إذا نحن امتحنا التفكير وجدناه يتركب من ثلاثة أعمال يعملها العقل: إحساس بالشيء أو المعنى، وتأثر العقل بهذا الشيء أو المعنى وإدراكه، وهذا هو الفهم في أبسط أحواله، بعد ذلك نبتدئ نؤلف بين فكرتين؛ فإما أن نقرن بعضهما ببعض، أو نفرق بينهما، أي إما أن نثبت وإما أن ننفي، وبذلك يتكون الحكم على الأشياء، وهذه الأحكام يظهر لنا بعضها صحيحا والبعض الآخر خطأ، وإذ كنا نحاول دائما الوصول إلى أحكام مقبولة عند غيرنا كما هي مقبولة عندنا، حاولنا أن نستكشف عللا وأسبابا تتبين منها وجوه خطأ الحكم وصحته، فقارنا الأحكام بعضها ببعض، ونظرنا في العلاقات التي بينها، وبحثنا فيما يقال مبتدئين من الجمل الأولى التي تسمى «المقدمات»، ومنتهين بما يسمى «بالنتيجة».
ولا حاجة بنا هنا إلى البحث فيما إذا كان الإدراك يمكن أن يقوم بنفسه من غير ألفاظ أو لا، وإذا كان فإلى أي حد يكون ذلك ؟ فإن هذه المسألة كانت ولا تزال موضع بحث علماء النفس والمناطقة، فمنهم من يؤيد القول بأنه من الممكن التفكير بدون الاستعانة باللغة، ومنهم من يذهب إلى أن ذلك غير ممكن، وأن التفكير من غير ألفاظ ضرب من الوهم الكاذب، وقد قرر «مكس ملر» مرارا أن الفكر واللغة حقيقة واحدة.
شبه ذلك بالنقد
1
فقال: «ليس ما نسميه بالفكر إلا وجها من وجهي النقد، والوجه الآخر هو الصوت المسموع، والنقد شيء واحد لا يقسم، فليس ثم فكر ولا صوت، ولكن كلمات.» وقد نوقشت نظرياته وعورضت. ومهما يكن فإن من المسلم به أننا عندما نتعقل شيئا أو نستنتجه نستعمل الألفاظ في الدلالة على عمليات العقل، ومن المتفق عليه أننا نشرح أفكارنا بالألفاظ والكلمات الخارجية؛ فقد وضعنا للشيء الذي في عقلنا اسما، ودللنا عليه بكلمة خاصة سميناها «اللفظ»، وبانضمام لفظين أو أكثر مع رابطة نستطيع أن نشرح رأيا أو حكما، وهذا هو ما يسمى «القضية»؛ ولأجل أن نبرر أقوالنا ونبرهن على صحتها ونوضح وجه قبول قول أو رفضه نضع القضايا ونستنتج منها نتائج، وهذه الأدلة المكونة من القضايا تسمى «الأقيسة»، فالمنطق - وهو علم التفكير الصحيح - يبحث في الألفاظ والقضايا والأقيسة.
هذا ولا يخفى ما في تحديد معاني الألفاظ من الفائدة، فكثيرا ما يثور الخلاف بيننا في مسألة ويشتد الجدال في موضوع، ويظهر أن المتجادلين على خلاف فيما بينهم، وهم في الواقع على اتفاق، ولو حددت ألفاظهم لتجلى لهم أنهم على رأي واحد، وليس منشأ الخطأ في الفهم إلا الغلط في تحديد الألفاظ أو غموضها وتعقيدها والتباسها؛ لذلك كان «فولتير» يبدأ المناقشة دائما بقوله: «حدد ألفاظك»؛ فالعلم بمعاني الألفاظ علما صحيحا لا يستغنى عنه للتفكير الصحيح ولا للحكم الصحيح.
وعندما نستخلص حقيقة من حقيقة أخرى نسمي ذلك «استنتاجا»، وليكون الاستنتاج صحيحا يجب أن نسير على مقتضى قوانين تعصمنا من الخطأ، وتمنعنا من الوصول إلى نتيجة باطلة.
والقوانين الأولية للفكر ثلاثة؛ وهي: (1)
قانون الذاتية: وهو أن كل شيء هو هو، وبعبارة أخرى: كل شيء هو نفسه . (2)
قانون التناقض : وهو أن لا شيء يمكن أن يكون هو وليس هو. (3)
نامعلوم صفحہ