ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
تعرض الأعمال النسوية التالية الأمثلة الرئيسية التي سأقدمها في هذا السياق؛ لأنها غالبا ما تتمتع بميزتين متناقضتين إلى حد ما؛ ألا وهما الانغماس في نظرية ما بعد الحداثة، وتبني الأهداف الأخلاقية الواضحة نسبيا ضمن موضوعها. في بدايات هذه الحقبة، كان الكثير من هذه الأعمال الفنية مجرد تصريحات سياسية بسيطة، مثل قصيدة «انتظار» لفيث وايلدنج (1972)، وهي مقطوعة أدائية حيث تجلس وايلدنج على كرسي وتسرد الأحداث التي تنتظر المرأة حدوثها، أو «أبجدية المطبخ» لمارثا روزلر (1975)، وهو مقطع فيديو يصورها بينما تسمع الأبجدية، وتعطي مثالا على كل حرف عبر أدوات المطبخ موضحة كيفية استخدامها، لكن تضطر في نهاية المطاف إلى التلويح بالسكين في الهواء راسمة بقية الحروف الأبجدية.
هوجمت الكثير من الأعمال الفنية النسوية التي أنتجت لاحقا في أوائل السبعينيات نظرا لأسلوبها المستقى من «الفلسفة الجوهرية»؛ أي بسبب تقديمها افتراضات حول الاختلافات بين الجنسين تتجاهل التركيز ما بعد الحداثي على ما تتسم به الهوية من طبيعة أكثر سيولة وخاضعة للتشكيل الاجتماعي. يطرح عمل «حفل العشاء» لجودي شيكاجو وأخريات (1973-1979) مثالا جيدا على ذلك؛ إذ تضمن العمل طاولة مثلثة مفرغة من المنتصف تضم 39 مكانا مجهزا بأدوات المائدة. يحوي كل مكان طبقا صينيا خزفيا معقد التكوين، وغطاء طويلا مطرزا، وكأسا خزفية، وسكينا، وشوكة، وملعقة، ويعكس صورة رمزية لنساء بارزات في التاريخ أو الأساطير. صممت الأطباق على شكل مهبل (يشبه شكل الفراشة)، بينما تتكون الأرضية من 2300 بلاطة تحمل 999 اسما إضافيا. ساهمت أربعمائة امرأة في صنع هذا العمل، وقد أصبح يحتل موقعا مركزيا في تاريخ الفن النسوي. يرمز العمل بدقة إلى الطموح النسوي نحو الاسترداد التاريخي، ويتحدى كذلك هيكل الآلهة (البانثيون) الخاضع للهيمنة الذكورية من خلال تقديم بديل. لكن تصميمه وأسلوبه الهابط فنيا أدى في رأي البعض إلى إضعاف أهدافه الأكثر جدية. أوليس من المزعج تقديم تلك النظرة المنتمية إلى «الفلسفة الجوهرية» التي تسمح لمجاز يعتمد على صورة عضو المرأة التناسلي بأن يرمز إلى النساء؟
دافع البعض لاحقا عن استخدام هذا المجاز باعتباره ردا على التصورات الفرويدية الشائعة للنساء بوصفهن «يفتقرن» إلى القضيب وما يتصل به من دلالات قوية (وهو تصور يقدم في حد ذاته افتراضات فاسدة ومعادية للمرأة إلى حد مذهل، استقاها فرويد على ما يبدو من شوبنهاور وغيره حول انعدام أهمية الاستجابات الجنسية الأنثوية في جوهرها). بينما رأى آخرون أنه يختزل النساء إلى حد كبير في تكوينهن البيولوجي. يعتمد اختيار رد الفعل هنا اعتمادا واضحا على المعركة التي تخوضها، ولا يتعلق كثيرا بمزايا «حفل العشاء» باعتباره هيكلا للآلهة.
شكل 4-10: «حفل العشاء»، (1979) لجودي شيكاجو. (اجتماع نسوي: لكن هل قيدت هويات المشاركات عن طريق المجاز المستخدم في «تمثيلهن»؟)
مثال آخر على الأسلوب الجوهري المميز للفن النسوي نجده في عروض كارولي شنيمان الأدائية، وقد قدم ديفيد هوبكنز وصفا جيدا لأدائها في عرض يدعى «لفافة داخلية» (1975):
يتضمن [العرض] وقوفها عارية أمام الجمهور بينما تخرج تدريجيا من مهبلها لفافة ورقية تقرأ منها تقريرا ساخرا حول اجتماع مع «مخرج بنيوي» انتقد أفلامها لما فيها من «اضطراب شخصي» و«سطوة للمشاعر». من جانب، يتناول أداء شنيمان مفهوم استيعاب النقد داخليا، لكنه قد يدعم كذلك اهتماما نسويا «جوهريا» بالكتابة النسائية؛ إذ اقترحت هذه الصيغة من النظرية النسوية الفرنسية - التي تبنتها كاتبات مثل هيلين سيكسو - أن تستخدم النساء «لغة» تسبق الطور الأوديبي (ومن ثم، تعادي الذكورية ضمنيا) وتعتمد على نبضات الجسد.
ديفيد هوبكنز، «ما بعد الفن الحداثي: 1945-2000»، (2000)
تدين أعمال سيندي شيرمان اللاحقة بالفضل إلى الفن الشعبي لكنها تتمتع بتأثير أقل مباشرة، على سبيل المثال يتسم عملها الفني المعروف باسم «#228» (1990) - وهو عبارة عن محاكاة فوتوغرافية ضخمة وهابطة فنيا لشخصية جوديث التوراتية - بطابعه الشعبي بل وبأسلوبه السينمائي. يقدم العمل محاكاة ساخرة للوحات الزيتية الضخمة التي جسدت هذا الحدث في عصر النهضة، والتي كانت تعبر بالطبع (باستثناء اللوحات الرائعة للرسامة أرتميزيا جينتيليسكي) عن «ثقافة الرجال الرفيعة المستوى»، وبالتأكيد عن بعض من مخاوفهم حيال فقدان رجولتهم كذلك. صرحت شيرمان بأنها أرادت تقديم عمل «في وسع أي شخص عادي الإعجاب به ... كنت أرغب في محاكاة شيء من الثقافة وفي السخرية منها في الوقت ذاته.» يرى نسويو ما بعد الحداثة أن عملا مثل هذا «يطرح قضايا»، حول موضوعات مثل «التنكر وهوية الأنثى، والقوالب النمطية النسوية في التصوير المرئي، والمشاهد المتأثر بالمفاهيم الجنسانية، وجسد الأنثى والفيتيشية، ومنظور الرجل، ومنظور الأنثى ... إلى آخره»، على حد قول وود. (لكن بالنسبة إلى الآخرين ممن لا يتبنون النظرية التي تنتج مثل هذا النوع من التفسيرات، فقد يتمتع العمل بتأثير أقل بكثير.)
شكل 4-11: «بدون عنوان، #228» (1990) لسيندي شيرمان. (المحاكاة التمثيلية والتهديد بالإخصاء: هل قصة جوديث هي أيضا قصة سيندي شيرمان؟)
من ناحية أخرى، تتسم أعمال باربارا كروجر الفوتوغرافية بتعقيد أكثر نسبيا وميلا أوضح إلى الجانب النظري؛ فهي تقتطع صورا من المجلات، ثم تكبرها وتقصها وتصلها ببعضها ببعض، مضيفة إليها نصوصا، بأشكال تعكس خبرتها كمصممة مجلات. وتصور تلك الصور التي أجري لها مونتاج فوتوغرافي كوحدة متكاملة وتحاط بإطار أحمر اللون (يشبه المستخدم في أعمال الفنان رودشينكه). تقدم الصور محاكاة ساخرة للإعلانات، تهدف إلى التحريض على نقد «العلاقات بين التصميم التجاري وتشكيل الثقافة لحياة الأفراد»، حسبما وضحت كروجر لمجلة «ذا نيويورك تايمز». فهي تساعدنا في فهم آلية عمل الصور داخل المجتمع - من خلال تقديم نقد نسوي للتصوير - لأنها صور للنساء كما شكلهن الإعلام الخاضع للسيطرة الذكورية، الذي يحدد كيف ترى النساء أنفسهن. تهدف الأعمال المماثلة إلى فضح القوالب النمطية التي تخلد توازن القوى السائد بين النساء والرجال. وفي أثناء ذلك تتحدى «نظرة الذكر» الفعالة، وتسعى إلى تمكين نظرة الأنثى التي ما زالت سلبية حتى الآن. يتجسد هذا في صورة أخرى من صور كروجر («بلا عنوان»، 1981) تصور من منظور جانبي تمثالا نصفيا كلاسيكيا لامرأة، وتحمل عبارة «نظرتك ترتطم بجانب وجهي». تعكس العبارة غموضا متعمدا؛ إذ تثير أسئلة مثل نظرة من؟ نظرة أي رجل؟ ولماذا «ترتطم»؟ وهل هو موجه ضد النظرة الدينية المقدسة، الكلاسيكية، والذكورية للمرأة، كما يعبر عنها التمثال؟ وغيرها من الأسئلة. كذلك تساعد النصوص المضافة إلى صور أخرى في تفكيك الادعاءات المرتبطة بالنزعة الاستهلاكية، في الإطار البسيط الذي يركز على «إظهار التناقضات»، كما نجد - على سبيل المثال - في صور «ابتعني وسأغير حياتك» (1984) أو «أنا أتسوق إذن أنا موجود» (1987).
نامعلوم صفحہ