فطبيعة بلاد الشرق بما توجب من الراحة للبدن تفسح للعقل مجال الخيال؛ ولذلك كان الأنبياء كلهم من المشرق. وطبيعة بلاد المغرب بما توجب من المشقة على البدن تربي فيه النهضة والإقدام؛ ولذلك كان أكثر الفاتحين من المغرب، إلا من قام من الشرق لدعوة دينية تدخل في حكم المؤثرات الأدبية؛ ولذلك أيضا كان أهل الشرق، كما قال الشهرستاني، ميالين للبحث عن ماهيات الأشياء وحقائقها، وأهل الغرب ميالين للبحث عن طبائع الأشياء وكيفياتها؛ أي إن هؤلاء أهل عمل، وأولئك أهل نظر قد يجر إلى الكسل. وربما كان هذا من الأسباب الطبيعية التي لأجلها لا يستطيع الشرق أن يناظر الغرب إذا تساوت عندهما المعدات الأدبية.
فالشرق إذن لا يستطيع أن يناظر الغرب إلا إذا فاقه في المعدات الأدبية. على أن الشرق اليوم - ونحصر كلامنا في الأقوام الذين تجمعنا وإياهم جامعة الوطن والسياسة - متقهقر جدا عن الغرب في هذه المعدات لقلة العلم فيه، وثقل وطأة الوهم عليه. ولا يخفى ما لذلك من الأثر السيئ على العقل والآداب؛ ولذلك كانت قوى العقل في الشرق اليوم ضعيفة والآداب متراخية. ونعني بالآداب هنا لا كما يفهمها البعض؛ تلك الآداب الذاتية الرخوة التي لا تتجاوز النفس، ولا ينظر فيها إلى الكل، كالصوم والصلاة مع تربية الضغائن والأحقاد ضد من لا يصلي صلاتك ولا يصوم صومك، فينسيك ذلك الجامعة الوطنية والسياسية في جنب الجامعة الملية في بلاد كثر فيها تفرق المذاهب والأديان، أو تلك الآداب السطحية المنتقلة إلينا من سفساف آداب المغرب، كالهشاشة والبشاشة، والمفاخرة باللباس والطعام، وإيلام الولائم، والتأنث في الحركات، وسائر أنواع المجاملة التي لا تتجاوز حد اللفظ مع التبطن والرياء المتصلة إلينا إما بالوراثة وإما بالتقليد، مع التواء المقصد منها علينا؛ لتمسكنا بالظواهر والأعراض، وإغفالنا الجواهر والأغراض؛ بل نريد بها تلك الآداب الرفيعة الاجتماعية التي تدل على ارتفاع المدارك، والتي ينطبق عليها قول المثل: «عدو عاقل خير من صديق جاهل.» كالحزم والعزم والشهامة ، وكرم الأخلاق الحقيقي، والصدق والإخلاص، ومحبة النفس من وراء محبة الغير، ومحبة الوطن فوق كل شيء، مما يبعث إلى التعاون والتعاضد للقيام بالأعمال الجليلة العمومية التي يقوى بها الفرد؛ لأنه ينظر فيها إلى قوة الكل، ومعرفة أقدار ذوي الفضل منا للانتفاع بما خصوا به من المواهب؛ لتنشيط هذه المزايا في الجمهور، لا قتلها فيهم لقتلها فيه حسدا ولؤما. والإغضاء عن الهفوات في جنب الحسنات، لا تحقير هذه وتعظيم تلك؛ تشفيا من الاجتهاد، وانتقاما من الذكاء. فإن الفرق بين الغرب والشرق في ذلك كالفرق بين أعمال الرجال وأعمال الأطفال.
ذكروا أن لامرتين الشاعر الفرنساوي الشهير بلغت ديونه نحو ثلاثة ملايين فرنك، فقامت الأمة ووفتها عنه بجمع المال بالاكتتاب، ولم يمنعه ذلك من تجديدها، ولا منع هذه الأمة من تجديد الاكتتاب لوفائها، فكيف لا يقوم بين أمة هذا اعتناؤها برجالها رجال ك «لامرتين» وأعظم من لامرتين بطبقات. و«ولطر سكوت» خسر أموالا طائلة في التجارة، وانكسر عليه نحو خمسين ألف جنيه، فعمد إلى التأليف ووفاها من كتاباته؛ لأنه كتب لقوم يقرءون، ويدفعون ثمن ما يقرءونه. بل لنعتبر بمثل بطل السودان، وما صادفه من العناية البالغة الغاية القصوى من أمته وحكومته مما لا يزال صداه يرن في الآذان، ولنقابله بمعاملة حكومات الشرق وأممه لأبطاله إذا ظهر فيه أبطال، فأقل عقاب لهم على اجتهادهم وامتيازهم الإقصاء إلى الأقطار الشاسعة، أو الوضع تحت القفل والمفتاح، حيث يطمس ذكرهم ويتناسى فخرهم. فكيف لا يقوم من أولئك رجال يبذلون قواهم ودمهم لخدمة وطنهم وأمتهم؟ وكيف لا تنمو فيهم مواهب الذكاء والإقدام على جليل الأعمال؟ وكيف لا ينزوي هؤلاء في بيوتهم متقاعدين عن خدمة وطنهم؟ بل كيف لا تموت فيهم همم الرجال؟
والغريب أن انحطاط الآداب في شرقنا بلغ مبلغا لا يعهد له نظير في سوانا، فترى الصعلوك منا يظهر بمظهر الإمارة على أمير قومه، والأمير منا يتناهى في الحقارة والدناءة لدى صعلوك أجنبي. فالواحد منا جبار على ابن جنسه ولو فاضلا، وذليل لدى الغريب ولو أنه أذل من بيضة البلد. فمتى بلغت الأمة هذا المبلغ من الدناءة فأي خير ترجو منها؟ وأي نهضة علمية أو أدبية أو اجتماعية ترجو من مثل هؤلاء الأقوام، الذين لا تجمعهم جامعة ولا تقوم لهم قائمة إلا بسيف كسيف محمد أو بونابرت يعمل في رقابهم، ويسوقهم سوق الأنعام؟
ولا شك أن حكومات الشرق هي التي ساعدت على فساد الأخلاق إلى هذا الحد؛ فقد تقدم أن الفرق من عهد أبقراط إلى اليوم بين حكومات المغرب وحكومات المشرق أن تلك تحكمها شرائعها، وهذه تحكمها ملوك. وإن تعدلت الأحكام في بعض ممالك الشرق اليوم فما تعديلها إلا صورة لا معنى؛ فإن ملوك الشرق ما زالوا فوق شرائعهم. فأماتت حكوماتهم من الأمة عواطف الشهامة والإقدام بما ثقلت به على كواهلهم من الإذلال، وسائر ما يجر إليه الاستبداد، وقوت فيهم كل الصفات الدنيئة الهادمة لصروح الاجتماع بما أخمدت من قوى العقل بإطفائها نور العلم. وأثر ذلك فيهم لتقادم عهده شديد، وزواله منهم بعيد. فلا عجب بعد ذلك إذا رأينا الغرب باسطا فوق الشرق يديه، طامحا ببصره إليه، مزمعا أن يقبض عليه. سنة الطبيعة في التنازع، ولن ترى لسنة الطبيعة تبديلا.
المقالة الحادية والثلاثون
سيادة الأمم ومستقبل الملوك
1
رأيت أن أتشبه بالأنبياء وأنا أجهل صناعتهم؛ لكي أقول قولا يكثر مجازه ليتسع تخريجه، فلا تكذبه الوقائع، وترضى به العقول الحريصة على المأثور، ولو أنها تأنح في تأويله كالمعضل. فأنبأت منذ ربع قرن أن أوروبا لا ينقضي عليها القرن التاسع عشر حتى لا يبقى فيها ملك يلبس البرفير والأرجوان، ويحمل الصولجان ويسوق بها حمر الإنسان. وها نحن الآن في العقد الأول من القرن العشرين، والملوك كالآلهة على عروش مجدهم، والناس كالسائمة في حقول جهلهم. فكنت بنبوتي الكاذبة نبيا كاذبا، حلت له أحلامه فاعتبرها حقائق. أثبت بذلك على نفسي جهلي بطبائع الناس، كما أني أثبت عليها خلوها من الذكاء الشرقي، فلم أراع أثر الدهور، في مقوسي الظهور، ولا وطأة المداس، في مطأطئي الراس، كما أني لم أراع في مقالب الدهاء، نعومة ملمس الرقطاء، لاستطلاع مناجع الكلاء.
على أني لا أكون عادلا إذا جرت كل هذا الجور في الحكم على نفسي؛ لأن نبوتي إن لم تصح كلها صورة فقد صح جلها معنى. وما خطئي إلا في ضربي الأجل وتعييني الزمان، ولو قلت بعد زمان لا يطول لأمنت الانتقاد، ولحاكيت بالحصافة أرباب السياسة، ولكن الناس طبائع، فهذا يستمسك بالأعراض، وذاك لا ينظر إلا إلى الجواهر، وأنا ممن لا يقفون عند الصور، بل ينظرون إلى المعاني، لا كما ينظر بعض كتابنا من قادة الأمة، فيستحصلون من التبر ترابا، ثم ينبشون القبور، ويسيغون من السم شرابا يخدرون به أعصاب الأمة لئلا تنشط من العمى، فتبصرهم في صور أجدادهم قبل العصر الحجري قرودا تقهقه وعجائز يلطمن؛ بل أنا أنظر من خلال ذلك إلى الزبد، ولو أنها كما في الخرنوب درهم دبس في قنطار خشب، فكأنني حر كأحرارنا، ولكني غير دستوري، فلا أقيد الحرية بالقانون ولو سن القانون لها؛ لئلا أكون به حرا في استبداد أو مستبدا في حرية. وما أغرب هذا القول في هذا العصر الدستوري، خصوصا بعد هذا الانقلاب الأخير الذي كنت أول المتمنين له، ولكن آخر الحالمين به، حتى قلت فيه لشدة يأسي منه، في مقال عنوانه «وكما تكونون يولى عليكم»: «لا يأتي الدواء من العراق حتى يكون العليل قد فارق.» وهذه نبوة ثانية لي كاذبة - على الأقل الآن - فكأني العاطوس في معطس الدهر، فكلما قلت قولا كذبتني الحوادث، حتى صرت أتمنى أن تنفتح لي أبواب الجحيم؛ لأكون على يقين من الفوز بجنات النعيم.
نامعلوم صفحہ