لغز عشتار
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
اصناف
وفي جزيرة كوك بالمحيط الهادي، تحكي الأسطورة عن فتاة اسمها «إينا» كانت تستحم في إحدى البحيرات عندما أتتها أفعى مائية كبيرة، ما لبثت أن نضت عنها ثوبها ليظهر تحته الفتى الوسيم «تونا». وقع الاثنان في حب بعضهما وتكررت لقاءاتهما عند البحيرة، إلى أن جاء يوم قرر الفتى فيه وداع صديقته ومغادرتها دون رجعة. هنا قررت إينا الانتقام من تونا فقتلته في لقائهما الأخير، واجتثت رأسه فدفنته في التراب، وراحت تزوره في كل يوم. وبعد مدة من الزمن لاحظت الفتاة أن نبتة صغيرة قد بدأت تزيح التراب عن رأس الفتى المدفون. ويوما بعد يوم أخذت تلك النبتة تتطاول حتى غدت شجرة كبيرة هي أول شجرة جوز هند في العالم، وكانت ثمارها العجيبة، وما تزال تحمل عيني الفتى وبعض ملامح وجهه.
18
وفي كولومبيا بأمريكا الجنوبية تحكي أساطير السكان الأصليين عن فتى عذب الصوت كان الناس يتقاطرون إليه من كل فج عميق لسماع أغانيه الشجية. وحدث ذات يوم، لسوء حظ الفتى، أن الناس بعد انصرافهم عنه أصابهم داء غريب قضى على كثيرين منهم، فجاءوا إلى الفتى وقد حملوه مسئولية ما حدث، فقتلوه، وأحرقوه ودفنوا رماده تحت التراب. وبعد قليل نبتت فوق قبره شتلة صغيرة ما لبثت أن تحولت إلى أول نخلة في العالم.
19
هذا ويضيق المجال عن ذكر أمثلة أخرى مشابهة؛ لأن شيوعها يعادل شيوع أساطير الطوفان الكبير، وأساطير خلق الزوجين البشريين الأولين من الطين، وأساطير خلق العالم من المياه البدئية الأولى.
لقد ظهر الوجود من لجة العماء بالقتل، وظهرت مظاهر الحياة الأولى بالقتل، وبدأت حياة الإنسان بالقتل. ثم لاحظ الإنسان أن استمرار بقائه يعتمد على القتل، فكان اقتطاع الشجرة بالنسبة إليه قتلا، وصيد الحيوانات قتلا، وحصد القمح قتلا، وصيد الحيوانات قتلا. الحياة تستمر بالقتل، تتغذى على الموت، والموت فاغر فاه يتغذى على الحياة. من الجثث المتفسخة تنطلق ديدان حية نشطة، وفوق القبور وبقايا النباتات تنبت أعشاب وسيقان خضر. لهذا عمل الإنسان القديم على رفد الحياة بالموت، ورفد الموت بالحياة، من خلال طقس القرابين البشرية والحيوانية. فما نشأ عن الموت لا يستمر إلا بالموت، وحياة الجماعة لم تكن لتقوم إلا بتقديم بعض أفرادها لقمة للموت، ومزروعاتها لم تكن لتنتعش من باطن الأرض إلا بدم الأحياء الذي يراق فوق التربة حاملا أرواح الضحايا إلى العالم الأسفل. لذلك كانت الأضاحي البشرية تذبح في الحقول، وتؤخذ أجزاؤها فتدفن تحت التراب بين البذور المزروعة، وتؤخذ دماؤها فترش فوق الوريقات الصغيرة الخضراء. ورغم أن القربان البشري قد تم استبداله بالقربان الحيواني لدى كثير من الثقافات في أزمنة مختلفة من تاريخها، إلا أن هذا الطقس قد استمر قائما إلى مطلع القرن العشرين لدى بعض الثقافات التي هي أبعد ما تكون عن البدائية، كما هو حال الثقافة الهندوسية في شبه القارة الهندية.
وفي الرواية التوراتية عن الفرودس وسقوط الإنسان، التي استلهمت روايات دينية أقدم، نجد أن الموت يظهر إلى الوجود في نفس الوقت الذي يكتشف فيه الإنسان الفعل الجنسي الذي بواسطته يبتكر الحياة. ومع اكتمال هذين الضدين المتعاونين، يدخل الإنسان في الزمن المادي، ويهبط إلى الأرض ليبتدئ الحضارة. لقد جلب آدم وحواء على نفسيهما الموت بعد أكلهما من ثمرة الجنس المحرمة، ولكنهما قد اختارا لذريتهما من الجنس البشري نوعا آخر من الخلود، هو خلود النوع الناجم عن دينامية المتناقضات، لا خلود الفردوس الساكن الذي يشبه العدم. وبعد هبوطهما إلى الأرض، كان في مصرع ابنهما هابيل على يد أخيه قابيل، أول تجسيد لقوة الموت في الحياة الأرضية التي ابتدأت لتوها. وتم استهلال تاريخ البشرية بجريمة قتل: «وحدث إذ كانا في الحقل أن قابيل قام على هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقابيل: أين هابيل أخوك؟ فقال: لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟! فقال: ماذا فعلت؟ صوت أخيك صارخ إلي من الأرض؛ فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يديك.»
20
هذه الأرض التي فتحت فاها لتتلقف جسد هابيل هي التي جبل منها جسد أبيه آدم، وهي التي سوف تتلقف جثث الموتى إلى نهاية الأزمان. إنها الأم الكبرى التي تأخذ باليسار ما أعطته باليمين. سيدة القوتين الكونيتين. قوة الحياة النشطة وقوة الموت الساكنة، قوة النور وقوة الظلام، قوة الخير وقوة الشر، اليانج والين في دورانهما الأبدي. وذراعا الصليب المعقوف في تناوبهما السرمدي.
الأم الكبرى سيدة الموت
نامعلوم صفحہ