لأننا نريد أن تنفذ إرادة الأرض
التي تهب ثمارها للجميع.
لقد تجسدت مدينة نيويورك في نفس الشاعر كرمز للزيف الذي تخلقه الحضارة القائمة على المادة، مقابل الصدق الذي تبثه الطبيعة التي يحلم بها الشاعر، والتي وجدها وعاشها في وسط الفلاحين والغجر وكل ما هو طبيعي وتلقائي وفطري في النفس البشرية، ولم يكن أمام لوركا في تصويره الهجوم العاتي لتلك الحضارة المادية وافتنائها على الطبيعة، إلا اللجوء إلى أشكال من التعبير السيريالي، فوق الواقعي، وإلى أن يخضع أفكاره وصوره لعالم جديد غريب من الرموز والصور السيريالية، ومعظم قصائد الديوان تبين جور الكبريت المطفأة تلتهم سنبلات قمر الربيع - آلام المطابخ المذمونة تحت الرمال - يعض الحقل ذيله كيما يجمع الجذور في نقطة واحدة - ستأتي السحالي لتعض الرجال الذين لا يحملون - حيث الفيلسوف يلتهمه الصينيون واليسروعات - ذئاب وضفادع برية تغني في المواقد الخضراء - خرج السلطان في منتصف الليل إلى الممرات وتحدث مع القواقع الخاوية عن السجلات ... إلخ.
وتخللت السنة التي أمضاها لوركا بعيدا عن بلاده زيارات لمناطق أمريكية غير نيويورك، ففي شهر أغسطس سافر إلى «أدين ميللز» بولاية «فرمونت» تلبية لدعوة من صديقه «كمنجز»، الذي كان قد عرفه في مدينة الطلاب بمدريد من قبل ومن هناك كتب يقول: «إن الطبيعة هنا رائعة، بيد أنها تبث في النفس كآبة لا حد لها، وإنها لتجربة طيبة لي، السماء تمطر باستمرار، إن الأسرة التي أقيم بين ظهرانيها لطيفة جدا ورائعة، بيد أن الغابات والبحيرة تغرقاني في حالة من اليأس الشعري لا يمكن احتمالها، إني أكتب طول النهار، وأشعر بنفسي مجهدا عند المساء، لقد انسدل الليل، وأوقدت مصابيح الغاز، وعادت كل طفولتي إلى ذاكرتي ملفوفة في مجد من شقائق النعمان وسنابل وقمح»، وهناك، كتب «قصائد الوحدة في فيرمونت».
وفي نهاية أغسطس «سافر للقاء أنخل دل ريو» في مزرعة في جبال كاتسكيل، كان الأستاذ يمضي فيها إجازته مع عائلته ... ويحكي الأستاذ قصة وصول لوركا إلى المزرعة على النحو التالي:
في اليوم المحدد لوصوله، لم نتسلم أي برقية أو إخطار بالموعد كما سبق أن اتفقت معه ... وعند حلول المساء بدأ القلق يعترينا من أن يكون قد ضل طريقه أو تعرض لحادث، حين أبصرنا أخيرا عربة أجرة تتهادى متثاقلة في الطريق المترب مثيرة الغبار من حولها، وكان ثمة تعبير استسلام على وجه السائق، أما لوركا فما إن رآني حتى اهتاج وأخذ يصرخ ويصيح، وكان ما حدث هو أن لوركا قرر عند وصوله إلى البلدة أن يستقل تاكسيا، دون أن يعرف كيف يشرح العنوان للسائق، وأخذ التاكسي يروح ويجيء في الطريق المغبرة وسط الجبال، إلى أن أعطى أحد المارة العنوان الصحيح للسائق، وكان العداد قد سجل 15 دولارا، بينما لوركا قد أنفق كل ما يحمل من نقود، مما ملأ قلبه بالفزع بألا ينجح في الوصول إلى مقصده ويفاجأ السائق بإفلاسه، وفي الحال، خلع لوركا مظهرا خياليا مروعا على الحادث، وزعم أن السائق - الذي لم يستطع التفاهم معه - قد حاول سرقته وقتله في جانب مهجور من الغابة!
وأمضى الشاعر أسبوعين في هذه المزرعة الجبلية، كتب فيها من قصائد الديوان: ليلة الفراغ، أطلال، طفلة غارقة في البئر، منظر لقبرين وكلب آشوري. ثم قضى الشاعر بقية إجازته الصيفية في منزل الأستاذ «فديريكو دي أونيس» بالقرب من «نيوبرج»، ثم عاد بعدها إلى حجرته في المدينة الجامعية بنيويورك، وكتب عندها يقول لصديقه كارلوس مورلا: «... لقد عاد فديريكو القديم إلى الظهور ...»
وهكذا فعلت الرحلة الأمريكية في نفس الشاعر فعل السحر، فعل التجديد، فعل التطهير، بكل ما تحمله من حسرات ومفاجآت ووحدة وعزلة وألم، لقد أمسك الشاعر حقا بنيويورك من داخلها ومن خارجها، عن طريق دفعة جامحة من الصور الدرامية: وحدة مأساوية وانفجار للحياة في حركات وصور مزعزعة متفرقة، كأنها شريط لفيلم سيريالي. إن قصائده تبين لنا كيف كانت نفس الشاعر تغرق في مدينة نيويورك، بل وقد وصل الحال بلوركا أن خشي أن تبتلعه المدينة الهائلة في جوفها، وكان على وشك الهروب منها والعودة إلى غرناطة بلدته الوديعة الهادئة كالنهر الناعس، ما لم تصله في ذلك الحين دعوة من معهد الثقافة الإسباني - الكوبي لإلقاء محاضرات في عدة مدن من جزيرة كوبا، ووافق فديريكو على الفور، وأبحر في ربيع 1930م إلى هافانا العاصمة التي أحبها من أول نظرة، والتقى فيها بجذوره الإسبانية الراسخة التي كانت قد شارفت على الاختفاء في نيويورك، ولم يقتصر الأمر هناك على العودة إلى سماع اللغة الإسبانية، بل والعودة إلى الأجواء الدافئة والبشرة السمراء الذي تذكره بأهل الأندلس، وليس هناك أقرب إلى العنصر الأندلسي من العنصر «الكريولي»، وهم أهل أمريكا الجنوبية المخلطين، وكان لوركا يقول هناك: «إنني أشعر وكأنني في مدينة قادش»، وتبادل الشاعر الحب والاهتمام مع شعراء كوبا وفنانيها، وكان مع إلقائه المحاضرات والأشعار، يتشرب عذوبة استوائية كوبا: موسيقاها، شمسها، بهجتها، وهام بصفة خاصة بالألحان «الأفروكوبية» التي يتميز بها السود هناك.
وخلال إقامته في كوبا، واصل كتابة بعض المناظر في عملين مسرحيين: «الجمهور»، و«عندما تمر خمس سنوات»، كما نشر في مجلة «الموسيقى» بهافانا، قصيدته التي استوحاها من الموسيقى الأفريقية - الكوبية، والتي ضمنت ديوانه شاعر في نيويورك، وهي بعنوان «موسيقى الزنوج» في كوبا:
حين يطلع البدر
نامعلوم صفحہ