وكانت حركته ليعود عميدا أبطأ .. ممزوجة بخجل أعظم وبتأنيب أشد هولا، وتحرك خافض البصر طويلا نحيلا عجوزا محني الأكتاف حاملا متاعب الدنيا كلها من جديد، وليس في رأسه واضحا سوى الواجب، وما لا بد من عمله .. والدائرة البيضاء الملساء الصغيرة فوق مكتبه، والعقاب.
وبإصبع عادت إليها كل عصبيتها، وكأنما تمتد من صدر ضاق بالدنيا، ضغط على زر الجرس.
ولكن إصبعه كانت لا تزال بها بقية من ارتعاش، ارتعاش ليس الكبر أو الضغط سببه
ديسمبر 1962م
الزوار
ما كاد آخرهم يخرج، ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كالقطار المزدحم حين يصل إلى محطة النهاية، حتى التفتت «مصمص» (وهو ليس اسم دلع ولكنه اسمها الحقيقي) إلى سكينة التفاتة حادة، وقالت بصوت عال: بقى اسمعي يا ...
واحتارت قليلا هل تقول لها يا بت يا سكينة، أم سكينة فقط .. وسكينة كان اسمها سكينة وهي سكينة فعلا. وهو اسم قد يبدو ريفيا، ولكنها لم تكن ريفية النشأة أو الملامح. كانت من مدينة ما، واحدة من عشرات مدننا أنصاف الكبيرة، مؤدبة جدا، خجولة جدا ورقيقة أيضا. وكانت تحتل السرير المجاور لمصمص المرأة الضخمة الكبيرة الصدر والثديين التي يميل لونها إلى السمرة، ودائما ترتدي قميص نوم أبيض.
والسريران كانا في عنبر واحد من العنابر الكبيرة التي تحفل بها مستشفياتنا العامة والمركزية والجامعية والصدرية، العنبر المعهود ذو الاثنين والعشرين سريرا .. عنبر الحريم، يسمونه .. له تومرجية سليطة اللسان ومنفوخة الجسد مكورة كالبطة. وتومرجي أعمش مفروض أن لا يدخل العنبر وأن يقتصر عمله على المطبخ ودورة المياه، ولكن أحدا لم يعلن يوما هذا المفروض وأحدا لم ينفذه.
وكانت سكينة الضعيفة الرقيقة الحنونة تحس إذا أطلت النظر إليها أو عمقته أن هناك فعلا أناسا ضعفاء محتاجين إلى الشفقة، كانت مريضة بمرض مزمن، ولها في المستشفى ثلاثة أشهر، وأمنيتها الكبرى أن تغادره وتخرج، ولكنهم لا يخرجونها ولا يصرحون لها بالخروج، ولا يفعلون هذا بعنف أو بحزم كما قد يعتقد البعض، إنهم يفعلونه بأنصاف الابتسامات أحيانا وبهز الرءوس والطبطبة أحيانا أخرى .. وأحيانا بمجرد القول: حالا .. إن شاء الله تخرجي .. أما سبب بقائها أو إبقائها فهو أن مرضها من نوع غريب يحلو للأستاذ أن يحاضر طلبته وأطباءه الصغار عليه .. وأن يريه لزملائه الكبار، كما لو كان يريهم قطعة نادرة ضمن مجموعة أصداف أو طوابع بريد يقتنيها.
وسكينة لم تكن مقطوعة من شجرة .. كان لها إخوة. في الحقيقة أخ واحد غير شقيق وأختان. وكان لها خالات وعمات وقريبات كأي إنسان منا وكل إنسان. ولكن رغم هذا كله فلم يكن لها زوار بالمرة. طوال الأشهر الثلاثة التي مكثتهم بالمستشفى لم يزرها أحد .. من يوم أن أتى بها أخوها وأودعها العنبر لم تر وجهه. تلك حقيقة تعرفها هي .. ويعرفها حتى الجميع، التومرجية السليطة اللسان تعرفها .. وقد تكون مشكلة الخروج تلح على سكينة في أحيان كشيء لا بد منه ولا بد من حدوثه ولا بد أن تكلم الطبيب الكبير بشأنه، ولكن مشكلتها الأكثر حدة في الواقع أن يزورها أحد .. أن تغمض عينيها وتفتحهما فتجد يدا توقظها من النوم أو الغفوة وتقول لها: قومي يا سكينة .. جالك زوار .
نامعلوم صفحہ