ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
اصناف
لا تنطبق هذه العملية على تنمية القدرات الفكرية فحسب، وإنما تنطبق أيضا على تنمية صفاتنا الوجدانية، مثل الرأفة. فمن خلال التفكير النقدي ندرك قيمة الرأفة. ويمكن لهذا أن يؤدي بدوره إلى تقدير عميق للفضيلة نفسها. ويؤدي هذا التقدير للفضيلة بعد ذلك إلى الالتزام بتنمية الرأفة داخل أنفسنا، فيؤدي ذلك إلى الممارسة الفعلية. بعبارة أخرى، فإن الوعي بالفوائد يؤدي إلى الاقتناع بأن الفضيلة أو الصفة تستحق عناء ممارستها، وتقودنا الممارسة إلى تحقيق هذه الفضيلة التي بدأنا بالتفكر فيها، أو تجسيدها. (2) أشكال التنمية العقلية
تؤكد جميع التقاليد الدينية الكبرى أهمية تنمية الحياة الداخلية للفرد، والعديد من التقنيات التي تذكرها تقاليدي الدينية موجودة كذلك بشكل أو بآخر في تقاليد أديان أخرى. فعلى وجه الخصوص، هناك العديد من أوجه التشابه بين ممارسات التدريب الذهني المختلفة المستخدمة في مختلف التقاليد التأملية الهندية. وتوجد مساحات كبيرة مشتركة مع التقاليد الروحية الأخرى كذلك. مؤخرا على سبيل المثال، حضرت خطابا غنيا بالمعلومات وممتعا للغاية عن الصلاة التأملية قدمه راهب كرملي مسيحي أشار إلى بعض أوجه التشابه المدهشة بين كل من الأساليب المسيحية والبوذية.
بالرغم من هذا، ومع أوجه الصلة الكثيرة التي تجمع بين التأمل أو التنمية العقلية والدين، فما من سبب يحول دون ممارستها في سياق علماني بالكامل. فبالرغم من كل شيء، لا يستلزم الانضباط العقلي نفسه أي التزام ديني. كل ما يتطلبه الأمر هو إدراك أن تنمية عقل أهدأ وأصفى هو مسعى جدير بالجهد، وتفهم أن القيام بذلك سيعود بالنفع علينا وعلى الآخرين. فيما يتعلق بممارستي اليومية، فإنني إضافة إلى بعض الممارسات الدينية والتعبدية المحددة، أمارس نوعين رئيسيين من التنمية العقلية: التأمل «الاستطرادي» أو «التحليلي»، والتأمل «الاستيعابي». يعد الأول نوعا من العمليات التحليلية التي ينخرط المتأمل من خلالها في سلسلة من التأملات، بينما يتضمن الثاني التركيز على موضوع أو هدف محدد وانشغال العقل به، مثل التأمل بعمق في استنتاج ما. وأنا أجد أن الجمع بين الأسلوبين مفيد للغاية.
من الطرق التي تساعد على فهم الأشكال المختلفة للتنمية العقلية، تناول كل ممارسة من منظور هدفها. يوجد على سبيل المثال، الممارسة التي تتمثل في «تحديد هدف»، كما هو الحال عندما يتخذ المرء، مثلا، المساواة الأساسية بين جميع الكائنات هدفا لتأمل عميق. وتوجد أيضا الممارسة التأملية التي تتمثل في «تنمية الصفات الذهنية الإيجابية». في هذا النوع من التأمل، لا تعد الصفات على غرار الرأفة والحنان الناشئ عن الحب، أهدافا للممارسة. بدلا من ذلك، يسعى الشخص إلى تنمية هذه الصفات داخل قلبه. يتوافق أول هذين النهجين مع تنمية الحالات الذهنية التي تميل بدرجة أكبر إلى الإدراك، مثل الفهم، بينما يتوافق الثاني مع تطوير الحالات الذهنية التي تميل بدرجة أكبر إلى الوجدان، مثل الرأفة. يمكننا الإشارة إلى العملية الأولى باعتبارها «تربية لعقولنا»، والإشارة إلى الثانية باعتبارها «تربية لقلوبنا».
ولأننا نعيش في عصر يمكن القيام فيه بالكثير بضغطة زر، فقد يتوقع بعض منا أن يرى تغيرا فوريا في مجال تنمية العقل كذلك. قد نفترض أن التحول الداخلي ليس سوى مسألة الحصول على الصيغة الصحيحة أو تلاوة الترانيم الصحيحة. وهذا خطأ بالطبع. ذلك أن تنمية العقل تستغرق وقتا وجهدا، وتستلزم العمل الجاد والتفاني المستمر. (3) التعامل مع التسويف
بالنسبة إلى المبتدئين، فإن الشرط الأول لتنمية العقل هو الالتزام الجاد بالممارسة. فمن دون هذا الالتزام، من غير المحتمل أن يشرع الشخص في الأمر على الإطلاق! أحيانا أحكي قصة تتعلق بمشكلة التسويف. ذات مرة، وعد لاما طلابه، تشجيعا لهم، بأنه سيأخذهم في نزهة في يوم من الأيام. كان لهذا الحافز الأثر المأمول، واجتهد الرهبان الشباب في دراساتهم بكل حماس. لكن النزهة الموعودة لم تتحقق. بعد مرور بعض الوقت، ذكر الطالب الأصغر المعلم بوعده؛ إذ أبى التخلي عن احتمالية أخذ يوم عطلة. رد اللاما قائلا إنه مشغول للغاية في الوقت الحالي، ولذلك سيتعين تأجيل العطلة بعض الوقت. مر وقت طويل، وأفسح الصيف الطريق للخريف. مرة أخرى، ذكر الطالب اللاما قائلا: «متى سنذهب في هذه النزهة المزعومة؟» أجاب اللاما مرة أخرى، قائلا: «ليس الآن، أنا مشغول جدا بالفعل.» لاحظ اللاما ذات يوم اضطرابا بين الطلاب. فسأل: «ماذا يجري؟» كانت هناك جثة تنقل خارج الدير. وأجاب الطالب الأصغر: «حسنا، ذلك الرجل المسكين هناك ذاهب في نزهة!»
المغزى من هذه القصة أننا إذا لم نخصص للأشياء التي نقول لأنفسنا والآخرين إننا سنقوم بها، ما يلائمها من وقت والتزام، فستكون لدينا دائما التزامات أخرى واهتمامات أكثر إلحاحا، بينما قد يحل الموت في أي وقت. (4) التخطيط لممارستنا
في البداية، يجب أن أدق ناقوس الإنذار. فمثلما سيلاحظ المتأمل المبتدئ، العقل كالحصان البري الجامح. فعلى غرار الحصان البري، يستغرق العقل وقتا طويلا قبل أن يهدأ ويطيع الأوامر، إضافة إلى عامل التعود على الشخص الذي يرغب في ترويضه. وبالمثل، فإن الفوائد الحقيقية للتأمل لن تظهر إلا مع المثابرة اللطيفة على مدار فترة ممتدة. لا بأس بالطبع في تخصيص بضعة أيام فقط لتجربة برنامج قصير للتدريب العقلي، لكن من الخطأ الحكم على النتائج قبل أن تعطي للأمر فرصة حقيقية. قد يستغرق الأمر شهورا، وحتى سنوات، لتحقيق فوائده الكاملة.
فيما يتعلق بمواصفات الممارسة، فالصباح الباكر هو أفضل وقت في اليوم بصفة عامة. في ذلك الوقت، يكون العقل في أوج نشاطه وصفائه. ومع ذلك، من المهم أن تتذكر أنك إذا أردت الممارسة جيدا في الصباح الباكر، فإنك تحتاج أن تنال قسطا وافرا من النوم الجيد في الليلة السابقة. بالنسبة إلي، علي الاعتراف بأنني محظوظ للغاية فيما يتعلق بالنوم. على الرغم من استيقاظي كل صباح في حوالي الساعة الثالثة والنصف صباحا، فأنا أحرص على نيل ثماني ساعات أو تسع من النوم العميق. قد يكون القيام بهذا صعبا على كثير من الناس. إذا كان هناك أطفال صغار في المنزل مثلا، فقد لا يكون من الممكن التأمل في الساعات المبكرة من اليوم. إذا كان هذا هو الحال، فمن الأفضل إيجاد وقت آخر للممارسة، ويفضل أن يكون ذلك بعد غفوة قصيرة أو عندما يكون الأطفال خارج المنزل. يجب أن أشير أيضا إلى أن العقل سيميل إلى التكاسل بعض الشيء إذا أكلت كثيرا قبل الممارسة. فالخيار الأمثل ألا تأكل كثيرا في المساء إذا كنت ترجو ممارسة جيدة في صباح اليوم التالي.
أما عن مقدار الوقت الواجب تخصيصه للتأمل؛ ففي المراحل الأولى يكون من عشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة في كل جلسة كافيا تماما. حقيقة الأمر أن وضع طموحات متواضعة أفضل من البدء في برنامج غير مستدام سيحبطك على الأرجح ولن يساعدك على ترسيخ عادة ما. من المفيد أيضا أن تخطط للممارسة لبضع دقائق على مدار عدة مرات في اليوم إضافة إلى الجلسة الرئيسية. فمثلما تحافظ على اشتعال النيران بتأجيجها بين الحين والآخر، يمكنك الحفاظ على استمرارية تأملك من خلال «الإضافة إليه» بين الحين والآخر كي لا يتلاشى ما اكتسبته سابقا بالكامل بحلول الوقت الذي تبدأ فيه الجلسة الكاملة التالية.
نامعلوم صفحہ