ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
تقدم على أنها خيالية لكي نؤمن بأن باقي البلد حقيقي، بينما في الواقع لم تعد لوس أنجلوس وأمريكا بأكملها التي تحيط بديزني لاند حقيقية، بل أصبحت تنتمي إلى عالم ما فوق الواقع، عالم المحاكاة. ولم تعد القضية قضية التمثيل الزائف للواقع (الأيديولوجية)، بل أصبحت تتعلق بإخفاء حقيقة أن الواقع لم يعد واقعا، والتمكن بهذه الطريقة من الحفاظ على مبدأ الواقع.
إن أوهام ديزني ليست حقيقية ولا زائفة، بل هي آلة ردع أنشئت بهدف إعادة إحياء وهم الواقع في اتجاه عكسي.
جان بودريار، «المحاكيات»، (1983)
نحن ببساطة أسرى عالم من الرموز خاضع لسيطرة الإعلام، خلقته الرأسمالية لأغراض خسيسة تتعلق بتصنيع رغباتنا، ويشير كل رمز فيه إلى رمز آخر ليس إلا، ضمن سلسة مخادعة من الأفكار. إن تلك الرموز ليست سوى محاكيات سطحية تستبدل الأشياء الحقيقية وعلاقاتها الفعلية (التي لا يدركها حقا سوى معتنقي الفكر اليساري ممن يستطيعون كشف تلك الأوهام) في عملية يطلق عليها بودريار «التحول إلى ما فوق الواقع». ومن ثم، فإننا لا نحصل أبدا على ما نرغب فيه على أي حال. لكن قد نقول خلافا لذلك إننا نحصل بالفعل على ما ندفع ثمنه، بغض النظر عن طريقة الإعلان عنه، على سبيل المثال، لا تختلف شطيرة هامبرجر من ماكدونالدز عن مليارات الشطائر التي ينتجها المطعم بنفس الطريقة، وهي لذيذة المذاق فعلا في رأي الكثيرين. وعلى نفس المنوال، إذا انبعثت منك رائحة عطر ديون، فإنك تضع عطر ديون. هذه النماذج ليست «مجرد» لعب بالرموز، رغم كم الإعلانات التي تحاول تحفيزنا على الاقتناع بشرائها. لكن، حتى أولئك الذين لم يقرءوا أي أجزاء من نظرية ما بعد الحداثة لم ينخدعوا تماما بها، ولا يؤمنون حقا بأن أي شخص قد انخدع إلى حد كبير. فلتقرأ - على سبيل المثال - استطلاعات الرأي حول السياسيين في جميع أنحاء العالم، أو حتى أبحاث السوق التي تدرس تأثيرات الإعلانات. لكننا عندما نسمع بودريار وغيره من أتباع نفس الفكر، يخيل إلينا أننا نأكل ونشرب وننام فوق رموز ومع رموز ليس إلا. يجمع هذا النوع من الجدل بين الهجوم الليبرالي القديم على الإعلانات (بوصفها تختلق احتياجات ليست لدينا «في الحقيقة») وبين بعض سمات التشاؤم الفرويدي الذي يدعي أن الرموز الدالة على الأشياء دوما ما تخدع، وأننا لن نستطيع أبدا بلوغ الشيء المرغوب فيه «حقا» من خلالها. على سبيل المثال، عندما استبدلت السلطات الفرنسية نسخة طبق الأصل من كهوف لاسكو في فرنسا بالكهوف الأصلية، طالبنا بودريار بتصديق أن لا فارق فعليا بين الاثنين. لكن حتى أشد زوار الكهوف سذاجة - فضلا عن مؤرخ متخصص في الفن - يمكن تعريفهم بسهولة بطرق التمييز بين الكهوف الحقيقية والزائفة وقد يفهمون كذلك دواعي حماية الآثار - حال وجودها - التي استدعت استخدام نسخة طبق الأصل للعرض على السياح.
يتسم بعد الحداثيين عموما بتشاؤمهم؛ فالكثير منهم تؤرقه آمال ثورية ماركسية ضائعة، وغالبا ما يسيطر على المعتقدات والفن الذي يوحون به طابع سلبي لا بناء. وهم يعتقدون أن الرفاهية العامة ليست ظاهرة جيدة؛ لأنه عندما يمتلك الناس احتياجاتهم الأساسية، يسعى رجال الإعلان والتسويق إلى ملء الفجوة الناتجة عن ذلك كي يختلقوا قيمنا (المادية) ويحددوها لنا، بينما يطوي النسيان المحتاجين الحقيقيين بمنتهى السهولة؛ لذا، يحظى التسويق بالأولوية على الإنتاج. لقد أصبحنا نشعر أنه حتى العدالة أصبحت - أو قد تصبح - حدثا إعلاميا، مثل محاكمة أو جيه سيمبسون التي بثها التليفزيون، والتي تأثرت بوضوح جلي بأداء المحامين المسرحي والمبالغ فيه، وملابس المشاركين المختارة بعناية في هذه المسرحية الدرامية، والملخصات المنحازة سياسيا والمتحيزة لقوالب نمطية يقدمها المحامون ومراسلو التليفزيون في مقاطع صوتية. ألا تبدو المحاكمة بأكملها وهمية إلى درجة تثير الاشمئزاز؛ إذ يستخدم المشاركون الإعلام كي يتلاعبوا بالآراء من خلال التقمص الزائف لما يعتبرونه قوالب نمطية خيالية ونماذج مثالية مقبولة؟ أليس منطقيا أن نتساءل عن كيفية تحقيق عدالة نزيهة على منصة القضاء تلك؟ هل سينخدع القاضي والمحلفون حقا - وهم في النهاية أفراد ينتمون لمجتمعنا - بكل هذا التمثيل السافر؟ أم من المفترض أن نؤمن بوجوب تمتع إجراءات تحقيق العدالة في المحاكم بمصداقية أكبر من ذلك؟ يوجد شك حيال هذا داخل كل منا (وبالتأكيد داخل كتاب العديد من روايات المحاكم المثيرة)، وذلك الشك هو ما كان بعد الحداثيين على حق عندما أصروا على وجوده.
لكنهم نزعوا كذلك إلى تقديم وصف تشاؤمي مضلل للمعلومات التي نتلقاها وللنزاعات وحلولها؛ إذ ينتمي الكثير منهم في الواقع إلى اتجاه ما بعد نيتشوي طويل الأمد يجسد اليأس من المنطق. فعندما يقدم بعد الحداثيين رؤية سليمة تدفع بأن جميع الخطابات ترتبط في جوهرها بأنظمة السلطة التي قد تدعمها لأنها تعبر عن سلطتها، فإنهم يعطوننا انطباعا بأن ثقافتنا لا تزيد عن تفاعل معقد بين تهديدات متعارضة باستخدام القوة. إن تشككهم في الحقيقة يحرمهم في أغلب الأحيان من إبداء اهتمام سليم بأنشطة تقديم المبررات والتفاوض العقلاني والعدالة الإجرائية؛ إذ غالبا ما يفترض التأثير الماركسي والفرويدي ضمنيا أن كل ما نقوله يحمل إيحاءات السلطة وتهديد العرق والطبقة والمكانة الاجتماعية وألاعيب الهيمنة الجنسية. لكن هذا بالكاد ما يسمح للاتفاقات والقيود القانونية في المجتمعات الديمقراطية بأداء وظيفتها أو بتفعيل الاعتبارات الأدبية التي تؤدي إلى حماية حقوق الإنسان المفترض كونها عالمية ومتجاوزة للخصوصية الثقافية وليست ملكا لمجموعة بعينها. ولا يسمح كذلك بحقيقة أن السعي نحو التمتع بالصدق وبالتفكير الصائب ومحاولة دعم الادعاءات بأدلة قابلة للإثبات، وغيرها من المساعي، هي أمور لا غنى عنها إذا كنا نأمل أن نأتي إلى مائدة المفاوضات، حاملين في جعبتنا ما هو أكثر من بعض التهديدات الضمنية (أو أن نتعامل مع كتابة التاريخ أو اللاهوت أو الرواية على أنها أكثر من مجرد محاولات لإيقاع القارئ في شرك رواية خرافية). تخيل، على سبيل المثال، شخصا يعتقد أن أي شيء يتلفظ به أي سياسي (سواء أكان أمريكيا أم إسرائيليا أم روسيا أم من أي جنسية أخرى) هو دوما نوع من الإرهاب الإمبريالي أو اللاهوتي أو الذي تفرضه «دولة مارقة»؛ لا لسبب سوى أن حديثه يعكس ضمنيا - على سبيل المثال - سلطة المؤسسات السياسية والقوات المسلحة في الدولة التي ينتمي إليها.
بالطبع، تعكس العديد من تصريحات أولئك السياسيين بالفعل هذا الإرهاب وإلى حد مروع، لكن في حالات النزاع تحديدا قد يصبح من الأهم إبراز الأصوات الأكثر عقلانية، على سبيل المثال، أولئك الأكثر تقبلا لإصدار حكم عقلاني فيما يخص الذنب والمسئولية التي تنتج عن النزاعات.
إن أفضل ما يستطيع المرء قوله هنا، وما سأقوله بالفعل، هو أن بعد الحداثيين بارعون في مجال النقد التفكيكي لكنهم فاشلون تماما في مجال البناء، وعادة ما يتركون هذه المهمة لأولئك الليبراليين الصبورين في مجتمعاتهم ممن لم يزالوا على استعداد لمحاولة تحديد بعض من تلك الاختلافات بين الحقيقة والخيال على الأقل، التي يطمسها بعد الحداثيين تحت أكوام من الافتراضات المتشائمة حول حتمية الصراع الطبقي أو النفسي.
على الصعيد الآخر، أجال بعد الحداثيين الفكر على نحو واضح ولهدف أكبر في طبيعة التغيرات الثقافية منذ عام 1945، مطلقين عليها في النهاية «حالة ما بعد الحداثة». حسب تلك الرؤية لا ينظر إلى الوضع الدولي للمجتمعات على أنه خاضع للأطر السياسية أو الاقتصادية التقليدية، بل على أنه «وضع ثقافي». يشكل هذا الاعتماد على التحليل الثقافي (الذي يحظى بالاهتمام حاليا إثر حركة «الدراسات الثقافية» المزدهرة التي تأثرت تأثرا شديدا حتى هذه اللحظة بأفكار ما بعد الحداثة) إحدى أبرز المساهمات التي قدمتها ما بعد الحداثة إلى المجتمع المعاصر. إن أنشطة «الرأسمالية المتأخرة» والمجتمعات الديمقراطية هي بالطبع قضايا سائدة على الساحة، ولا يوجد حاليا بديل متاح لها (بالتأكيد منذ عام 1989). وحسب افتراض عام - حتى إن كان وهميا - يقتضي الوفرة المستمرة، ينظر بعد الحداثيين إلى هذه الأنشطة على أنها تنتج معلومات في الأصل لا أشياء؛ مما يتطلب في المقام الأول تحليلا ثقافيا.
وهكذا، فإن نظرة ما بعد حداثية إلى التغيرات التي أحدثت أكبر تأثير في المجتمع المعاصر ستركز على قضايا مثل التكثيف الاستثنائي للزمان والمكان عبر وسائل الإعلام الجديدة (أتبنى هنا إجمالا رؤية ديفيد هارفي). (فقد أصبح في وسعنا الآن الاطلاع فورا على أحداث ومعلومات من أي مكان في العالم تقريبا عبر التليفزيون والإنترنت.) إن شبكة الإنترنت في العصر الحاضر ظاهرة ما بعد حداثية نموذجية؛ فهي (حاليا) غير مرتبة هرميا، وقطعا غير منظمة؛ أي تشبه الكولاج، وهو ما يتماشى مع تحول التركيز على إنتاج البضائع إلى التركيز على إنتاج خدمات المعلومات. (إنها قصة الثروات الهائلة التي تجمع أو تتبدد كل يوم، لا عن طريق بيع أشياء وشرائها، بل عبر عمليات تجارية في أسواق المال على يد مضاربين جالسين أمام شاشات تليفزيونية تتيح لهم الوصول عبر الكمبيوتر إلى معلومات تزيد عما كان متاحا في أي وقت سبق.) يرى البعض أن ذلك ناتج عن الآراء (آراء صناع القرار بالأسواق) المتذبذبة وصور الأخبار المتغيرة التي تفرض نفسها فرضا مخزيا فوق الواقع، وتلك أيضا سمة نموذجية من سمات «حالة ما بعد الحداثة»؛ فالكثير منا يعمل في عالم منقاد وغارق في المعلومات إلى حد لا يمكن تصديقه (أما من هم خارج هذا الإطار، فغالبا ما يعانون من الجوع أو الأمية أو المرض العقلي أو يكافحون في قاع الهرم الاجتماعي). إنه عالم يفوق قدرتنا على الاحتمال، فأينما نذهب يرهق حواسنا كم مفرط من الصور المنتشرة في المجلات والإعلانات وعلى شاشات التليفزيون وعلى ناطحات السحاب، وغيرها من الأماكن (تكررت هذه الشكوى كذلك في حقبة الحداثة)، بينما تؤدي تغييرات بسيطة في الأذواق إلى زيادة مبيعات البضائع بحيث تسيطر الموضة على الثقافة، وتصبح عملية تشكيل الآراء التي يتولاها الإعلام أحد مقومات العملية الاقتصادية.
نامعلوم صفحہ