Literary Criticism and Its Modern Schools
النقد الأدبي ومدارسه الحديثة
ناشر
دار الثقافة-بيروت
ایڈیشن نمبر
الأولى
پبلشر کا مقام
لبنان
اصناف
تصدير
يلاحظ القارئ المتتبع أن زاوية النقد الحديث في المكتبة العربية تكاد تكون خاوية. فالمؤلفات التي كتبت في هذا الموضوع؟ على قلتها؟ لا تخرج عن نطاق النقد القديم غربيه وعربيه. وقد بدأت حركة التأليف في هذا الموضوع عقب إنشاء الجامعة المصرية الحديثة سنة ١٩٢٥، لما رافق ذلك من نشاط في حقول الأدب والعلم. إلا أن هذه الدراسات، بحكم تخصص أصحابها، اتجهت نحو القديم بقوة، وتركت الحديث للمحدثين من خريجي الجامعة يتناولنه بأقلامهم مستعينين بما اغترفوه منها من فيض العلم وما هيأته لهم من التخصص في أوروبة. على أن المحدثين من أبناء الجامعة المصرية، ومن ثم من أبناء الجامعات الأخرى في الأقطار العربية، لم يمنحوا هذا الموضوع حقه في العناية والتوفر، فكانت دراساتهم تدور في فلك القديم، أو تتخطف من الدراسات الأوروبية العتيدة في هذا الموضوع، بعض الفكر والنظريات، التي لن تستطع حتى الآن أن تنضم في نظرية شاملة للنقد، تعين الجيل المعاصر على تفهم أصوله والإفادة من أساليبه في دراسة أدبنا العربي قديمه وحديثه.
ومضت القافلة في هذا السبيل، مبطئة متعثرة، والدراسات النقدية في العالم من حولها تسير سيرا حثيثا نحو التعمق والتخصص، حتى غدا الناقد العربي كالمنبت لا أرضا ولا ظهرا أبقى.
1 / 1
وعندما وقع هذا الكتاب في أيدينا، رأينا أن ترجمته وتقريبه للقارئ العربي طريق النقد الوعر الشائك؛ فالمؤلف لا يكتفي بعرض المدارس النقدية الحديثة، عرضا دقيقا متزنا، بل يحرص كل الحرص على أن يربطها بتاريخ النظرية النقدية منذ الإغريق حتى اليوم، وبهذا يتيح للقارئ أن يراجع ثقافته النقدية، على ضوء الاتجاهات الحديثة، معروضة على النظرية النقدية القديمة، مربوطة بها أوثق ربط.
ونحن إذ نقدم هذا الكتاب لزملائنا وطلابنا، نرجو أن يكون مفتاحا ييسر لهم الدخول في باب النقد الواسع، ودليلا يهدي خطاهم في هذا الطريق المتوعث العسير.
وقد رأينا، خدمة للقارئ العربي، أن نجلو ما غمض من أفكار المؤلف ونظراته، بالتعليق عليها وتفسيرها (١)، كما أثبتنا أسماء الكتب التي اعتمد عليها في دراسته بأسمائها العربية والإفرنجية، كي يتمكن القارئ من الرجوع إليها إذا أراد. أما أسماء الأعلام، فقد أثبتناها بالعربية، على أن نثبتها باللغتين في الفهرس العام للكتاب.
والكتاب في الأصل يقع في جزء واحد، ولكننا آثرنا إخراجه في جزأين تيسيرا على القارئ واستعجالا للثمرة، حتى لا يفوته الانتفاع السريع بهذا الأثر النفيس.
المترجمان
_________
(١) ميزنا تعليقاتنا بهذه العلامة، وجعلنا لتعليقات المؤلف أرقاما متسلسلة.
1 / 2
المساهمون في إخراج هذا الكاب
المؤلف: ستانلي ادغار هايمن. ولد سنة ١٩١٩ في بروكلين (نيويورك) . وتخرج سنة ١٩٤٠ من جامعة سيراكوز. ومنذ ذلك التاريخ وهو يعمل محررا في مجلة النيويوركي The New Yorker، ويساهم في تحرير المجلات الأخرى بأبحاثه ومقالاته. وقد أصدر سنة ١٩٥٦ كتابه الثاني " العملية النقدية " The Critical Performance. وهو يدرس الأدب، والأدب الشعبي في كلية بننجتون.
المترجمان: الدكتور إحسان عباس: من مواليد فلسطين. تخرج من الكلية العربية في القدس، ودرس الأدب في بعض المدارس الثانوية في فلسطين، ثم التحق بالجامعة المصرية، وتخرج منها بشهادة الدكتوراه من قسم اللغة العربية سنة ١٩٥٤. وقد أصدر عددا من الكتب، منها: " كتاب الشعر " لأرسطو (ترجمة) و" خريدة القصر وجريدة العصر " للعماد الأصفهاني (تحقيق بالاشتراك مع المرحوم الأستاذ أحمد أمين والدكتور شوقي ضيف) و" رسائل ابن حزم " (تحقيق)، و" الحسن البصري "، و" فن الشعر "، و" فن السيرة " " وأبو حيان التوحيدي " و" الشعر العربي في المهجر " (بالاشتراك مع الدكتور محمد يوسف نجم) وهو الآن أحد أساتذة الأدب العربي بجامعة الخرطوم.
الدكتور محمد يوسف نجم: ولد في فلسطين سنة ١٩٢٥. تخرج من الكلية العربية في القدس. ودرس الأدب العربي في الجماعة الأميركية
1 / 1
ببيروت (حتى سنة ١٩٤٨) . والتحق بالجماعة المصرية سنة ١٩٤٩، وتخرج منها بشهادة الدكتوراه من قسم اللغة العربية سنة ١٩٥٤. وقد أصدر بعض الكتب، منها: " القصة في الأدب العربي الحديث "، و" المسرحية في الأدب العربي الحديث " و" ديوان الزهراوي " (نشر وتحقيق) و" فن القصة "، و" فن المقاتلة "، و" الشعر العربي في المهجر " (بالاشتراك مع الدكتور إحسان عباس) و" ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات " (تحقيق وشرح) . وهو الآن أستاذ مساعد للأدب العربي بجامعة بيروت الأميركية.
1 / 2
مقدمة
النقد الأدبي الحديث
طبيعته:
إن النقد الأدبي الذي كتب بالإنجليزية في مدى الربع الماضي من هذا القرن، مختلف من حيث النوع عن أي نقد سبقه. وسواء أسميته نقدا " جديدا "؟ كما سماه كثيرون؟ أو " نقدا عمليا " أو " نقدا عاملا " أو " نقدا حديثا " كما يسميه هذا الكتاب، فإن صلته الوحيدة بالنقد العظيم في العصور الماضية لا تعدو الصلة بين الخالف والسالف. فليس القائمون به أشد ألمعية أو أكثر تنبها للأدب من أسلافهم؛ بل إنهم، في الحق، لا يتطاولون في هاتين الناحيتين إلى عمالقة مثل أرسطو طاليس، وكولردج، ولكنهم يسيرون بالأدب سيرة مخالفة؟ أصلا؟ كذلك. وعلى هذا يمكن أن نقول في تعريف النقد الحديث تعريفا غير مصقول أو بالغ الدقة: " إنه استعمال منظم للتقنيات غير الأدبية ولضروب المعرفة؟ غير الأدبية أيضًا؟ في سبيل الحصول على بصيرة نافذة في الأدب ". وإذا شئنا توضيح ذلك بصورة من التعدين قلنا إن الأدوات هي تلك الوسائل أو التقنيات، والمعادن
1 / 9
الثمينة هي نفاذ البصيرة، والعمل نفسه هو استخراج المعادن أو التنقيب، أو القشر الظاهري فحسب. أما التقنيات غير الأدبية فمنها عملية التداعي في التحليل النفسي أو التفسيرات السمانتية (١) مثلا. وأما ضروب المعرفة غير الأدبية فتمتد من النماذج الشعائرية عند البدائيين إلى طبيعة المجتمع الرأسمالي، وكل هذا يفضي إلى دراسة دقيقة، ويقظة مستقيضة على النص، يشبهان تحليل الأشياء تحت المجهر.
وسر هذا التعريف السابق منطو في كلمة " منظم "، ذلك لأن أكثر هذه التقنيات والنظم لم يكن مجهولا في النقد القديم ولكنه كان يستعمل بطريقة عفوية عارضة، ولم تكن العلوم الأثر في النقد قد تطورت تطورا كافيا لتستعمل منهجيا، ولا كانت زاخرة بالمعرفة لتسدي له يدا جليلة. وأكثر ضروب المعرفة فائدة للنقد هي العلوم الاجتماعية التي تدرس الفرد عاملا في جماعة (إذ الأدب بعد كل شيء أحد الوظائف الاجتماعية عند الإنسان) . وعلى ذلك فتلك العلوم أكثر فائدة من العلوم الطبيعية أو البيولوجية (لأن الأدب ليس عملا من أعمال النمو الاجتماعي أو الحضاري) .
ومع أن أرسطو طاليس كان يهدف عامدا ليسلط ما نسميه اليوم " العلوم الاجتماعية " على المسرحية والشعر، ليدرسهما تحت ضوء المصطلح الذي كان يعرفه عن العقل الإنساني وطبيعة المجتمع وبقايا البدائية، فإنه لم يكن لديه إلا مواد قليلة وراء ملاحظه التجريبية؟ على نفاذها؟ وإلا موروثا غفلا غير ممحص. أما التي حققها أرسطو طاليس، أعني تلك الإصابة الأساسية في نقده، دونما مستند سوى ملاحظه الخاصة وإحساسه
_________
(١) تدور الدراسات السمانتية حول أحد شيئين: الأول تتبع التطورات والتغيرات التي تصيب معاني الصور والأشكال الكلامية، والثاني دراسة العلاقات بين الإشارات والرموز وبين معانيها أي دراسة " السمات " الدالة لغويا ونفسيا.
1 / 10
المرهف، فإنها انتصار لنفاذ النقدية التي اهتدت؟ بقوة الحدس؟ إلى أشياء كثيرة تم جلاؤها والتطور بها من بعد. حتى إنه في عصر كولردج، أي بعد ألفي سنة، لم يزد ما كان معروفا بدقة عن طبيعة العقل الإنساني والمجتمع، على ما كان يعرفه عنه أرسطو طاليس، بشيء كثير.
وهناك قسط كبير من النقد، معاصر، غير أنه لا يسمى حديثا، وفقا للمعنى الذي حددناه من قبل؛ أي أنه لا يستخدم هذه المادة استخداما نقديا منظما؟ (ومن المدهش أنه كثيرا ما يستخدمها عرضا)؟ ومع أن لهذا النقد مكانا، وهذا المكان كثيرا ما يكون هاما، فإنه حسب تعريفه نوع آخر من النقد، خارج عن مجال اهتمامنا هنا. وبالإضافة إلى ما للنقد الحديث من مهمة خاصة، أو درجة معينة يؤدي بها أشياء كانت تؤدى من قبل عرضا واتفاقا، فإن هذا النقد ما يزال أيضًا يؤدي عددا من الأمور، لم ينفك النقد يقوم بها في كل زمان. أعني تفسير الأثر الأدبي ووصله بموروث أدبي سابق وتقويمه وما أشبه، فهذه كلها مظاهر خالدة لأي نقد (إلا أن التقويم من بينها، فيما قد نلحظه، قد تضاءل شأنه في النقد الجاد في زماننا) . ولكن حتى حين ينزع الناقد الحديث ليتخصص في أحد هذه العناصر النقدية الموروثة فإنه يضع إلى جانبها عناصر أخرى غير موروثة، أو يجريها معدلة تعديلا عميقا بما أحرزه تطور العقل الحديث من مميزات وخصائص.
لقد ذهب جون كرو رانسوم؟ الذي كان له أثر كبير في ترويج اصطلاح " النقد الجديد " لكتاب ألفه بهذا الاسم مؤكدا الفرق في النوع بينه وبين النقد القديم (على أساس الدراسة المستقصية الحديثة لخصائص المبنى الشعري)؟ ذهب هذا الناقد إلى أن عصرنا هذا يتميز تميزا غير عادي في النقد، وأن الكتابات النقدية المعاصرة، من حيث عمقها ودقتها، قد فاقت
1 / 11
جميع النقد القديم المكتوب باللغة الإنجليزية. وهذا كلام لا يعتوره الشك، ولكنا لا نستطيع أن نتملق أنفسنا، فتدعي أن تفوقنا إنما هو في سعة باع نقادنا إذا قايسناهم بأسلافهم؛ كلا، بل من الواضح أن هذا التفوق إنما يكمن في الأساليب والمناهج. ففي متناول النقد الحديث ضروب من المعرفة عن السلوك الإنساني، وفي جعبته تقنيات جديدة مثمرة، فإذا أمكن تركيز بعض هذا كله، وأمكن توحيد أعمال عدد من النقاد، كل يعمل على شاكلته، وبعث الانسجام فيما هو لامع مبدد منها، لأنها تجيء أحيانا متأرجحة أو ناقصة؟ إذا أمكن ذلك كله اتسعت في مستقبل النقد دروبه ومناظره وانطلقت في اللغة الإنجليزية دراسات أدبية تحليلية جدية من نوع يميز عصرنا.
ومن بين المناهج والنظم التي تقررت فائدتها للنقد الأدبي، تخطر العلوم الاجتماعية في الذهن أولا، فهي نبع ثر لم تصهرج قنواته بعد. فمن التحليل النفسي استعر النقاد الفروض الأساسية عن عمل اللاشعور وكيف يعبر عن " رغباته " الكامنة بالتداعي، وبعناقيد من الصور، كما استعاروا كيفية عمل الأحلام وما فيها من تعبير ملتو سيال: مثل الخلط الكلامي والخلط المكاني والفصم (١) وهذه هي أيضا الكيفية الأساسية للتشكل الشعري. ومن يونج استعاروا فكرة " النماذج العليا " أو محتوى اللاشعور (٢) الجماعي وكثيرا غيرها. أما من أصحاب علم النفس الجماعي
_________
(١) يحدث الخلط الكلامي Condensation في الحلم حيث تختلط فكرتان أو أكثر وينتج من ذلك تعبير ملتو تحاشيا لإيقاظ " الرقيب " أو العقل الظاهر، ومثاله Alco holidays بدلا من Chrustmas holidays، أما الخلط المكاني Displacement فهو أن لا يميز الإنسان في الحلم بين اليمين واليسار أو بين فوق وتحت. وأما الفصم Splitting فهو استقلال بعض عن الوعي وعملها منفصلة مستقلة عنه في بعض الأحوال.
(٢) النماذج العليا Archetypes، سيتعرض المؤلف لها في الفصل الخامس من هذا الكتاب. ويعني بها يونج أن هناك لا شعورا جماعيا تكمن فيه الصور الكبرى والرموز التي تمثل قاعدة هامة في الفنون وكلما تدخلت في كيان الفن زادت الاستجابة له والتأثر به.
1 / 12
(الجشطالتيين) فأخذوا فكرة " الكليات " (١) ومن علماء النفس التجريبيين استمدوا المقدمات التجريبية الأساسية عن سلوك الحيوان والطفل. ومن النفسيين الأكلينكيين استقوا معلوماتهم عن التعبيرات المرضية للعقل الإنساني. ومن النفسيين الاجتماعيين استفادوا الكشوف عن سلوك الإنسان في الجماعات والمجتمعات الكبرى. وأفادوا ما هو أكثر من ذلك، مما سماه يانش " الصور الايدية " (٢) eidetic images، وما أشبه هذا من مقدمات هي مواد ذاتية بحت، إلى أشد المقدمات الطبيعية والكيميائية موضوعية، مما تقدمه لهم العلوم النفسية العصبية، والنفسية المتصلة بعلم الغدد الصم. واستعار النقد من علوم الاجتماع والصراع الاجتماعي، وصلة هذه بالأدب والظواهر الثقافية الأخرى. أما من المذاهب الانثروبولوجية فقد استمد مقدمات عن المجتمعات البدائية والسلوك الاجتماعي ابتداء من التعميمات الجارفة التي وضعها عن التطور نظريون مثل تيلور إلى مذهب بوز (٣) القائم على الاستقصاء الواعي المتزمت في دقته. وكان " الفولكلور "، وهو فرع من الانثروبولوجيا، ذا مدد خصب للنقد من حيث هو مصدر للمعلومات الخاصة بالشعائر الشعبية المورثة والأساطير والمعتقدات التي ترتكز إليها نماذج الفن الشعبي وموضوعاته كما يرتكز إليها الفن الآخذ بنصيبه من الرقي.
_________
(١) الكليات - Configuration تكاد تكون مرادفة لكلمة Gestalt وهو الاتجاه النفسي الجماعي التكاملي.
(٢) الصور الأيدية نوع حي من الصور لا يتخيل فقط وإنما يرى منعكسًا في الخارج، وهو شيء متصل بالهلاس والفرق بينهما أن صاحب الصور الايدية (ويسمى Eidetiker) يدري أن هذه الصور ذاتية، وإن كان يراها دقيقة إلى درجة فوتوغرافية.
(٣) توفر تيلور على دراسة الأديان البدائية دراسة نقدية مقارنة، وهو صاحب الفكرة التي تقول إن الإنسان اهتدى إلى الروح من حالات الحلم والإغماء وما أشبه وما أشبه ثم الموت. غير أن الروح بعد الموت تؤثر في حياة الأحياء الباقية وهذا يؤدي إلى الصلوات والضحايا وما إلى ذلك، وأول الأديان عبادة الأسلاف ثم عبادة الطبيعة. وهذا الانتقال ناشئ عن طبيعة عقلية البدائي الذي لا يفرق بين الحي وغير الحي فمنح الطبيعة صفات الأحياء. (وانظر أيضًا الفقرة الثالثة من الفصل الخامس في هذا الكتاب) . أما بوز فهو من العلماء الذين يقولون بقيام الصلة بين البيئة والجغرافية وخصائص العرق، وقد درس التغييرات في أجسام المهاجرين الأميركيين ليثبت أن البيئة تحدث في الجنس تغيرًا في وقت قصير. وقد لقيت نتائجه نقدًا قويًا من المختصين. ومن كتبه: Race، Language and culture (نيويورك ١٩٤٨) .
1 / 13
وهناك أيضًا عدد من النظم الحديثة الأخرى؟ عدا العلوم الاجتماعية؟ أثمر كثيرًا بالفعل، أو كان كذلك بالقوة؛ خذ مثلًا الدراسة الأدبية، فهي حقل ليس جديدًا تمامًا، ولكنها استطاعت في هذا القرن أن تحشد كثيرًا من المعرفة الدقيقة، ومجموعة من المناهج المنضبطة حتى إنها حين انضاف إليها الخيال الناقد، أنتجت نوعًا من النقد الأكاديمي حديثًا تمامًا، بالمعنى الذي تقدم استعماله. هذا وإن الدراسات القديمة في اللغويات وفقه اللغة، بالإضافة إلى الحقل الجديد من الدراسات السمانتية، قد فتحت للنقد آفاقًا واسعة، لم تكن من قبل مستكشفة إلا قليلًا.
أما العلوم الطبيعية والحيوية فقد أمدت النقد بعناصر أساسية، كالطريقة التجريبية نفسها، ونظريات ذات فائدة مجازية عظيمة مثل " التطور "، ومبادئ مثل " النسبية " و" المجال " و" اللامحدودية ". أما الفلسفة، فمع أنها في القديم لم تعن بالأدب إلا تحت ستار علم الجمال، فقد أثبتت اليوم فائدتها للنقد وخاصة في باب المصطلح الأخلاقي والمتافيزيقي وبه يستطيع النقد أن يواجه مسألة العقيدة ومشكلات أخرى ذات قيمة بالغة. وهنالك عدد من النقاد قد سلط مبادئ الدين وتجليات التصوف على الأدب. وإلى جانب هذه الضروب من النظريات والمعارف طور النقد عددًا من المناهج الخاصة به " ومذهبها " فقياسًا على المناهج العلمية في بعض الأحيان، مثال ذلك الاستقصاء في الأخبار عن الأشخاص وسيرهم، والكشف عن نواحي الغموض ودراسة
1 / 14
العمل الرمزي والنقل في الآثار الأدبية والاكباب وبذل الجهد الدائب في قراءة النصوص والكشف المستفيض عنها عامة.
هذه التقنيات النقدية الجديدة، وهذه الاتجاهات في البحث، تعتمد في أكثر أحوالها، على فروض أصبحت أساسية في الفكر الإنساني الحديث مميزةً له. ويعود الفضل في هذه الفروض، في المقام الأول، إلى أربعة علماء عظماء من مفكري القرن التاسع عشر وأوائل العشرين وهم: دارون وماركس وفريزر وفرويد (١) . ونستطيع هنا أن نلحظ، عابرين، بعض هذه الفروض التي تعد مفتاحًا لما وراءها، وهي جديدية، نسبيًا، في النقد المعاصر. على أن نذكر أنه ليس هناك ناقد حديث واحد يقبل كل هذه الفروض مجتمعة: أما دارون فمنه جاءت الفكرة بأن الإنسان جزء من النظام الطبيعي وأن الحضارة تطورية. وأما ماركس فهو الذي ذهب إلى أن الأدب والذي يعكس، ولو بطريقة معقدة ملتوية أحيانًا، العلاقات الاجتماعية والإنتاجية لهذا العصر أو ذاك. وأما فرويد فهو الذي يرى أن الأدب تعبير مقنع، وأنه تحقيق لرغبات مكبوتة؟ قياسًا على الأحلام؟ وأن هذه المقنعات تعمل حسب مبادئ معروفة. وتحت هذا كله هنالك فكرته عن أن هناك مستويات ومدارج عقلية تقع وراء الوعي، وأن بين الرقيب والرغبة في التعبير صراعًا مستمرًا. وأما فريزر فهو صاحب الأفكار عن السحر والبدائي والأسطورة والشعيرة البدائية وأن هذه كلها
_________
(١) لعل فريزير من بين هؤلاء العلماء هو الذي يحتاج تعريفًا، فهو أحد الذين بذلوا جهدًا كبيرًا في دراسة الأديان البدائية. وترتكز فكرته إلى أن نمو الدين البدائي إنما تم بمحاولة السيطرة على الطبيعة فأساس الدين البدائي هو عجز السحر عن أن يقوم بهذه السيطرة، ذلك لأن السحر كالعلم، يحاول أن يربط بين العلة والنتيجة أما الدين فمبني على الاعتقاد بقوى من الإنسان توجه حياته وتسيطر عليها وعلى الطبيعة. فلما خاب الإنسان في مجال السحر غير قانون العملية إلى شيء آخر. وقد استعرض فريزر الفولكلور في حياته البدائية في كتابه الضخم: The Golden Bough، (انظر أيضًا الفقرة الثالثة من الفصل الخامس في هذا الكتاب) .
1 / 15
تكمن في أساس أعلى النماذج والمواد الأدبية. وقد يضاف إلى هذه الفروض والأفكار نظرية ديوي في " الاستمرار "، وأن قراءة الأدب وكتابته ليستا إلا صورًا لفعالية إنسانية يمكن أن تقايس بأي فعالية أخرى، وأنها خاضعة للقوانين نفسها ويمكن دراستها على المناهج الموضوعية نفسها. كما تضاف إليه فكرة السلوكيين بأن الأدب ليس إلا رجلًا يكتب ورجلًا يقرأ ولا شيء غير ذلك، ثم فكرة العقليين بأن الأدب قابل للتحليل. ومن الناحية السلبية يتميز النقد الحديث بغياب مبدأين كانا يحتلان مقامًا رئيسيًا في الماضي كلما جرى الحديث عن الأدب وهما: أن الأدب نوع من التعليم الأخلاقي، وأنه في أساسه نوع من اللذة أو المتعة.
وبالإفادة من هذه الفروض، يطرح النقد الحديث عددًا من الأسئلة لم تكن، فيمعظم الأحوال، تسأل في الأدب من قبل؛ من ذلك: ما هي أهمية العمل الفني من حيث علاقته بحياة الفنان، بطفولته، بعائلته، بحاجاته العميقة ورغباته؟ وما علاقته بالجماعة، بطبقته، بحياته الاقتصادية، بمجتمعه الكبير؟ ماذا يؤدي هذا العمل لصاحبه وكيف؟ ماذا يؤدي للقارئ وكيف؟ وما العلاقة بين هاتين الوظيفتين؟ ما الصلة بين العمل الفني ولنماذج الكبرى البدائية في الشعائر، بينه وبين المادة الأدبية الموروثة، بيه وبين الأفكار الفلسفية المعاصرة له وغير المعاصرة؟ ما الترتيب الذي اتبع في صوره وعبارته وشلكه العام؟ ما الممكنات المحتجبة في أبرز كلماته وإلى أي مدى يضطلع محتواه بما هو برهاني ذو معنى؟ وأخيرًا يبلغ النقد الحديث عتبات الأسئلة القديمة مثل: ما غايات هذا العمل وإلى أي درجة هي سليمة وما مدى تحققها؟ ما معانيه (بالجمع لا بالأفراد)، وهل هو عمل جيد أو رديء ولماذا؟
ومن الواضح أن كل هذه أسئلة تسأل عن الأدب عامة أو عن عمل
1 / 16
فني واحد بخاصة. على أن النقد الحديث لم يعد، في اكثر الأحوال، يقبل وضعه القديم من حيث كان ملحقًا بالأدب الخالق أو الأدب القائم على الخيال. فإذا عرفنا الفن بأنه خلق لنماذج من التجربة ممتعة ذات معنى، أو قلنا إنه نسج للتجربة الإنسانية في نماذج ممتعة ذات معنى، اتضح أن الكتابة القائمة على الخيال أو الكتابة النقدية كليهما فن حسب هذا التعريف. والفرق بينهما أن الأدب الخالق ينظم تجاربه التي استمدها من الحياة بنفسه، استمدها من " رأس النبع " في أكثر الأحوال، أما النقد فينظم تجاربه المستمدة من الأدب الخالق أي من الحياة بعد أن نقلها الأدب نقلة جديدة. وإذا شئت فقل إن كليهما وع من الشعر، ولكل واحد منهما حظه من الاستقلال بقدر ما بينهما من اتصال. لقد كتب ت. س. إليوت في مقال له عن " مهمة النقد " (١) سنة ١٩٢٣ يقول: " لا أظن أن متحدثًا واحدًا عن النقد استطاع أن يدعي؟ محيلًا مجاوزًا للمعقول؟ بأن النقد فن غاية في نفسه ". ولكن إن لم يجهر أحد بهذه الدعوى؟ محيلًا مجاوزًا للمعقول؟ في سنة ١٩٢٣ فليس من شك في أن النقد الحديث الذي بدأ في السنة التالية بنشر كتاب رتشاردز " مبادئ النقد الأدبي "، قد ظل يعمل في حدود هذه الدعوى.
ومجمل الأمر ما عبر عنه ر. ب. بلاكمور حين قال: " النقد شيء قائم بذاته ولكنه ليس بحال فنًا منفصلًا مستقلًا ". وقد كان النقد الحديث في الواقع العملي كذلك: غاية في نفسه تمامًا، ومرتبطًا بالشعر ارتباطًا لا انفصام له. أي أنه كان، كأي نقد آخر، يهدي الفن ويغذيه ويحيا مستقلًا عنه، وهو من ناحية أخرى أمة للفن، طفيلية في أردأ أحوالها، معايشة
_________
(١) هو المقال في كتابه " مقالات مختارة " Selected Essys ص ٢٣ - ٣٤.
1 / 17
له في أحوالها. فالنقد يريد أعمالًا فنية يتخذ منها مادته وموضوعه ويقدم بديلًا عنها خدمات ثانوية بالغة القيمة، كأن يساعد القارئ على فهم العمل الفني وتذوقه، ويساعد الفنان على أن يفهم فنه ويقومه، ويعين على تقدم الفن وتطوره، بتعميم المعايير المطلوبة أو بتحديدها وتجهيزها. وهو في حالات خاصة يوقظ جيلًا من الشراء كما فعل إمرسون أو فإن ويك بروكس في أول عهده وهو قد يعين موضوعات للأدباء يكتبونها مثلما يفعل غوركي وبرنارد دي فوتو، وقد يغير اتجاه الفن أو يحاول ذلك مترسمًا خطى تولستوي والأخلاقيين في محاولة التغيير وخطى بوالو والنقاد الرومانتيكيين الإنجليز في تحقيق التغيير نفسه، أو قد يمد الفنان (وأحيانًا نفسه) بموضوعات محددة وتقنيات وقواعد عملية مثلما يفعل عدد من نقاد الشعر المعاصرين.
وعلى حد النقد الأدبي من إحدى ناحيتيه تقع المراجعات وعلى الناحية الأخرى منه يقع علم الجمال. أما المراجع فإنه يرى في الكتب متاعًا، وأما الناقد فيرى فيها أدبًا أو كما يقال في الاصطلاح الحديث يرى عملًا أو سلوكًا أدبيًا، وأما الجمالي فيهمه من الأدب التجريد، وليست له رغبة في كتب معينة. ومثل هذا التمييز بين هؤلاء الثلاثة إنما هو تفرقة في الدور الوظيفي الذي يؤديه كل منهم وليس تفرقة صارمة الحدود؛ فقد يتجاوز كل واحد منهم مجاله إلى غيره، فإذا غفل المواجع عن خصائص المتاع، وهو يتحدث عن كتاب، وأخذ في الحديث عما للكتاب ن مميزات، من حيث هو نتاج أدبي، أصبح لهذه المراجعة، على الأقل، يعد في صف النقاد. والناقد الذي يرسل التعميمات عن الطبيعة المجردة للفن والجميل، يصبح مؤقتًا في عداد الجماليين؛ والجمالي الذي ينقد أعمالًا أدبية محددة، مستعملًا المصطلح الذي يكشف عن خصائصها الفذة، إنما هو ناقد في تلك الحال. ومن أبرز ملامح هذا العصر وجود ذلك الجم الغفير من
1 / 18
الذين طار صيتهم في النقد من مثل هنري سيدل كانبي والأخوين فإن دورن؛ وإذا كشف عنهم لم تجدهم أكثر من مراجعين متنكرين.
وثمة سمة أخرى للنقد الحديث تستحق أن ينوه بها، وهي أن كل ناقد ينزع إلى أن يكون لديه صورة مجازية فارقة، أو عدد من الصور، يرى من خلالها عملية النقد، وهذه الصورة؟ بالتالي تشكل عمله وتنبئ عنه، وتجعله؟ أحيانًا محدودًا. فصورة الناقد عنه ر. ب. بلاكمور أنه جراح سحري يجري العملية دون أن يقطع الأنسجة الحية. والناقد عند جورج سينتسبري، سكير. أما عند كونستانس رورك فهو " مسمد " يرش الأرض من أجل حصاد طيب. وهو عند ولدو فرانك " مولد " يظهر للوجود نسمةً جديدة. وهو مائل عند كنث بيرك؟ بعد أن استعمل عدة صور؟ في صورة مدير مسرحي ثري يخرج على المسرح كل عمل تمثيلي يعلق بخياله. وهو عند غزرا بوند رجل صبور يأخذ بيد صديقه ليريه مكتبته ... إلى غير ذلك من تصورات.
إن ما لحظناه فيما تقدم من أساليب وتقنيات في النقد الحديث ليترشح من خلال هذه الصور المجازية الكبرى، كما يترشح أيضًا من خلال شيء غير ملموس أعني به جهاز الذكاء الشخصي للناقد ومعرفته ومهارته وحساسيته وقدرته على الكتابة. وليس في النقد طريقة؟ مهما تبلغ روعتها؟ بقادرة على أن تكون سدًا حائلًا دون الحماقة، وتكاد كل تقنية في النقد الحديث تستعمل بألمعية على يد الألمعيين من النقاد ثم تكون هي نفسها معرضًا للعجز إذا استعملها الأغبياء الجهلة المقصرون البلداء (كما سنعرض في الفصول التالية من هذا الكتاب) . على أنه من الناحية الأخرى قد يحسن النقد أو يبرع فيه امرؤ طيب يتمتع بفضائل الناقد؟ في هذا العصر أو في أي عصر آخر؟ وليس لديه من الأساليب إلا استغلال ذكائه وحساسيته. ومثل هذا ليس ناقدًا حديثًا بالمعنى الذي اصطلحناه. ولا يهمنا الحديث عنه
1 / 19
في هذا المجال. وكل ناقد؟ مهما تكن طريقته؟ يحتاج تلك الخصائث التي سميناها الذكاء والمعرفة والمهارة والحساسية والقدرة على الكتابة؟ يحتاج الذكاء ليكيفه بما يلائم العمل الذي يعالجه، والمعرفة من أدبية وغير أدبية ليكون على وعي بما يتطلبه عمله، والمهارة لئلا تتدرج به طريقته أو تنساق به نحو وحدة آلية جوفاء، والحساسية ليظل دائمًا متنبهًا للقيم الخاصة في العمل الذي ينتقده من حيث أنه يمثل تجربة جمالية فذة، والمقدرة الأدبية ليحسن التعبير عما يريد أن يقوله. وليس ثمة من محك تختبر به هذه الخصائص الذاتية، حتى إن شيكسبير، ذلك المحك التقليدي، ليس عونًا كبيرًا في هذا المضمار. فهنالك رجلان تميزا في النقد المعاصر بالحط من شيكسبير وشتان ما هما: أولهما ولدو فرانك وهو داعية للتقوى محترف وليس له إلا علاقة واهية بالأدب، ولثاني جون كرو رانسوم وهو من أحذق العقليات الناقدة وأشدها مضاءً وحدة في عصرنا. وعند تقدير أعمال الناقدين لا يحسب حساب هذه الخصائص، وعندما نستعرض طريقة نقدية ونخضعها للمقياس الموضوعي ونعزلها عن صاحبها الحي، نستطيع أن نفترض وجود هذه الخصائص أو؟ على الأصح؟ أن نرجو توفرها.
ومن المضامين الرئيسية في النقد الحديث تطوره ليكون علمًا، أما في المستقبل الذي يمكن التكهن به والحكم عليه، فالنقد لن يصح علمًا؟ سواء أتقبلنا هذه الحقيقة مستسلمين أو شاكرين؟ ولكنا نتوقع منه أن يزداد تدرجًا في الاتجاه العلمي أي نحو تكوين منهجية شكلية ونظام للمعالجة قابلين للنقل والاحتذاء موضوعيًا. وكما أن أي تجربة عملية يمكن محاكاتها أو اختبارها ما كتب عنها في أي زمان ومكان وعلى يد أي شخص يستطيع القيام بالممارسة الضرورية، فكذلك هي المعالجة النقدية؟ سيصبح في مقدور أي فرد أن يعيدها ما دامت تتوفر له القدرة والرغبة الضروريتان أما الحساسية الخاصة فشيء يتفرد به الناقد ويموت بموته، وأما وسائله فإن
1 / 20
نقلها موضوعيًا سيصبح أمرًا ممكنًا وسيحتاج من يعيد استعمالها محتذيًا؟ ولا بد؟ حساسية ومميزات أخرى تقارب ما كان لدى الناقد الأصيل، على حال لا تنطبق على العلوم الطبيعية منذ بدء الطريقة التجريبية. ففي مجال الطبيعيات يستطيع الأحمق والجلف إذا توفرت لديهما الكفاية الأولية أن يصلا إلى النتائج التي توصل إليها بويل إذا هما أعادا تجارب هذا العالم. ثم إن الناقد في طريقة التحليل النقدي مهما تبلغ هذه درجة التجارب الموضوعية سيظل داخلًا في المجال الذاتي المحض ما دامت هنالك مصطلحات مثل " تقويم " و" تذوق "؟ سيظل الأمر كذلك سواء كان النقد بناءً مؤسسًا على التحليل الموضوعي الركين، يقيمه امرؤ عارف عاقل، أو كان نزوة لا محل لها أو هوى يصدر عن رجل أحمق.
أما المضمون الرئيسي الآخر في النقد الحديث فهو تطوره في اتجاه نقد ديموقراطي، أي تحقيقًا لما رجاه إدمند بيرك حين قال: " أن يصبح كل إنسان ناقدًا لنفسه ". فقد كتب بيرك في مقاله عن " الرائع والجميل " يقول: " إن المقياس الحقيقي للفنون في طوق كل إنسان وإن ملاحظة ما هو شائع في الطبيعة بل أحيانًا ما هو حقير واه لمينح المرء الأنوار الهادية حيث يكون لأعظم الحكمة وأسنى الجهد اللذين يغضان من شأن هذه الملاحظة أثر في تركنا سامدين في الظلام أو في إمتاعنا وتضليلنا بالأضواء الخادعة؟ وهذا أدهى وأمرّ؟ ". ومعنى هذا الكلام؟ بنزاهة؟ أن الملكات الإنسانية وحدها، دون عون خارجي، قد تجعل من أي إنسان ناقدًا. وهو رأي مناقض تمامًا لما قاله فرانسس بيكون في كتابه " القانون الجديد " Novum Organum من أن اختيار هذه الطريق (المعرفة بالتأمل في الطبيعة) يسوي بين جميع العقول كما تسوي البوصلة أو المسطرة بين الأيدي جميعًا. وفي مكان ما بين هذين الرأيين تقع الإمكانيات التي تجعل من النقد الحديث ديموقراطيًا، أي أن توسيع الأساليب سيزيد في عدد الناقدين
1 / 21
القادرين؟ لا احترافًا في أغلب الأحوال وإنما لكل في نطاق قراءته وحياته الخاصة، وهذا الاحتمال يهدد بتناقض قدسية الناقدين المحترفين ولكن تهديده لذوي المصالح المادية أكثر (١) .
أصوله
يمكننا القول بأن النقد الأدبي الحديث يبدأ بأفلاطون وأن أرسطوطاليس مضى فيه ووسعه؛ بل إن هذين الرجلين هما؟ على التحقيق؟ رائده العظيمان، حين سبقا إلى أشياء كثيرة، وفيما سبقا إليه كثير من التطبيق النقدي المعاصر. أما أفلاطون فقد وجه طريقته الفلسفية الديالكتيكية، كما بينها في الكتابين الخامس والسابع من " الجمهورية "، إلى الشعر وإلى الفروض النفسية الاجتماعية القائمة في أصله ومهمته. وإذا كانت نتائجه قد استبعدت الشعر فلسفيًا لأنه مجانب للحقيقة الأفلاطونية الصحيحة ولأنه من ناحية اجتماعية نفسية ضار بالمجتمع السليم (٢)، فإن طريقته هي الطريقة الحديثة، إذ سلط عليه كل المعرفة المنظمة التي كانت لديه. أما في حال أرسطوطاليس فإن المدرسة الأرسطوطاليسية الجديدة في النقد بجامعة شكاغو قد بذلت جهدًا حديثًا لتقول إن هذا الفيلسوف لم يستعمل المبادئ أو المعرفة الاستنتاجية في الشعر، وإنما فحص القصائد استقرائيًا من حيث أن كل
_________
(١) يعني حين يصبح الناقد ديموقراطيًا قد يتضاءل شأن الناقد المحترف ويستغني عنه إلى حد كبير، ولكن خطر شيوع النقد واستقراء الملكات النقدية عند نسبة كبيرة من الناس قد يهدد رجال المال الذين لا يعيشون متبسطين إلا حيث يستحكم الجهل وتضعف ملكة النقد.
(٢) لا بد للقارئ من أن يتذكر في هذا المقام أن أفلاطون كان يرسم بالجمهورية مدينة فاضلة وأنه في مثل تلك البيئة لا يرى مكانًا للشعر القائم على المحاكاة (لا كل أنواع الشعر) . ون ناحية اخرى هناك نظريته عن العالم المثالي وأن هذا العالم الدنيوي ليس إلا تقليديًا له، وأن الشاعر حيث يقلد هذا العالم يبتعد عن الحقيقة ثلاث خطوات. أضف إلى هذين العنصرين تقديسه للعقل، والشعر يتجه نحو العواطف ولذلك اتهم أفلاطون - منتصرًا للعقل - هذه " العاطفة " أو اتجاه الشعر " لسقي العواطف بدلًا من تجفيفها " أي لإثارتها وتقويتها بدلًا من إخمادها وإضعافها.
1 / 22
قصيدة فيها كيان متفرد في ذاته. وقد قوض أركان هذه النظرية نقاد كثيرون منهم جون كرو رانسوم (في مقال له بعنوان " أسس النقد " نشر بمجلة " سيواني " Sewanee (في خريف ١٩٤٤) وكنث بيرك (في مقاله " مشكلة الجوهري "؟ وقد طبع ملحقًا بكتابه " مبادئ الدوافع " The Grammar of Motives) . ولم يكتف بيرك فحسب بأن بين أن أرسطوطاليس كان " أفلاطونيًا " صرفًا بل بين أن الأرسطوطاليسيين الجدد هم؟ على وجه الدقة؟ أفلاطونيون في أشد أعمالهم نجاحًا، دون أن يحسوا هذه الحقيقة. ولا حاجة بالقارئ إلى أكثر من قراءة البويطيقا ليعرف أن أرسطوطاليس؟ وإن عمل استقرائيًا وباشر لنص ولازمه في دراسته كما يريده الأرسطوطاليسيون الجدد أن يفعل؟ أتم في الوقت ذاته كثيرًا مما بدأه أفلاطون فعمق في تهمة المحاكاة التي ألصقها أفلاطون بالشعر، ليمنح الشعر ثبوتًا فلسفيًا. ثم استبدل فكرة التطهير Catharsis (١)، وهي فكرة نفسية اجتماعية بفكرة افلاطون القاصرة عن مهمة الشعر، حين زعم أن الشعر ضار لأنه ينبه العواطف. وعلاوة على تحليله الشعر بوساطة من تلك الفروض المسلمة القاطعة من فلسفية واجتماعية ونفسية، فانه سلط على الشعر نواة الانثروبولوجيا؟ أي ألقي عليه أضواء ذلك الموروث من الأصول البدائية للدراما اليونانية، ووفق في ذلك إلى مدى أدهش الباحثين المتأخرين في الأنثروبولوجيا والآثار وفقه اللغة (بالرغم
_________
(١) جرد أرسطوطاليس اتهامات أفلاطون من مغزاها وتحول بها إلى وجهة جديدة، فأقران المحاكاة طبيعة في الإنسان وذهب إلى أنها لا يمكن أن توصف بأنها رديئة في ذاتها لأنها تختلف بنسبة ما يحاكي وبطريقة الحاكية وأن هذه لمحاكاة قد تنتج شعرًا تراجيديًا أو كوميديا أو ملحميًا. وميز كل هذه الأنواع، وفضل الشعر على التاريخ ثم واجه التهمة بأن الشعر ينبه العواطف فقال أنه يصرف العواطف إي يجد لها متنفسًا ومخرجًا وهذا هو التطهير Catharsis. ذلك أن التراجيديا بإثارتها عاطفتي الشفقة والخوف تهيئ مسربًا للاضطراب العاطفي وتحقق الرضا الجمالي في النفس وتبعث على الراحة والهدوء (لعل هذا هو المقصود من التطهير، وإن كان الدارسون قد اختلفوا كثيرًا حول المعنى الذي أراده أرسطوطاليس) .
1 / 23
من هنات لم يستطع أن يتحاشاها كقوله إن أغنية الجوق ليست إلا تزيينًا للمأساة) . إذن فإن أرسطوطاليس هو الواضح الأول للملامح والتقنيات الكبرى في هذا النقد الأدبي الذي أصبحنا نسميه " حديثًا ".
ومضى الكلاسيكيون المتأخرون ونقاد القرون الوسطى في واحد أو آخر من هذه السبل الحديثة ابتداءً من ارسطارخس وشراح القرن الثاني قبل المسيح بما كتبوه من نقد اجتماعي وليد. إلى دانتي وبترارك وبوكاشيو في القرن الرابع عشر، بما قدموه من تفسيرات مجازية باطنية للأدب قريبة الشبه بما نسميه اليوم قراءات " رمزية ". وبدأ النقد الحديث المبني على دراسة البيئة بكتاب فيكو " العلم الجديد " New Science (١٧٢٥) وهو يحوي تفسيرًا اجتماعيًا ونفسيًا لهوميرس، وتطور هذا النقد تطورًا مستقلًا فيما يبدو عن رأي فيكو، فيما كتبه مونتسكيو، وبخاصة في " رواح الشرائع " The Cpirit of Laws (١٧٤٨) . ثم امتدت هذه الحركة التي بدأت في إيطالية وفرنسة إلى ألمانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وانتقلت بذلك من دائرة التاريخ والقانون إلى الأدب والفن، وأصبحت مظهرًا للقومية الألمانية المبرعمة، في كتابات فنكلمان ولسنج هردر؟ بدأها فنكلمان سنة ١٧٦٤ في كتابه " تاريخ الفن القديم " History of Ancient Art حين درس فيه الفن التشكيلي عند اليونان بدراسة أصوله في السياسة والاجتماع والأدب، وأتمها لسنج في كتابه " لاوكون " Laocoon الذي صدر بعد ذلك بسنتين مركزًا جهدًا خاصًا على نسبة الأشكال فقد مضى في تطوير الدراسة البيئية خطوة أبعد حين زاد في نسبية الطريقة، بوضعه الفن الشعبي والقوطي في مقابل الفن الكلاسيكي الذي استعرضه فنكلمان ولسنج، موسعًا في مبادئ فيكو التاريخية الدينامية في كتابه " فلسفة التاريخ " Philosophy of history مؤكدًا طريقة المقارنة
1 / 24