لغز عشتار
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
اصناف
نحو نهاية الألف التاسع انتهت الثقافة النطوفية، وهجرت قراها دون سبب واضح، مفسحة المجال لظهور القرى الزراعية الأولى.
أثبت علم الآثار الحديث بالتعاون الوثيق مع علم الحياة النباتية لما قبل التاريخ، أن الزراعة لم تظهر لأول مرة في وديان الأنهار الخصبة، كما جرى الاعتقاد لفترة طويلة، بل في السهول والوديان الداخلية التي ترويها مياه الأمطار، وفي المناطق التي شهدت لفترة طويلة النمو الحر لحقول الحبوب البرية، وعلى الخصوص سهول سوريا الداخلية وسفوح زاغروس الغربية شرقي وادي الرافدين.
12
فمع مطلع الألف الثامن قبل الميلاد تظهر البينات على بداية التجارب الزراعية الأولى في سوريا في أريحا جنوبا، وفي تل المريبط شمالا، وبذلك يبتدئ العصر النيوليتي الأول، الذي اصطلح على تسميته بنيوليتي ما قبل الفخار، والذي استمر حتى الألف السادس قبل الميلاد.
13
كما تظهر البينات بعد ذلك بوقت قصير على تدجين الماشية لأول مرة في الشرق القديم في موقع «الخيام» غربي البحر الميت.
14
تظهر أريحا كقرية مكتملة منذ عام 8350ق.م. فوق موقع نطوفي قديم، وتستمر آهلة بالسكان مدة ألف عام كاملة حتى 7350ق.م. وذلك على ما أعطته تواريخ الفحم 14. وفي الحقيقة فإن إطلاق اسم قرية على هذا الموقع ليس إلا انسجاما مع التسمية السائدة لمواقع ذلك العصر؛ ذلك أن أريحا كانت الموقع الرائد لسلسلة أعقبتها خلال الألفين التاليين من مواقع أشباه المدن. فعدد السكان يقفز هنا من تعداد المواقع النطوفية الذي لم يتجاوز الثلاثمائة بأية حال، إلى الألفي نسمة وربما أكثر، في مساحة تزيد عن خمسة الهكتارات، كما أن البنية المدنية والسياسية والاقتصادية تتطور وتتعقد تاركة إلى الأبد الشكل النطوفي البسيط. فاستمرار هذا الموقع قائما لمدة ألف عام ومسكونا بالثقافة نفسها، إنما يدل على اقتصاد مستقر وثابت، وعلى بنية مدنية وسياسية متطورة. كما أن السور الحجري الذي تم الكشف عن بعض أجزائه، والذي يعتقد أنه يحيط بالمدينة من شتى جهاتها بسماكة ثلاثة أمتار، وارتفاع يزيد عن أربعة، وهو أول سور في التاريخ يبنى حول مدينة، إنما يكشف عن موارد مادية وبشرية ضخمة بمقياس ذلك العصر، وعلى وجود سلطة مركزية متطورة قادرة على القيام بمثل هذا العمل الجماعي الجبار وتوجيهه والإنفاق عليه. فإلى جانب الزراعة، تظهر التجارة كعامل مكمل في دعم اقتصاد أريحا. ويبدو خلال هذه الفترة أن خطوط التجارة قد امتدت إلى مئات الكيلومترات عبر سوريا في اتجاه الشمال لتصل إلى الأناضول؛ فقد عثر في أريحا على أدوات من حجر السبج (الأوبسيدان)، وهو زجاج بركاني استعمله الأقدمون في صنع المرايا والنصال الصلبة الحادة، ولم يكن متوفرا إلا في منطقة واحدة في هضبة الأناضول. كما كانت أريحا تبادل بمواد الأسفلت والكبريت والملح المتوفر من البحر الميت، وبعض المنتجات الحرفية المصنوعة محليا. أما موقع تل المريبط (80كم جنوب شرقي حلب)، فرغم كونه أصغر قليلا من أريحا، إلا أنه يعكس خصائص مشابهة. فهنا توصل الإنسان إلى اكتشاف تقنيات الزراعة منذ مطلع الألف الثامن قبل الميلاد، واستمر في سكن هذه القرية الزراعية الأولى مدة ألف عام كاملة، كما هو الحال في أريحا. وقد تم هجر هذين الموقعين دون سبب واضح في نهاية الألف الثامن، حيث أتت إليهما بعد ذلك أقوام جديدة وحلت فيهما ثقافات أخرى. وهنا يتحول المركز الحضاري كلية من سوريا الجنوبية إلى سوريا الشمالية خلال الألف السابق قبل الميلاد؛ أي في المرحلة الثانية من العصر النيوليتي ما قبل الفخاري.
15
خلال الألف السابع قبل الميلاد، بلغت الثورة النيوليتية غايتها، حيث صارت الزراعة العامل الأساسي في اقتصاد البؤرة الحضارية، بعد أن كانت في شكلها الأولي مجرد عنصر داعم، واكتمل الشكل المدني والسياسي للقرى الكبيرة المستقرة التي تزايد عددها بشكل كثيف من غابات ساحل المتوسط غربا، إلى حوض الفرات شرقا، مرورا بالسهول الداخلية، وما يعرف الآن ببادية الشام، ومن طوروس شمالا إلى أريحا في الجنوب. من هذه القرى ما تم الكشف عنه مؤخرا في رأس شمرا على شاطئ المتوسط الشمالي، وأبو هريرة ويقرص في حوض الفرات، وتل أسود على رافد بليخ، والكوم ومواقع أخرى حول منطقة تدمر، وتل أسود وتل الرماد حول مدينة دمشق. وقد اعتمد الاقتصاد الزراعي لهذه المستوطنات على الزراعة المطرية، إلا أن تقنيات السقاية البدائية قد بدأت بالظهور في أكثر من منطقة. وبالإضافة إلى الزراعة فقد تابع إنسان المنطقة الاعتماد على الصيد، إلا أن تدجين الماشية الذي غدا نشاطا مستقرا قد حل تدريجيا محل الصيد. وقد ارتبطت هذه المستوطنات بعضها ببعض من خلالها شبكة تجارية متطورة، حيث كان تبادل السلع يتم عبر دروب تتراوح من عشرات الكيلومترات إلى مئات الأميال. كما نشطت بشكل كثيف تجارة حجر السبج من الأناضول.كل ذلك جعل من المنطقة السورية وحدة ثقافية متكاملة.
نامعلوم صفحہ