ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
اصناف
إن هذا الاعتراض يستند في رأيي إلى سوء فهم أساسي لما تستلزمه ممارسة الرأفة. فلا يوجد شيء في مبدأ الرأفة: الرغبة في رؤية الآخرين وقد خففت عنهم المعاناة، ينطوي على الاستسلام لمظالم الآخرين. ثم إن الرأفة لا تستلزم أن نقبل الظلم بخنوع. إن الرأفة بعيدة كل البعد عن تعزيز الضعف أو السلبية؛ إذ إنها تستلزم ثباتا عظيما وشخصية قوية.
لقد كانت الرأفة العالمية هي الدافع لدى البعض من أعظم محاربي الظلم في العصر الحديث، وقد كانوا من ذوي الشخصية القوية والعزم، ومنهم المهاتما غاندي والأم تيريزا ونيلسون مانديلا، ومارتن لوثر كينج الابن، وفاتسلاف هافيل، وغيرهم. لا يمكن للمرء أن يصف مثل هؤلاء الأشخاص بالخنوع أو التقاعد لمجرد أنهم جمعوا بين تفانيهم من أجل تحقيق صالح الآخرين وبين التزامهم بالممارسات السلمية ورفض العنف. •••
فمثلما قلت إذن، لا تتضمن الرأفة بأي حال من الأحوال الاستسلام في وجه الاعتداء أو الظلم. عندما يستلزم أحد الأوضاع غير العادلة استجابة قوية، كما هي الحال بشأن سياسة التمييز العنصري، فإن الرأفة لا تتطلب أن نقبل بالظلم، بل أن نأخذ موقفا ضده. إنما تقتضي فحسب أن يكون مثل ذلك الموقف غير عنيف. لكن اختيار اللاعنف ليس علامة على الضعف، بل هو علامة على الثقة بالنفس والشجاعة. حين يصبح الأشخاص على خلاف ما، فإنهم لا يفقدون أعصابهم عادة ويلجئون إلى الصراخ وحتى إلى العنف، إلا حينما تنفد حججهم. لكن عندما يشعر أطراف النزاع بالثقة في أن الحق إلى جانبهم، يظلون في كثير من الأحيان هادئين ويواصلون مناقشة قضيتهم. ولهذا، فإن التحلي بسلوك هادئ وغير عنيف هو في الواقع دلالة على القوة؛ لأنه يوضح الثقة النابعة من تأصل الحق والعدالة في جانب المرء.
يمكننا توضيح هذه النقطة المتعلقة بضرورة الوقوف في وجه الظلم مع التحلي بالاهتمام النابع عن الرأفة تجاه الشخص المعتدي، من خلال مثال على مستوى شخصي. تخيل أن لك جيرانا يتسمون بصعوبة المراس، ويتصرفون تجاهك بعدوانية على نحو متكرر. فما الرد المناسب في هذه الحالة الذي يمكن اتخاذه على أساس الرأفة؟ وفقا لفهمي، فما من سبب لأن تمنعك الرأفة، بما في ذلك بالطبع الرأفة تجاه المعتدين، من اتخاذ رد فعل قوي. وحسب السياق، فإن عدم الاستجابة بإجراءات قوية، ومن ثم السماح للمعتدين بمواصلة سلوكهم التخريبي، يمكن حتى أن يحملك جزءا من المسئولية عن الضرر الذي يواصلون التسبب فيه. إضافة إلى ذلك، فإن عدم اتخاذ أي إجراء للتصدي لمثل هذا السلوك يشجع في حقيقة الأمر هؤلاء الأشخاص التعساء، كما أنه سيؤدي على الأرجح إلى التمادي والإتيان بسلوك أكثر تدميرا عن سابقه، وهو ما يؤدي إلى المزيد من الضرر للآخرين، ولأنفسهم أيضا على المدى الطويل. إن الطريقة الوحيدة لتغيير عقل شخص ما هي الاهتمام، وليس الغضب أو الكراهية. فالتدابير المادية أو العنيفة لا يمكن أن تقيد سوى السلوك المادي للآخرين، دون أي سبيل لها على عقولهم.
ثمة قصة من جنوب التبت تحكي عن شخص يقول لصديق له: «ضربني فلان ذات مرة، فالتزمت الصمت، وضربني مرة أخرى، فالتزمت الصمت، وضربني مرة ثالثة، فالتزمت الصمت، وظل يضربني، وما زلت ألتزم الصمت.» هذا مثال على ما لا تعنيه الرأفة. هذا خنوع وهو ليس بالنهج الصحيح. فالمطلوب في وجه الظلم هو الرأفة القوية! (2) العدالة بمفهوميها: الواسع والضيق
ما من تعارض إذن بين الرأفة حين تفهم على النحو الصحيح، وبين ممارسة العدالة. ولكن من المهم مع قولنا هذا أن نميز بين المبدأ العام للعدالة؛ بوصفها مبدأ شاملا للإنصاف والإصلاح على أساس الاعتراف بالمساواة بين البشر، وبين الفهم الضيق للعدالة بوصفها تطبيقا للقانون في نطاق أي إطار قانوني معين. من الناحية المثالية، ينبغي أن ينعكس كل من هذين المفهومين للعدالة دائما أحدهما على الآخر، لكن في بعض الأحيان لا يحدث ذلك مع الأسف. إذا نظرنا إلى جنوب أفريقيا تحت حكم الفصل العنصري، فسنرى على نحو واضح أن النظام القضائي قد يتجاهل المبدأ العالمي للمساواة بين البشر، ويحمي بدلا من ذلك مصالح قطاع معين من المجتمع. فخلال تلك الفترة، كان من الممكن أن يعاقب شخص غير أبيض لمساسه بمصالح الأقلية الحاكمة، حتى في الأمور التافهة. ساد وضع مماثل في الهند تحت الحكم الاستعماري واستمر ذلك في أجزاء أخرى من العالم، حيث تقمع أقليات وجماعات معينة على يد آخرين. ومن الواضح أن مثل هذه الأنظمة القانونية تعكس مفهوما محدودا للغاية عن العدالة.
توجد أيضا حالات تقيد فيها حقوق أحد المجتمعات المتدينة أو الجماعات السياسية على يد مجتمعات أو جماعات أخرى. عندما يصون النظام القانوني لبلد ما قدسية الوحدة الوطنية والنظام الاجتماعي بصفتهما أهم أولوياته، ويدين أي أفعال تفسر على أنها تقوض هذه القيم بصفتها جرائم جنائية، فإن هذا النظام القانوني لن يخدم العدالة الحقيقية. ومن أمثلة ذلك فترة السجن الطويلة التي تعرضت لها أون سان سو تشي بعد فوزها في انتخابات بورما. ومن أمثلة ذلك أيضا، ما حدث مؤخرا من اعتقال رفيقي الحائز جائزة نوبل للسلام ليو شياوبو في الصين. عندما ينتقد الناس مثل هذه الانتهاكات للعدالة، تدافع الدول عن نفسها بقولها إن كل شيء قد تم وفقا لحكم القانون. غير أنه حين يرتبط القانون بمصالح ضيقة النطاق، فإنه يفشل في دعم المفهوم الأساسي للعدالة بصفتها مبدأ للإنصاف يقوم على أساس المساواة بين البشر. فلكي يدعم القانون العدالة بحق، يجب أن يحمي الحقوق العالمية للبشر. (3) دور العقاب
لا شك أن معظمنا يرى العدالة على أنها مبدأ عالمي للإنصاف القائم على المساواة الأساسية باعتبارنا بشرا، سواء أكانت تلك المساواة أمام الإله، أم المساواة من حيث تطلعنا الأساسي نحو تحقيق السعادة وتجنب المعاناة، أم المساواة أمام القانون كمواطنين. بالرغم من ذلك، يبدو أن الإجماع أقل بشأن الممارسة الفعلية للعدالة في مسائل الجريمة والعقاب. فعلى سبيل المثال، تختلف آراء الناس بشأن قضايا مثل عقوبة الإعدام والغرض من العقوبة. يرى البعض أن من هذه الجرائم ما هو شديد الشناعة وشديد السلبية، حتى إنه يجب عدم إظهار أي رحمة تجاه مرتكبيها.
عندما يتعلق الأمر بالاعتداء، فإن جميع الأديان الكبرى تنطوي على فكرة للإصلاح أو استعادة التوازن في الحياة أو الحيوات القادمة. في الديانات الألوهية، يوجد مفهوم المحاكمة الإلهية. وفي التعاليم البوذية التقليدية، يؤكد قانون الكارما أن الأفراد سوف يجنون في نهاية المطاف ثمار أفعالهم. وكلا هذين المعتقدين يسمح بظهور الرأفة في الشئون الإنسانية الدنيوية. من وجهة نظر علمانية، ومن دون مثل هذين المعتقدين في العقاب والثواب في الحياة الآخرة، يجب أن نسأل أنفسنا عن الهدف الفعلي من مبدأ العقاب. أهو القصاص والانتقام؛ أي أن شعور المعتدين بالمعاناة هو الهدف في حد ذاته؟ أم هو منع ارتكاب المزيد من الاعتداءات؟ في رأيي أن الهدف من العقوبة لا يتمثل في إلحاق المعاناة بالمعتدين. بدلا من ذلك، ينبغي أن يكون للمعاناة الناتجة عن العقاب غرض أسمى، وهي ثني المعتدي عن تكرار الجرم وردع الآخرين عن ارتكاب أفعال مماثلة. وبهذا، لا يكون الهدف من العقاب تأديبا بل ردعا.
ينبغي بالطبع أن يكون لدى المحاكم وسائل لعقاب المعتدين. ذلك أن ترك الجرائم المروعة كالقتل والاعتداء العنيف دون عقاب قد يوحي بأن أسوأ أفعال البشرية مقبول بطريقة ما، ولن يكون ذلك في مصلحة أي شخص، بمن فيهم مرتكبو هذه الجرائم أنفسهم. فللعقاب دور حتمي وضروري في تنظيم شئون البشر، ويتمثل هذا الدور في الردع ومنح الناس شعورا بالأمان والثقة في القانون.
نامعلوم صفحہ