.
جاءت سلسلة محاضرات وايلز تحت عنوان «الأشكال النمطية والمنحنيات الإهليلجية وتمثيلات جالوا.» ومرة أخرى، مثلما حدث في محاضرات طلاب الدراسات العليا التي عقدها في وقت سابق من العام لصالح نيك كاتس، كان عنوان المحاضرات غامضا للغاية ولا يشي بأي شيء عن هدفه النهائي. كانت محاضرة وايلز الأولى مملة فيما يبدو إذ كانت تضع الأساس لهجمته على حدسية تانياما-شيمورا في المحاضرة الثانية والثالثة. ولم تكن غالبية الحضور تعرف شيئا عن الشائعات، فلم يفهموا الغرض من المحاضرات ولم يهتموا كثيرا بالتفاصيل. أما من كانوا يعرفون، فقد راحوا يبحثون عن أي تلميح قد يمنح مصداقية للشائعات.
بعد انتهاء المحاضرة مباشرة، بدأت طاحونة الشائعات تدور ثانية بنشاط متجدد، وتنقلت رسائل البريد الإلكتروني في جميع أنحاء العالم. فنقل البروفيسور كارل روبين، وهو طالب سابق لوايلز لأصدقائه في أمريكا ما يلي:
التاريخ: الإثنين الموافق 21 من يونيو 1993، 06 : 33 : 13
الموضوع: وايلز
مرحبا.
ألقى وايلز أولى محاضراته اليوم. لم يعلن برهانا لحدسية تانياما-شيمورا، لكنه يتحرك في ذلك الاتجاه، ولا يزال لديه محاضرتان أخريان. لا يزال متكتما للغاية بشأن النتيجة النهائية.
التخمين الأرجح لدي أنه سيثبت أنه إذ كان
E
منحنى إهليلجيا على ، وإذا كان تمثيل جالوا على النقط النظامية 3 على
E
يستوفي شروط فرضيات معينة، فإن
E
نمطية.
يبدو مما قاله أنه لن يثبت الحدسية بأكملها. ولا أعرف ما إذا كان هذا سينطبق على منحنى فراي؛ ومن ثم يقول شيئا عن فيرما، أو لا. سأوافيكم بالأنباء.
كارل روبين
جامعة ولاية أوهايو
بحلول اليوم التالي، كان المزيد من الأشخاص قد سمعوا بالشائعات؛ ومن ثم ازداد عدد الحضور في المحاضرة التالية زيادة كبيرة. استفزهم وايلز بعملية حسابية وسيطة، أوضحت أنه يحاول معالجة حدسية تانياما-شيمورا، لكن الحضور كانوا لا يزالون في حيرة مما إذا كان قد قام بما يكفي لإثباتها؛ ومن ثم التغلب على مبرهنة فيرما الأخيرة أو لا. وتنقلت مجموعة أخرى من رسائل البريد الإلكتروني عبر الأقمار الصناعية.
التاريخ: الثلاثاء، 22 يونيو 1993، 39 : 10 :13
الموضوع: وايلز
ما من أخبار مهمة من محاضرة اليوم . طرح وايلز مبرهنة عامة بشأن رفع تمثيلات جالوا على الخطوط مثلما اقترحت أمس. لا يبدو أنها تنطبق على جميع المنحنيات الإهليلجية، لكن الخلاصة ستتضح غدا.
لا أدري حقا ما يدفعه إلى التصرف بهذه الطريقة. من الجلي أنه يعرف ما سيقوله غدا. إنه عمل ضخم للغاية ظل يعمل فيه منذ سنوات، ويبدو واثقا منه. سأخبركم بما يحدث غدا.
كارل روبين
جامعة ولاية أوهايو
يستدعي جون كوتس ذكرياته قائلا: «في الثالث والعشرين من يونيو، بدأ أندرو محاضرته الثالثة والأخيرة. وما كان مميزا حقا أن جميع من أسهموا في الأفكار التي يستند إليها البرهان كانوا ضمن الحضور: مثل ميزور وريبت وكوليفاجين وغيرهم الكثير.»
في هذه المرحلة، كان تواتر الشائعات قد زاد للغاية، حتى إن جميع أفراد المجتمع الرياضي في كامبريدج جاءوا إلى المحاضرة الأخيرة. اكتظ المحظوظون في القاعة، بينما اضطر الآخرون إلى الانتظار في الردهة حيث وقفوا على أطراف أصابعهم وأطلوا من النافذة. حرص كين ريبت على ألا يغيب عن الإعلان الرياضي الأهم في القرن: «حضرت في وقت مبكر نسبيا وجلست في الصف الأول مع باري ميزور. أحضرت الكاميرا الخاصة بي معي لأسجل الحدث فحسب. كانت الأجواء مشحونة للغاية، وكان الناس متحمسين أشد الحماس. لا شك بأننا شعرنا أننا نشارك في لحظة تاريخية. ارتسمت الابتسامة على الوجوه قبل المحاضرة وفي أثنائها. كان التوتر قد تراكم على مدى الأيام السابقة. وجاءت بعد ذلك هذه اللحظة الرائعة التي كنا نقترب فيها من برهان لمبرهنة فيرما الأخيرة.»
كان باري ميزور يمتلك نسخة من البرهان بالفعل قد أعطاه وايلز إياها، لكن الأداء قد أدهشه مع ذلك. «لم أشهد قط محاضرة بتلك العظمة قد امتلأت بمثل هذه الأفكار الرائعة، وشهدت ذلك التوتر الدرامي، وذلك التسارع في التطورات. لم تكن توجد سوى نهاية واحدة.»
بعد سبع سنوات من المجهود المكثف، كان وايلز على وشك إعلان برهانه للعالم. ومن الغريب أن وايلز لا يستطيع تذكر اللحظات الأخيرة من المحاضرات بقدر كبير من التفصيل، لكنه يتذكر الجو العام: «بالرغم من أن الصحافة علمت بشأن المحاضرة بالفعل، من حسن الحظ أنهم لم يكونوا موجودين في المحاضرة. غير أن الكثير من الأفراد في الجمهور كانوا يلتقطون الصور الفوتوغرافية بالقرب من النهاية، ولا شك بأن مدير المعهد قد استعد جيدا إذ أحضر زجاجة من الشمبانيا. خيم صمت جليل بينما كنت أقرأ البرهان، وبعد ذلك كتبت نص مبرهنة فيرما الأخيرة. قلت: «أعتقد أنني سأتوقف هنا!» ثم دوى تصفيق متواصل.» (8) التبعات
من الغريب أن وايلز كان يشعر بمشاعر متضاربة بشأن المحاضرة: «لقد كانت مناسبة عظيمة، لكني شعرت بمشاعر مختلطة. لقد شكل هذا العمل جزءا مني على مدى سبع سنوات: وهي مدة حياتي العملية بأكملها. لقد انهمكت في المسألة انهماكا شديدا حتى شعرت بأنني أمتلكها وحدي، لكني كنت أتخلى عنها آنذاك. شعرت بأنني أتخلى عن جزء من نفسي.»
أما زميل وايلز، كين ريبت، فلم تكن لديه مثل هذه الهواجس: «لقد كان حدثا بارزا للغاية. ما أعنيه أن المرء يذهب إلى مؤتمر ما فيجد المحاضرات المعتادة، بعضها جيد وبعضها مميز للغاية، لكنها فرصة لا تتكرر؛ أن يشهد المرء محاضرة يزعم أحدهم فيها أنه توصل إلى حل مسألة قد استعصت على الحل على مدى 350 عاما. كان الناس ينظر أحدهم إلى الآخر ويقولون: «يا إلهي! أتدرك أننا قد شهدنا للتو حدثا تاريخيا!» بعد ذلك، طرح الناس بعض الأسئلة عن أمور فنية في البرهان وعن التطبيقات المحتملة في المعادلات الأخرى، ثم خيم الصمت مرة أخرى، وفجأة دوت جولة ثانية من التصفيق. كانت المحاضرة التالية لكين ريبت، هذا الذي يتحدث إليك. ألقيت المحاضرة، ودون الناس بعض الملاحظات، وصفقوا، ولم يكن أحد من الحضور يعرف ما قلته في هذه المحاضرة على الإطلاق، ولا حتى أنا نفسي.»
بينما كان علماء الرياضيات ينشرون الأخبار السعيدة عبر البريد الإلكتروني، كان على بقية العالم أن ينتظر نشرات أخبار المساء، وصحف اليوم التالي. توجهت أطقم التليفزيون ومراسلو أقسام العلوم إلى معهد نيوتن، وجميعهم يطالبون بإجراء مقابلات مع «أعظم رياضي في القرن». أعلنت صحيفة «الجارديان» بقوة: «آن الأوان لانتهاء أمر آخر لغز في الرياضيات.» وجاء في الصفحة الأولى من صحيفة «لو موند»: «وأخيرا، إيجاد حل لمبرهنة فيرما الأخيرة.» راح الصحافيون في كل مكان يسألون علماء الرياضيات عن رأيهم الفني في عمل وايلز، وكان المتوقع من الأساتذة الذين لم يكونوا قد تعافوا بعد من الصدمة، أن يشرحوا أكثر البراهين الرياضية تعقيدا على الإطلاق بإيجاز أو يقدموا رسالة مقتضبة بليغة توضح حدسية تانياما-شيمورا.
شكل 6-6: عقب محاضرة وايلز، نشرت الصحف في جميع أنحاء العالم أنباء برهانه لمبرهنة فيرما الأخيرة.
سمع البروفيسور شيمورا عن برهان حدسيته للمرة الأولى حين قرأ في الصفحة الأولى من صحيفة «ذا نيويورك تايمز»: «وأخيرا، صيحة «وجدتها!» في لغز رياضي قديم العهد.» بعد خمسة وثلاثين عاما من انتحار صديقه يوتاكا تانياما، صار للحدسية التي وضعاها معا برهان يثبتها الآن. لقد كان إثبات حدسية تانياما-شيمورا للعديد من علماء الرياضيات المحترفين إنجازا أهم من حل مبرهنة فيرما الأخيرة بدرجة كبيرة؛ إذ كان له نتائج بالغة الأهمية على الكثير من المبرهنات الرياضية الأخرى. أما الصحافيون الذين كانوا يغطون الخبر، فقد ركزوا على فيرما ولم يذكروا تانياما-شيمورا إلا عرضا، إن ذكروها من الأساس.
لم يسرف شيمورا، الذي كان رجلا متواضعا ولطيفا، في الانزعاج من عدم الانتباه إلى دوره في برهان مبرهنة فيرما الأخيرة، لكنه كان قلقا بشأن إحالته هو وتانياما من خانة الأسماء إلى خانة الصفات. «من الغريب جدا أن الناس يكتبون عن حدسية تانياما-شيمورا، ولا أحد يكتب عن تانياما وشيمورا.»
شكل 6-7: أندرو وايلز وكين ريبت عقب المحاضرة التاريخية في معهد إسحاق نيوتن مباشرة.
كانت تلك هي المرة الأولى التي تتصدر فيها الرياضيات عناوين الصحف منذ أعلن يوتشي مياوكا برهانه المزعوم عام 1988، لكن الاختلاف الوحيد في هذه المرة أن حجم التغطية كان مضاعفا ولم يعبر أحدهم عن أي شك في العملية الحسابية. في غضون ليلة وضحاها، صار وايلز أشهر رياضي في العالم، بل الرياضي الوحيد المشهور في حقيقة الأمر، حتى إن مجلة «بيبول» قد أدرجته في قائمة «الخمس والعشرون شخصية الأكثر إثارة في العام»، مع الأميرة ديانا وأوبرا وينفري. وجاء التكريم الأكبر من سلسلة عالمية للملابس طلبت من العبقري لين الطباع أن يوقع على مجموعتها الجديدة لملابس الرجال.
بينما استمرت الضجة الإعلامية، وبينما حقق علماء الرياضيات الاستفادة العظمى من وجودهم في دائرة الضوء، كان العمل الجاد المتمثل في التحقق من البرهان يجري على قدم وساق. فمثلما هي الحال في جميع المجالات العلمية، يجب إمعان النظر جيدا في أي عمل جديد قبل أن يقبل بصفته دقيقا وصحيحا. كان لا بد أن يخضع برهان وايلز لاختبار المحاكمة على يد الحكم. فصحيح أن محاضرة وايلز في معهد إسحاق نيوتن قد قدمت للعالم مخططا عاما لحساباته، لكنها لا ترقى إلى مستوى مراجعة الأقران الرسمية. ذلك أن البروتوكول الأكاديمي يستلزم أن يقدم الرياضي مخطوطة كاملة إلى دورية مرموقة، ويرسل محرر المخطوطة بعد ذلك إلى فريق من الحكام تتمثل مهمتهم في مراجعة البرهان سطرا بسطر. قضى وايلز الصيف في انتظار تقرير المحكمين بتلهف، آملا أن ينال مباركتهم في النهاية.
الفصل السابع
مشكلة طفيفة
المشكلة الجديرة بالتصدي لها،
تثبت هذه الجدارة بالمقاومة.
بييت هاين
فور انتهاء محاضرة كامبريدج، علمت لجنة ولفسكيل ببرهان وايلز. بالرغم من ذلك، فلم يكن لها أن تمنح الجائزة على الفور؛ لأن قواعد المسابقة تنص بوضوح على ضرورة التحقق من البرهان على يد رياضيين آخرين، ونشره بصورة رسمية:
إن «الجمعية الملكية للعلوم» في جوتينجن ... لن تنظر بعين الاعتبار إلا إلى المذكرات الرياضية التي ظهرت على هيئة أبحاث في الدوريات، أو تلك التي تطرح للبيع في المكتبات ... لن تمنح الجمعية الجائزة إلا بعد عامين من نشر المذكرة التي ستفوز. والهدف من هذه المدة البينية هو السماح لعلماء الرياضيات الألمان والأجانب بالتعبير عن آرائهم بشأن صحة الحل المنشور.
قدم وايلز مخطوطته إلى دورية «إنفنشنز ماثيماتيكه» (ابتكارات رياضية)، بينما بدأ محررها باري ميزور، عملية اختيار المحكمين. تضمنت ورقة وايلز مجموعة مختلفة من الأساليب الرياضية تنوعت بين الحديث والقديم؛ مما دفع ميزور إلى أن يتخذ قرارا استثنائيا بتعيين ستة من المحكمين لا اثنين أو ثلاثة كما هو معتاد. في كل عام، ينشر ثلاثون ألفا من الأوراق البحثية في الدوريات بمختلف أرجاء العالم، لكن حجم مخطوطة وايلز وأهميتها، كانا يعنيان أنها ستخضع إلى مستوى فريد من التدقيق. ولتسهيل الأمور، قسم البرهان الذي أتى في مائتي صفحة إلى ستة أجزاء، وتولى كل محكم مسئولية فصل من هذه الفصول.
كان الفصل الثالث مسئولية نيك كاتس الذي فحص ذلك الجزء من برهان وايلز في وقت سابق من العام: «تصادف أنني كنت في باريس طوال الصيف للعمل في معهد الدراسات العلمية المتقدمة، وأخذت معي البرهان الكامل بصفحاته المائتين، وكان الفصل الخاص بي من سبعين صفحة. حين وصلت هناك، قررت أنني أريد مساعدة فنية جادة؛ فأصررت أن يصبح لوك إيلوسي الذي كان هو أيضا في باريس، محكما مشتركا في هذا الفصل. كنا نلتقي بضع مرات في الأسبوع على مدى ذلك الصيف، وغالبا ما كان يلقي أحدنا المحاضرات على الآخر؛ لنحاول فهم هذا الفصل. لم نفعل شيئا في حقيقة الأمر سوى مراجعة المخطوطة سطرا بسطر لنتأكد من خلوها من الأخطاء. كانت بعض الأمور تلتبس علينا أحيانا؛ فكنت أبعث إلى أندرو بالأسئلة عبر البريد الإلكتروني يوميا، أو مرتين في اليوم أحيانا، وأقول شيئا على غرار: «لا أفهم ما تقوله في هذه الصفحة، أو يبدو أن هناك خطأ في هذا السطر.» عادة ما كنت أتلقى ردا يوضح الأمر في اليوم التالي أو الذي يليه، وكنا ننتقل إلى المسألة التالية.»
كان البرهان حجة منطقية ضخمة، تتشكل على نحو معقد من مئات العمليات الحسابية الرياضية التي تلصقها معا الآلاف من الروابط المنطقية. وإذا كان ثمة عيب في عملية واحدة منها فحسب، أو انفصل رابط منطقي واحد فحسب، فمن المحتمل إذن أن يكون البرهان بأكمله عديم القيمة. كان وايلز الذي عاد مجددا إلى برينستون ينتظر بقلق أن ينتهي المحكمون من مهمتهم. «لا أحب أن أحتفل بالكامل حتى أنفض يدي تماما من الورقة التي أعمل عليها. وفي الوقت الراهن، كان لدي عملي المتمثل في الإجابة عن الأسئلة التي كنت أتلقاها عبر البريد الإلكتروني من المحكمين. كنت لا أزال واثقا في أن أيا من هذه الأسئلة لن يتسبب لي في الكثير من المتاعب.» كان وايلز قد راجع البرهان بالفعل مرة واثنتين قبل تقديمه للمحكمين؛ لذا فلم يكن يتوقع سوى المكافئ الرياضي لما هو أكثر قليلا من الأخطاء النحوية أو المطبعية، أخطاء تافهة يستطيع إصلاحها على الفور.
يتذكر كاتس قائلا: «استمرت هذه الأسئلة على نحو هادئ نسبيا حتى شهر أغسطس حين وصلت إلى ما بدا أنه مشكلة صغيرة أخرى. ففي الثالث والعشرين من أغسطس تقريبا، أرسلت بريدا إلكترونيا إلى وايلز، لكن الأمر كان معقدا بعض الشيء، فأجابني بالفاكس. غير أن الفاكس لم يجب عن السؤال؛ لذا أرسلت إليه بالبريد الإلكتروني مجددا، وأجابني بالفاكس مجددا، ولم تكن الإجابة مرضية أيضا.»
افترض وايلز أن هذا الخطأ سطحي مثل بقية الأخطاء الأخرى، لكن إلحاح كاتس أجبره على أن يأخذه بجدية: «لم أتمكن من حل هذا السؤال الذي يبدو بريئا للغاية على الفور. فلوهلة قد بدا أنه من فئة الأسئلة الأخرى نفسها، لكنني بدأت أدرك بعد ذلك في سبتمبر أنه لا يمثل مشكلة هامشية، بل خطأ جوهريا. لقد كان خطأ في جزء أساسي من الحجة المنطقية يتعلق بطريقة كوليفاجين-فلاخ، لكنه كان خفيا للغاية، حتى إنني غفلت عنه حتى تلك النقطة. إن الخطأ على درجة كبيرة من التجريد، حتى إنه لا يمكن وصفه بعبارات بسيطة ، وحتى شرحه إلى أحد علماء الرياضيات سيتطلب من هذا الرياضي أن يقضي شهرين أو ثلاثة في دراسة المخطوطة بتفصيل شديد.»
جوهر المشكلة أنه لم يكن ثمة ما يضمن أن طريقة كوليفاجين-فلاخ تعمل مثلما أراد لها وايلز. كان المفترض بها أن توسع نطاق البرهان من العنصر الأول في جميع المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية؛ ليشمل جميع العناصر؛ موفرا بذلك آلية إيقاع قطعة الدومينو للقطعة التي تليها. لم تكن طريقة كوليفاجين-فلاخ تعمل في الأصل إلا تحت ظروف محددة للغاية، لكن وايلز كان يعتقد أنه قد كيفها وعززها بالدرجة الكافية لتلبية جميع احتياجاته. أما كاتس، فلم يكن يرى أن ذلك صحيح بالضرورة، وكانت النتائج مؤثرة ومدمرة.
لم يكن الخطأ يعني بالضرورة أن عمل وايلز قد تجاوز إمكانية الإنقاذ، لكنه كان يعني أنه سيضطر إلى تعزيز برهانه. فالطبيعة المطلقة للرياضيات كانت تتطلب أن يثبت وايلز دون أدنى شك، أن طريقته ناجحة في جميع العناصر لجميع سلاسل
E
وسلاسل
M . (1) فني تركيب السجاد
حين أدرك كاتس جسامة الخطأ الذي وجده، بدأ يسأل نفسه كيف غفل عنه في الربيع حين ألقى وايلز عليه المحاضرات لهدف وحيد هو تحديد أي أخطاء. «أعتقد أنه حين يستمع المرء إلى محاضرة، يوجد توتر حقيقي بين فهم كل شيء، والسماح للمحاضر بالمضي قدما. ذلك أنك إذا قاطعت في كل ثانية بالقول إنك لا تفهم هذا أو ذاك، فلن يتمكن المحاضر من شرح شيء، ولن تفهم أنت شيئا. ومن ناحية أخرى، إذا لم تقاطع على الإطلاق، فإنك لا تنتبه جيدا وتومئ برأسك بأدب فحسب، لكنك لا تراجع شيئا في حقيقة الأمر. دائما ما يوجد هذا التوتر بين طرح الكثير جدا من الأسئلة وطرح القليل جدا منها، ومن الواضح أنني في نهاية تلك المحاضرات، وهي المرحلة التي غفلت فيها عن هذا الخطأ، نزعت إلى طرح القليل جدا من الأسئلة.»
قبل ذلك ببضعة أسابيع فحسب، كانت الصحف في جميع أنحاء العالم قد نعتت وايلز بأنه أبرع رياضي في العالم، وبعد 350 عاما من الإحباط، ظن علماء نظرية الأعداد أنهم نالوا أخيرا من بيير دو فيرما. والآن، كان وايلز يواجه مهانة الاعتراف بأنه قد ارتكب خطأ. وقبل أن يعترف بالخطأ، قرر أن يحاول ويبذل جهدا مكثفا لسد الثغرة. «لم أستطع الاستسلام. كنت مهووسا بهذه المسألة، وكنت لا أزال أعتقد أن طريقة كوليفاجين-فلاخ تحتاج إلى القليل من الإصلاح فحسب. كنت أحتاج إلى تعديلها في جزء صغير فحسب، وسوف تنجح تماما بعد ذلك. قررت العودة إلى نمطي القديم، وعزل نفسي عن العالم الخارجي تماما. كان علي أن أركز مجددا ، لكن تحت ظروف أصعب كثيرا هذه المرة. اعتقدت مدة طويلة أن التعديل قريب للغاية، وأنني غافل عن شيء بسيط فحسب، وسيصير كل شيء ملائما تماما في اليوم التالي. وكان يمكن أن يحدث الأمر بتلك الطريقة بالطبع، لكن بدا بمرور الوقت أن المشكلة قد أصبحت أكثر تعنتا.»
كان يأمل في أن يتمكن من إصلاح الخطأ قبل أن يعي المجتمع الرياضي وجوده أصلا. كان على زوجة وايلز التي شهدت بالفعل مجهود السنوات السبع الذي بذل في سبيل البرهان الأصلي، أن تشاهد آنذاك صراع زوجها المؤلم مع خطأ يمكن أن يدمر كل شيء. ويتذكر وايلز تفاؤلها قائلا: «أخبرتني نادا في سبتمبر أن الشيء الوحيد الذي تريده في عيد ميلادها، هو برهان صحيح. يأتي عيد ميلادها في السادس من أكتوبر. كان لدي أسبوعان فحسب لتقديم البرهان، وقد فشلت في ذلك.»
كان ذلك وقتا عصيبا على كاتس أيضا: «كان الأشخاص الذين يعرفون بالخطأ بحلول أكتوبر هم أنا نفسي وإيلوسي والمحكمين الآخرين للفصول الأخرى وأندرو، كان هؤلاء فحسب هم من يعلمون مبدئيا. وكنت أرى أن علي مراعاة السرية بصفتي أحد المحكمين. شعرت بالطبع بأنه لا يحق لي مناقشة الأمر مع أي شخص سوى أندرو؛ فلم أقل كلمة واحدة بشأنه. أعتقد أنه قد بدا طبيعيا من الخارج، لكنه بحلول هذه المرحلة كان يخفي سرا عن العالم، وأعتقد أنه كان مستاء جدا لذلك. تصرف أندرو على أساس أنه سيحل المشكلة في غضون يوم آخر، لكن مع تقدم الخريف وعدم وجود مخطوطة، بدأت الشائعات تنتشر بشأن وجود مشكلة.»
بدأ كين ريبت على وجه التحديد، وهو أحد المحكمين الآخرين، يشعر بضغط حفظ السر: «لسبب عارض تماما، أصبحت معروفا بأنني «خدمة المعلومات عن فيرما». ففي أحد المقالات الأولى في جريدة «ذا نيويورك تايمز» طلب أندرو مني أن أتحدث إلى المراسل نيابة عنه، وقد ورد في المقال: «ريبت الذي يمثل المتحدث الرسمي لأندرو وايلز ...» أو شيء من هذا القبيل. وبعد ذلك، صرت أجذب اهتمام كل من يهتمون بمبرهنة فيرما الأخيرة، سواء من داخل المجتمع الرياضي أو خارجه. كان الناس يتصلون بي من الصحافة في جميع أنحاء العالم بالفعل، وقد ألقيت أيضا عددا كبيرا للغاية من المحاضرات على مدى شهرين أو ثلاثة. وفي هذه المحاضرات، أكدت على روعة هذا الإنجاز وقدمت البرهان بصورة موجزة مع التركيز على الأجزاء التي أتقنها، لكن صبر الناس بدأ ينفد بعد مدة وبدءوا يطرحون أسئلة غريبة.» «قام وايلز بهذا الإعلان العلني للغاية مثلما تعرف، لكن أحدا لم ير نسخة من المخطوطة من خارج مجموعة المحكمين شديدة الصغر. ومن ثم فقد كان علماء الرياضيات ينتظرون هذه المخطوطة التي وعد أندرو بها بعد الإعلان الأولي في يونيو ببضعة أسابيع. قال الناس: «حسنا، لقد أعلنت هذه المبرهنة، ونحن نرغب في معرفة ما يجري. ماذا يفعل؟ لم لا نسمع أي شيء؟» كانوا مستائين قليلا لأنهم ظلوا في دائرة الجهل، وكل ما أرادوه هو معرفة ما يجري فحسب. ازدادت الأمور سوءا بعد ذلك؛ إذ تجمعت هذه الغيمة ببطء فوق البرهان، وظل الناس يخبرونني بهذه الشائعات التي زعمت وجود ثغرة في الفصل الثالث. كانوا يسألونني عما أعرفه عن ذلك، ولم أكن أعرف ما يمكنني قوله.»
مع استمرار وايلز والمحكمين في إنكار معرفتهم بوجود ثغرة في الفصل الثالث، أو رفضهم التعليق على أقل تقدير، بدأت التخمينات تنتشر بجنون. وبدأ علماء الرياضيات يرسلون بعضهم إلى بعض بالرسائل الإلكترونية في يأس، على أمل أن يعرفوا حقيقة هذا اللغز.
الموضوع: ثغرة في برهان وايلز
التاريخ: 18 نوفمبر 1993، 49 : 04 : 21، توقيت جرينيتش
يدور الكثير من الشائعات بشأن وجود ثغرة أو اثنتين في برهان وايلز. أهذه الثغرة تعني شقا أم صدعا أم أخدودا أم هوة أم هاوية سحيقة؟ أيعرف أحدكم معلومات أكيدة؟
جوزيف ليبمان
جامعة بوردو
كانت الشائعات المتعلقة ببرهان وايلز تتصاعد كل يوم في جميع غرف الاجتماعات بجميع أقسام الرياضيات. واستجابة للشائعات، ولرسائل البريد الإلكتروني التخمينية، حاول بعض علماء الرياضيات أن يعيدوا شعور السكينة للمجتمع.
الموضوع: رد: ثغرة في برهان وايلز
التاريخ: 19 نوفمبر 1993، 20 : 42 : 15، توقيت جرينيتش
ليست لدي أي معلومات مباشرة، ولا أشعر بأن من حقي أن أناقش معلومات غير مباشرة. أعتقد أن النصيحة الأفضل للجميع هي الحفاظ على هدوئهم وإتاحة الفرصة للمحكمين الذين يتمتعون بدرجة عالية من الكفاءة، ويفحصون ورقة وايلز بعناية أن يقوموا بعملهم. وهم سيفصحون عما توصلوا إليه حين يكون لديهم شيء مؤكد يقولونه. كل من كتب ورقة بحثية أو حكم في ورقة يعرف الحقيقة المتمثلة في أن الأسئلة كثيرا ما تطرأ في عملية مراجعة البراهين. كان ليصبح الأمر رائعا لو أن ذلك لم يحدث في مثل تلك النتيجة المهمة، المقترنة ببرهان طويل وصعب.
ليونارد إيفانز
جامعة نورث وسترن
بالرغم من دعاوى الهدوء، استمرت رسائل البريد الإلكتروني دون توقف. وإضافة إلى مناقشة الخطأ المزعوم، صار علماء الرياضيات يتناقشون آنذاك في أخلاقيات استباق إعلان المحكمين.
الموضوع: المزيد من الثرثرة بشأن فيرما
التاريخ 24 نوفمبر 1993، 34 : 00 : 12، توقيت جرينيتش
أعتقد أنه من الواضح أنني أختلف مع هؤلاء الذين يقولون بأنه لا ينبغي علينا أن نتحدث بشأن ما إذا كان برهان وايلز لمبرهنة فيرما الأخيرة معيبا أو لا. إنني أؤيد هذه الثرثرة تماما ما دامت لا تؤخذ بأكثر مما تستحقه من الجدية. فأنا لا أراها سيئة القصد. لا سيما أنني، سواء أكان برهان وايلز معيبا أم لا،
ومن ثم؛ فهذا ما جاءني اليوم من طريق غير مباشر للغاية ...
بوب سيلفرمان
الموضوع: رد: ثقب فيرما
التاريخ: الإثنين، 22 نوفمبر 1993، 16 : 20، توقيت جرينيتش
قال كوتس في محاضرة هنا في معهد نيوتن الأسبوع الماضي: إنه يعتقد بوجود ثغرة في برهان وايلز في الجزء المتعلق ب «أنظمة أويلر الهندسية» من البرهان، «وقد يستغرق إصلاحها أسبوعا وقد يستغرق عامين.» لقد تحدثت إليه مرات عديدة لكني لست متأكدا حتى الآن على أي أساس قد بنى زعمه؛ إذ إنه لا يملك نسخة من المخطوطة.
وفقا لما أعرفه فإن النسخة الوحيدة في كامبريدج توجد لدى ريتشارد تايلور بصفته أحد المحكمين لدورية «إنفنشنز»، وقد أصر على رفض التعليق إلى أن يصل جميع المحكمين إلى نتيجة مشتركة. لذا فالوضع فوضوي. أنا عن نفسي لا أرى كيف يمكن أن يؤخذ رأي كوتس بصفته رأيا جديرا بالثقة في هذه المرحلة؛ لذا أنوي انتظار رأي ريتشارد تايلور.
ريتشارد بينش
مع ازدياد الضجة بشأن برهانه المربك، بذل وايلز قصارى جهده ليتجاهل الجدال والتخمين. «لقد عزلت نفسي بحق لأنني لم أرغب في معرفة ما يقوله الناس عني. التجأت إلى العزلة، لكن زميلي بيتر سارناك كان يقول لي بين الحين والآخر: «أنت تعرف أن ثمة ضجة كبيرة.» كنت أستمع، لكنني كنت أرغب فعلا في عزل نفسي تماما كي أركز على المشكلة بصورة كلية.»
انضم بيتر سارناك إلى قسم الرياضيات في جامعة برينستون في الوقت الذي انضم فيه وايلز، وصارا صديقين مقربين بمرور السنوات. وخلال هذه المرحلة العصيبة من الاهتياج، كان سارناك أحد القلائل الذين يسر لهم وايلز بمكنون نفسه. «حسنا، لم أعرف التفاصيل الدقيقة، لكن كان من الواضح أنه يحاول التغلب على هذه المشكلة الخطيرة. غير أنه كان كلما أصلح هذا الجزء من العملية الحسابية، تسبب ذلك في مشكلة في جزء آخر من البرهان. كان الأمر كما لو أنه كان يحاول وضع سجادة في غرفة أصغر من السجادة. لذا؛ كان أندرو يحاول تثبيت السجادة في أحد الأركان، فيجد أنها ستخرج من ركن آخر. ولم يكن بوسعه أن يحدد ما إذا كان سيتمكن من تثبيت السجادة أو لا. والحق أنه حتى مع هذا الخطأ، كان أندرو قد حقق خطوة هائلة. فقبله لم يكن أحد يعرف طريقا لإثبات حدسية تانياما-شيمورا، أما الآن، فقد تحمس الجميع للغاية؛ لأنه قد أرانا الكثير من الأفكار الجديدة. لقد كانت أفكارا جوهرية لم يفكر بها أحد قبل ذلك على الإطلاق. ولهذا؛ كان ما حققه تقدما عظيما حتى وإن لم يكن قد تمكن من إصلاح الخطأ، لكن مبرهنة فيرما كانت ستظل دون حل بالطبع.»
أدرك وايلز في النهاية أنه لا يستطيع أن يلوذ بالصمت إلى الأبد. لم يكن حل الخطأ قاب قوسين، وكان الوقت قد حان لوضع نهاية للتخمينات. وبعد خريف من الفشل المحزن، أرسل البريد الإلكتروني التالي إلى لوحة النشرات الرياضية.
الموضوع: حالة فيرما
التاريخ: 4 ديسمبر 1993، 50 : 36 : 01، توقيت جرينيتش
في ضوء التخمينات المتعلقة بحالة عملي على حدسية تانياما-شيمورا ومبرهنة فيرما الأخيرة، سأقدم بيانا موجزا عن الوضع. خلال عملية المراجعة، ظهر عدد من المشكلات تمكنت من حل معظمها، لكنني لم أتمكن من تسوية إحداها على وجه التحديد. إن الاختزال الأساسي ل «معظم حالات» حدسية تانياما-شيمورا إلى حسبة مجموعة سيلمر صحيح. بالرغم من ذلك، فالحسبة الأخيرة لحد أعلى معين لمجموعة سيلمر في الحالة شبه الثابتة (لتمثيل المربع التناظري المرتبط بأحد الأشكال النمطية) ليست مكتملة بعد بالحالة التي هي عليها الآن. أعتقد أنني سأتمكن من الانتهاء من هذا في المستقبل القريب باستخدام الأفكار التي شرحتها في محاضراتي بكامبريدج.
وحقيقة إنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي ينبغي إنجازه في المخطوطة، مما يجعلها غير مناسبة بعد للإصدار كمسودة. وسأقدم شرحا كاملا لهذا العمل في دورتي الدراسية بجامعة برينستون، التي ستبدأ في فبراير.
أندرو وايلز
قلة فقط هم من اقتنعوا بتفاؤل وايلز. مرت ستة أشهر تقريبا ولم يصوب الخطأ، ولم يكن يوجد سبب يدعو إلى الاعتقاد بأن أي شيء سيتغير في الأشهر الستة القادمة. وعلى أي حال، إذا كان بوسعه بالفعل أن «ينتهي من هذا في المستقبل القريب»، فلماذا يتكبد عناء إصدار البريد الإلكتروني؟ لماذا لا يلوذ بالصمت لبضعة أسابيع أخرى، ويصدر المخطوطة المنتهية؟ لم تقدم دورة محاضرات فبراير التي ذكرها في بريده الإلكتروني أيا من التفاصيل التي وعد بها، وارتاب المجتمع الرياضي في أن وايلز يكسب لنفسه بعض الوقت فحسب.
انكبت الصحف على القصة مرة أخرى، وتذكر علماء الرياضيات برهان مياوكا الفاشل في 1988. كان التاريخ يعيد نفسه. كان علماء نظرية الأعداد آنذاك في انتظار البريد الإلكتروني التالي الذي يشرح السبب في أن البرهان معيب على نحو لا يمكن علاجه. كان بعض علماء الرياضيات قد عبروا عن شكوكهم في البرهان قبل ذلك في الصيف، والآن بدا تشاؤمهم مبررا. تزعم إحدى القصص أن البروفيسور آلان بيكر من جامعة كامبريدج عرض أن يراهن بمائة زجاجة من النبيذ مقابل زجاجة واحدة على أن عدم صلاحية البرهان ستثبت في غضون عام. ينكر بيكر هذه القصة لكنه يعترف بفخر بأنه عبر عن «تشكك صحي».
بعد مرور أقل من ستة أشهر على محاضرته في معهد نيوتن، صار برهان وايلز مهترئا. إن ما دفعه إلى الاستمرار على مدى سنوات الحسابات السرية كان هو السرور والشغف والأمل، وقد حل محل هذه المشاعر الحرج واليأس. يتذكر وايلز كيف أن حلم طفولته قد صار كابوسا: «لقد استمتعت في السنوات السبع الأولى التي عملت فيها على هذه المشكلة بالمعركة الخاصة. فمهما بلغت صعوبتها، ومهما بدت الأمور تعجيزية، كنت منهمكا في مسألتي المفضلة. لقد كانت شغف طفولتي، لم أستطع أن أخمده، ولم أستطع أن أتركه ولو للحظة واحدة. بعد ذلك تحدثت عنه علنا، وقد كان في الحديث عنه جانب من الخسارة بالفعل. كانت مشاعري تجاه ذلك مختلطة للغاية. فقد كان من الرائع رؤية الناس يتفاعلون مع البرهان، ويرون كيف أن الحجج المنطقية يمكن أن تغير اتجاه الرياضيات بالكامل تماما، لكنني في الوقت نفسه قد فقدت المسعى الشخصي. لقد صار البرهان آنذاك معلنا أمام العالم، ولم أعد أحظى بذلك الحلم الخاص الذي أحققه. وبعد أن اتضح وجود مشكلة فيه، كان العشرات من الناس يريدون إلهائي، بل المئات والآلاف. إن ممارسة الرياضيات على هذا النحو المفرط في العلنية ليس بالأسلوب الذي أتبعه، وأنا لم أستمتع بتلك الطريقة العلنية في ممارسة الرياضيات على الإطلاق.»
تعاطف علماء نظرية الأعداد في جميع أنحاء العالم مع موقف وايلز. لقد مر كين ريبت بهذا الكابوس نفسه قبل ثماني سنوات حين حاول الربط بين حدسية تانياما- شيمورا ومبرهنة فيرما الأخيرة. «كنت ألقي محاضرة عن البرهان في معهد أبحاث العلوم الرياضية في بيريكلي، قال واحد من الجمهور: «مهلا! كيف تعرف أن هذا وذاك صحيح؟» أجبته على الفور موضحا سببي؛ فقال: «حسنا، ذلك لا ينطبق في هذه الحالة.» شعرت بالرعب فورا. رحت أتصبب عرقا وكنت مستاء للغاية بشأن ذلك. أدركت بعد ذلك أنه لا توجد سوى احتمالية واحدة لتبرير هذا، وهي العودة إلى العمل الأصلي والتعرف على طريقة تطبيقه في حالة مشابهة، وفي غضون يوم أو اثنين، كنت قد أصلحت الأمر برمته. في المحاضرة التالية، تمكنت من تقديم التبرير، لكن المرء يعيش دوما في رعب أنه إذا أعلن شيئا مهما، فسيكتشف خطأ جوهري فيه.
حين تجد خطأ في مخطوطة، يمكن أن يسير الأمر في طريقين. في بعض الأحيان تكون الثقة فورية ويمكن إحياء البرهان من جديد بقدر قليل من الصعوبة. وأحيانا أخرى يحدث العكس. الأمر مزعج للغاية. فثمة شعور قابض ينتاب المرء حين يدرك أنه قد ارتكب خطأ جوهريا وما من طريق لإصلاحه. فمن الممكن أن تنهار المبرهنة تماما عند ظهور فجوة فيها؛ ذلك أنك كلما حاولت سد الفجوة، واجهت مشاكل أكبر. بالرغم من ذلك، ففي حالة وايلز، يمثل كل فصل من فصول البرهان مقالا رائعا في حد ذاته. كانت المخطوطة تجسيدا لسبع سنوات من العمل، وكانت في جوهرها عددا من الأوراق البحثية المهمة التي وضعت معا، ويثير كل منها قدرا كبيرا من الاهتمام. وقع الخطأ في واحدة من هذه الأوراق في الفصل الثالث، لكنك حتى إذا اقتطعت الفصل الثالث، فإن ما يتبقى رائع للغاية.»
غير أنه بدون الفصل الثالث، لا يوجد برهان لحدسية تانياما-شيمورا، ومن ثم فلا برهان لمبرهنة فيرما الأخيرة. خيم على المجتمع الرياضي شعور بالإحباط؛ إذ كان البرهان الذي يثبت مسألتين عظيمتين عرضة للخطر. إضافة إلى ذلك، فبعد ستة أشهر من الانتظار، لم يطلع أحد على المخطوطة سوى وايلز والمحكمين. ازداد حجم المطالبة بالمزيد من الصراحة كي يرى الجميع بأنفسهم تفاصيل الخطأ. كان ثمة أمل بأن يتمكن شخص ما في مكان ما من رؤية شيء قد أغفله وايلز، ويتوصل إلى عملية حسابية تصلح ثغرة البرهان. زعم بعض علماء الرياضيات أن البرهان أثمن من أن يترك بين يدي رجل واحد. صار متخصصو نظرية الأعداد أضحوكة علماء الرياضيات الآخرين الذين راحوا يتساءلون بسخرية عما إذا كانوا يفهمون مفهوم البرهان أو لا. ما كان يفترض به أن يصبح اللحظة الأكثر مدعاة للفخر في تاريخ الرياضيات، كان يتحول إلى أضحوكة.
بالرغم من الضغوط، رفض وايلز إصدار المخطوطة. فبعد سبع سنوات من الجهد المكرس، لم يكن مستعدا لأن يتراجع ويشاهد شخصا آخر يكمل البرهان ويسرق المجد. فمن يثبت مبرهنة فيرما ليس بالشخص الذي ينتهي من القدر الأكبر من العمل، بل من يقدم البرهان النهائي المكتمل. كان وايلز يعرف أنه فور أن تنشر المخطوطة على حالتها المعيبة، سوف تغمره الأسئلة والمطالبات بالتوضيح ممن سيصبحون مصلحي الثغرة، وهذه الإلهاءات ستقضي على أمله في إصلاح البرهان بينما يقدم للآخرين تلميحات مهمة.
حاول وايلز أن يعود إلى الحالة نفسها من العزلة التي أتاحت له ابتكار البرهان الأساسي، وآب إلى عادته في الدراسة المكثفة في عليته. كان يتجول بين الحين والآخر بجوار بحيرة برينستون مثلما كان يفعل في الماضي. العداءون والدراجون والمجدفون الذين كانوا يمرون به قبل ذلك بعد تلويحة موجزة، صاروا يتوقفون ليسألوه عما إذا كان قد حقق أي تقدم في أمر الفجوة. لقد ظهرت صورة وايلز في الصفحات الأولى، وظهر في مجلة «بيبول»، كما أنه قد أجرى مقابلة تليفزيونية على قناة «سي إن إن». لقد أصبح وايلز في الصيف الماضي أول شخصية رياضية مشهورة، ولم يلبث أن شوهت صورته.
في هذه الأثناء، استمرت الثرثرة في أقسام الرياضيات. يتذكر عالم رياضيات برينستون، البروفيسور جون إتش كونواي الأجواء في قاعة الاجتماعات بالقسم، قائلا: «كنا نجتمع لتناول الشاي في الثالثة، ونسرع للحصول على البسكويت. كنا نناقش المسائل الرياضية أحيانا، أو محاكمة أو جيه سيمسون، وفي أحيان أخرى نناقش تقدم أندرو. ولأن أحدا منا لم يكن يحب في حقيقة الأمر أن يسأله مباشرة عن تقدمه في البرهان، كنا نتصرف كمحللي السياسة الروسية بعض الشيء. فيقول أحدهم مثلا: «لقد رأيت أندرو هذا الصباح» فيسأل آخر: «هل ابتسم؟» فيجيب من رآه: «نعم، لكنه لم يبد سعيدا جدا.» لم يكن بوسعنا تخمين مشاعره إلا من وجهه.» (2) الرسالة الكابوسية
مع توغل الشتاء، خفتت الآمال بتحقيق تقدم، وحاجج المزيد من علماء الرياضيات بأنه من واجب وايلز أن يصدر المخطوطة. استمرت الشائعات، وزعمت إحدى المقالات الصحفية أن وايلز تخلى عن ذلك البرهان الذي انهار دون رجعة. بالرغم من أن هذا الزعم كان مبالغا فيه، فقد كان صحيحا بالفعل أن وايلز قد استنفد عشرات الطرق التي كان يمكن أن تتغلب على الخطأ، ولم يعد يرى أي طريق محتمل للحل.
اعترف وايلز إلى بيتر سارناك بأن الوضع صار ميئوسا منه تقريبا، وأنه على وشك قبول الهزيمة. اقترح سارناك أن جزءا من المشكلة يكمن في أن وايلز لا يحظى بشخص يثق فيه ويتعامل معه بصفة يومية، ليس لديه شخص يطرح عليه أفكاره، شخص يشجعه على استكشاف طرق فرعية. فاقترح أن يأتمن وايلز أحد الأشخاص، ويحاول مرة أخرى أن يسد الثغرة. كان وايلز يحتاج إلى خبير في التعامل مع طريقة كوليفاجين-فلاخ، على أن يستطيع الحفاظ على تفاصيل المسألة سرا. وبعد التفكير في الأمر مطولا، قرر أن يدعو ريتشارد تايلور المحاضر بجامعة كامبريدج، إلى العمل معه في برينستون.
شكل 7-1: ريتشارد تايلور.
كان ريتشارد أحد المحكمين المسئولين عن مراجعة البرهان، وتلميذا سابقا لوايلز. ومن ثم، فثمة سببان للوثوق به. في العام السابق، جلس ريتشارد تايلور بين الحضور في معهد إسحاق نيوتن يشاهد مشرفه السابق يقدم برهان القرن. والآن، صارت مهمته هي إنقاذ البرهان المعيب.
بحلول يناير، كان وايلز يعمل مرة أخرى دون كلل بمساعدة ريتشارد تايلور، لاستكشاف طريقة كوليفاجين-فلاخ، في محاولة للعثور على طريقة للخروج من المشكلة. في بعض الأحيان، كانا يدخلان منطقة جديدة بعد أيام من المجهود، لكنهما كانا يجدان نفسيهما في النهاية وقد عادا إلى حيث بدآ. ولما توسعا في الاستكشاف كما لم يسبق من قبل، وفشلا بالرغم من ذلك مرة تلو الأخرى، فقد أدرك كلاهما أنهما في قلب متاهة شاسعة على نحو لا يمكن تخيله. وكان خوفهما الأعمق أن تكون المتاهة لا نهائية ولا مخرج منها، وأنه سيكون عليهما أن يتجولا فيها إلى الأبد دون هدف.
وفي ربيع العام 1994 بعد ذلك، حين بدا أن الأمور لا يمكن أن تسوء أكثر من ذلك، ظهرت رسالة البريد الإلكتروني التالية على شاشات الكمبيوتر في جميع أرجاء العالم:
التاريخ: 3 أبريل 1994
الموضوع: فيرما مجددا!
ثمة تطور رائع قد حدث اليوم بشأن مبرهنة فيرما الأخيرة.
أعلن نعوم إلكيز مثالا مضادا؛ ومن ثم فإن مبرهنة فيرما الأخيرة ليست صحيحة على أي حال. لقد تحدث عن ذلك في المعهد اليوم. يتضمن حل مبرهنة فيرما الذي وضعه أسا أوليا كبيرا للغاية (أكبر من 10
20 )، لكنه حل بناء. يبدو أن الفكرة الأساسية نوع من تركيب نقطة هيجنر، مع طريقة انحدار بارعة للغاية للمرور من المنحنيات النمطية إلى منحنى فيرما. يبدو أن الجزء الشديد الصعوبة في الحجة المنطقية هو إثبات أن مجال تعريف الحل (الذي هو بالاستدلال، حقل فصلي حلقي لحقل تربيعي تخيلي) ينحدر بالفعل إلى .
لم أتمكن من فهم جميع التفاصيل التي كانت على درجة كبيرة من التشابك ...
إذن، يبدو أن حدسية تانياما-شيمورا ليست صحيحة بالرغم من كل شيء. يعتقد الخبراء أنه لا يزال من الممكن إنقاذها من خلال توسيع نطاق مفهوم التمثيل الذاتي التشكل، وتقديم مفهوم «المنحنيات الشاذة»، الذي سيظل يؤدي إلى ظهور «تمثيل شبه ذاتي التشكل».
هنري دارمون
جامعة برينستون
كان نعوم إلكيز هو بروفيسور هارفارد الذي اكتشف قبل ذلك عام 1988 مثالا مضادا لحدسية أويلر؛ مثبتا بذلك خطأها:
2682440
4 + 15365639
4 + 18796760
4 = 20615673
4 .
ويبدو الآن أنه اكتشف مثالا مضادا لمبرهنة فيرما الأخيرة، مثبتا بذلك خطأها أيضا. كانت تلك ضربة قاضية لوايلز؛ فالسبب في عدم تمكنه من إصلاح البرهان هو أن الخطأ المزعوم نتيجة مباشرة لخطأ المبرهنة. كانت هذه الضربة أشد وطأة على المجتمع الرياضي بصفة عامة؛ لأنه إذا كانت مبرهنة فيرما الأخيرة خاطئة، فقد أثبت فراي بالفعل أن هذا سيؤدي إلى معادلة إهليلجية «غير» نمطية، وهو ما يتعارض مباشرة مع حدسية تانياما-شيمورا. لم يجد إلكيز مثالا مضادا لمبرهنة فيرما الأخيرة فحسب، بل وجد أيضا بطريقة غير مباشرة، مثالا مضادا لحدسية تانياما-شيمورا.
كان موت حدسية تانياما-شيمورا ليخلف تداعيات مدمرة في مجال نظرية الأعداد برمته؛ إذ افترض علماء الرياضيات صحتها ضمنيا على مدى عقدين من الزمان. وقد ورد في الفصل الخامس أن علماء الرياضيات كتبوا عشرات البراهين التي بدأت بجملة «بافتراض صحة حدسية تانياما-شيمورا» لكن إلكيز أثبت الآن خطأ هذا الافتراض، وانهارت هذه البراهين كلها في وقت واحد. بدأ علماء الرياضيات على الفور في المطالبة بالمزيد من المعلومات، وانهالوا على إلكيز بالأسئلة، لكنهم لم يتلقوا أي إجابة ولا تفسير يوضح السبب في بقائه متكتما. لم يتمكن أحد حتى من الحصول على التفاصيل الدقيقة للمثال المضاد.
بعد يوم أو اثنين من الاهتياج، ألقى بعض علماء الرياضيات نظرة ثانية على رسالة البريد الإلكتروني وبدءوا يدركون أنه بالرغم من أن الرسالة مؤرخة في معظم الحالات بتاريخ 2 أبريل أو 3 أبريل، فقد كان ذلك نتيجة لتلقيها من طرف ثان أو ثالث. وكانت الرسالة الأصلية بتاريخ 1 أبريل. لم تكن الرسالة سوى خدعة خبيثة من تنفيذ عالم نظرية الأعداد الكندي هنري دارمون. كانت الرسالة الخادعة درسا ملائما لمروجي الشائعات عن فيرما، ولوهلة من الزمن، تركت المبرهنة الأخيرة، وترك وايلز وتايلور والبرهان المحطم في سلام.
لم يحرز وايلز وتايلور تقدما في ذلك الصيف. وبعد ثماني سنوات من الجهد المتواصل، وبعد أن كانت المبرهنة هوسه على مدى حياته بأكملها، كان وايلز مستعدا للاعتراف بالهزيمة. أخبر تايلور أنه لا يرى أي سبب للاستمرار في محاولاتهما لإصلاح البرهان. وكان تايلور قد خطط بالفعل لقضاء سبتمبر في برينستون قبل العودة إلى كامبريدج؛ لذا فقد اقترح بالرغم من قنوط وايلز، أن يستمرا لشهر آخر. وإذا لم يكن ثمة ما يدل على إصلاح البرهان بنهاية سبتمبر، فسوف يكفان عن المحاولة، ويقران بفشلهما علنا، وينشران البرهان المعيب كي يتيحا للآخرين الفرصة لدراسته. (3) هدية عيد الميلاد
بالرغم من أن الفشل قد بدا مصير معركة وايلز مع أصعب مسألة رياضية في العالم، كان باستطاعة وايلز أن ينظر إلى السنوات السبع الماضية من عمره ويشعر بالاطمئنان لمعرفته بأن الجزء الأكبر من عمله لا يزال صالحا. فأولا، كان استخدام وايلز لمجموعات جالوا قد منح الجميع نظرة ثاقبة جديدة للمسألة. لقد أثبت أن العنصر الأول في جميع المعادلات الإهليلجية، يمكن أن يقترن بالعنصر الأول في أحد الأشكال النمطية. إذن كان التحدي هو إثبات أنه إذا كان أحد عناصر المعادلة الإهليلجية نمطيا، فلا بد أن يكون العنصر الذي يليه نمطيا أيضا، ومن ثم تكون جميع العناصر نمطية.
في السنوات الوسطى، صارع وايلز مع مفهوم توسيع نطاق البرهان. كان يحاول إكمال نهج استقرائي، وصارع مع نظرية إيواساوا على أمل أن يثبت أنه إذا وقعت قطعة دومينو واحدة، فستقع القطع جميعها. في بادئ الأمر، بدا أن نظرية إيواساوا فعالة بالدرجة الكافية لإحداث تأثير الدومينو المطلوب، لكنها لم تف بالتوقعات في النهاية. لقد كرس عامين من حياته لطريق رياضي مسدود.
في صيف العام 1991، بعد عام من الاكتئاب، صادف وايلز طريقة كوليفاجين- فلاخ، وتخلى عن نظرية إيواساوا لصالح هذا الأسلوب الجديد. وفي العام الذي يليه، أعلن البرهان في كامبريدج وأعلن هو بطلا. وفي غضون شهرين، اتضح أن طريقة كوليفاجين-فلاخ معيبة، ومنذ ذلك الوقت والوضع يتحول من سيئ إلى أسوأ. كل محاولات إصلاح كوليفاجين-فلاخ قد انتهت بالفشل.
كان عمل وايلز بأكمله فيما عدا المرحلة الأخيرة التي تتضمن طريقة كوليفاجين-فلاخ، لا يزال جديرا بما بذل فيه. ربما لم يثبت حدسية تانياما- شيمورا أو مبرهنة فيرما الأخيرة، لكنه قدم للرياضيين على أي حال مجموعة جديدة بأكملها من الأساليب والاستراتيجيات التي يمكنهم استخدامها لإثبات مبرهنات أخرى. لم يكن فشل وايلز مخزيا، وكان قد بدأ يتقبل احتمال الهزيمة.
وعلى سبيل التعزية، كان يرغب على الأقل في معرفة سبب فشله. بينما ظل تايلور يعيد استكشاف الطرق البديلة ويعيد دراستها، قرر وايلز أن يقضي سبتمبر في إلقاء نظرة أخيرة على هيكل طريقة كوليفاجين-فلاخ؛ ليحاول معرفة السبب في عدم نجاحها بالتحديد. يتذكر وايلز هذه الأيام الأخيرة المصيرية بوضوح شديد: «جلست إلى مكتبي صباح يوم الإثنين الموافق التاسع عشر من سبتمبر؛ لأفحص طريقة كوليفاجين-فلاخ. وليس ذلك لأنني كنت أعتقد أن بوسعي تطبيقها على النحو الصحيح، لكنني رأيت أنني أستطيع تفسير السبب في عدم نجاحها على الأقل. ظننت أنني أتمسك بقشة، لكنني أردت أن أطمئن نفسي. وفجأة، وعلى نحو غير متوقع تماما، خطر لي ذلك التجلي المذهل. لقد أدركت أنه بالرغم من أن طريقة كوليفاجين-فلاخ لا تعمل على نحو كامل، فقد كانت هي كل ما أحتاج إليه لإنجاح نظرية إيواساوا الأصلية. أدركت أن لدي من طريقة كوليفاجين-فلاخ ما يكفي لإنجاح طريقتي الأصلية؛ لمعالجة المسألة التي توصلت إليها منذ ثلاث سنوات. وبهذا، فمن رماد كوليفاجين-فلاخ، ظهرت الإجابة الحقيقية للمشكلة.»
كانت نظرية إيواساوا وحدها غير كافية. وكانت طريقة كوليفاجين-فلاخ وحدها غير كافية أيضا. غير أنهما معا تكمل إحداهما الأخرى على نحو مثالي. لقد كانت لحظة إلهام لن ينساها وايلز أبدا. وحين سرد هذه الذكريات كانت الذكرى مؤثرة للغاية، حتى إن عينيه قد ابتلتا بالدموع: «لقد كان جميلا بدرجة لا توصف، كان بسيطا جدا وأنيقا جدا. لم أستطع أن أفهم كيف أنني غفلت عنه وظللت أحدق فيه في غير تصديق على مدى عشرين دقيقة. رحت أتجول في أرجاء القسم على مدى اليوم بعد ذلك، ثم أعود إلى مكتبي لأنظر ما إذا كان لا يزال موجودا، أو لا. كان لا يزال موجودا. لم أستطع تمالك نفسي؛ كنت في غاية الحماس. لقد كانت تلك هي اللحظة الأهم في حياتي العملية. ما من شيء سأقوم به بعد ذلك سيعني لي بمثل هذا القدر.»
لم يكن هذا تحقيقا لحلم الطفولة وثمرة ثماني سنوات من المجهود الجاد فحسب، لكن بعد أن دفع وايلز إلى حافة الاستسلام، كان عليه أن يقاوم ليثبت براعته للعالم مرة أخرى. كانت الشهور الأربعة عشر الأخيرة هي الأكثر إيلاما ومهانة وإحباطا في حياته العملية في الرياضيات. والآن أنهت فكرة بارعة معاناته. «في الليلة الأولى، عدت إلى المنزل وأجلت القرار بشأنه إلى الغد. راجعته مرة أخرى في الصباح، وبحلول الحادية عشرة، كنت قد اكتفيت ونزلت إلى الطابق السفلي وقلت لزوجتي: «لقد وجدته! أعتقد أنني قد وجدته.» كان ذلك غير متوقع على الإطلاق، حتى إنها ظنت أنني أتحدث عن إحدى دمى الأطفال أو شيء من هذا القبيل؛ فقالت: «ماذا وجدت؟» قلت: «لقد أصلحت البرهان. لقد وجدته».»
في الشهر التالي، تمكن وايلز من الوفاء بالوعد الذي لم يتمكن من الوفاء به في العام السابق. «كان عيد ميلاد نادا يقترب من جديد، وتذكرت أنني لم أتمكن في المرة السابقة من تقديم الهدية التي أرادتها. أما في هذه المرة، فبعد أن تأخرت نصف دقيقة على عشائنا في ليلة عيد ميلادها، تمكنت من إعطائها المخطوطة كاملة. أعتقد أنها أحبت تلك الهدية أكثر مما أحبت أي هدية أخرى قدمتها إليها.»
الموضوع: تحديث عن مبرهنة فيرما الأخيرة
التاريخ: 25 أكتوبر 1994، 11 : 04 : 11
اعتبارا من هذا الصباح، صدرت مخطوطتان:
المنحنيات الإهليلجية النمطية ومبرهنة فيرما الأخيرة.
بقلم أندرو وايلز
الخواص النظرية الحلقية لأجزاء محددة من جبر هيكه.
بقلم ريتشارد تايلور وأندرو وايلز
تعلن المخطوطة الأولى (الطويلة)، برهانا لمبرهنة فيرما الأخيرة، إضافة إلى بعض القضايا الأخرى، وذلك بالاستناد إلى المخطوطة الثانية (القصيرة) في خطوة واحدة أساسية.
شكل 7-2: أندرو وايلز.
ومثلما يعرف معظمكم، اتضح أن الحجة المنطقية التي وصفها وايلز في محاضراته بكامبريدج تتضمن ثغرة خطيرة، وهي تركيب أحد أنظمة أويلر. وبعد أن حاول وايلز إصلاح ذلك التركيب دون أن ينجح في ذلك، اتجه إلى نهج مختلف كان قد جربه قبل ذلك ثم تخلى عنه لصالح فكرة نظام أويلر. لقد تمكن من إكمال برهانه بناء على الفرضية القائلة بأن بعض الأجزاء المحددة من جبر هيكه هي تقاطعات محلية مكتملة. ترد هذه الفكرة مع الأفكار الأخرى التي وصفها وايلز في محاضراته بكامبريدج في المخطوطة الأولى. ويثبت وايلز وتايلور معا في المخطوطة الثانية، الخاصية الضرورية لجبر هيكه.
تأتي الحجة المنطقية في هيكل عام مشابه لذلك الذي وصفه وايلز في كامبريدج. ويبدو أن النهج الجديد أبسط من النهج الأول كثيرا، وأقصر منه؛ بسبب حذف نظام أويلر. (والواقع أنه بعد الاطلاع على المخطوطتين، أتى فولتينجز بنسخة أكثر وأكثر تبسيطا لذلك الجزء من الحجة المنطقية.)
وزعت نسخ من هاتين المخطوطتين على عدد قليل من الأشخاص لبضعة أسابيع (في بعض الحالات). وبالرغم من أن الحكمة تدعو إلى توخي الحذر مدة أطول؛ فثمة ما يدعو إلى التفاؤل بكل تأكيد.
كارل روبين
جامعة ولاية أهايو
خاتمة
الرياضيات الكبرى الموحدة
ثمة شاب مجازف من بورما،
توصل إلى برهان لمبرهنة فيرما،
فعاش بعد ذلك في رعب،
من اكتشاف عيب،
كان برهان وايلز مثلما رأى، أكثر إحكاما!
فيرناندو جوفيا
لم يكن ثمة شك في البرهان هذه المرة. فقد كانت الورقتان البحثيتان اللتان تتألفان إجمالا من 130 صفحة، أكثر المخطوطات الرياضية التي روجعت بإمعان على مدى التاريخ، وقد نشرتا في النهاية في دورية «أنالز أوف ماثيماتيكس» (مايو 1995).
ومرة أخرى، وجد وايلز نفسه على الصفحة الأولى لجريدة «ذا نيويورك تايمز»، لكن العنوان «رياضي يعلن حل أحد الألغاز الكلاسيكية»، قد غطى عليه بعض الشيء في هذه المرة خبر علمي آخر: «التوصل إلى عمر الكون يطرح لغزا كونيا جديدا». وبالرغم من أن الصحافيين كانوا أقل تحمسا بعض الشيء بشأن مبرهنة فيرما الأخيرة في هذه المرة، فإن علماء الرياضيات لم يغفلوا عن الأهمية الحقيقية للبرهان. فمثلما أعلن جون كوتس: «إن البرهان النهائي يمثل للرياضيات ما يمثله تقسيم الذرة أو اكتشاف تركيب الحمض النووي. ذلك أن برهان فيرما انتصار فكري عظيم، علينا ألا نغفل حقيقة أنه قد أحدث ثورة في نظرية الأعداد في دفعة واحدة. وبالنسبة إلي، يكمن جمال عمل وايلز وسحره في أنه كان خطوة هائلة لنظرية الأعداد.» •••
على مدى تجربة وايلز القاسية التي استمرت ثمانية أعوام، جمع وايلز فعليا جميع الإنجازات التي تحققت في القرن العشرين في مجال نظرية الأعداد، ودمجها معا في برهان جليل. لقد ابتكر أساليب رياضية جديدة تماما، وجمعها مع أخرى تقليدية بطرق لم يدرك أحد أنها ممكنة من قبل. ووفقا لكين ريبت، فإن البرهان توليفة مثالية بين الرياضيات الحديثة والإلهام للمستقبل: «أعتقد أنك إذا ضللت طريقك في جزيرة مهجورة ، ولم يكن معك سوى هذه المخطوطة، فسوف يكون لديك مادة عظيمة للتفكير. سوف ترى جميع الأفكار الحالية في نظرية الأعداد. ستفتح صفحة ما وتجد ظهورا موجزا لمبرهنة أساسية لديلين، ثم تفتح صفحة أخرى وبطريقة عرضية تجد مبرهنة لإيلوجوارش، وجميع هذه الأفكار تستدعى وتستخدم للحظة قبل الانتقال إلى الفكرة التالية.»
بالرغم من أن صحافيي العلوم أشادوا ببرهان وايلز لمبرهنة فيرما الأخيرة، فإن قلة منهم فقط هم من علقوا على برهان حدسية تانياما-شيمورا الذي يرتبط به ارتباطا لا ينفصم. وعدد أقل هم من تكبدوا عناء ذكر مساهمة يوتاكا تانياما وجورو شيمورا، وهما عالما الرياضيات اليابانيان اللذان غرسا في خمسينيات القرن العشرين البذور لعمل وايلز. وبالرغم من أن تانياما قد انتحر قبل ما يزيد على ثلاثين عاما، فإن زميله شيمورا كان هناك ليشهد إثبات الحدسية. وحين سئل شيمورا عن رد فعله تجاه البرهان، ابتسم بلطف وأجاب بتحفظ ورصانة: «لقد أخبرتكم بذلك.»
شكل 8-1: الصفحة الأولى من برهان وايلز المنشور، الذي يمتد إلى ما يزيد عن مائة صفحة.
ومثل العديد من زملائه، يشعر كين ريبت أن إثبات حدسية تانياما-شيمورا قد غير شكل الرياضيات، وعن ذلك يقول: «ثمة تداعيات نفسية مهمة وهي أن الأفراد يستطيعون الآن أن يقدموا على معالجة مسائل أخرى كانوا يتهيبونها قبل ذلك تهيبا شديدا. فالمشهد الآن مختلف؛ إذ تعرف أن جميع المعادلات الإهليلجية نمطية، ومن ثم فحين تثبت مبرهنة للمعادلات الإهليلجية، تتصدى للأشكال النمطية في الوقت نفسه، والعكس أيضا صحيح. صار لديك منظور مختلف عما يجري، وقلت الرهبة التي تتولد من فكرة العمل مع الأشكال النمطية؛ لأن ما تفعله حينها بصفة أساسية هو العمل مع المعادلات الإهليلجية. ولا شك بأن الأمر يختلف أيضا حين تكتب مقالا عن المعادلات الإهليلجية؛ فبدلا من قول إننا لا نعرف شيئا لذا فسيكون علينا افتراض صحة حدسية تانياما-شيمورا؛ يمكننا الآن أن نقول إننا نعرف أن حدسية تانياما-شيمورا صحيحة، ومن ثم فلا بد أن يكون هذا وذاك صحيحا. وهي تجربة تبعث على السرور بدرجة أكبر كثيرا.»
من خلال حدسية تانياما-شيمورا، وحد وايلز بين العالمين الإهليلجي والنمطي، وقدم بذلك إلى الرياضيات طريقا مختصرا إلى العديد من البراهين الأخرى؛ فالمسائل التي تنتمي إلى أحد المجالين يمكن حلها بالقياس على المسائل التي تنتمي إلى المجال الموازي. ومن ثم، فيمكن الآن إعادة النظر في المسائل الإهليلجية الكلاسيكية التي يعود تاريخها إلى اليونانيين القدامى، باستخدام جميع الأدوات والأساليب النمطية المتاحة.
والأهم من ذلك أن وايلز قد قام بالخطوة الأولى في مخطط لانجلاندز الكبير للتوحيد: برنامج لانجلاندز. ثمة مجهودات جديدة تبذل الآن لإثبات غير ذلك من الحدسيات التي توحد بين جوانب أخرى من الرياضيات. في مارس عام 1996، تقاسم وايلز مع لانجلاندز جائزة وولف التي تبلغ قيمتها 100000 دولار أمريكي (التي لا ينبغي الخلط بينها وبين جائزة ولفسكيل). لقد أدركت لجنة جائزة وولف أن برهان وايلز لم يكن إنجازا رائعا في حد ذاته فحسب، بل بعث الحياة من جديد في مخطط لانجلاندز الطموح. كان ذلك إنجازا يمكن أن يقود الرياضيات إلى العصر الذهبي التالي من حل المسائل.
بعد عام من الإحراج والشك، صار بوسع المجتمع الرياضي أن يبتهج أخيرا. فخصصت كل ندوة وكل حلقة دراسية وكل مؤتمر، جلسة لبرهان وايلز، وأطلق علماء الرياضيات في بوسطن مسابقة للشعر الفكاهي احتفالا بهذا الحدث العظيم. وقد اجتذبت المشاركة التالية:
الزبد أيها النادل مكتوب عليه!
سمع أحد الزبائن يلقي بهذه التهمة!
اضطررت إلى الكتابة فيه!
صاح بهذا النادل بيير.
لم أجد مكانا كافيا في المرجرين.
بقلم إي هاو وإتش لينسترا ودي مولتون (1) الجائزة
يعتمد برهان وايلز لمبرهنة فيرما الأخيرة على إثبات صحة حدسية ولدت في خمسينيات القرن العشرين. تستخدم الحجة المنطقية مجموعة من الأساليب الرياضية التي ابتكرت في العقد الأخير، وبعضها من ابتكار وايلز نفسه. يعد البرهان من روائع الرياضيات الحديثة، وهو ما يؤدي إلى النتيجة الحتمية بأن برهان وايلز يختلف عن برهان فيرما. لقد كتب فيرما أن هامش نسخته من كتاب «أريثميتيكا» لديوفانتوس لن يتسع لبرهانه، ولا شك بأن برهان وايلز الذي يأتي في مائة صفحة من الرياضيات المكثفة يفي بهذا المعيار، لكن الفرنسي لم يخترع الأشكال النمطية ولا حدسية تانياما-شيمورا قبل أي شخص آخر بالطبع.
إذا كان فيرما لم يتوصل إلى برهان وايلز، فما الذي توصل إليه؟ ينقسم علماء الرياضيات في هذا الصدد إلى معسكرين. يعتقد الواقعيون المتشككون أن مبرهنة فيرما الأخيرة جاءت نتيجة لحظة ضعف نادرة مر بها عبقري القرن السابع عشر. فهم يزعمون أن فيرما قد كتب: «لقد وجدت برهانا بديعا بحق.» لكنه لم يجد سوى برهان معيب. وهذه الطبيعة الدقيقة لهذا البرهان المعيب محل جدال كبير، لكنها قد تكون في نطاق عمل كوشي أو لاميه.
ويعتقد بعض علماء الرياضيات الآخرين من الرومانتيكيين المتفائلين أن فيرما ربما قد توصل إلى برهان عبقري. أيا ما كان هذا البرهان، فلا بد أنه كان يستند إلى تقنيات القرن السابع عشر، ولا بد أنه تضمن حجة بارعة للغاية، حتى إنها غابت عن الجميع وفيهم أويلر ووايلز. وبالرغم من نشر حل وايلز للمسألة، يعتقد الكثير من علماء الرياضيات أنه لا يزال باستطاعتهم تحقيق الشهرة والمجد باكتشاف برهان فيرما الأصلي.
بالرغم من أن وايلز اضطر إلى اللجوء إلى طرق القرن العشرين لإثبات لغز من القرن السابع عشر، فقد تمكن على أي حال من التصدي لتحدي فيرما؛ وفقا لقواعد لجنة ولفسكيل؛ ففي السابع والعشرين من يونيو عام 1997، اجتمع الأعضاء الموقرون للجمعية الملكية للعلوم في جوتينجن بالقاعة الكبرى في جامعة جوتينجن لمنح الجائزة التي وهبها بول ولفسكيل في بداية القرن.
صرح البروفيسور هاينز واجنر، رئيس اللجنة، أن جائزة ولفسكيل أهم كثيرا من أي جائزة نوبل؛ فجوائز نوبل تمنح كل عام، أما جائزة ولفسكيل، فقد كان عليها أن تنتظر تسعين عاما قبل منحها. محاطا بالصور الشخصية للملوك الهانوفريين، قبل وايلز الجائزة التي يبلغ قدرها 50000 دولار أمريكي، وأخيرا، صار ثمة حل رسمي لمبرهنة فيرما.
يدرك وايلز أنه كي يقدم للرياضيات واحدا من أعظم البراهين فيها، قد اضطر أيضا إلى أن يحرمها من لغزها الأعظم: «لقد أخبرني بعض الأشخاص أنني أخذت منهم مسألتهم، وسألوني إذا كان من الممكن أن أعطيهم شيئا بدلا منها. ثمة شعور بالكآبة. لقد فقدنا شيئا صاحبنا مدة طويلة للغاية، وهو شيء جذب الكثير منا إلى الرياضيات. ربما يكون هذا هو الحال دوما مع مسائل الرياضيات. كل ما علينا فعله هو أن نعثر على مسائل جديدة تجذب انتباهنا.»
لكن ما الذي سيجذب انتباه وايلز لاحقا؟ ليس غريبا على رجل ظل يعمل في سرية تامة على مدى سبع سنوات أن يرفض التعليق بشأن بحثه الحالي، لكن أيا كان ما يعمل عليه، فلا شك أنه لن يعوض أبدا عن افتتانه بمبرهنة فيرما الأخيرة بشكل كامل. «ما من مسألة أخرى ستمثل لي الأهمية نفسها. لقد كانت هذه المسألة شغف طفولتي. وما من شيء آخر يمكن أن يحل محل ذلك. لقد حللتها. وسوف أحاول حل مسائل أخرى، أنا متأكد من ذلك. سيكون بعضها صعبا للغاية وسأحقق الشعور بالإنجاز مجددا، لكن لا يمكن لأي مسألة رياضية أخرى أن تستحوذ علي مثلما استحوذت علي مسألة فيرما.» «لقد حظيت بذلك الامتياز شديد الندرة بأن أسعى في مرحلة نضجي وراء حلم طفولتي. أنا أعرف أنه امتياز شديد الندرة، لكن إذا تمكنت في حياتك وأنت بالغ كبير من دراسة شيء يمثل لك مثل هذه الأهمية، فإن ذلك يكون مجزيا أكثر من أي شيء يمكن تخيله. ثمة شعور بالفقد ينتابني بعد أن حللت هذه المشكلة، لكنه مصحوب في الوقت نفسه بشعور هائل من الحرية. لقد كنت شديد الهوس بهذه المسألة حتى إنني كنت أفكر فيها طوال الوقت على مدى ثماني سنوات، بداية من استيقاظي في الصباح وحتى خلودي إلى النوم ليلا. وذلك وقت طويل على التفكير في شيء واحد. لقد انتهت الآن تلك الأوديسة المحددة. وقد استراح عقلي.»
الملاحق
الملحق 1: برهان مبرهنة فيثاغورس
يتمثل هدف البرهان في إثبات صحة مبرهنة فيثاغورس في جميع المثلثات قائمة الزاوية. يمكن أن يكون المثلث الموضح أعلاه أي مثلث قائم الزاوية؛ إذ لم تحدد أطوال أضلاعه، بل تمثل بالحروف
x
و
y
و
z .
نرى في الشكل الموضح أعلاه أيضا، أربعة مثلثات متطابقة قائمة الزاوية قد جمعت معا في مربع مائل لبناء مربع كبير. ومساحة هذا المربع الكبير هي العامل الأساسي في البرهان.
يمكن حساب مساحة المربع الكبير بطريقتين:
الطريقة الأولى:
قياس مساحة المربع الكبير بأكمله. طول كل ضلع يساوي . إذن، فمساحة المربع الكبير = .
الطريقة الثانية:
قياس مساحة كل عنصر من عناصر المربع الكبير. مساحة كل مثلث هي ، أي 1 / 2 × القاعدة × الارتفاع. مساحة المربع المائل هي . إذن:
فمساحة المربع الكبير تساوي 4 × (مساحة كل مثلث) + مساحة المربع المائل = .
تقدم الطريقتان صيغتين مختلفتين. بالرغم من ذلك، فلا بد أنهما متساويتان إذ يمثلان المساحة نفسها.
إذن:
فالمساحة الناتجة من الطريقة الأولى = المساحة الناتجة من الطريقة الثانية.
يمكن فك الأقواس وتبسيطها. ومن ثم نحصل على:
يمكن إلغاء
y
x
2 من الطرفين. فنحصل على:
وهي مبرهنة فيثاغورس!
تستند الحجة المنطقية إلى حقيقة أن مساحة المربع الكبير لا بد أن تكون هي نفسها، بصرف النظر عن الطريقة المستخدمة لحسابها. بعد ذلك، نستخلص بطريقة منطقية صيغتين لحساب المساحة نفسها، ونعقد بينهما علاقة التساوي، ونحصل في النهاية على النتيجة الحتمية: ، أي إن المربع الواقع على وتر الزاوية القائمة
يساوي مجموع المربعين الواقعين على الضلعين الآخرين .
تنطبق هذه الحجة المنطقية على جميع المثلثات قائمة الزاوية. وتمثل أضلاع المثلث في حجتنا بالحروف
z
و
y
و
x ؛ لذا يمكن أن تمثل أضلاع أي مثلث قائم الزاوية.
الملحق 2: برهان إقليدس لإثبات أن الجذر التربيعى للعدد 2 عدد غير نسبي
كان هدف إقليدس هو إثبات أن
لا يمكن كتابته في صورة كسر. ولأنه كان يستخدم البرهان بالتناقض، تمثلت الخطوة الأولى في إثبات أن العكس صحيح، أي إنه يمكن كتابة
على صورة كسر غير معروف. ويمثل هذا الكسر الافتراضي بالصورة ، حيث
p
و
q
عددان صحيحان.
كل ما يستلزمه الأمر قبل تناول البرهان نفسه، هو الفهم الأساسي لبعض خواص الكسور والأعداد الزوجية. (1)
إذا ضربت أي عدد في 2، فإن العدد الجديد لا بد أن يكون زوجيا. وهذا هو تعريف العدد الزوجي بالفعل. (2)
إذا كنت تعرف أن تربيع عدد ما عدد زوجي، فلا بد أن يكون العدد نفسه زوجيا أيضا. (3)
وأخيرا، يمكن تبسيط الكسور: 16 / 24 هو نفسه 8 / 12، وذلك من خلال قسمة البسط والمقام في 16 / 24 على العامل المشترك 2. علاوة على ذلك، فالكسر 8 / 12 يساوي 4 / 6 الذي يساوي بدوره 2 / 3. غير أن 2 / 3 لا يمكن تبسيطه أكثر من ذلك؛ لعدم وجود عامل مشترك بين العددين 2 و3. ومن المحال الاستمرار في تبسيط أحد الكسور إلى الأبد.
والآن، تذكر أن إقليدس يعتقد أنه لا يمكن كتابة
على صورة كسر. غير أنه يتبنى طريقة البرهان بالتناقض، ويبدأ بافتراض وجود الكسر ، ثم يستكشف نتائج وجوده:
إذا قمنا بتربيع كلا الطرفين، فسنحصل على:
يمكن إعادة ترتيب هذه المعادلة بسهولة لتصبح:
ونحن نعرف من النقطة (1) أن
لا بد أن يكون عددا زوجيا. إضافة إلى ذلك، نعرف من النقطة (2) أن
p
نفسه لا بد أن يكون عددا زوجيا. لكن إذا كان
p
عددا زوجيا، فيمكن إذن كتابته على الصورة
m
2، حيث
m
عدد آخر صحيح. وينتج هذا من النقطة (1). إذا أدخلنا ذلك مجددا في المعادلة، فسنحصل على:
عند قسمة كلا الطرفين على 2، نحصل على:
بالرغم من ذلك، فوفقا للحجج المنطقية التي استخدمناها سابقا، نعرف أن
لا بد أن يكون زوجيا، ومن ثم فلا بد أن يكون
q
زوجيا أيضا. وإذا كان هذا صحيحا، فسيكون من الممكن إذن كتابة
q
على الصورة
n
2، حيث
n
عدد آخر صحيح. وإذا عدنا مرة أخرى إلى البداية، فسنجد أن:
يمكن تبسيط
من خلال قسمة البسط والمقام على 2، وسنحصل على:
والآن، صار لدينا الكسر
وهو أبسط من .
بالرغم من ذلك، فنحن نجد أنفسنا الآن في موقف يمكننا من تكرار العملية نفسها على ، وسينتج لدينا في نهاية هذه العملية كسر أبسط، لنقل إنه
على سبيل المثال. ويمكننا تطبيق هذه العملية نفسها على هذا الكسر، وسيكون الكسر الجديد، ولنسمه
مثلا، على درجة أكبر من التبسيط. ويمكننا تطبيق العملية نفسها على هذا الكسر أيضا، ونستمر في تطبيقها مرارا وتكرارا دون نهاية. غير أننا نعرف من النقطة (3) أنه لا يمكن تبسيط الكسور إلى الأبد. لا بد أن تكون لدينا أبسط صورة من الكسر، لكن كسرنا الافتراضي
لا يخضع لهذه القاعدة فيما يبدو. ومن ثم، فإن لدينا الآن ما يبرر القول ببلوغ حالة من التناقض. إذا كان من الممكن كتابة
في صورة كسر، فستكون النتائج غير منطقية؛ لذا فمن الصواب أن نقول إنه لا يمكن كتابة
في صور كسر. إذن،
عدد غير نسبي.
الملحق 3: أحجية عمر ديوفانتوس
لنسم طول حياة ديوفانتوس
L . وتوفر لنا الأحجية سردا كاملا لحياة ديوفانتوس وهو كالتالي:
قضى 1/6 حياته، أي ، صبيا.
قضى
حياته شابا.
قضى
قبل الزواج.
بعد 5 سنوات، ولد له ابن.
هو فترة حياة الابن.
قضى 4 سنوات في الأسى قبل أن يموت.
وطول مدة حياة ديوفانتوس هي حاصل جمع كل ما سبق:
يمكن تبسيط المعادلة لتصبح على النحو التالي:
مات ديوفانتوس وهو يبلغ من العمر 84 عاما.
الملحق 4: معضلة أوزان باشي
لوزن أي عدد صحيح من الكيلوجرامات من 1 إلى 40، سيقترح معظم الأفراد أن الأوزان المطلوبة هي ستة: 1 و2 و4 و8 و16 و32 كيلوجرام. وبهذه الطريقة يمكن تحقيق جميع الأوزان بسهولة من خلال وضع المجموعات التالية في وعاء واحد:
1 كيلوجرام = 1،
2 كيلوجرام = 2،
3 كيلوجرام = 2 + 1،
4 كيلوجرام = 4،
5 كيلوجرام = 4 + 1،
40 كيلوجرام = 32 + 8.
غير أن وضع الأوزان في الوعاءين، أي مع وضع الأوزان بجوار الشيء المراد وزنه، استطاع باشي إنجاز المهمة بأربعة أوزان فقط: 1 و3 و9 و27 كيلوجراما. فالوزن الموضوع بجوار الشيء الموزون، يمثل قيمة سالبة في حقيقة الأمر. ومن ثم، يمكن تحقيق الأوزان على النحو التالي:
1 كيلوجرام = 1،
2 كيلوجرام = 3 − 1،
3 كيلوجرامات = 3،
4 كيلوجرامات = 3 + 1،
5 كيلوجرامات = 9 − 3 − 1،
40 كيلوجراما = 27 + 9 + 3 + 1.
الملحق 5: برهان إقليدس لإثبات وجود عدد لا نهائي من ثلاثيات فيثاغورس
ثلاثية فيثاغورس هي مجموعة من ثلاثة أعداد صحيحة، يكون تربيع أحدها مضافا إلى تربيع العدد الآخر مساويا لتربيع العدد الثالث. وقد تمكن إقليدس من إثبات وجود عدد لا نهائي من مثل هذه الثلاثيات الفيثاغورسية.
يبدأ برهان إقليدس بملاحظة أن ناتج طرح أي عددين متتاليين مربعين دائما ما يكون عددا فرديا:
يمكن إضافة كل عدد من الأعداد الفردية اللانهائية إلى عدد مربع محدد لتشكيل عدد مربع آخر. بعض هذه الأعداد الفردية هي نفسها أعداد مربعة، لكن بعض اللانهائي، هو أيضا لا نهائي.
ومن ثم ، يوجد عدد لا نهائي من الأعداد الفردية المربعة التي يمكن إضافتها إلى مربع واحد لتشكيل عدد مربع آخر. بعبارة أخرى، لا بد أنه يوجد عدد لا نهائي من الثلاثيات الفيثاغورسية.
الملحق 6: برهان حدسية النقطة
تنص حدسية النقطة على استحالة رسم شكل تخطيطي من النقاط بحيث توجد ثلاث نقاط على الأقل على كل خط مستقيم فيه.
وبالرغم من أن هذا البرهان لا يتطلب سوى قدر ضئيل من المعرفة الرياضية، فهو يعتمد على قدر من البراعة الهندسية؛ لذا فأنا أوصي بالتأمل المتأني لكل خطوة.
فلتتخيل في البداية نمطا عشوائيا من النقاط والخطوط التي تصل كل نقطة بجميع النقاط الأخرى. بعد ذلك، احسب المسافة بين كل نقطة وأقرب خط لها، مع استبعاد أي خط يمر بها. وبهذا، تحدد أي النقاط هي الأقرب على الإطلاق لأحد الخطوط.
فيما يلي صورة قريبة لمثل هذه النقطة
D ، وهي النقطة الأقرب لأحد الخطوط، وهو
L . توضح المسافة بين الخط والنقط بخط متقطع، وهذه المسافة أصغر من أي مسافة أخرى بين أي خط آخر ونقطة.
من الممكن الآن إثبات أن الخط
L
لن يوجد عليه دائما سوى نقطتين؛ ومن ثم فالحدسية صحيحة، أي إنه يستحيل رسم شكل تخطيطي بحيث توجد ثلاث نقاط على كل خط فيه.
ولإثبات أن الخط
L
لا بد أن يوجد عليه نقطتان، نتخيل ما سيحدث في حالة وجود نقطة ثالثة عليه. إذا كانت النقطة الثالثة ، توجد خارج النقطتين الموضحتين في الأصل، فستكون المسافة الموضحة بالخط المتقطع أقصر من الخط المتقطع الذي كان ينبغي به أن يكون هو المسافة الأقصر على الإطلاق بين نقطة وخط. ولهذا؛ فالنقطة
لا يمكن أن تكون موجودة.
وبالمثل، إذا كانت النقطة الثالثة
موجودة بين النقطتين الموضحتين في الأصل، فسنجد مجددا أن المسافة الموضحة بالخط المتقطع أقصر من الخط المتقطع الذي كان من المفترض أن يكون هو المسافة الأقصر على الإطلاق بين خط ونقطة. ومن ثم؛ فالنقطة
لا يمكن أن تكون موجودة هي أيضا.
موجز القول أن أي تشكيل من النقاط لا بد أن يتضمن مسافة دنيا بين نقطة ما وخط ما، ولا بد أن يحتوي هذا الخط المعني على نقطتين فحسب. ومن ثم، فأي تشكيلة من النقاط ستتضمن دائما هذا الخط الواحد على الأقل الذي لا يحتوى سوى على نقطتين؛ إذن فالحدسية صحيحة.
الملحق 7: الانحراف نحو عدم المنطقية
فيما يلي نورد مثالا كلاسيكيا يوضح مدى سهولة البدء بعبارة بسيطة للغاية، وفي غضون بضع خطوات تبدو مباشرة ومنطقية، يتم إثبات أن 2 = 1.
لنبدأ أولا بالعبارة المسالمة:
بعد ذلك، نضرب كلا الطرفين في
a ؛ فنحصل على:
ونضيف
إلى كلا الطرفين:
يمكن تبسيط هذه المعادلة إلى ما يلي:
وأخيرا نقسم كلا الطرفين على
فنحصل على:
تبدو العبارة الأصلية غير مؤذية تماما، وهي كذلك بالفعل، لكن ثمة خطأ خفيا وكارثيا في خطوات معالجة المعادلة يؤدي إلى التضارب في العبارة الأخيرة.
والحق أن الخطأ الفادح يظهر في الخطوة الأخيرة التي يقسم فيها كلا الطرفين على . فنحن نعرف من العبارة الأصلية أن ؛ لذا فإن القسمة على
تكافئ القسمة على صفر.
إن قسمة أي شيء على الصفر تنطوي على المخاطرة؛ لأن الصفر يدخل في أي كمية نهائية عددا لا نهائيا من المرات. وبوضع كمية لا نهائية في طرفي المعادلة، فقد مزقنا نصفي المعادلة بالفعل، وسمحنا للتضارب بالتسلل إلى الحجة المنطقية.
وهذا الخطأ الخفي من الأمثلة النموذجية للسقطات التي وقع فيها كثير من المتقدمين إلى جائزة ولفسكيل.
الملحق 8: مسلمات الحساب
المسلمات التالية هي كل ما يلزم ليكون أساسا للتركيب المعقد لعلم الحساب: (1)
في حالة أي عددين
n
و
m :
وكذلك . (2)
في حالة أي ثلاثة أعداد
k
و
n
و
m :
وكذلك . (3)
في حالة أي ثلاثة أعداد
k
و
n
و
m : (4)
ثمة عدد يسمى صفر، وهو يتسم بالخاصية المتمثلة في أنه في حالة أي عدد
n : (5)
ثمة عدد يسمى 1، وهو يتسم بالخاصية المتمثلة في أنه في حالة أي عدد
n : (6)
لكل عدد
n ، يوجد عدد
k ، بحيث يكون: (7)
في حالة أي ثلاثة أعداد
k
و
n
و
m :
إذا كان
وكان
إذن .
بناء على هذه المسلمات، يمكن إثبات قواعد أخرى. فمن خلال تطبيق المسلمات بدقة، وعدم افتراض أي شيء آخر، يمكننا أن نثبت بدقة تلك القاعدة الواضحة المتمثلة فيما يلي:
إذا كان
إذن .
في البداية نذكر أن:
ووفقا للمسلمة 6، ليكن
l
عددا حيث ، إذن:
إذن فوفقا للمسلمة 2:
ومع مراعاة أن ، نعرف أن:
وبتطبيق المسلمة 4، يمكننا أن نعلن أخيرا ما عزمنا على إثباته:
الملحق 9: نظرية الألعاب والمبارزة الثلاثية
لنفحص خيارات السيد بلاك. أولا، يمكن للسيد بلاك أن يطلق الرصاص نحو السيد جراي. وإذا نجح فسوف يقوم السيد وايت بإطلاق الرصاص في المرة التالية. يتبقى أمام السيد وايت خصم واحد هو السيد بلاك، ولأن السيد وايت رام بارع، فالسيد بلاك في عداد الأموات.
ثمة خيار أفضل للسيد بلاك، وهو أن يطلق الرصاص نحو السيد وايت. وإذا نجح فسوف يقوم السيد جراي بإطلاق الرصاص في المرة التالية. يصيب السيد جراي هدفه مرتين فقط كل ثلاث مرات؛ لذا فثمة احتمال بأن ينجو السيد بلاك ليصوب الرصاص ثانية نحو السيد جراي، وقد يفوز بالمبارزة.
يبدو أن الخيار الثاني هو الاستراتيجية التي ينبغي على السيد بلاك تبنيها. بالرغم من ذلك، فثمة خيار ثالث أفضل. يمكن للسيد بلاك أن يطلق الرصاص في الهواء. ويأتي دور السيد جراي في المرة التالية، ويصوب الرصاص نحو السيد وايت؛ لأنه الخصم الأخطر. إذا نجا السيد وايت، فسوف يصوب الرصاص تجاه السيد جراي لأنه الخصم الأخطر. فمن خلال إطلاق الرصاص في الهواء، يتيح السيد بلاك الفرصة للسيد جراي في القضاء على السيد وايت، أو العكس أيضا صحيح.
تلك هي الاستراتيجية الأنسب للسيد بلاك. ففي نهاية المطاف، سيموت السيد جراي أو السيد وايت، وسيصوب السيد بلاك الرصاص على من ينجو منهما. لقد تلاعب السيد بلاك بالموقف كي يصبح هو صاحب التصويبة الأولى في مبارزة ثنائية بدلا من أن يكون صاحب التصويبة الأولى في مبارزة ثلاثية.
الملحق 10: مثال على البرهان بالاستقراء
يجد علماء الرياضيات نفعا في التوصل إلى صيغ أنيقة لحساب مجموع قوائم متعددة من الأعداد. وفي هذه الحالة يتمثل التحدي في التوصل إلى صيغة لحساب مجموع أعداد العد الأولى
n .
فمجموع العدد الأول على سبيل المثال هو 1، ومجموع أول عددين هو 3 (1 + 2)، ومجموع الأعداد الثلاثة الأولى هو 6 (1 + 2 + 3)، ومجموع الأعداد الأربعة الأولى هو 10 (1 + 2 + 3 + 4)، وهكذا.
من الصيغ المرشحة لوصف هذا النمط:
ومعنى هذا أننا إذا رغبنا في إيجاد مجموع الأعداد الأولى
n ، فكل ما علينا فعله هو التعويض بالعدد في الصيغة المذكورة أعلاه وإيجاد الإجابة.
ويمكن للبرهان بالاستقراء أن يثبت فعالية هذه الصيغة لجميع الأعداد إلى ما لا نهاية.
تتمثل الخطوة الأولى في إثبات فعالية الصيغة في الحالة الأولى . وهذه الخطوة مباشرة إلى حد كبير؛ لأننا نعرف أن مجموع العدد الأول هو 1، وإذا أدخلنا
في الصيغة المرشحة أعلاه، فسنحصل على النتيجة الصحيحة:
وبهذا، فقد سقطت قطعة الدومينو الأولى.
والخطوة التالية في البرهان بالاستقراء هي إثبات أنه إذا كانت الصيغة صحيحة لجميع قيم
n ، فلا بد أنها ستكون صحيحة أيضا في حالة . إذا كان:
إذن:
وبعد إعادة ترتيب حدود الطرف الأيمن نحصل على:
الأمر المهم الذي يجدر بنا ملاحظته هنا هو أن صيغة هذه المعادلة الجديدة هي نفسها صيغة المعادلة الأصلية، باستثناء أننا عوضنا عن
n
ب ( ).
ومعنى هذا أنه إذا كانت الصيغة صحيحة في حالة
n ، فلا بد أنها ستكون صحيحة أيضا في حالة . إذا وقعت إحدى قطع الدومينو، فستوقع القطعة التالية لها على الدوام. وبهذا يكتمل البرهان بالاستقراء.
اقتراحات بقراءات إضافية
لقد اعتمدت أثناء بحثي لتأليف هذا الكتاب على العديد من الكتب والمقالات. وإضافة إلى المصادر الأساسية الخاصة بكل فصل من الفصول، ذكرت أيضا بعض المواد الأخرى التي قد تثير اهتمام عموم القراء والقراء المتخصصين في المجال على حد سواء. وفي الحالات التي وجدت فيها أن عنوان المصدر لا يعبر عن علاقته بالموضوع، أضفت جملة أو اثنتين لوصف محتوياته.
الفصل الأول
The Last Problem , by E.T. Bell, 1990, Mathematical Association of America. A popular account of the origins of Fermat’s Last Theorem.
His Life and Philosophy , by Leslie Ralph, 1961, Krikos.
, by
A History of Greek Mathematics , Vols. 1 and 2, by Sir Thomas Heath, 1981, Dover.
Mathematical Magic Show , by Martin Gardner, 1977, Knopf. A collection of mathematical puzzles and riddles.
River meandering as a self-organization process, by Hans-Henrik Støllum,
Science
271 (1996), 1710-1713.
الفصل الثانى
The Mathematical Career of Pierre de Fermat , by Michael Mahoney, 1994, Princeton University Press. A detailed investigation into the life and work of Pierre de Fermat.
Archimedes’ Revenge , by Paul Hoffman, 1988, Penguin. Fascinating tales which describe the joys and perils of mathematics.
الفصل الثالث
Men of Mathematics , by E.T. Bell, Simon and Schuster, 1937. Biographies of history’s greatest mathematicians, including Euler, Fermat, Gauss, Cauchy and Kummer.
The periodical cicada problem, by Monte Lloyd and Henry S. Dybas,
Evolution
20 (1966), 466-505.
Women in Mathematics , by Lynn M. Osen, 1994, MIT Press. A largely non-mathematical text containing the biographies of many of the foremost female mathematicians in history, including Sophie Germain.
Math Equals: Biographies of Women Mathematicians + Related Activities , by Teri Perl, 1978, Addison-Wesley.
Women in Science , by H. J. Mozans, 1913, D. Appleton and Co.
Sophie Germain, by Amy Dahan Dalmédico,
Scientific American , December 1991. A short article describing the life and work of Sophie Germain.
Fermat’s Last Theorem - A Genetic Introduction to Algebraic Number Theory , by Harold M. Edwards, 1977, Springer. A mathematical discussion of Fermat’s Last Theorem, including detailed outlines of some of the early attempts at a proof.
Elementary Number Theory , by David Burton, 1980, Allyn & Bacon.
Various communications, by A. Cauchy,
C. R. Acad. Sci. Paris
24 (1847), 407-416, 469-483.
Note au sujet de la demonstration du theoreme de Fermat, by G. Lamé,
C. R. Acad. Sci. Paris
24 (1847), 352.
Extrait d’une lettre de M. Kummer á M. Lionville, by E.E. Kummer,
J. Math. Pures etAppl.
12 (1847), 136. Reprinted in
Collected Papers , Vol. I, edited by A. Weil, 1975, Springer.
A Number for Tour Thoughts , by Malcolm E. Lines, 1986, Adam Hilger. Facts and speculations about numbers from Euclid to the latest computers, including a slightly more detailed description of the dot conjecture.
الفصل الرابع
3.1416 and All That , by PJ. Davis and W.G. Chinn. 1985, Birkhauser. A series of stories about mathematicians and mathematics, including a chapter about Paul Wolfskehl.
The Penguin Dictionary of Curious and Interesting Numbers , by David Wells, 1986,
The Penguin Dictionary of Curious and Interesting Puzzles , by David Wells, 1992,
Sam Loyd and his
, by Sam Loyd (II), 1928, Barse and Co.
Mathematical Puzzles of Sam Loyd , by Sam Loyd, edited by Martin Gardner, 1959, Dover.
Riddles in Mathematics , by Eugene P. Northropp, 1944, Van Nostrand.
The Picturegoers , by David Lodge, 1993, Penguin.
13 Lectures on Fermat’s Last Theorem , by Paulo Ribenboim, 1980, Springer. An account of Fermat’s Last Theorem, written prior to the work of Andrew Wiles, aimed at graduate students.
Mathematics: The Science of
, by Keith Devlin, 1994, Scientific American Library. A beautifully illustrated book which conveys the concepts of mathematics through striking images.
Mathematics: The New Golden Age , by Keith Devlin, 1990, Penguin. A popular and detailed overview of modern mathematics, including a discussion on the axioms of mathematics.
The Concepts of Modem Mathematics , by Ian Stewart, 1995,
, by Betrand Russell and Alfred North Whitehead, 3 vols , 1910, 1912, 1913, Cambridge University Press.
Kurt Gödel, by G. Kreisel, Biographical Memoirs of the Fellows of the Royal Society, 1980.
A Mathematician’s Apology , by G.H. Hardy, 1940, Cambridge University Press. One of the great figures of twentieth-century mathematics gives a personal account of what motivates him and other mathematicians.
Alan Turing: The Enigma of Intelligence , by Andrew Hodges, 1983, Unwin Paperbacks. An account of the life of Alan Turing, including his contribution to breaking the Enigma code.
الفصل الخامس
Yutaka Taniyama and his time, by Goro Shimura,
Bulletin of the London Mathematical Society
21 (1989), 186-196. A very personal account of the life and work of Yutaka Taniyama.
Links between stable elliptic curves and certain diophantine equations, by Gerhard Frey,
Ann. Univ. Sarav. Math. Ser.
1 (1986), 1-40. The crucial paper which suggested a link between the Taniyama- Shimura conjecture and Fermat’s Last Theorem.
الفصل السادس
Genius and Biographers: the Fictionalization of Evariste Galois, by T. Rothman,
Amer. Math. Monthly
89 (1982), 84-106. Contains a detailed list of the historical sources behind Galois’s biographies, and discusses the validity of the various interpretations.
La vie d’Evariste Galois, by Paul Depuy,
Annales Scientifiques de I’Ecole Normale Superieure
13 (1896), 197-266.
Mes Memoirs , by Alexandre Dumas, 1967, Editions Gallimard.
Notes on Fermat’s Last Theorem , by Alf van der Poorten, 1996, Wiley. A technical description of Wiles’s proof aimed at mathematics undergraduates and above.
الفصل السابع
An elementary introduction to the Langlands programme, by Stephen Gelbart,
Bulletin of the American Mathematical Society
10 (1984), 177-219. A technical explanation of the Langlands programme aimed at mathematical researchers.
Modular elliptic curves and Fermat’s Last Theorem, by Andrew Wiles,
Annals of Mathematics
141 (1995), 443-551. This paper includes the bulk of Wiles’s proof of the Taniyama-Shimura conjecture and Fermat’s Last Theorem.
Ring-theoretic properties of certain Hecke algebras, by Richard Taylor and Andrew Wiles,
Annals of Mathematics
141 (1995), 553-572. This paper describes the mathematics which was used to overcome the flaws in Wiles’s 1993 proof.
You can find a set of websites about Fermat’s Last Theorem on Simon Singh’s website: [http://www.simonsingh.com]
مصادر الصور
Line illustrations by Jed Mugford.
Figure 1: Andrew Wiles. Figure 1-1: Charles Taylor. Figure 1-6: Science Photo Library. Figure 1-7: By permission of the President and Council of the Royal Society. Figures 2-1, 2-2, 2-3: Courtesy of the John Carter Brown Library at Brown University. Figure 2-4: By permission of the President and Council of the Royal Society. Figure 3-7: Archives de l’Académic des Sciences. Figure 3-8: Archives de l’Académic des Sciences. Figure 3-9: By permission of the President and Council of the Royal Society. Figure 3-10:
Die Mathematik und ihre Dozenten (Akademie-Verlag, Berlin). Figure 3-12: Dr Klaus Barner, University of Kassel. Figure 4-1:
Sam Loyd and his
, (Barse and Co., New York). Figure 4-3: Mathematisches Forschungsinstitut Oberwolfach. Figure 4-4: Godfrey Argent. Figure 4-5: Source: Royal Society Library, London. Figure 4-6: Godfrey Argent. Figure 4-7: Andrew Wiles. Figure 4-8: Ken Ribet. Figure 4-11: Goro Shimura. Figure 5-1: Princeton University, Orren Jack Turner. Figure 5-5: © 1997 Cordon Art, Baarn, Holland. Figure 5-6: Goro Shimura. Figure 5-7: BBC. Figure 5-8: Catherine Karnow. Figure 5-9: Princeton University, Denise Applewhite. Figures 6-1, 6-2, 6-3: R. Bourgne and J. P. Azra,
Des écrits et des mémoires mathématiques d’Evariste Galois (2nd edn, Gauthier-Villars, 1976; reprint by Editions Jacques Gabay, Paris, 1997). Figure 6-4: A. J. Hanson and S. Dixon, Wolfram Research Inc. Figure 6-5: BBC. Figure 6-6: © 1993 by The New York Times Co. Reprinted by permission. Figure 6-7: Ken Ribet. Figure 7-1: Richard Taylor. Figure 7-2: Princeton University. Figure 8-1: Andrew Wiles, Modular elliptic curves and Fermat’s Last Theorem.
Annals of Mathematics ,
141 , 443 (1995). The Johns Hopkins University
نامعلوم صفحہ