ما تراه العيون: قطع قصصية مصرية
ما تراه العيون: قطع قصصية مصرية
اصناف
وتركه ليجيب طلب معمم من لابسي الجلاليب الزرقاء.
أمسك حسن ب «اللواء» في يده، وقرأ كل ما فيه مستثنيا الإعلانات، وهم بقراءة المؤيد وإذا به يرى الخادم يضع أمامه فنجان القهوة يحف به المقطم والأهرام، فأعطاه حسن قرش صاغ وشكره الخادم وانصرف.
وقرأ حسن الجرائد الأربع، ثم هم واقفا وحمل محفظته تحت إبطه، وسار الهوينا لمنزله، وكان يسكن الحمزاوي. وصل حسن منزله عند الغروب بعد أن قال لنفسه في الطريق: «لقد امتلكت تلك المقالة نفسي، وأسرت لبي، فلله در كاتبها فهو أفضل من كتب!» وتاه في بيداء أفكاره قليلا، ثم علت شفتيه ابتسامة تشف عما في قلبه من فرح وقال: «يا حبذا لو تحققت تلك الأحلام! أأغدو يوما ما كاتبا؟! من يدري؟!» ثم قرع باب منزله ثلاثا، ففتح له الباب وصعد السلم، فرأى والدته تنتظره في ردهة البيت، فقبل يدها وقبلته في خديه، وقالت له: لقد تأخرت يا حسن، فأين كنت؟ - كنت أقرأ الجرائد يا أماه. - قراءة الجرائد يا ولدي أكبر مدعاة لإهمال الدروس، فخل عنك قراءتها واشتغل بما ينفعك. - إنك يا أماه تجهلين ما يجري خارج المنزل؛ ولذا تلقين القول جزافا. - أنا لا أنكر يا ولدي أني جاهلة، ولكن شعوري يوحي إلي بما ينفعك. - لقد أنبني أستاذي اليوم؛ لأني تبعت ما يوحيه إلي شعوري، فوالله لا أدري أأصغي لنصائح الأم أم لنصائح الأستاذ!
وترك أمه ودخل إلى غرفته. •••
حسن أمين هو ابن المرحوم مصطفى أفندي أمين، الذي كان كاتبا بنظارة المعارف العمومية في عهد توفيق باشا، والذي أحيل على المعاش قبل وفاته بسنتين. توفي مصطفى أفندي في سنة وفاة عزيز مصر، تاركا ولده حسن وزوجته عزيزة وبيتين صغيرين في شارع الحمزاوي استبدلهما بمعاشه، كان يسكن الطبقة العليا من أكبرهما، ويتقاضى سبعة جنيهات أجرة الثلاث طبقات الباقيات.
مصطفى أفندي رجل لا يعرف عنه إلا أنه مصري الأرومة، طويل القامة بدين الجسم، إذا غضب استرسل في غضبه دفعة واحدة وتناساه دفعة واحدة، وكان أكولا، له في أنواع الأطعمة وألوانها آراء جرت بين أهل ناحيته مجرى المثل، ولكنه كان محبوبا من جيرانه يعظمونه ويذكرونه بالحسنى، ويقفون له إذا مر أمامهم كأنه سيدهم وعميدهم.
لم يذق مصطفى أفندي في حياته الحب، ولم يستوجف فؤاده ذلك الشيطان الرجيم، ولكنه كان ممن إذا مرت أمامهم سيدة تحدثوا بجمالها الفتان وحسنها الرائع. تزوج مصطفى أفندي في شبابه سيدة لم تضرب في الجمال بسهم وافر، ولكنها كانت عفيفة سلسة القياد، تقتصد في بيتها وتكره التغالي في الزينة والتبهرج. عاشرته تلك السيدة دهرا طويلا أذاقته فيه حلاوة العيش، ثم ماتت ولم تترك في أحضانه ولدا ولا بنتا.
أسف مصطفى أفندي على زوجته أسفا كبيرا، وبكاها آناء ليله وأطراف نهاره؛ حتى أصيب بمرض أورثه الضعف والهزال. وكان قد بلغ الخامسة والخمسين، فأشار عليه بعض أصدقائه أن يتزوج فتاة حسناء تزيل ألحاظها الساحرة عن قلبه نار آلامه المستعرة. ضحك مصطفى أفندي لهذه الفكرة، وظنها كالحلم العذب اللذيذ الذي يمر ببال النائم في ظلام الليل، ولا يلبث أن يزول إذا ظهر في الفضاء شعاع الشمس، ولكنه راود فكره كثيرا، ورأى في نفسه الحاجة لتلك الزوجة، وما زال يجادل نفسه ويزيل العقبات من سبيله إلى أن تجسمت في مخيلته تلك الفكرة، وأصبح تحقيقها أمنيته الوحيدة، وبحث مصطفى أفندي عن تلك الفتاة كثيرا إلى أن وفق لعائلة ربتها شركسية، توفي زوجها المصري تاركا لها ابنة وولدا، فخطب مصطفى أفندي الابنة وكانت تبلغ الثامنة والعشرين، وقبلت الأم وهي متهللة الوجه لانصراف شبان الناحية عن ابنتها، ولم يهتم مصطفى أفندي بجمال زوجته؛ إذ لم يكن جمالها غاية الشيخ المريض الذي لا يرجو من امرأته إلا عفتها واعتناءها به، وتزوج بها وعاشت معه ثلاث سنوات، ماتت في السنة الأولى منها أمها، ثم ولدت له ولدا سماه حسن، فرح به فرحا كاد أن يقتله، وما زال يرتع الولد في أحضان أبيه وأمه إلى أن توفي مصطفى أفندي بالغا الثامنة والستين، تاركا ولده بالغا من العمر عشر سنين.
نشأ حسن ضعيف الإرادة - وابن الشيخ المريض لا ينشأ إلا على هذه الحالة، لا يقدم على عمل إلا بعد أن يتردد فيه كثيرا، وإذا أقدم عليه ود أن يتركه، ولكنه كان يميل للتفكير والخيال، وكان به شغف بالكتابة عظيم، استحق به في المدارس الابتدائية لقب «أبا الإنشاء»، ذلك اللقب الجميل الذي لم يفارقه يوم دخوله المدارس الثانوية.
عاشت عزيزة بالسبع دنانير التي كانت تتقاضاها من أجرة البيتين، ولكنها وجدتها غير كافية لقضاء حاجياتها وحاجيات ابنها البالغ السادسة عشرة؛ ولذا وطدت العزم على العمل، فاشتغلت بالخياطة والاتجار ببيع الأقمشة في بيوت الأغنياء والعظماء، فكانت تربح من وراء ذلك ما تسد به نفقاتها ونفقات تعليم ابنها.
نامعلوم صفحہ