وبوغت العميد حقيقة وهو يلحظ فجأة أنها بأصابع اليد الواحدة .. أصابع تلون سبابتها آثار الحبر، قد فتحت علبة الكبريت، وباليد الأخرى، بيد ثابتة لا اضطراب فيها ولا خوف، وبحركات تلقائية ليس فيها من مجهود الإرادة شيء، ثبتت السيجارة في فمها وأدارتها دائرة كاملة بين شفتيها، وكأنما لتبلل - كالمدخنين العتاة - فمها (الفلتر)، وبنفس التؤدة والتلقائية، وبضربة لا أثر للتدبير فيها، أشعلت العود ولم تقربه من السيجارة في الحال، أهملته بين إصبعها قليلا، وكأنما تستمتع برؤيته يحترق. ثم ما لبثت ببطء، ودون أن تنظر، وبعينين هائمتين في جدار الفناء البعيد، أن قربت العود بحيث لامست شعلته طرف السيجارة دون أن تحيد يمينا أو يسارا، وكأنما يدها مدربة على الطريق. وجذبت نفسا واحدا اشتعلت بعده السيجارة. وبالدخان الخارج، بعد ابتلاعه، من فمها، أطفأت العود، ثم ما لبثت أن ألقته في إهمال غريب فوق عشب الممشى القريب.
وجن جنون العميد، إنها مدمنة داعرة الإدمان أيضا، إنه هو نفسه يدخن ولا يفعل شيئا كهذا، إنه يشعل سيجارة كلشنكان ويدخنها كيفما اتفق، ولكن هذه، متى وكيف وفي أي بؤرة فساد تعلمت كل هذا. إنها حتى لا تشعل الكبريت كالنساء التي قرأ مرة أنهن يشعلن العود من الناحية البعيدة خوفا غريزيا من ناره على ملامحهن وشعرهن، وفقط بعد الاطمئنان إلى شعلته بعد خفوتها يجرؤن على تقريبه منهن، أما هذه ال... الطالبة، طالبة أولى هذه .. لا تخاف العود ولا النار، ويبدو أنها لا تخشى شيئا في الوجود .. إنها لا يمكن أن تكون في السابعة عشرة .. سن ابنته .. لا بد أنها أكبر بكثير .. بسنتين لا بد، أو حتى بأيام .. إنها جرثومة، إن الفصل أسبوعا واحدا لا يكفي أبدا .. الرفد النهائي هو ما يجب عمله، لا أقل من الرفد النهائي.
ولكنه لم يعرف كيف حدث هذا، فقد وجد شيئا أكبر بكثير من كل غضبه وكل حماسه للضغط على الجرس واستدعاء الساعي واتخاذ بقية الإجراءات، شيئا أجبره على أن يقف في مكانه لا يتحرك وينتظر ويعاود الرؤية.
ورفعت الفتاة يدها إلى فمها مرة أخرى، ولكنها انتظرت قليلا بفم السيجارة قريبا من فمها، ثم بدا وكأن الوقت قد حان، وهكذا ببطء لا تلكؤ فيه أسبلت جفونها حتى كادتا تغلقان تماما، ثم ضمت شفتيها حتى ضاقت الفتحة بينهما وتكرمش غشاؤهما، ومن الفتحة الضيقة أدخلت فم السيجارة، وجذبت نفسا، لا لم يكن جذبا، كان امتصاصا، ليس امتصاص دخان، لكأنه رشف أعظم سعادات البشر، رشفة ببطء وباستعذاب وبملايين الأفواه، كل خلية من خلاياها بدت وكأنما أصبح لها فم تجذب به وترتشف ويتموج جسدها كلها تموجا غير منظور، وعلى دفعات وكأنه عطشان يجرع أعذب الماء ويريد أن يستمتع بكل قطرة من قطراته، حتى إذا ما بدا أن كل دقيقة فيها قد أخذت كفايتها وظفرت بسعادتها الخاصة، رفعت السيجارة عن فمها ببطء وكبرياء، وعينين قد فتحتا ببخل شديد، وكأنها تخاف أن تهرب من فتحتيهما النشوة.
واستحال غضب العميد إلى لحظة صدمة مفاجئة تكاد تتحول إلى ذعر .. خوف شديد أن يستمر في الرؤية، خوف الخائف على نفسه هو من استمرارها، والفناء بدا له كالبقعة المهجورة المقطوعة عن العالم، يحفل بسكون، وزمتة، ورائحة ربيع مقبل مخيف، وقرب أيام نهاية العام والامتحان، والفتاة كأنها جنية من جنيات الظهر، انشقت عنها خرابة الفناء فجأة، متكئة - تكاد تكون مستلقية - فوق الأريكة ذات الحديد المتراكم فوقه الزمن والصدأ، الناقص مقعده خشبة الوسط.
وبرهبة المذهول هذه المرة راح يترقب كيف تخرج النفس .. فمها المضموم أبقته مضموما هنيهة، ثم فتحته نصف فتحة، وبحركة فيها كسل أنثوي ضاقت له عيناه راحت توسع من فتحته قليلا قليلا، في نفس الوقت الذي كان صدرها قد بدأ يتسع وكأنها بسبيلها إلى التنهد حرقة ولوعة، ربما على فراق تلك السحابة الدخانية الصغيرة التي فجرت في جسدها المستلقي تعبا واسترخاء حيوية وأضافت إلى صباها صبا يتسع حتى ليجذب الدخان إلى أعمق أعماقها، ليلامس أقصى أرجائها وليلتقي بكل جزء من صميم صميمها لقاء الوداع. وفي نفس الوقت الذي يعود فيه الصدر إلى وضعه الطبيعي وحجمه، يكون الدخان هو الآخر قد بدأ يخرج، من الشفتين المنفرجتين أضيق أوسع انفراج .. تخرج دفعاته الأولى مرسلة على سجيتها دون ضغط أو إكراه، تصنع دوائر لولبية وضبابات ثم تتلوها الدفعات الخارجة بالإرادة متأنية موجهة قد شحب دخانها وتغير لونه وكأنما امتصت منه كل النضرة والحياة.
قطعا لا بد من فصلها. في منتصف السيجارة تماما والجريمة سيدق الجرس ويهمس إلى الساعي ويذهب الرجل ويطبق عليها وساعتها سيعرف اسمها ويفصلها.
ذلك كان قراره، ولكن ما ضايقه في الحقيقة أنه بدا وكأنه قرار شخص آخر، بعيدا جدا، ذلك البعد الذي أصبح بين عقله وإرادته، إرادة لا يدري لماذا هي رخوة لا تستطيع أن تنفذ أمرا وكأنما هي واقعة تحت تأثير مخدر سخيف ملعون لا يعرف كنهه، إدارة لم تعد تستطيع أن تفعل إلا أن تنظر وتستمر تنظر.
وأخذت الفتاة نفسا آخر، وهذه المرة أخرجت دخانه من فمها وأنفها معا، أنف فتحاته صغيرة دقيقة كأنها براعم، فتحات يخرج منها الدخان باهتا معتصرا ليصطدم بالدخان الخارج من الفم الضيق المضموم المكرمش.
وأحس العميد بأشياء داخله تتنبه. وتلفحه سخونة ليس مبعثها الجو .. وبسرعة في دقات القلب لا علاقة لها بمرض الضغط.
نامعلوم صفحہ