وكل ما ذكرته القدماء في النفس ذكرته العلماء في الروح وألجأهم الحال في ذلك إلى أن قالوا: هما اسمان موضوعان على مسمى واحد، هو: مدبر بدن الإنسان، وذلك بالاستقراء من حديث رسول الله ﷺ، وذهب قوم: إلى انهما متغايران، وقالوا الإنسان ذو روح ونفس، فالروح جسم لطيف تنبت في البدن به يحس ويتحرك، ويلتذ، ويألم، ويضعف، ويقوى، ويصلح، ويفسد، والنفس جوهر بسيط عالي الرتبة بعيد عن الفساد منزه عن الاستحالة، فالإنسان بالنفس ما هو إنسان لا بالروح، وإنما هو بالروح حي فقط، ولو كان إنسانا بالروح لم يكن بينه وبين الحمار فرق فإن له روحا وليس له نفس، وقالوا: الروح تغني عن النفس في جنس الحيوان الذي لم يكمل فيكون إنسانا، ولا تغني النفس عن الروح في الإنسان، فإن الروح كالآلة للنفس تدبرها بواسطة، وليس ذلك لعجز النفس، ولكن لعجز ما ينفذ فيه التدبير، وقال ابن عباس في ابن آدم وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هو الذي به النفس، والتحرك، فإذا نام العبد قبض نفسه ولم تقبض روحه، وإذا مات قبض نفسه وروحه.
وقالوا: للنفس ثلاث قوى: قوة نباتية، ويشترك فيها النبات والحيوان، وقوة حيوانية ويشترك فيها الحيوان والإنسان، وقوة إنسانية وهي خاصة بالإنسان، وبعضهم يسمي هذه القوى، ويقول: النفس كجنس انقسم إلى ثلاثة أنواع، أو كعين تفجرت منها ثلاثة ينابيع، أو كشجرة تفرعت منها ثلاثة أغصان أو كرجل يعمل ثلاث صنائع، فالنفس النباتية محلها الكبد، ومنه مبدأ النشوء والنمو، ولهذا جعلت فيه عروق دقاق غير ضوارب ينفذ فيها الغذاء إلى الأطراف، وقوى النفس الحيوانية، محلها القلب، ومنه مبدأ الحرارة الغريزية، ولهذا فتحت منه عروق ضوارب إلى الدماغ ليصعد إليه من حرارته ما يعدل ما فيه من برودة، ويترك فيه من أثاره ما يدبر به الحركة والحس وقوى النفس الإنسانية محلها تصريفا وتدبيرا الدماغ، ومنه يبدأ الفكر والتعبير عن الفكر ولهذا فتحت له أبواب الحواس مما يلي هذا العالم، وأبواب المشاعر مما يلي ذلك العالم، فالحواس خمس وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، والمشاعر خمس، وهي: الحس المشترك وهي قوة مرتبة في مقدمة الدماغ من شأنها قبول ما حصل في الحواس من المحسوسات.
والخيال: وهو قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ من شأنها حفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس، وتبقى فيها بعد غيبة المحسوسات فهي خزانته.
والفكر: وهو قوة مرتبه في التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها أن تركب الصور والمعاني بعضها من بعض بحسب الاختيار.
والوهم: وهي قوة مرتبة في آخر التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها أن تحكم في الصور المحسوسة بمعان غير محسوسة، كإدراك الشاة معنى في الذئب فتنفر منه ومعنى في النوع فتنفر إليه.
والحفظ: وهو قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ من شأنها حفظ المعاني المدركة بالوهم، واسترجاعها عند النسيان، ونسبة الحافظة إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك، إلا أن تلك في الصور، وهذه في المعاني.
1 / 8