ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
جون جراي، «صحوة التنوير»، (1995)
رغم ذلك - وكما حاولت التوضيح فيما سبق - ينبغي مقاومة هذه الحالة، ومنعها من تبرير نوع من الاتجاه اللاتفريقي الساخر. إن الادعاء بامتلاك بصيرة تفكيكية راجحة يعتمد على مفاهيم الحقيقة، فالفكرة التي تزعم أن الذات تخضع للتشكيل الاجتماعي بطرق متنوعة ومختلفة تعجز على ما يبدو عن تدمير فكرة البشر كأفراد لكل منهم قصة حياة فريدة يكتبها بنفسه، أو فكرة أن حقوق الأفراد القانونية ينبغي الدفاع عنها في الإطار السياسي من خلال الرجوع إلى مبادئ أو مثل عالمية، مثل تلك التي تدعو إلى المساواة أمام القانون. ومن ثم، ينبغي عدم تجاهل المعتقدات التي تؤدي إلى الرجم العلني لامرأة «زانية» بوصفها انعكاسا ل «نمط الحياة السائد هناك» مقارنة بالنمط «السائد هنا». يبدو أن نسبية ما بعد الحداثة - سواء كانت ساخرة أم لا - قد لا تزيد في الحقيقة عن دعوى مستترة لتقبل التعدد، تناسب الأنماط الشديدة الاختلاف من المواقف العرقية والجنسية والفردية التي حظيت باهتمام كبير - في مجتمعات الرخاء والعيش المترف على الأقل - أثناء حقبة ما بعد الحداثة. لقد بذل فكر ما بعد الحداثة جهدا عظيما من أجل توضيح اختلافات الهوية المتضمنة هنا والدفاع عنها، لكن تلك الاختلافات غالبا ما تؤدي في واقع الأمر إلى صراعات مريرة يحتاج حلها إلى مبادئ أفضل من مبادئ ما بعد الحداثة تلك. يرى البعض أن المثلية الجنسية تتعارض مع دينهم، بينما يرى آخرون، مثلي، أنها مسألة أذواق ولا تشتمل في ذاتها على عواقب أخلاقية، ويعتقد آخرون أنها تتضمن المشاركة في ثقافة أو اتباع نمط حياة يستحق بالفعل الدفاع عنه كنظام كامل لكن لا يمكن قبوله كحق إلا عندما لا يؤثر سلبا على حقوق الآخرين. بناء على ذلك، ما زال الكثير من مفكري ما بعد الحداثة في حاجة إلى قبول الحقيقة الأخلاقية النهائية المتضمنة في فكرهم، التي ينبغي في رأيي ألا تعبر عن نسبية لا مبالية، بل تعبر في أفضل الأحوال عن تقبل حقيقة أن القيم المتضمنة في الأعمال الفنية المختلفة وأنماط الحياة المتباينة هي - كحقيقة لا تقبل الشك - غير متساوية ومتنازعة غالبا. لكن تقبل مزاعم بعد الحداثيين المتنوعة على سبيل المثال ليس تقبلا نسبيا «بطبيعته» (رغم أنه كثيرا ما يظن هكذا خطأ). إن التقبل هو استعداد قائم على مبدأ لتحمل التعبير عن معتقدات يرى المرء أنها خاطئة ويمارسها من أجل هدف أكبر؛ مثل حرية البحث أو تمتع الآخرين بالاستقلال الذاتي أثناء تشكيل هويتهم أو كتابة روايتهم الخاصة، لكن في رأيي شريطة ألا يؤذوا الآخرين في أثناء ذلك. لكن ينبغي ألا يسمح لأي قدر من التقبل أو الشكوكية ما بعد الحداثية بالتعارض مع المثل التي يعبر عنها إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان (رغم أن بعضها قابل للمناقشة) أو اتفاقية جنيف على سبيل المثال.
كما زعمت على مدار هذا الكتاب، تشبه ما بعد الحداثة إلى حد ما بيانا حزبيا، فهي في الأساس مجموعة من المعتقدات لا يعتنقها الجميع في حقيقة الأمر، ومن المستبعد أن تعكس الحالة العامة التي يعيشها الرجال والنساء في المجتمع المعاصر. فإذا لم يكن لدينا إيمان مسبق بفكر ماركس وفرويد - أو أيديولوجية أخرى - فسيستحيل علينا تعميم معتقدات ما بعد الحداثة باعتبارها تشخص الأوضاع «الفعلية» التي نعيشها. (وبالطبع، إذا فعلنا ذلك فسنصبح عندئذ متقبلين لذلك النوع من الالتزام الأيديولوجي الأكبر الذي طالما هدفت ما بعد الحداثة إلى مقاومته.) يعبر هانز بيرتينز تعبيرا بليغا عن هذا فيما يلي:
لا يعتنق الكل - رغم أن وجود ما بعد الحداثة ومناصريها في كل مكان قد يوحي بغير ذلك - وجهة النظر التي ترى أن اللغة تشكل الواقع لا تمثله، أو أن الفرد الحداثي المستقر والمستقل قد حلت محله دمية ما بعد الحداثة التي غالبا ما يحدد الآخرون هويتها ودائما ما تخضع للتشكيل، أو أن المعنى أصبح مؤقتا وخاضعا للمفاهيم الاجتماعية، أو أن المعرفة لا يمكن اعتبارها معرفة إلا ضمن بنية خطابية محددة؛ أي ضمن هيكل سلطة محدد.
هانز بيرتينز «فكرة ما بعد الحداثة»، (1994)
البدائل
لقد حقق نقد ما بعد الحداثة نجاحا كبيرا في إطار النصح الأخلاقي، لكن ادعاءه بتقديم إدراك فريد لحقيقة الحالة التي نعيشها، أو وصف كامل ودقيق للمجتمع، لا يقوم على أسس مقنعة. من المهم إذن أن ننظر إلى أفكار أتباع ما بعد الحداثة وإنجازاتهم باعتبارها جزءا من صورة أكبر تعكس التفاعل مع الاتجاهات العقائدية الأخرى؛ ففي جميع المجالات التي تناولناها - من الفلسفة إلى الأخلاقيات والنشاط الفني - توجد اتجاهات فكرية بديلة مفعمة بالحيوية خارج تلك التي روج لها بعد الحداثيين، أشهرها الاتجاه الليبرالي الأنجلو أمريكي. من بين من تبنوا هذا الاتجاه - على سبيل المثال - كتاب مثل جون راولز، وجوزيف راز، ومايكل ساندل، وستيوارت هامبشير، وإيمي جتمان، ومارثا ناسبام، وويل كيمليكا، وجون جراي، ورونالد دوركين، وبرايان باري، ومايكل والزر. يبدو أن ريتشارد رورتي هو الفيلسوف الأنجلو أمريكي الوحيد المعروف لدى معظم منظري ما بعد الحداثة.
لذا، لن نجد على الأرجح إنجازات راسخة لفكر ما بعد الحداثة في مجالي الفلسفة أو السياسة أو حتى في مجال الفكر الأخلاقي، بل في الثقافة الفنية. ربما تخرج سياسيات حقبة ما بعد الحداثة من دائرة الاهتمام مع تغير الظروف التي تسببت في ذيوعها، لكن ما سيبقى - إذا بقي كذلك تصور ما للتاريخ والتراث - هو تصور لما بعد الحداثة بوصفها ظاهرة ثقافية، تركت لنا مجموعة من الأعمال الأصلية الكبرى على مدار الثلاثين عاما الأخيرة التي شهدت تأثيرها ، تحديدا لكتاب مثل أبيش، وبارثلماي ، وكوفر، وديليلو، وكثيرين غيرهم. وبالتأكيد يحتل عدد كبير من أولئك المشتغلين بالفنون الأخرى نفس المكانة باعتبارهم نماذج ل (بعض) أفكار ما بعد الحداثة، من بينهم جوزيف بويس، وكريستيان بولتونسكي، وفرانك جاري، وفيليب جلاس، وجان لوك جودار، وروبرت روشنبرج، وريتشارد روجرز، وسيندي شيرمان، وفرانك ستيلا، وجيمس ستيرلينج، وكارلهاينز شتوكهاوزن، وفيم فيندارس.
شكل 5-2: «جارية» (1955-1958) لروبرت روشنبرج. («الصورة تؤدي إلى النسبية التي تؤدي بدورها إلى الشك.» ما الهدف إذن من الدجاجة التي تعتلي العمل؟)
لكن من المهم تذكر أنه في الفنون أيضا ظلت الاتجاهات البديلة موجودة؛ لسببين رئيسيين؛ وهما استمرار الاتجاهات الحداثية، ووجود عدد كبير من الفنانين الذين تعلموا بعض الأفكار من حركة ما بعد الحداثة دون أن يتحولوا إلى أتباع مخلصين لها. فيبدو أن بعض الحركات الحداثية قد استأثر بها بعد الحداثيين مباشرة، مثل «الدادية» وطريقة دوشامب في تقديم الأغراض العادية «المكتشفة» كأعمال فنية، والبنائية (من خلال تأثيرها على الرسم التبسيطي أو رسم الحقل اللوني)، والسريالية (التي ألهمت كولاج ما بعد الحداثة بصوره التي لا تجمعها علاقة منطقية، كما في أعمال روشنبرج على سبيل المثال). ليس من الصعوبة بمكان ملاحظة ذلك التشابه والترابط بين حقبة وأخرى (لا يوجد جديد هنا)، ويرجع التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة هنا إلى مجموعة من القيم المختلفة (على سبيل المثال، لا تستند سريالية ما بعد الحداثة إلى نظرية فرويد الكاملة). كذلك أدى هوس ما بعد الحداثة بالاختلاف السياسي - وبالفن بوصفه تعبيرا عن مغزى سياسي - إلى هجوم حتمي على ادعاء الحداثيين (الشامل) بوجود متعة (حتى وإن كانت مجرد متعة فردية برجوازية) مستمدة من السمات المباشرة أو الشكلية للأعمال الفنية. ورغم ذلك - كما ذكرت سابقا - استطاع الرسم التعبيري الجديد تطوير سمات حداثية وتحقيق ازدهار في هذه الحقبة، دون أي ولاء كامل أو واضح لمعتقدات ما بعد الحداثة، وهو ما ينطبق أيضا على الاتجاه التجريدي والاتجاه الواقعي بالتأكيد.
نامعلوم صفحہ