92

عندما مات طانيوس المر، ظل بيت الفقيد مقصد المعزين أسبوعا كاملا، ليل نهار، وقد خيف أن يكون بلاء أهل الفقيد من كثرة المعزين أكثر من فقدهم المرحوم، ولكن هي العادة السورية في هذه الأحوال تأخذ مأخذها، وهو التقليد يجري مجراه، ولو تقطعت القلوب وتفتت الأكباد وتحطم إناء الصبر، أهل الميت يسمعون تعازي من أفواه المعزين، كأنها أمثولات تعلمها قائلوها من جملة الصلوات التي تقال كل يوم. وإني أنا كاتب هذه الحكاية أشعر بكل ما في من العواطف مع الفاقدين، ليس على من يفقد، بل على جلادتهم في استماع فلسفة التعازي.

إلا أنه من نعم المولى؛ أن الاصطلاح في التعزية أن يكون وقتها قصيرا جدا، فالمعزي يبقي قبعته بيده، وإذا كان في الشتاء يظل لابسا سترته العليا. وما الداعي إلى هذا الاختصار ميل من القوم إلى التخفيف عن أهل الميت، بل كثرة القادمين، حتى يضيق عنهم المكان، وإذ ذاك يخرج فوج ليعطي مكانا للفوج القادم جديدا.

أما أهل الميت، فجلوس بلا حراك، وآذان بلا ألسنة، وعيون تنظر أحضانها، وشفاه تتمتم كلمتين لكل قادم وكل مودع، وهما: «ورأسك سالم» جوابا على التحية في التعزية لدى الدخول والخروج، وهي: «عوضنا الله بسلامة رءوسكم.» والمرحوم طانيوس المر كنت أعرفه معرفة خارجية، فلم أزره في بيته بحياته، ولكن صديقي بطرس كرواني جذبني جذبا؛ لنأخذ خاطر أهل الفقيد، قائلا لي إن التعزية واجبة على كل عارف، ولا فرق، نسيبا كان أم صديقا أم من المعارف.

وهكذا كان، ذهبنا وكان حضرة صديقي أبرع مني في الكلام، فقد دخلت إلى بيت الميت، وأنا كالجنين في عالم التقاليد، فقد هممت بإلقاء التحية التي أقولها في كل الأوقات، إلا أن صديقي بطرس رفع كفه ووضعه على فمي، فجعلني أبلع «نهاركم سعيد»، ثم همس بأذني أن أقول: «الله يعوضنا بسلامتكم»، فقلت، وجلست، كأني من أهل الميت، على ما وصفت وأزيدهم بعدم التمتمة؛ لأن المسألة لا تعنيني، وبنظر الأشباح من كل جهة؛ لأن حضني كان مملوءا بسترتي المطوية، وفوقها قبعتي، وقد احمر وجهي خجلا؛ لأني كنت الوحيد النازع عنه سترته.

بعد سكوت خمس دقائق ، فتح بطرس فاه بالكلام، فقال: «قبل أن مات إسكندر الكبير عرف أن آخرته قد اقتربت، وأن أمه ستحزن عليه حزنا عميقا، فدعاها إليه قبل موته وقال لها: وصيتي إليك يا أماه أن تأدبي مأدبة بعد موتي، وتدعي إليها كل الناس، وعندما يجلسون إلى المائدة قولي لهم: إن من لم يذق حزنا على حبيب له، فليمد يده ويأكل. وهكذا كان. فبعد وفاته أدبت مأدبة، ودعت إليها جميع الناس، ولما جلسوا إلى المائدة قالت لهم ما أوصاها ابنها إسكندر أن تقوله، فلم يمد أحد يده للطعام؛ فعرفت إذ ذاك أن كأس الموت دائرة على الجميع، ولهذا تعزت في مصابها الجلل.»

سمعت هذه الموعظة، فكبر قائلها بعيني، وقلت في نفسي: يا ضيعان ما تعلمته في المدارس، والله إن بطرس فاقني بأسلوبه المعزي، وقال أحسن موعظة تقال في محلها، وكأني نسيت نفسي أني موجود في هيكل الصمت، فقلت لرفيقي: «أحسنت والله بهذه التعزية، إنها لحكمة منزلة.»

أما الحاضرون، ولم يكونوا كثارا؛ لأن زيارتنا لأهل الميت كانت بعد أسبوع، وقد بدأت حركة التعزية تقل، فقد سمعوا الموعظة الجميلة، كأنهم لم يسمعوا شيئا البتة، وقد عجبت لأمرهم، فقلت في نفسي: لعلهم طمطمانيون، لم يفهموا معنى الذي قيل أمامهم.

ولم يكد ينهي بطرس كلماته الدرية، حتى وافى البيت فوج مؤلف من ثلاثة رجال. ولأن المكان واسع والزوار قليلون، بقينا في أماكننا، بل بقي بطرس جالسا، واضطررت أن لا أتحرك؛ لأنه هو الزنبرك لهذه الزيارة.

ولما جلس القادمون جديدا، فتح أحدهم فاه بالكلام، وفيما هو يهم ليتكلم حزنت على نفسي، وقلت: يا الله؛ ما أجهلني! فإني لا أفهم شيئا من العادات والتقاليد، ولم أمرن نفسي على الكلام اللازم في كل حين. أما المتكلم فبدأ بقوله: «هذا حال الدنيا، الموت محتم على كل الناس، لا مهرب منه، كان إسكندر الكبير قد فتح الدنيا بأسرها، وهو في الثلاثين من عمره ...»

وفيما هو يخبرنا عن الإسكندر، قلت في نفسي موعظة ثانية تأتينا، وقد حتمت علي أن أقصد المكتبة العمومية بعد هذه الزيارة؛ لأطالع حياة ذلك الرجل العظيم، الذي كل تاريخه مواعظ لازمة للبشر في حالات المصائب، وقد تحولت إلى إصغاء تام؛ لأسمع المتكلم، فلا تفوتني الموعظة الثانية، ولكن شد ما كان فشلي عندما سمعت منه نفس الموعظة التي أخبرها بطرس، ولهذا استأت في داخلي أيما استياء.

نامعلوم صفحہ