ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
اصناف
من الأبعاد المهمة في ممارسة الصبر أو التحمل، تنمية درجة أكبر من تقبل المعاناة والصعوبات التي هي في الواقع، أجزاء لا مفر منها في وجودنا. يأتي هذا التدريب على الصبر في شكل تكوين موقف من التقبل الأصيل لحقيقة أن الحياة تنطوي على المشقة. إن إنكار المعاناة أو توقع أن تكون الحياة سهلة، لا يعود على الإنسان إلا بمزيد من البؤس. لست أعني بقولي هذا أن المعاناة جيدة في حد ذاتها، إنما أعني أن التقبل سيسهل من تحملها.
في أسفاري حول العالم، لاحظت أن الناس في البلدان الأقل تطورا، حيث الحياة الصعبة من الناحية المادية، يبدون في كثير من الأحيان أكثر رضا من سكان البلدان الأكثر ثراء، الذين يعيشون حياة سهلة نسبيا. ذلك أنه تحت ذلك الثراء الخارجي في المجتمعات المتقدمة ماديا، يكمن قدر كبير من القلق الداخلي وعدم الرضا، أما في البلدان الأفقر فعادة ما يدهشني الفرح البسيط الذي يلاقيه المرء في معظم الأحيان. كيف نفسر هذا؟ يبدو أن المشقة إذ تضطرنا إلى التحلي بقدر أكبر من الصبر والتحمل في الحياة، تجعلنا في الواقع أقوى وأكثر صمودا. فمن اختبار المشقة بصفة يومية، تتولد لدينا قدرة أكبر على قبول الصعوبات دون فقدان شعورنا الداخلي بالهدوء. لقد لاحظت هذا أيضا في بعض أصدقائي الأوروبيين. فهؤلاء الذين ينتمون إلى جيلي، ممن عايشوا صعاب الحرب العالمية الثانية، يبدو أنهم يتحلون بقدر من التحمل وقوة الشخصية بدرجة أكبر من الأجيال الأصغر سنا الذين لم يسبق لهم أن واجهوا مثل هذه الصعوبات. إن تجربة فقد الأصدقاء والعائلة، والعيش في حالة من عدم اليقين، والاكتفاء بالقليل جدا من الغذاء، قد زادت هذا الجيل صلابة على ما يبدو. إنهم أكثر قدرة على التعامل مع الشدائد دون أن يفقدوا روح الدعابة. لا أريد بالطبع أن أدافع عن اتخاذ المشقة نهجا للحياة، بل أريد أن أبين فحسب أن التعامل مع المشقة على نحو بناء من خلال رؤية فوائدها، يمكن أن يعود علينا بالقوة الداخلية والجلد.
لكن كيف لنا أن نتعامل مع العقبات المعتادة في الحياة؟ مرة أخرى، أجد نصيحة شانتيديفا، المفكر الهندي الذي عاش في القرن الثامن، مفيدة للغاية.
إذا كان ثمة حل،
فما الحاجة إذن للبؤس؟
وإذا لم يكن ثمة حل،
فما المغزى إذن من البؤس؟
إنني أسمي هذه النصيحة بنهج «لا حاجة، لا مغزى» في التعامل مع المشكلات. إذا كان للمشكلة حل، فينبغي ألا تكون سببا للقلق المفرط. وبدلا من الشعور بالعجز، ما علينا سوى العمل بهمة للوصول إلى الحل. وإذا استنتجنا بعد دراسة متأنية أنه لا يوجد حل، فلن نجني شيئا من القلق. والحق أننا كلما أسرعنا في تقبل عدم وجود حل للمشكلة، كان من الأسهل علينا مواصلة حياتنا. ففي كلتا الحالتين، لا فائدة من القلق المفرط! ذلك أن الأمر لا يتوقف عند انعدام جدواه فحسب، بل يمكن أيضا أن يؤذينا بشدة؛ إذ يجعلنا أضعف، والأسوأ أنه قد يؤدي إلى الاكتئاب.
لا أعنى بهذا بالطبع أن علينا «الاستسلام» للمعاناة. على العكس من ذلك؛ إذ إن «تقبل» المعاناة لا يتضمن الاستسلام إطلاقا، بل هو الخطوة الأولى في مكافحة ضررها. فحين نتقبل المشقة، نبدأ في إدراك أنها ليست سلبية تماما. ذلك أنها قد تكون على سبيل المثال، قوة هائلة تجمعنا بالآخرين من خلال إحياء خصلتي التعاطف والرأفة فينا. والأهم من ذلك كله أن المعاناة تساعدنا في إدراك صلة القرابة التي تجمع بيننا. وبهذا الإدراك، لا نعود نشعر بالهزيمة أمام الصعوبات، بل نكتسب القوة التي نحتاج إليها لمواجهة التحديات التي نجدها في حياتنا.
يمكن أن تكون المعاناة الشخصية أيضا حافزا للنمو الروحاني الفردي. فإضافة إلى ما تعطينا إياه من قوة، يمكن أيضا أن تمنحنا شيئا من التواضع وأن تساعدنا على أن نكون أكثر انسجاما مع الواقع. إن جميع التقاليد الدينية الكبرى في العالم تقر بهذه الآثار للمعاناة. ثمة شيء آخر أيضا شعرت به في حياتي الخاصة. ذلك أنني لا أشك إطلاقا في أن تجربتي في المنفى قد منحتني فهما للحياة أعمق مما كنت سأكتسبه لو أنني ما زلت أعيش في التبت بصفتي حاكم البلاد الذي يتمتع بامتيازات. (1-3) الصبر من خلال تأمل الواقع
نامعلوم صفحہ