وكانت وقعة بعاث هذه آخر الحروب بين الأوس والخزرج - إلى أن جاء الإسلام، وأجمع الفريقان أمرهم على نصرته، وهاجر إليهم النبي من مكة، وآخى بينهم، كما وادع اليهود، وعاهدهم بما يدخل شرحه في تاريخ السيرة النبوية، فلا حاجة إلى ذكره هنا. (19-5) أيام العرب الأخرى
والآن - وقد أتينا على أهم ما كان بين الأوس والخزرج من حروب - فإنا نرى أن نذكر في هذا الباب أيضا أهم أيام العرب العدنانية في غير يثرب، ونريد أن نذكر هنا أن أيام العرب هذه أو حروبهم - لم تكن حروبا بالمعنى المعروف لدينا الآن؛ بل كانت لا تعدو أن تكون غارات - يقصد منها السلب والنهب والأسر دون أن تراق في معظمها الدماء، ولقد ذكر الأستاذ نيكلسون في كتابه «تاريخ الأدب العربي» أن كتابة تاريخ حقيقي لهذه الغارات المشهورة أمر يكاد يكون مستحيلا، وذكر أن السيوطي المؤرخ العربي المعروف كان إذا استعلم من أعرابي عن حادثة من الحوادث التاريخية - لا يرتاح حتى يدعمها العربي له بأبيات من الشعر، ويرى نيكلسون أن الشعر - الذي كان يعتبر في مبدأ الأمر مؤيدا للحوادث التاريخية - قد انعكس به الأمر، فأصبح هو النواة التي أخذت تلفق حولها الروايات، وتخترع بمهارة أو بغير مهارة ما ينسجم مع الأشعار المروية من قصص وأخبار.
على أن هذا لا يعني أن كل ما روي من أيام العرب لا أصل له؛ إذ من الثابت المؤكد أن البيئة البدوية كانت لا تخلو من أمثال هذه الحروب والغارات، بل كان العجيب أنها تخلو منها، وعلى أي حال فإن ما ذكره المؤرخون من أخبار أيام العرب - وإن كان لا يتضمن وقائع ثابتة - فإنه يلقي ضوءا، ويصف بأمانة كبيرة، الطريقة التي كانت تدار بها هذه المنازعات القبلية، فوق أنه يلقي ضوءا على بعض صفات العرب ومميزاتهم.
ونحن نلخص لك هنا بعضا من أهم هذه الحروب المشهورة في التاريخ والأدب العربي، ونخص بالذكر منها حرب البسوس وحرب داحس والغبراء.
حرب البسوس
هي الحرب التي قتل فيها كليب زعيم بني تغلب، وقبل أن نتكلم على سبب هذه الحرب وأدوارها، نرى لزاما علينا أن نذكر كلمة صغيرة، عن مكانة قبيلة تغلب وبكر، في أواخر القرن الخامس الميلادي.
في القرن الخامس الميلادي تجمعت عدة قبائل عدنانية تحت راية واحدة واحتكرت المقام في المنطقة التي تمتد من الخليج الفارسي إلى بادية الشام، تحت رعاية إحدى الدول الكبرى، فتدخل في حوزة الفرس على يد المناذرة، أو الروم على يد الغساسنة، أو حمير على يد كندة، وكان أكثر خضوعها لدولة حمير باليمن - يؤدون لها الإتاوة كل عام، وتولي عليها حمير أميرا من أمراء القبائل، وأشهر من تولى على بدو الشمال - تحت رعاية دولة اليمن - زهير بن جناب الكلبي، في أواسط القرن الخامس للميلاد، وكان شجاعا ذا عقل وسداد، وبسط نفوذه على بكر وتغلب من ربيعة، فكان يحكم فيهم، ويتقاضى الإتاوة أو الخراج منهم، في مقابل النعجة والكلأ والمرعى.
وحدث ذات عام أن أمحلت الأرض ، فتأخروا عن الدفع، فأغلظ عليهم، فشقوا عصا الطاعة، وشجعهم على ذلك ما أصاب اليمن في حروبها مع الحبشة، وقاد حركة انفصالهم هذه واحد من فرسانهم المشهورين - يسمى كليبا، من قبيلة تغلب التي كان مقامها في المنطقة الممتدة من المرتفعات الوسطى إلى بادية الشام، في شمال بلاد العرب، ونجح كليب في تكوين حلف من قبيلة تغلب وبكر وغيرها من القبائل، انتصر بهم نهائيا على اليمن - وهزموهم، ولم يدفعوا إليهم إتاوة أو خراجا، وارتفع بذلك صيت كليب؛ فملكته قبائل معد عليها، وأصبح نفوذه مضرب الأمثال، فكان لا توقد نار مع ناره، ولا يرد أحد مع إبله، وكان يحمي مواقع السحاب، ويقول: وحش أرض كذا في جواري فلا يصاد، وكان كليب بن ربيعة هذا متزوجا من بكرية، تسمى جليلة بنت مرة، أخت جساس بن مرة - الذي يسمى الحامي الجار، وكان لجساس خالة تسمى البسوس، ونزل بالبسوس رجل يسمى سعد الجرمي، له ناقة اسمها سراب، وكانت ترعى مع نوق جساس، وحدث أن كليبا خرج يوما يتعهد الإبل.
وكانت إبله وإبل جساس مختلطة، فنظر إلى سراب فأنكرها، فقال جساس - وهو معه: هذه ناقة جارنا الجرمي. فقال كليب: لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحي، فقال جساس: لا ترعى إبلي إلا وهذه معها، فقال كليب: لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها، فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها، لأضعن سنان رمحي في لبتك، ثم تفرقا، وقال كليب لامرأته: أترين في العرب رجلا مانعا مني جاره؟ فقالت: لا إلا أخي جساسا، ثم إن كليبا خرج إلى الحمى وجعل يتصفح الإبل، فرأى ناقة الجرمي، فرمى ضرعها، فولت - ولها رغاء - حتى بركت بفناء صاحبها، فلما رأى ما بها صرخ بالذل، وسمعت البسوس صراخ جارها، فخرجت إليه فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها وصاحت، فسمعها جساس، فخرج إليها وقال لها: اسكتي إني سأقتل غلالا أفحل إبل كليب، وكان لكليب عين يسمع ما يقولون، فقال: لقد اقتصر من يمينه على غلال، ولم يزل جساس يطلب غرة كليب، حتى إذا خرج يوما آمنا ركب جساس فرسه وأخذ رمحه وأدرك كليبا فوقف كليب، فقال له جساس: يا كليب الرمح وراءك، فقال: إن كنت صادقا أقبل إلى أمامي، ولم يلتفت إليه، فطعنه فأرداه عن فرسه، وطلب كليب شربة ماء فلم يغثه، ولكنه أمر رجلا كان معه فجعل عليه أحجارا لئلا تأكله السباع، وانصرف جساس حتى أتى أباه مرة، وقال له: طعنت طعنة يجتمع بنو وائل غدا لها رقصا؛ لقد قتلت كليبا، فجعل مرة يتهيأ للحرب مع قومه، فشحذوا السيوف وقوموا الرماح.
ولما علم قوم كليب بمقتله دفنوه - وقد شقوا الجيوب وخمشوا الخدود وخرجت الأبكار وذوات الخدور والعواتك وقمن للمأتم، وقلن لأخت كليب: أخرجي جليلة امرأة كليب عنا فإنها أخت قاتلنا ، فخرجت تجر أعطافها وأتت مرة، وكان لكليب أخ اسمه مهلهل، وهو الفارس الشاعر المشهور، وكان وقت مقتل كليب يشرب مع همام بن مرة أخي جساس، فلما أفاق مهلهل وعرف بمقتل أخيه، جز شعره وقصر ثوبه، وهجر النساء وترك الغزل، وحرم القمار والشراب، وجمع إليه قومه، وأرسل رجالا منهم إلى مرة والد جساس، وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناقة وقطعتم الرحم وانتهكتم الحرمة، وإنا نعرض عليكم خلالا أربعا لكم فيها مخرج، ولنا فيها مقنع، إما أن تحيي كليبا، أو تدفع إلينا قاتله جساسا نقتله به، أو أخاه هماما فإنه كفؤ له، أو تمكننا من نفسك فإن فيك وفاء لدمه، فقال لهم مرة: «أما إحيائي كليبا فلست قادرا عليه، وأما جساس فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه ولا أدري أي بلاد قصد، وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره، وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل، فما أتعجل الموت؛ ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداهما، فهؤلاء أبنائي الباقون فخذوا أيهم شئتم بصاحبكم، وأما الأخرى فإني أدفع إليكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر، فغضيوفقنا إلى خير ما نرجو، وأن ب القوم وقالوا : لقد أسأت، تبذل لنا صغار ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب، ثم نشبت الحرب بينهم ودامت أربعين سنة، وقال مهلهل عدة قصائد يرثي كليبا فيها ويطلب ثأره.
نامعلوم صفحہ