ولكن هيهات لتلك الروح الثائرة الوثابة أن ترضى بالقوالب الجامدة التي تفرضها الدراسة النظامية - سواء كانت لحقوق أو للآداب، ذلك أن ميوله الفطرية كانت في جانب، والدراسات المنهجية في الجانب الآخر؛ لذلك نراه لا يلقي بالا لمتابعة المحاضرات ولا للاستعداد للامتحانات، بل هو موجود دائما حيث يوجد الفن والأدب، مشاركا في الجماعات الأدبية، وحاضرا في نوادي الفن والثقافة، حيث يطلق العنان لروحه لتتلاقى مع أرواح رفاقه من الفنانين والأدباء، وتسمعهم خطراتها على شكل أغاني شعبية ومعزوفات موسيقية خلاقة، وجدير بالذكر أنه لم يتخرج، في نهاية الأمر، إلا في كلية الحقوق في عام 1923م، معضدا بوساطات أصدقائه وزملائه لدى الأساتذة، للتغاضي عن نسبة الحضور اللازمة لدخول الامتحانات، أما كلية الآداب، فإن مترجمي حياته - وعلى رأسهم صديقه الحميم «خوسيه لويس كانو» - يؤكدون أنه لم يتخرج فيها أبدا، وغني عن القول أيضا أنه لم يعمل بليسانس الحقوق الذي حصل عليه في أي وقت من أوقات حياته!
ترك لوركا إذن محاضراته، وانطلق يهيم في عالم الفن والأدب على حريته، وكانت الأماكن التي تستأثر بوقته عديدة: «الساكرامنتو» حي الغجر في غرناطة، حيث كان يحب أن يندمج مع هذه الفئة التي تعيش حياتها على طبيعتها، يسمع منهم كما اعتاد أن يسمع من قبل في الريف غناءهم وحكاياتهم وقصصهم، وكان بعضهم يسكن أيضا في حي الفقراء، من العمال والفلاحين، وهو حي «البيازين» الذي احتفظ بنفس اسمه العربي منذ أيام بني الأحمر، والذي لا يزال الزائر إلى اليوم يجد لافتات صغيرة بالعربية تقول: «الحي العربي يرحب بكم».
وكان الشاعر يتردد كثيرا على مركزين رئيسيين من مراكز الفن والثقافة في غرناطة، أحدهما رسمي تقليدي، والآخر تجديدي طليعي، فأما المركز الرسمي فهو «المركز الفني
Centro Artitstico »، وكان لوركا يجد فيه الكتب التي يريد الاطلاع عليها ، ويسمع فيه المحاضرات، ويحضر الحفلات الموسيقية، وفي هذا المركز أعطى لوركا أول عروضه الموسيقية، حيث عزف مقطوعات كلاسيكية نالت استحسان الحاضرين. ولكنه كان ينطلق على سجيته مع المجددين الطليعيين، الذين تركزوا في ندوة فنية كانوا يجتمعون فيها في ركن من أركان مقهى شهير يدعى «ألاميدا»، وتسمت الندوة من جراء ذلك باسم «الركن الصغير
Rinconcillo »، وفي هذه الندوة - التي تمثل النزعة الثائرة على التقليد في الفن - كان يلتقي صفوة ممن جادت به غرناطة من شباب الشعراء والقصاصين والرسامين والموسيقيين، وكان أفراد الندوة يتناقشون في كل وجه من أوجه الثقافة والفن، من المسرح الإسباني في عصره الذهبي، إلى موسيقى «ديبوسي» و«رافيل» الفرنسيين، وكانوا يستمعون إلى إنتاج بعضهم البعض ويتناولونه بالنقد والتحليل، وكان لوركا يلقي على أفراد الندوة حكاياته ونوادره وشعره، ويعزف لهم المقطوعات الشعبية ويغني الأغاني الفولكلورية ... وفي هذه الندوة ألقى لوركا أوائل قصائده التي بدأ في تدبيجها عام 1918م وما بعده، وقوبلت بحماسة شديدة من أفرادها، مما جعل «مورا جارنيدو» أحد أعضاء الندوة - يؤكد بعد ذلك بأن تلك الحماسة هي التي أغرت لوركا بالتركيز على كتابة الشعر منذ تلك الفترة.
وكان كبار الأدباء والفنانين - الإسبان والأجانب - يزورون تلك الندوة الثقافية في ركنها الصغير للمشاركة والتعرف وإبداء الرأي، أو لحضور مناقشاتها بوصفها واحة من المعالم الثقافية لمدينة غرناطة، وهكذا زار الندوة الكاتبان البريطانيان الشهيران ه. ج. ويلز و«رديارد كبلنج» عند مرورهما بغرناطة في رحلتهما الإسبانية، كذلك كان الموسيقار الإسباني المعروف مانويل دي فايا - الذي يعرب البعض لقبه إلى «ضيف الله» - يحضر جلسات الندوة في كثير من الأحيان بعد انتقاله إلى غرناطة، واتخاذه كرمة له هناك بالقرب من قصر الحمراء، وقد تعارف إلى لوركا، ونشأت بين الفنانين الأندلسيين صداقة وثيقة العرى، سنعود إلى الحديث عنها بين حين وآخر في هذا الكتاب.
وتركزت قراءات لوركا في تلك الفترة - بعامل تأثير أصدقائه أعضاء الندوة وزملائه في جامعة غرناطة - في عيون الأدب الإسباني ... وهكذا التهم أعمال «لوي دي فيجا» و«كالديرون دي لاب باركا» و«جونجرا » و«خوان ثوريلا»، فضلا عن دواوين «روبين داريو» شاعر نيكاراجوا الذي رفع راية الحداثة في الشعر الإسباني، وقرأ كذلك أعمال الرومانسيين، خاصة «جوستافو أدلفو بيكر» شاعر إشبيلية، وتعرف على حركتي الرمزيين والبرناسيين اللتين كانتا في عنفوانها آنذاك في فرنسا، وكم كان للوركا من تجوالات طوال في دروب غرناطة التي عشقها، وعلى مشارف قصر الحمراء ورياض جنة العريف، وحده أو مع زملاء له، يقرءون كتب الشعر والأدب هذه ويعلقون عليها بآرائهم ونقدهم.
وتعرف لوركا إبان الطلب الجامعي في غرناطة على أستاذين لعبا دورا هاما في تكوينه الثقافي والعلمي، أولهما وأبعدهما تأثيرا هو «فرناندو دي لوس ريوس» أستاذ القانون السياسي بكلية الحقوق - الذي تبناه فكريا وتابع مد يد العون له في جميع مراحل حياته، خاصة عندما عين الأستاذ بعد إعلان الجمهورية في إسبانيا عام 1131م وزيرا للتعليم، والأستاذ الثاني هو «مارتين برويتا» الذي كان له الأثر المباشر في وضع لوركا لأول كتبه المنشورة، وكان الأستاذ «برويتا» يعمل أستاذا لنظرية الأدب بكلية الآداب، وعمل بدروسه ومحاضراته على إثارة القلق الفني والأدبي في صدور تلاميذه ومنهم لوركا، ذلك القلق اللازم للإبداع الفني، وقد نظم الأستاذ «برويتا» رحلات هامة لطلبته لزيارة المعالم الفنية والأثرية والتاريخية في إسبانيا، اشترك لوركا في رحلتين منها، كانت نتيجتها أول كتبه، كانت الرحلة الأولى في يونيو 1916م لزيارة إقليم الأندلس كله بمدنه العظيمة، والتقى لوركا أثناء مرورهم ببلدة «بياسة»
Baeza ، بالشاعر العظيم «أنطونيو متشادو» أحد عمد جيل 98 التي سبق ذكرها، وكان يعمل أيامها بالتدريس هناك، والرحلة الثانية كانت في أكتوبر من نفس العام، وزار فيها مقاطعة قشتالة وشمال شرق إسبانيا، وكان من بين من قابله لوركا إبانها فيلسوف إسبانيا المشهور «أونامونو»، وهو أيضا علم من أعلام جيل 98.
وقد عمد لوركا في أثناء الرحلتين إلى تدوين خواطره وتأملاته عن الأماكن التي يزورها، وعاد إلى تلك الأوراق بعد ذلك يعمل فيها تنقيحا وترتيبا وإضافة، حتى تجمع له في النهاية عدة مقالات وصفية، وقد خطر له خاطر ألح عليه حتى أصبح احتمالا محققا، وذلك هو نشر هذه المقالات في كتاب يحمل اسمه، ولم يكن أمامه - وهو غير المعروف بعد في عالم الكتابة - إلا أن ينشر الكتاب على نفقته، وحين فاتح والده في ذلك، تردد الأب، ثم بحث الموضوع مع الثقاة من معارفه من أساتذة الجامعة والصحفيين، فأجمعوا كلهم على أن الكتاب يستحق النشر، وهكذا دفع «دون رودريجث» ثلاثة آلاف بيزيتا تكاليف الطبع، وقال في هذه المناسبة: «إن ذلك أفضل مما لو كان قد طلب مني سيارة!»
نامعلوم صفحہ