أحاديث الحرب
تسير الباخرة وتسري لا حديث لركابها إلا الحرب، وقد امتلأت نفوسهم خوفا منها وقلقا واضطرابا، والبحر منبسط هادئ في آخر الصيف وقبل مجيء الخريف، تتلقى مياهه أشعة الشمس الغاربة في سكينة وهدوء، والعميد يجلس على كرسي مريح على سطح الباخرة ومن حوله ولداه يجلسان على بعض أمتعة الركاب، التي غصت بها طرقات الباخرة، يرقبان الغروب.
تقول أمينة: «ليس لأهل هذه الباخرة حديث غير الحرب.» ويقول لها أبوها وهو يمشط شعرها بأصابع نحيلة مترفقة: «أنت لم تشهدي في عمرك الغض حربا من قبل يا ابنتي، لقد ولدت في آخر سنة من سني الحرب التي مضت فكان مولدك بشيرا بالسلام، أما أنا فقد مرت بي حروب كثيرة، في آخر طفولتي وأول الصبا، حين كنت أختلف إلى الكتاب، كنت أسمع سيدنا يسأل العريف عن أنباء الحرب بين الترك واليونان في القرن الماضي، وكانت أحاديث تلك الحرب تحمل إلى نفوسنا صورا ضئيلة مختلطة مشوهة تثير شيئا من الخوف الغامض والإعجاب المبهم، فقد كنا نسمع أعدادا ضخمة لا نحققها، ولكن قلوبنا تمتلئ لها روعا وإعجابا، وهي أعداد القتلى والجرحى من أولئك وهؤلاء، وكنا نسمع أسماء مدن وأماكن تصل إلى آذاننا، بعد أن تصيبها ألوان من المسخ والتشويه، فتثير في نفوسنا عاطفة من الطموح إلى غير ما كنا فيه والنزوح إلى دار أبعد من الدار التي كنا نقيم فيها. وكنا إذا خلونا إلى أنفسنا بعد الاستماع إلى هذه الأحاديث المشوهة تمثلنا صورا مختلطة من الروع والإعجاب، ووجدنا في تمثل هذه الصور شيئا من الرضا الذي كان يلائم خيال الصبا وحاجته إلى الطموح من ناحية وإلى العلم والمعرفة من ناحية أخرى، وقلما كنا نفرق بين أحاديث الحرب هذه وأحاديث أخرى، كانت تقص علينا في أعقاب النهار وأوائل الليل، وتملؤها الأخبار الهائلة التي كانت تلذنا بما تثير فينا من الإعجاب والروع، تتحدث إلينا ببلاء الأبطال حين يلقون الأهوال في الأساطير وقصص العجائز.»
وتسأل أمينة: «ألم يشترك في تلك الحرب أحد من مصر كما اشترك فيها من إنجلترا الشاعر لورد بيرون، الذي قرأت أن قلبه قد دفن في اليونان وأن بقية جسده دفنت في إنجلترا؟»
يقول طه حسين: «لا يا ابنتي، إن المصريين كانوا وقتذاك تحت الاحتلال الأجنبي، وكان أجدر بهم أن يحاربوا، إن حاربوا، لتحرير بلادهم.»
وتمر برهة ثم يستأنف الحديث يقول: «عندما تقدمت بنا السن شيئا إذا نحن نسمع أحاديث الحرب بين الإنجليز والبوير فنفهمها خيرا مما كنا نفهم الأحاديث الأولى، ولكننا لا نحقق من أمرها شيئا واضحا معقولا، وإنما هو الروع دائما والإعجاب أحيانا والخيال الذي يخلق لنفسه ما يشاء أو ما يستطيع من الصور دون أن تتصل أهواؤنا بهذا الفريق أو ذاك من المحاربين؛ لأننا لم نكن نعرف من أمر هذا الفريق أو ذلك شيئا.»
ويقاطع مؤنس أباه يقول: «كل ما بقي في رءوسنا من معلومات المدرسة هو أن فكرة تكوين فرق الكشافة لها صلة بتلك الحرب، حرب الإنجليز والبوير!»
ويقول العميد: «نسينا حديث تلك الحرب أيضا، ولكننا نسمع بعد حين أخبار حرب أخرى تثور في أقصى الأرض بين الروس واليابانيين، هذه الأخبار كنا نفهمها خيرا مما كنا نفهم غيرها، ونحس بما تحمل من الأهوال في قوة ودقة لم نكن نعرفها من قبل، ونسمع من حولنا أوساط الناس يختصمون في أمر المتحاربين، يختصمون بعقولهم وعواطفهم، ففريق يميل إلى الروس ويتمنى لهم الفوز، وفريق يميل إلى اليابانيين ويقدر لهم النصر.»
ويقول مؤنس: «وأنت يا أبي في أي فريق كنت؟»
ويقول طه حسين: «كنت في آخر الصبا وأول الشباب على هذه الحيدة، التي تنشأ مما يلائم طبيعة هذه السن من الغفلة والأثرة والإعراض إلا عما يمسنا من قريب، ولكن الأيام تمضي وإذا الحرب تنشب بين الترك والإيطاليين في شمال أفريقيا، في هذه الأرض التي تجاور بلادنا، فهي حرب قريبة منا، قريبة في المكان وقريبة في الشعور أيضا، فقد كنا شركاء الترك في الدين، وكنا شركاءهم في السياسة أيضا، هنالك تشترك عواطفنا في هذه الحرب، وتشترك أيدينا، وتشترك ثروتنا أيضا، فمنا المتطوعون الذين كانوا ينفرون خفافا وثقالا إلى الحدود، ومنا الباذلون الذين يمنحون ما يستطيعون من المال والمعونة.»
نامعلوم صفحہ