ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
بالتأكيد نجح قدر كبير من النشاط الفني البارز في الفترة التي بدأت منذ عام 1945 (وتحديدا منذ عام 1970، لأهداف هذا الكتاب ) في التوصل إلى حالة من التوفيق بين الأفكار الحداثية وما بعد الحداثية. (بالطبع، سنواجه قدر الصعوبة نفسه الذي واجهناه في تعريف ما بعد الحداثة عندما نعرف «الحداثة» في مواجهة «ما بعد الحداثة»، ومن الصعب للغاية تصنيف بعض الفنانين في هذا السياق.) فعدد كبير من أكثر الكتاب تأثيرا - مثل ميلان كونديرا، وإيتالو كالفينو، وسلمان رشدي، وجون بارث، وجوليان بارنيز، وماريو بارجاس يوسا، ومارجريت آتوود، وإمبرتو إيكو - ممن تتضمن أعمالهم الكثير من قضايا هذه الحقبة؛ هم أبعد ما يكون عن الانتماء المطلق لفكر ما بعد الحداثة. وهو ما ينطبق كذلك على فنانين مثل جنيفر بارتليت، وأنتوني كراج، وريتشارد ديبينكورن، وإريك فيشل، وهوارد هودجكين، وديفيد هوكني، وبيل جاكلن، وآر بي كيتاي، إلى جانب الكثير من المؤلفين الموسيقيين البارزين مثل جون آدامز، وهاريسون بيرتويسل، وجيورج ليجاتي، وفيتولد لوتوسوافسكي.
لذا، توازن روايات إمبرتو إيكو (وهو في حد ذاته أحد منظري ما بعد الحداثة البارزين) - على سبيل المثال - بين الحداثة وما بعد الحداثة؛ فروايته «اسم الوردة» (1983) تبدو كرواية بوليسية مبنية على السعي الحداثي نحو الحقيقة، لكنها تتبنى أسلوبا ما بعد حداثي واضحا عندما «لا تكشف سوى قدر ضئيل جدا من الحقائق مع تعرض المحقق للهزيمة»، حسبما يصرح إيكو في ملحق الرواية. في الرواية، يقول ويليام باسكرفيل إنه اكتشف أن هورجيه هو القاتل «عن طريق الخطأ»؛ إذ كان يظن أن الأدلة تحوي نمطا مستمدا من سفر الرؤيا، لكنه في الحقيقة كان نمطا عرضيا. فقد نجح في حل الكثير من الألغاز الفرعية لكن لم يتوصل إلى حل لغز الحبكة الرئيسي إلا عبر تفسير خاطئ (ساخر). لكن حالما لعب شون كونري دور ويليام في الفيلم المقتبس عن الرواية، نجح على ما يبدو في حل اللغز؛ لأنه ليس بوسع الفيلم التجاري تعريض جمهوره للكثير من إحباطات ما بعد الحداثة.
تشتمل أعمال الكثير من الكتاب البارزين مثل إيكو على بعض عناصر ما بعد الحداثة الجلية، لكنها تحوي كذلك عددا من السمات التقليدية الأكثر ثباتا، التي تساعد بالتأكيد في وضع تلك الأعمال بالقرب من مركز الثقافة، في الموقع الذي تتمنى على الأرجح أن ترى نفسها فيه.
فيض من الأعمال الفنية العظيمة خارج إطار ما بعد الحداثة
ما زال العنصر الرئيسي في التجربة الفنية لدى الكثير من الأفراد ينتمي إلى نوع من الواقعية الليبرالية، أكثر التزاما بإمكانية الوصول إلى الحقيقة، وإمكانية بلوغ حقيقة ترتبط ارتباطا وثيقا بالاعتبارات السياسية والإنسانية، مقارنة بما بعد الحداثة. لقد قدم الروائيون الليبراليون التقليديون - أمثال جون أبدك، وبرنارد مالاماد، ونورمان ميلر، وسول بيلو، وفيليب روث، وهاينريتش بول، وإيان ماكيوان - أعمالا ما زالت تلعب دورا بالغ الأهمية في فهم الكثير من الناس للحياة المعاصرة، وهو نفس الدور الذي لعبته أعمال جون آشبيري، وفرانسيس بيكون، وإنجمار بيرجمان، ولوسيان فرويد، وجونتر جراس، وهارولد بنتر، وفرنسوا تريفو، وغيرهم. تلك هي مجرد قوائم أسماء قابلة للنقاش، لكنها تذكرنا هنا بالأساليب التي تمكننا كأفراد من تقديم أعمال تسجل القيم التي تهمنا وتحفظها، والتي لا تنتمي إلى نظريات أو حتى إلى التزامات سياسية واضحة. لقد كان فن ما بعد الحداثة جزءا بارزا حقا من هذا الحراك كله لكنه لم يكن بالتأكيد الجزء المهيمن.
رغم ذلك لعب فن ما بعد الحداثة دورا بالغ الأهمية في تجديد الصراع بين الشكوكية والإيمان، بين الليبرالية واليسار الماركسي، بين استراتيجيات فرض الأيديولوجيات وبين الحفاظ على الهوية المستقلة. وقد تحمل في تلك النواحي الجزء الأكبر من عبء تقديم توصيف ونقد «لنمط حياتنا الآن» منذ ستينيات القرن العشرين. ربما لم يتمكن مفكرو ما بعد الحداثة من إفساح مجال لهم في الأنشطة اليومية الفعلية التي يؤديها السياسيون المحترفون - ولم يؤثروا فيها سوى أقل تأثير في رأيي - على الرغم من أنهم ساهموا مساهمة كبيرة في وضع منهج يتسم بالمزيد من الليبرالية في التعامل مع سياسات «الهوية» الخاصة بالجنسانية والعرق. لقد نزعوا بوصفهم نقادا ثقافيين إلى رؤية الاعتبارات الأخلاقية والسياسية بوصفها جدلا حول شرعية أنواع معينة من النشاط «التمثيلي» الخاضع لسيطرة الصورة.
في هذا الكتاب، حاولت أن أقدم وصفا ونقدا لما بعد الحداثة؛ لأنني أومن أن الفترة التي شهدت أعظم تأثير لها قد انتهت الآن؛ فمؤسسو فكر ما بعد الحداثة يواجهون بدورهم الآن شكوكية جيل جديد؛ لهذا السبب حاولت فيما سبق التركيز على أفكار ما بعد الحداثة التي أرى أنها تتمتع بأطول استمرارية ممكنة. إن المعارك التي نشبت حول ما بعد الحداثة (على العكس تماما من تلك التي أثيرت حول الحداثة) تمتعت بسمة مميزة - ويرجع الفضل في ذلك إلى «نشأة النظرية» - ألا وهي طرح الأسئلة الفلسفية الخالدة. إن هذه الجدلية الضمنية العميقة - بين المنطق والشكوكية، وبين الواقع والصورة، وبين قوى الاحتواء والإقصاء السياسية - تقع في قلب فكر ما بعد الحداثة، وهي جدلية سوف تستمر في الاستحواذ على اهتمامنا لفترة زمنية قادمة.
مراجع
In addition to the references and citations I have given throughout the text, the following support and provide background to some of the essential points, topics, and examples discussed in each chapter of this book.
الفصل الأول
نامعلوم صفحہ