وكما كانت اللغة سابقة على قواعد النحو كذلك موضوع الأخلاق كان قبل أن يبحث فيه علم الأخلاق، ثم جاء هذا العلم فاجتهد في استنباط قواعد يهتدي بها الإنسان في أفعاله.
لهذا كان علم الأخلاق يمتاز عن الفلسفة النظرية بأن بحثها مقصور على ما كان وما هو كائن وما سيكون، أما علم الأخلاق فيزيد على ذلك أنه فلسفة عملية، يجتهد في تقرير ما ينبغي أن يكون، فهو علم سلوك الإنسان وعاداته.
إن قليلا من الخبرة يكفي في إرشادنا إلى أن الإنسان ليس مطالبا بأن يعمل كما يشاء حينما يشاء، ولا أن يعمل كل ما يستطيع أن يعمل، بل هو على العكس من ذلك؛ فكثيرا ما يطالب أن يتجنب عمل ما يسره، و«أن يخضع إرادته لإرادة غيره»، وأن ينظم إرادته ويشكلها على حسب ظروف الأحوال.
وتاريخ الأمم كذلك يرينا أن الناس اختلفوا - ولا يزالون مختلفين - فيما هو الحسن والسيئ، والأخلاقي وغيره، وأن العمل الواحد قد يكون في حالة حسنا وفي حالة قبيحا، ويكون أخلاقيا في مكان أو زمان، ومستهجنا في مكان أو زمان آخرين؛ لذلك كان من عمل علم الأخلاق أن يحدد لنا الحسن والسيئ، ويبين لنا إن كانا يتغيران بتغير الأزمان أو هما ثابتان لا يتغيران مع تغير العصر والإنسان.
وعلى الجملة فعلم الأخلاق يوضح لنا الحياة الأخلاقية، ويعين الوسائل لامتحان الآراء الأخلاقية التي تظهر في شكل عرف وعادات، ويعيننا على معرفة الغاية الأخيرة للحياة، ويساعدنا على النظر في النظم لإبقاء ما يصح منها للبقاء، وإصلاح الفاسد، ونبذ ما لا يصلح، ويبين المقياس الأخلاقي الذي به نحكم على الأعمال، وبه نهتدي في ميولنا وأفعالنا. وليس غرض هذا العلم مقصورا على معرفة مجهودات الإنسان وأشكال المعاملات وتأثيرها في حياتنا، بل من غرضه أيضا التأثير في إرادتنا وهدايتها، واستكشاف علة الحياة الأخلاقية، وتقويم الأشياء على قدر اعتمادها على إرادتنا وإرشادنا، إلى كيف نشكل حياتنا ونصبغ أعمالنا حتى نحقق المثل الأعلى للحياة، ونحصل خيرنا وكمالنا ومنفعة الناس وخيرهم. ويتذكر القارئ أنا ذكرنا في تمهيد الفصل الأول أن الحق الذي يكتسب من النظر الفلسفي ليس مقصورا على التأمل العقيم، بل نهاية هذا التأمل أن يستخدم في الحياة العملية، ونزيد هنا ما قاله الأستاذ «بولسن» في كتابه (نظام علم الأخلاق): «إن المقصد الأخير الذي دفع الناس إلى التأمل في طبيعة العالم سيظل دائما هو الرغبة للوصول إلى نتائج ترتبط بمعنى حياتنا ومنبعها والغرض منها، فأصل الفلسفة كلها والغرض منها يجب أن يتطلب إذا من علم الأخلاق.»
ذكرنا قبل أن سقراط وجه فكر اليونان إلى البحث في الإنسان، وكانت الفلسفة قبله منصرفة إلى العالم المادي، ومع أن سقراط فعل ذلك فقد كانت الأفكار الأخلاقية منثورة في أقوال الشعراء على شكل حكم وأمثال - ولم يكن ثم علم خاص بها - ولذلك كان أول ظهور الشعور الأخلاقي
3
عند اليونان إنما هو في شعرهم، وكان كما قال الفيلسوف الفرنسي «بول جانيه»: «إن الشعراء كانوا أول لاهوتي
4
عند اليونان، كما كانوا أول واعظ.» أما البحث الحقيقي في الحقائق الأخلاقية فأول من بدأ به عند الغربيين أفلاطون وأرسطو، ولا سيما أرسطو، ولكن أحدا منهما لم يخترع الحكم الأخلاقي على الأشياء؛ فقد كان الناس قبلهما بأزمان طويلة يحكمون على عمل بحكم وعلى غيره بآخر، ويميزون بين الحسن والسيئ، والأخلاقي وغيره، وإنما البحث العلمي يجمع الحقائق، ويبحث في البواعث والعلل، فيبحث مثلا في: لماذا كان القتل أو السرقة رذيلة؟ ولم كان الكذب غير أخلاقي والصدق أخلاقيا؟
نامعلوم صفحہ