71

ومن تجاربنا في تاريخ الشعر العربي، يتبين لنا أن قواعد النظم عندنا مؤاتية للشاعر في كل تصرف يلجئه إليه تطور المعاني والتعبيرات في مختلف البيئات والأزمنة، فلا موجب للفصل بين قواعد النظم، وأغراض الشعر في تجربة من التجارب العربية، التي وعيناها منذ نشأت أوائل الأوزان إلى أن بلغت ما بلغته في منتصف هذا القرن العشرين.

ذلك شأن التجارب العربية، فما بال التجارب في أمم الحضارة التي تتصل بنا ونتصل بها، وتبادلنا مطالب الفنون والآداب كما يحدث الآن بيننا وبين أمم الحضارة الغربية؟ ماذا تفرض علينا هذه الثقافة المتبادلة في ميدان النظم والشعر على اتصال بينهما أو على انفراد؟

أما في النظم فلا خفاء بالأمر من أيسر نظرة إلى آدابنا وآداب الأمم الغربية، التي نتصل بها في العصر الحديث.

فمما لا تردد فيه أن هذه الأمم لم تبدع في موازين النظم بدعا نستفيده منها، ولم نكن قد سبقناها إليه في عصر من عصورنا، فإذا التزموا الأعاريض معتدلين أو مبالغين، فليس عندهم ما هو أدق وأجمل من الموشحة في أوزانها التي تقبل التنويع والتشجير إلى غير نهاية، والتي يعتبر تعدد القافية فيها ندحة وزينة في وقت واحد . فإن إطلاق الحرية للشاعر في توزيع القوافي، حيث شاء يوشك أن يعفيه من قيودها، كما يزيد من الإيقاع جمالا على جمال.

ولم يبدع الأوروبيون - حتى في شعر المسرحيات الملحنة - فنا من الأناشيد أتم من الموشحة، وأصلح منها للتلحين وحركة الإيقاع.

فإذا ترخص الشاعر الغربي في القواعد، فأسقط القافية واختار الوزن الذي يسمونه بالنظم الحر أو النظم الأبيض - فجهد ما بلغوا إليه أنهم عادوا إلى الأسطر المتوازنة، أو إلى الاكتفاء بالمقاطع التي لا تبلغ في دقتها مبلغ الأسباب والأوتاد والفواصل، وكل أولئك طور من الأطوار التي تخطاها الشعر العربي في الأزمنة الماضية، أو سبقتهم إليه أمة من الأمم الشرقية، وتوقف بها التطور عنده، لارتباطه بالتقاليد الدينية.

فليس عند الغرب من فنون النظم جديد نأخذ منه في أبواب التوزين والتنويع.

ليس في فن النظم جديد نأخذه من الأعاريض الغربية لم تكن عندنا أسسه العريقة، ولم تكن عندنا أصوله وفروعه أو جذوره وأغصانه على حد تعبير «الموشحين».

لكن الأمر يختلف كثيرا في الكلام على «الشعر»، أو الكلام على الأدب ومدارسه ومذاهبه، ودعواته التي تجيش بها الحياة الغربية في كل حقبة، ولا تتميز منها دعوة واحدة دون أن يتميز لها حكم خاص بالشعر يتناوله قبل أن يتناول غيره من الفنون الجميلة، ولا سيما فنون التعبير.

هذه المذاهب الشعرية تعنينا كما تعنيهم، وتمتد بآثارها إلى أقوالهم وأفعالهم كما تمتد إلى أقوالنا وأفعالنا؛ لأنها من أطوار الحياة التي لا تنحصر في دوائر الفن، ولا في أدوار الثقافة على إطلاقها، وإن يكن مظهرها الثقافي هو الجانب الذي يشتغل به النقاد والمؤرخون في ميادين الفنون.

نامعلوم صفحہ