أظنك تعلم أيها القارئ العزيز، أن لا غاية لي من الكتابة والخطابة والتأليف، سوى نشر المبادئ الحرة، والتعاليم السديدة في الأمة، وأن من تجرد عن المآرب السياسية، وعن الأغراض الشخصية المادية، يرسل كلمته في الناس، دون أن يراعي خاطر أحد من الناس. منذ خمس سنوات عدت إلى وطني، من العالم الجديد، وحتى الآن ما عرفت من الرؤساء المدنيين والدينيين، إلا من أحب أن يعرفني، أو من جمعتني به التقادير، قضيت هذه المدة كلها بعيدا عن الرئاسة والسياسة، فبان لي أن في طاقة الإنسان أن يعيش سعيدا، دون أن يتزلف من السياسيين والأمراء، أو عمال الحكومة والرؤساء، نعم عشت محروما هذا الشرف العظيم، فكانت همومي الأدبية ومتاعبي السياسية أقل من هموم سواي من الأدباء.
عسى أن يعذر القراء مني هذه الكلمة الشخصية، فما قلتها إلا لأبني عليها قاعدة عمومية، هي جديرة باعتبار كل من زاول صناعة الكتابة، وأحب أن ينفع الناس بعلمه وأدبه، إن التقرب من العظام، وبالأخص أصحاب السيادة منهم، يفقد الكاتب مزية الحرية والاستقلال؛ هذه هي القاعدة العمومية، التي قلت من أجلها كلمتي الشخصية، تكلمت عن نفسي، وما كنت لأفعل ذلك في غير هذه الأحوال، لأؤكد لكم أيها الإخوان أن الآراء التي أبديها والمبادئ التي أنادي بها، إنما هي ثمرة علم لا يعرف التفريق والتحزب، ولا يفرق بين الجنسيات والأديان.
أحب أن أردد بعد هذا التمهيد، كلمتي السابقة عن المدارس الوطنية، وأردفها بكلمة ليست بأقل منها أهمية، وهي «صيحة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح تذهب غدا بالأوتاد.» إن الأمة العثمانية لا تصير حقا أمة واحدة متحدة راقية، إلا إذا تأسست في البلاد المدارس الوطنية العثمانية المجانية الإجبارية، وتلقن فيها العلوم أبناء المسلمين، وأبناء الدهريين، وأبناء المسيحيين، وأبناء اليهود معا. بقي علي أن أقول كلمتي الأخرى: إننا لا نصير أمة راقية حرة بكل معنى الكلمتين، إلا متى صار أدباء المسيحيين وأدباء المسلمين يتباحثون في أي موضوع كان، دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا، دون أن يثير ذلك في شعب الملتين غبار الجهل، وسموم التعصب، بل إذا كان لا يحق للمسلم أن ينتقد المسيحيين في شئونهم العمومية الاجتماعية، ولا للمسيحي أن ينتقد المسلمين، فلسنا والله بأمة واحدة، وليس وطننا بذاك الوطن المجيد الجامع، الذي يعبد في هيكله كل أبنائه، على اختلاف المذاهب والعناصر والجنسيات، بل إذا كنا لا نتجرد عن صبغاتنا الدينية، في شئوننا الوطنية والاجتماعية، فحريتنا أيها الناس كلمة مقولة، وإخاؤنا لفظة غير معقولة، والمساواة عندنا قاعدة باطلة مرذولة.
نعم يا سيدي، إذا كان إخواننا المسلمون، لا يساعدوننا في نشر التعاليم الحرة في الأمة، إذا كانوا لا يؤيدون قولا وفعلا آراء آباء الحرية والدستور، إذا كانوا لا يرددون صدى أحرار المغرب وعلمائه، ومن ينحو اليوم في الشرق نحوهم من الأحرار الأصفياء والعلماء؛ فعبثا يحاول أبطال الدستور والحرية تجديد حياة الأمة، والمسلمون العنصر الأساسي في الأمة. وأما انتصار الجيش، فلا مجد عظيم فيه، إن لم يتبعه انتصار في العلم والتهذيب؛ لأن الجيش وإن دمر معاقل الحكومة الاستبدادية، فنصره لا يزيل الجهل الذي أسست عليه تلك الحكومة، وما زال الجهل سائدا في الأمة، سيان عندي إن كانت الحكومة فردية استبدادية، أو حرة نيابية، إن لم تباشر الحكومة في تدمير حصون الجهل. إذن يعود الجهل فيدمر حصون الحكومة، ولا يتم لها ذلك إلا في تأسيس المدارس العمومية الوطنية، مجردة عن كل صبغة دينية؛ حيث أولاد المسلمين، والمسيحيين، واليهود، والدهريين، يتلقنون كلهم العلوم على أستاذ مدني واحد، وتحت سقف واحد، ومن كتاب واحد، وعلى طريقة وطنية واحدة. وما هذه ببدعة أنادي بها؛ فإن مكتب الصناعة في هذه المدينة، أسس على هذه الطريقة الوطنية، وحبذا لو أحيته اليوم الحكومة، فيكون مثالا للمدارس العثمانية العمومية الإجبارية. وعبثا نحاول توحيد العناصر المتعددة في الأمة، إذا كان التعليم لا يوحد على هذه الطريقة الوطنية الجامعة الحرة.
جلست مرة في قهوة من قهاوي البحر، أتفرج على الناس يسبحون، تأملتهم في تلك الحالة الطبيعية، وقد تجردوا عما يميز البعض منهم عن البعض، وقلت في نفسي: أين المسلم الآن؟ وأين اليهودي؟ وأين الكافر؟ وأين المسيحي؟ رأيتهم يسبحون كلهم في بحر واحد ، تحت سماء واحدة، وهم لا يستنكفون من أمواج تلعب حول قلوبهم، كأنها قلب واحد، وتغسل أجسامهم كأنها كلها جسم واحد. فقلت في نفسي: متى يا ترى تصير عقولنا مرنة نشيطة قوية كأجسامنا؟ متى تصير أنفسنا كأمواج هذا البحر، فلا تخضع إلا لناموس واحد، هو ناموس الله؟ أو في الأقل، متى تصير متساهلة كأبداننا، فتسبح في بحر الآداب الواحد، وتحت سماء العلوم الواحدة، دون تنافر ودون شقاق؟
نظرت إلى البحر وأنا جالس في تلك القهوة، فرأيت هناك المدرعات الحربية الأوروبية، ومنها المدرعتان الإفرنسيتان «لاڨريته» و«فكتور هوغو»، فكرهت الإقامة في بلاد لم تزل تحتاج فيها إلى مثل هذه المظاهرات الكاذبة، وهل كنا نشاهد المدرعات الأوروبية بصفة رسمية في بحرنا لو تأسست عندنا المدارس العمومية الوطنية، منذ ثلاثين سنة، هل كانت تلطخ المذابح تاريخنا، فتلحق بنا وبوطننا العار والشنار، لو وحد منذ ثلاثين سنة التعليم، فنمت في قلوب العثمانيين عاطفة وطنية شاملة، وانتشر روح التساهل الديني في الأمة؟
لا يا إخوتي، أنا لا أحب أن أرى هذه المدرعات على شطوط بلادنا، أنا لا أحب أن يلتجئ أحد عناصر الأمة إلى دولة أوروبية، أنا لا أحب أن أرى «فكتور هوغو» في بحر بيروت، بل أحب أن أشاهد روح فكتور هوغو متجلية في أرواح أبناء بيروت، لا أحب أن أرى «الحقيقة» على شواطئ سوريا، بل أحب أن أراها في قلوب أبناء سوريا، أحب أن تحمينا المبادئ السديدة، لا المدافع والمدرعات، أحب أن يحمينا العلم الخالص من الغش والتعصب المجرد من كل مصلحة جنسية أو دينية، أحب أن يحمينا الإخاء العثماني، والجند العثماني، والعلم العثماني. (1) الكنيسة والجامع
1
لم أر بين سائر أماكن العبادة التي أعرفها (وقد حملت نفسي المنسحقة وركبتي التعبتين إلى هياكل عديدة) أفضل من الجامع، وما أدراك ما الجامع! هو المكان الذي يؤثر علي بديموقراطيته أكثر من سواه، لما فيه من شواعرها المتنوعة، فليس في الجامع ما يداهن الأغنياء، أو يكسر قلوب الفقراء، أو يرد ثقيلي الأحمال، أو يغفل الورعين. وليست بشاشة الجامع بمقاعده المزدوجة، ولا رغبة الناس فيه لصدقاته، والخدمة التي تقام فيه نهار الجمعة مأخوذة من القرآن، ولهذا لا تحرف ولا تبدل، بل هي دائما لحن من البلاغة، تعشقه الأسماع، فيحدث خشوعا في القلوب لدى اتجاه الأفكار نحو العلاء.
الجامع كبير، يسع عادة جماعة الخطباء، حتى والعابدين النوام، ويبقى بعد ذلك فراغ لا يحد، فالمنبر لا يكون أبدا قريبا من الزوايا الساحرة الشكل، التي تظل جماعة المسلمين ونفوسهم، وهم على اختلاف طبقاتهم، يجتمعون للصلاة تحت سقف واحد، فتجد بينهم درويشا متمتعا، وشحاذا أعمى، وحمالا منهوك القوى، وأعرابيا عليه غبار البرية البعيدة، وكلهم يؤمون الجامع، بتمام ورع وخشوع، طلبا للراحة بعد العناء، أو لإغماض عيونهم لغفوة قصيرة، فبعضهم يسجدون أمام المحراب، وآخرون يتمددون على الرخام البارد، تحت الأروقة، حين يكون شيخ جليل، أو أمير عريق في النسب راكعا على سجادة عجمية ثمينة، يخر ساجدا ثم ينهض قائما في صلاته.
نامعلوم صفحہ