ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
الذات والهوية
أسفر تحليل العلاقة بين الخطاب والسلطة عن نتيجة أخرى لأتباع ما بعد الحداثة؛ إذ أدى إلى تكون رؤية مميزة عن «طبيعة الذات» تحدت مفاهيم العقلانية الفردية والتأكيد على الاستقلال الفردي الذاتي التي يعتنقها معظم الليبراليين. إن المصطلح الذي يفضل أتباع ما بعد الحداثة تطبيقه على الأفراد ليس مصطلح «الذات» تحديدا، بل في الواقع مصطلح «التابع»؛ لأنه يلفت الانتباه ضمنيا إلى حالة «التبعية» لدى الأفراد الخاضعين - سواء أدركوا ذلك أم لا - لل «تحكم» (حسب الرؤية اليسارية)، أو «التشكيل» (حسب الرؤية المحايدة)، عن طريق خطابات سلطوية ذات دوافع أيديولوجية، تسيطر على المجتمع الذي يستقرون فيه.
إن الإنجاز الاستثنائي لفوكو وأصحاب الفكر المشابه - بالنظر إلى تحليلهم لآليات السلطة - كان تقديم أحد أقوى مزاعم ما بعد الحداثة تأثيرا؛ ألا وهو الزعم بأن تلك الخطابات تستلزم وتفرض وتقتضي (تشكل الاحتمالات المتعددة هنا أهمية هذا الزعم) نوعا محددا من «الهوية» لدى جميع الأفراد الخاضعين لتأثيره. حسب المصطلح ما بعد الحداثي، فإن أولئك «يشكلون التابعين». من المعروف بالطبع أن المؤسسات والخطابات التي تستخدمها تتطلب من المرء أن يكتسب شخصية من نوع محدد كي «يتلاءم» مع الوسط المحيط؛ فأي ممن درس في مدرسة، أو انضم إلى فريق رياضي أو مؤسسة عسكرية، أو أنجب طفلا في مستشفى - أو قرأ علاوة على ذلك بعضا من كتب علم الاجتماع الصادرة في خمسينيات القرن العشرين على غرار «إنسان التنظيم» - يعي إلى حد ما هذه النقطة. لكن رؤية ما بعد الحداثة اتسمت بتعقيد استثنائي؛ فنحن لا نكتفي في تلك الحالات ب «لعب أدوار»، بل إن هويتنا في حد ذاتها - أي مفهومنا عن ذواتنا - تصبح محل خلاف حال خضوعنا لتأثير خطابات السلطة. بالطبع، تمتد هذه الخطابات من تلك المهتمة مباشرة بقضايا الهوية (في مجالات الدين والعلاج النفسي بدءا من الفرويدية وانتهاء بعلم النفس الزائف) وصولا إلى تلك التي تلعب الدور نفسه على نحو أقل وضوحا، كما في حالة امرأة تتجاوب مع بطلة فيلم من إنتاج هوليوود الخاضعة للسيطرة الذكورية أو مع لوحات عارية في المتحف الخاضع للسيطرة الذكورية أو مراهق جالس أمام شاشة التليفزيون. جميع الخطابات تضع المرء في حجمه الصحيح. (إنني أستشهد هنا كالعادة بأمثلة عادية جذابة وبديهية على عكس الأمثلة المستترة المثقلة بالتنظير داخل حشد أدبيات ما بعد الحداثة الأكاديمية.)
يمضي نقاد ما بعد الحداثة قدما طارحين مزاعم سياسية حول طبيعة «التابع». من بينها أن خطابات السلطة المتنازعة، التي تنتشر عبر الأفراد وفيما بينهم، هي في الواقع ما يشكل الذات. ومن ثم من المستحيل على التابع أن «ينأى بنفسه» عن الظروف الاجتماعية الراهنة وأن يحكم عليها من وجهة نظر مستقلة وعقلانية، كما يزعم الفلاسفة الأخلاقيون المنتمون للاتجاه الكانطي الأنجلو أمريكي أمثال جون راولز وتوماس ناجل. على سبيل المثال، ينظر إلى أفكار الفرد الذكر وتعبيراته على أنها جزء من نمط خطابات أبوية فاسدة - تتنازع فيما بينها على أي حال - وهو مجرد ظاهرة ثانوية لها. وهذا يستبعد نظرة الذات الكانطية الموحدة لصالح التحديث ما بعد الحداثي للنموذج الفرويدي الذي يرى أن الأفراد ضحايا لصراع داخلي بين الأنظمة. تصف شيلا بن حبيب - الأستاذة بقسم الإدارة الحكومية في جامعة هارفارد - هذه الرؤية (مستخدمة كعادتها أسلوبا يمزج بين أسلوبي دريدا وفوكو عند التحدث عن اللغة):
حلت محل الفرد منظومة من البنى، والتناقضات، والاختلافات التي - كي تصبح مفهومة - لا يلزم اعتبارها نتاج ذاتية حية على الإطلاق. أنا وأنت لسنا سوى «مواقع» لخطابات السلطة المتنازعة تلك، و«الذات» ليست سوى موضع آخر في اللغة.
شيلا بن حبيب، «تحديد موضع الذات» (1992)
تتجلى آثار هذه الرؤية لطبيعة الفرد في كثير من نصوص ما بعد الحداثة الأدبية، التي تتناقض في هذا الإطار مع الاتجاه الليبرالي لكتابة الرواية الذي استمر في هذه الفترة على يد كتاب مثل أنجوس ويلسون وأيريس موردوخ وجون أبدايك وفيليب روث وسول بيلو. ترى الناقدة ومؤرخة ما بعد الحداثة ليندا هتشن أن روايات مثل رواية سلمان رشدي «أطفال منتصف الليل» تتحدى «زعم المذهب الإنساني بوجود ذات موحدة ووعي متكامل». إن الأدب ما بعد الحداثي:
يثير شكوكا حول تلك المجموعة الكاملة من المفاهيم المترابطة التي أصبحت متصلة بما أطلقنا عليه بأريحية الإنسانية الليبرالية مثل: الاستقلال الذاتي، والسمو، واليقين، والسيطرة، والوحدة، والشمولية، والنظام، والعولمة، والمركز، والاستمرارية، والغائية، والخاتمة، والهرمية، والتجانس، والتفرد، والمنشأ.
ليندا هتشن، «شعرية ما بعد الحداثة»، (1988)
ومن ثم، في كثير من الأدب الأمريكي الحديث:
نامعلوم صفحہ