لغز عشتار
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
اصناف
امتدادها البدئي كمياه أولى تملأ حيز المكان قبل بدء الزمان. ثم أنجبت هذه الأم الأولى أول كتلة متمايزة عن الماء، وهي كتلة السماء والأرض ملتصقين في جبل بدئي تغمره المياه من كل جانب. في داخل هذا الجبل ولد الجيل الأول من الآلهة، ثم انقسم الجبل إلى نصفين كما الصدفة، فصار الشق الأعلى سماء وارتفع، وصار الشق الأسفل أرضا واستقر.
إن الجو العام لأسطورة التكوين السومرية هذه، لقريب جدا من جو الأسطورة النيوليتية السابقة عليها، وإنها رغم اجتزائها لتلقي أضواء على جوانب الأسطورة الأصل. إن ما فعله النظام الميثولوجي للمجتمع المديني الأول هو فصل الخصائص الكونية للأم الكبرى عن خصائصها المتعلقة بالخصب وحركة الطبيعة، فترك الأولى لاسمها «نمو» وجعلها إلهة مرحلة تعيش في عالم المجردات بلا ظل ولا معبد ولا ديانة منظمة، وترك الثانية لاسمها «إنانا» التي أدمجها في بانثيون الإله الجديد برئاسة «آن»، وجعل لها نسبا وأما وأبا في شجرة عائلة الآلهة الذكرية.
وفي بابل نجد الشيء نفسه؛ ففي مقابل الإلهة الكونية «نمو» نجد الإلهة الكونية «تعامة» المياه الأولى وأصل الكون وأم الجيل الأول من الآلهة، التي تصفها الأسطورة بخالقة الأشياء جميعا. غير أن الفيض التلقائي الذي رأيناه في الأسطورة السومرية، التي كانت قريبة زمنيا من الأسطورة النيوليتية، يتحول في الأسطورة البابلية إلى انقسام بالإكراه والقتل يمارسه الإله مردوخ، الذكر الأسمى، على الأم الكبرى. ففي البدء كانت الأم تعامة على شكل مياه بلا تخوم ولا حدود؛ في أعماقها ولد الجيل الأول من الآلهة وتناسل، إلى أن خرج جيل جديد من الآلهة الفتية، قرر التمرد على تعامة وإحلال نظام جديد. فعقدوا اللواء لأشجعهم «مردوخ» الذي دخل في صراع مميت مع تعامة فقتلها، ثم قسم جسدها نصفين؛ فمن نصف رفع السماء، ومن نصف ثبت الأرض. ثم أخذ بتنظيم الكون ليخرجه على صورته الحالية.
29
إن إسطورة التكوين البابلية هذه، لتعترف بدور الأم الكبرى في إخراج الكون من حيز الهيولى إلى حيز الوجود، ولكنها تجعل منه دورا سلبيا؛ لأن الأم الكبرى تغدو مادة لفعل الإله الذكر لا مصدرا تلقائيا للإشعاع، ومرحلة يتجاوزها مردوخ ليبني مجمع آلهته الجديد على أشلاء جسدها الذي كان أصلا خميرة الخلق، الخلق بمحبة المرأة لا الخلق بقوة الرجل. ومن ناحية أخرى فإن قتل الأم في هذه الأسطورة ليعكس رغبة الرجل، سيد الحضارة الجديدة، في الخروج من حضن الطبيعة والتحكم فيها، وتوجيهها لمصلحته بعد تاريخ طويل من الاستسلام والعيش في كنفها.
إضافة إلى تعامة التي غدت في الميثولوجيا البابلية إلهة - مرحلة عاشت في الأيام الغابرة، ثم ماتت عند عتبة التاريخ، فإننا نجد في بلاد الرافدين شكلا آخر من أشكال الأم الكبرى، أكثر حضورا يتمثل في الأم - الأرض «نتو» أو «ننخرساج». فلما كان الإله الذكر لا يستطيع الادعاء بقتل الأرض، ولو استطاع لفعل؛ فقد أضعف صورتها الكلية القدرة وجعلها منفعلة لا فاعلة، فخصبها لا يفيض عنها بل يأتي من خارجها، وماؤها الذي ينبع من أعماقها ويسقي تربتها لا ينتمي إلى مملكتها بل إلى مملكة إله آخر هو «إنكي» إله الماء العذب، الذي تجعله بعض الأساطير زوجا لننخرساج، فنراهما يعيشان في جنة وارفة الظلال تفيض بكل شجر وثمر نتيجة لاتحاد الماء إنكي بتربة الأرض ننخرساج. هذه الجنة البدئية هي النموذج الأول لكل أرض مزروعة تعطي أكلها بلقاح الماء للأرض. هذا، وقد احتفظت هذه الأم - الأرض - ببعض خصائص الخلق القديمة، فنراها تلعب دورا أساسيا في خلق الإنسان ولكن بمعونة إنكي. نقرأ في نص بابلي طقسي كان يتلى لتخفيف آلام الحوامل عند الوضع: «أنت عون الآلهة يا مامي الحكيمة، أنت الرحم الأم أيتها الخالقة، اخلقي الإنسان. فقالت ننتو للآلهة الكبار: لن يكون لي أن أنجز ذلك وحدي، ولكن بمعونة إنكي يخلق الإنسان.»
30
وفي سوريا - كنعان وآرام - لم تعطنا الأساطير المعروفة حتى الآن صورة عن الأم الأولى الخالقة، رغم أننا نجد بعض ملامحها في شخصية الإله «عشيرة» زوجة إيل كبير الآلهة ورب السماء السابعة. ويبدو هنا أن زواج إله السماء المبكر من الأم الكبرى قد ساعد على طمس وجهها القديم ونقل خصائص الخلق كاملة إلى الإله المذكر. إلا أن الخصائص المتعلقة بالخصب والتكاثر ودورة الزراعة تبقى في يد وريثات الأم النيوليتية. ففي أوغاريت نجد الإلهة عناة، وفي بيبلوس ودويلات المدن الكنعانية الفينيقية والفلسطينية نجد الإلهة عستارت التي يرد ذكرها في التوراة تحت اسم عشتاروت، ولدى الأنباط وبعدهم التدمريون نجد الأم الكبرى تحت اسم «اللات». هذا وقد نقل الجنود السوريون في الفيالق الرومانية إلى الأرض الإيطالية عبادة هذه الإلهة ذات الأسماء المتعددة، ولكن تحت اسم موحد هو «ديا-سوريا» أي: الإلهة السورية.
31
وفي مصر تظهر لعبة الأسماء بوضوح أكثر من أي مكان آخر؛ ذلك أن الانتقال المستمر لمراكز القوة السياسية من منطقة لأخرى عبر تاريخ مصر الطويل، وأرضها المترامية، كان يعطي الأم الكبرى في كل مرة اسما جديدا. إلا أن دارس الميثولوجيا المصرية يستطيع بسهولة، إذا غاص قليلا تحت القشرة الظاهرية للأساطير المختلفة، أن يدرك أكثر من أي مكان آخر الوحدة الحقيقة لهذه الأسماء. وإن أول ما يلفت انتباهنا في مجموعة تجليات الأم الكبرى في الميثولوجيا المصرية هو الإلهة «نيت». فهذه الإلهة، إن لم تكن بذاتها واسمها الإلهة النيوليتية المصرية، فإنها وريثتها المباشرة. وإلى جانبها نجد الإله «نوت» و«إيزيس» و«هاتور» و«سيخمت».
نامعلوم صفحہ