75

هذه جملة من هذا الكتاب النفيس، وإني أنصح لكم أن تقرءوه، إذا سمح لكم الوقت؛ لأنه كبير الفائدة، ثمين البحث في عوامل النفس، وثوران العواطف، إذا هي ضلت السبيل، وتمردت على إرشاد العقل.

من الغريب أن الناس في تلك العصور كانوا يتوهمون أنهم بلغوا شأوا كبيرا من التمدن والرقي، مع أن آثارهم تدل على انحطاط وتأخر. أجل إنهم وضعوا أساسات الاختراعات والاكتشافات التي حسنها من جاء بعدهم، وصلت إلى الدرجة التي تتمتعون اليوم بثمارها، وأن بعضهم كانوا قد بدءوا يذكرون الحقائق الكبرى، ولكن هؤلاء هم الأفراد القلائل، أما الأكثرية فكانت تهزأ بتعاليمهم، وكثيرا ما كانت تضطهدهم.

من ذلك أن المذاهب الفلسفية، التي تعرف اليوم بأسمائها القديمة، كانت تدعى عندهم أديانا؛ أي إنهم كانوا يعتبرونها شرائع منزلة من السماء، يجب عليهم اتباعها بالحرف والمناضلة عنها، ومحاولة إقناع الآخرين بصحتها، وإكراههم على اعتناقها إذا تسنى لهم ذلك. فكان أتباع المسيح، وهم الأكثرية ولهم الصولة والحول، كثيرا ما يضطهدون المتمذهبين بمذهب موسى أو اليهود، وفي بلادنا الشرقية كان المسلمون يحتقرون النصارى وينبذونهم، وأحيانا يفتكون بهم، وهم أبناء جنس واحد، وبلاد واحدة، ولغة واحدة، لغير سبب إلا الاختلاف في المذهب الفلسفي. ولم تك «الوطنية» تلك الآفة التي سفكت باسمها دماء كثيرة، أقوى من العاطفة الدينية، إلا في بعض الدول التي كانت تدعي التفوق، وتفاخر بكونها جعلت الوطنية فوق الدين.

أواه يا سادتي، كم كانت الإنسانية تشقى في تلك الأيام السوداء، وما أسعدنا لوجودنا في عصر، أصبحت فيه تلك العقائد البربرية آثارا تاريخية، بدلا من أن تكون آفات حقيقية، تحرمنا السعادة، وتورثنا الشقاء والبلاء!

قلت إن بعض الدول التي كانت تدعي التفوق، وضعت الوطنية فوق الدين؛ أي إنها هربت من الدلف إلى تحت المزاب؛ فبدلا من أن تنحر باسم الدين، صارت تنحر باسم الوطنية، بطريقة أعم. وليس هذا فقط، بل تبرر عملها وتقدسه باسم الوطن . كلمة كان معناها ملتبسا على الناس، يؤولونها كما تشاء أغراضهم أو ميولهم البربرية، فكأن ضمير الإنسانية كان مائتا، أو متخدرا، أو كأن شيطان العالم لما فرغت يداه من سلاح الدين، اخترع سلاح الوطنية؛ لتظل الإنسانية راسفة في قيوده تحت قدميه.

في الجيل العشرين ظهر في البلاد الروسية مذهب البلشفة، الذي هو أقرب إلى الإخاء العمومي، الذي يتمتع العالم به الآن من كل مذهب تقدمه، ولكنه لم يلبث طويلا حتى مات؛ ذلك لأنه أخطأ استعمال الوسائل، فامتطى سيف الظلم لإبادة الظلم. وفي قبضة السيف عدوى تسربت إلى جسمه، فنخرت عظمه، وأخطأ أيضا بالتسرع؛ إذا حاول أن يهدم في عام ما بناه العالم في مليون عام، فكان نصيبه مثل نصيب أسلافه الكوميونسم والسان سيمونسم ... إلخ. على أنه لم يندثر تماما؛ إذ ترك آثارا في عقول المفكرين، الذين فحصوه وعرفوا مواضع الضعف فيه، فنبذوها واقتبسوا منه ما كان مفيدا ومطابقا لحاجات الإنسانية، فصارت العقول تتمخض به جيلا بعد جيل حتى ولدته كاملا.

أتدرون يا سادتي أن الشعوب القاصرة في أيامنا هذه، التي هي تحت وصاية إخوانها ممن هم أدرى منها، هي بالحقيقة أرقى مما كانت أمم الجيل العشرين جميعها؟ قد تستغربون هذا القول، ولكنه حقيقة راهنة؛ فشعوب أواسط أفريقيا مثلا لم تصل إلى ما وصلنا إليه من المعارف والتسلط على العناصر، ولكنها راغبة في الاستفادة، ساعية للتعلم، راضية بوصايتنا، مخلدة إلى السكون والمحافظة على الشرائع العمومية. بينما في الجيل العشرين، وفي بلادنا هذه عينها ثارت ثائرات القوم، وهدرت الدماء لانتداب فرنسا الوصاية عليهم، مع أن فرنسا كانت أرقى أمم تلك العصور، وما ذلك إلا لأن أغلب سكان سوريا كانوا من المحمديين، فرغبوا عن فرنسا، لا لذنب ارتكبته، أو لقصور أظهرته؛ بل لأنها على غير مذهبهم الفلسفي، الذي كانوا يسمونه دينا، كما ذكرت لكم سابقا.

تلك كانت حالتهم في أديانهم؛ جهل مطبق يقوده علم فاسد. فعامة الناس كانت جاهلة كنه الدين، وزعماء الدين من كهان وشيوخ، كانوا يضرمون فيهم عاطفة التعصب لمذاهبهم ، والبغضاء لمن كان خارجا عنها؛ ليظلوا في زعامتهم راتعين، وفي رقاب العامة مالكين. فلو تركوهم وشأنهم لاهتدوا إلى السبيل، وأدركوا سريعا كما أدرك من خلفهم على الأرض، أن الدين هو الأخلاق والأعمال، فإن تساوت في الناس بالرقي كانوا من دين واحد، ومذهب واحد، وما دون ذلك باطل، والباطل عدو الخالق وآفة المخلوق.

قلت إن ذلك الجيل، الذي نسميه مظلما، لم يخل من بعض المحاسن؛ فقد شهد تقدم الكهرباء تقدما يذكر، وإن كانوا لم يتوصلوا إلى الانتفاع منها، كما هي الحالة الآن. وشهد أيضا مولد المنطاد، واختراع المواد الانفجارية التي كانوا لبربرتهم يستعملونها في الحروب، للقتل والتدمير، فأصبحنا - وقد حسناها - نستعملها كقوة محركة أوجدت العجائب. وفي ذلك العصر بدأ العلماء والجراحون يدركون فوائد التطعيم البشري، ونقل الدم والغدد، ولكنه ظل في المهد حتى جاء الجيل الذي بعده، فتقدم، ولم يبلغ تمام نفعه إلا في الجيل الثاني والعشرين. وحسنوا قليلا في الأشعة الخارقة، التي كانوا يسمونها أشعة رنتجن نسبة إلى مكتشفها، واخترعوا الغواصات، ولكنهم لم يتوصلوا إلى استخراج الراديوم من الهواء، وحصر قوته الهائلة، فكل هذه الاختراعات والاكتشافات كانت لا تزال في المهد، لم يجنوا كل فوائدها. فكانت الأمراض منتشرة انتشارا كبيرا، والناس يموتون بالأوجاع والآلام، بدلا من أن ينطفئوا بهدوء وبلا ألم، كما هي الحالة الآن، بفضل الأشعة الخارقة، التي صرنا بواسطتها نستطيع أن نرى ما في داخل الجسم، كما نرى ما في خارجه، والأشعة البنفسجية، والأشعة الزرقاء، واستخدام الراديوم للتطعيم بالغدد الحية التي تصلح ما فسد من دم الإنسان، وتجدد فيه مادة الحياة، وغير ذلك من الأمور التي يطول شرحها.

وهنالك سبب آخر لكثرة أوجاعهم، وقلتها بيننا، وهو أنهم كانوا يفرطون في الأكل والشرب، فيحملون دماءهم سموما من المأكولات، لم تقو معدهم على هضمها كلها، ومن المشروبات الروحية السامة. بينما نحن الآن نكتفي بالأشياء المغذية، السريعة الهضم، كالخضر والفواكه والألبان، ونشرب علاوة على الماء؛ الأكسير، الذي هو عصير الفواكه، لا تزيد فيه كمية الكحول عن الاثنين في المائة. ولا نأكل اللحوم كما كانوا يفعلون، ففي بعض الخضر، كالعدس والفاصوليا، وفي اللبن والجبن، ما يغني عن المادة الغذائية في اللحوم، وعن سمومها أيضا. فبينما كان معدل التعمير في عصرهم من الخمسين إلى السبعين، وكان عدد الذين يموتون قبل الأربعين يعادل الثلث، نرى اليوم أن معدل التعمير أصبح فوق المائة، وأن الذين يموتون قبل السبعين لا يعدلون واحدا من مائة، وأكثرهم يموتون من حوادث طارئة غير منتظرة.

نامعلوم صفحہ