ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
اصناف
من حسن الحظ أنه يوجد اليوم بعض الأشخاص المميزين الذين يشاركون، من خلال نشاطهم الخيري، ثروتهم الضخمة مع المحتاجين والفقراء في كثير من بقاع العالم، ولا سيما في مجالي الصحة والتعليم. فقد ذكرت مسبقا بيل جيتس وميليندا جيتس اللذين يبذلان الكثير للآخرين من خلال عملهما الخيري. أعرف أيضا بصفة شخصية العمل الخيري الرائع الذي يقوم به بيير وباميلا أميديار اللذان يسهمان بجزء كبير من ثروتهما لمساعدة الآخرين. عندما أقابل مثل هؤلاء الأفراد، أعرب دائما عن تقديري لكرمهم تجاه المحتاجين حول العالم. ولذلك فإنني أناشد مرة أخرى جميع من يتمتعون بالمستويات نفسها من الثروة إلى التفكير بجدية في مشاركة مواردهم مع الآخرين من خلال العمل الخيري.
ومع ذلك، فليس شديدو الثراء فحسب هم من يجب عليهم التفكير بجدية في العطاء. فحتى ذوو الموارد المحدودة يجنون فوائد كبيرة من الكرم؛ إذ يفتح قلب المرء ويمنحه الشعور ببهجة التعاطف تجاه الآخرين وتوطيد أواصر الصلة بهم. إن إعطاء السلع المادية هو أحد أشكال الكرم، لكننا نستطيع التوسع في موقف الكرم ليشمل سلوكنا كله. إن الطيبة، والانتباه، والصدق في التعامل مع الآخرين، وتقديم الثناء عند استحقاقه، وتوفير الراحة والنصيحة أينما تجلت الحاجة إليهما، وحتى مجرد مشاركة وقت المرء مع شخص ما، كل ذلك من أشكال الكرم، ولا تتطلب أي مستوى خاص من الثروة المادية. (6) الفرح في العطاء
من الجوانب المهمة لممارسة الكرم في رأيي الاستمتاع به. في التقليد الهندي الكلاسيكي، توجد عادة لتكريس أعمال الكرم من أجل هدف إيثاري أسمى. يساعد هذا في ضمان ألا يكون الكرم أعمى أو مدفوعا بمحاباة أو تحيز، بل موجها نحو الصالح الأعم للبشرية بأسرها. تتيح أيضا عادة التكريس لمقدم العطاء أن يفرح بعطائه. إن الاستمتاع بالعطاء مفيد للغاية؛ لأنه يجعلنا أكثر ميلا إلى الانخراط في أعمال الطيبة والإحسان المماثلة في المستقبل.
الرائع في العطاء أنه لا يفيد المتلقي فحسب، بل يجلب على مقدم العطاء أيضا فوائد بالغة. وكلما مارسنا العطاء، ازداد استمتاعنا به.
الفصل الحادي عشر
التأمل كتنمية للعقول
لقد استكشفنا الآن بشيء من التفصيل ما تستلزمه الحياة الروحانية والأخلاقية على مستوى الممارسة الشخصية. فناقشنا بعض الطرق لتنمية الوعي واليقظة في الحياة اليومية، وبعض الطرق التي تمكننا من زيادة الوعي حتى نستطيع تعلم إدارة مشاعرنا وضبطها، وأخيرا عرضنا بعض الطرق لتنمية قيمنا الداخلية. ولما كانت جميع هذه الممارسات، لا سيما الأخيرتين، تنطوي على درجة معينة من الاستخدام المنضبط للعقل؛ ففي هذا الفصل الأخير أود أن أقول بضع كلمات عن تنمية الانضباط العقلي. بالنسبة إلي، تمثل هذه التنمية أمرا لا غنى عنه في الحياة اليومية. فهي من ناحية تساعدني دوما في تقوية عزمي على مراعاة الرأفة في تصرفاتي لتعزيز رفاهية الآخرين. ومن ناحية أخرى، تساعدني في كبح تلك الأفكار والمشاعر المؤذية، التي تهاجمنا جميعا من حين لآخر، وفي الحفاظ على هدوئي الذهني.
ما أعنيه بالتنمية العقلية هو استخدام منضبط للعقل ينطوي على تعميق معرفتنا بشيء أو موضوع معين. في هذا السياق، أفكر في المصطلح السنسكريتي «بهافانا» الذي يعني ضمنيا «التنمية»، ومعادله التبتي «جوم» الذي يشير إلى «التعود». وهذان المصطلحان اللذان غالبا ما يترجمان بمصطلح «التأمل»، يشيران إلى مجموعة كاملة من الممارسات الذهنية وليس إلى الطرق البسيطة للاسترخاء فحسب مثلما يفترض الكثيرون. ذلك أن المصطلحين الأصليين يشيران إلى عملية تنمية الألفة بشيء ما، سواء أكان ذلك الشيء عادة، أم طريقة للنظر في الأمور، أم طريقة للوجود. (1) عملية التحول
كيف إذن تؤدي عملية التنمية العقلية هذه إلى التحول الروحاني والداخلي؟ قد يكون من المفيد هنا أن نستدعي فكرة «المستويات الثلاثة للفهم»، التي نجدها في النظرية البوذية الكلاسيكية للتحول العقلي. تتمثل هذه المستويات فيما يلي: الفهم المستمد من السمع (أو التعلم)، والفهم المستمد من التفكر، والفهم المستمد من التجربة التأملية. على سبيل المثال، فكر في الأشخاص الذين يسعون إلى فهم طبيعة عالم اليوم الذي يتسم بالاعتماد المتبادل. ربما يعرفون بشأنها أولا من خلال الاستماع إلى شخص يتحدث عن هذه المسألة أو عن طريق القراءة عنها. لكن إذا لم يتفكروا بعمق فيما يسمعونه أو يقرءونه، فسيظل فهمهم سطحيا وقريبا للغاية من مستوى معرفتهم بمعنى الكلمات. على هذا المستوى، سيكون فهمهم لحقيقة معينة هو محض افتراض مستنير. أما حين يتفكرون بعد ذلك على نحو أعمق في معنى الأشياء، ويستخدمون التحليل مع التمعن بانتباه في الاستنتاج الذي توصلوا إليه، ينشأ شعور عميق بالاقتناع بصحة الحقيقة. هذا هو المستوى الثاني في عملية الفهم. وأخيرا، مع استمرارهم في تنمية معرفة عميقة بالحقيقة، يصبح استبصارهم لها باطنيا، حتى تكاد أن تصبح جزءا من طبيعتهم هم أنفسهم. يصلون بعد ذلك إلى المستوى الثالث من الفهم، الذي تصفه النصوص الكلاسيكية بأنه تجريبي وتلقائي وعفوي.
ما من شيء غامض في عملية التحول هذه. الواقع أنها تحدث في حياتنا اليومية. وهي تتضح جيدا في عملية اكتساب مهارة ما كالسباحة أو ركوب الدراجة؛ إذ يكون العامل الرئيسي هو الممارسة الفعلية. في سياق التعليم على سبيل المثال، يكون هذا التقدم الذي يبدأ بالسمع أو التعلم ويليه تعمق الفهم من خلال التفكير النقدي ثم التوصل إلى قناعة، أمرا معتادا للغاية. فمن المعروف جيدا على سبيل المثال، أن المعرفة المستندة إلى الاستماع أو القراءة فحسب دون معالجة من خلال التفكير، لا تؤدي إلى قناعة قوية. ولهذا السبب، فلا يمكن أن تؤدي إلى أي تغيير حقيقي. لكن إذا اكتسبنا من خلال التفكير النقدي، قناعة عميقة بما تعلمناه، فسيؤدي ذلك إلى التزام جاد من جانبنا لكي نجعل هذه المعرفة جزءا من منظورنا الشخصي.
نامعلوم صفحہ