فتساءل سعيد في تحد: خبرني، كيف أمكنك أن تعيش في سعة وأن تنفق على الآخرين؟
فصاح عليش محتدا: هل أنت ربنا حتى تحاسبني؟!
وقال رجل من ماسحي الجوخ: اخز الشيطان يا سعيد!
وقال المخبر: أنا عارفك وفاهمك، أنا خير من يقرأ داخل رأسك، ولكنك ستهلك نفسك، لا تخرج عن موضوع البنت، فهذا خير لك!
فتراجع سعيد باسما وهو يخفي عينيه في الأرض، وقال باستسلام: بالحق نطقت يا حضرة المخبر ... - أنا عارفك وفاهمك ولكنني سأماشيك احتراما لهؤلاء الرجال، هاتوا البنت، أليس الأفضل أن نعرف رأيها أولا؟ - كيف يا حضرة المخبر؟ - يا سعيد، أنا فاهمك، أنت لا تريد البنت، ولا تستطيع أن تأويها، ولن تجد لنفسك مأوى إلا بعد الجهد، ولكن من العدل والرحمة أن تراها، هاتوا البنت.
بل هاتوا أمها، كم أرغب أن تلتقي العينان؛ كي أرى سرا من أسرار الجحيم، الفأس والمطرقة. وقام عليش ليجيء بها، وعندما ترامى وقع الأقدام القادمة خفق قلب سعيد خفقة موجعة، وتطلع إلى الباب وهو يعض على باطن شفتيه، مسح تطلع شيق وحنان جارف جميع عواصف الحنق، وظهرت البنت بعينين داهشتين بين يدي الرجل، ظهرت بعد انتظار طال ألف سنة، وتبدت في فستان أبيض أنيق، وشبشب أبيض كشف عن أصابع قدميها المخضوبتين، وتطلعت بوجه أسمر، وشعر أسود مسبسب فوق الجبين، فالتهمتها روحه، وجعلت تقلب عينيها في الوجوه بغرابة، وفي وجهه خاصة باستنكار لشدة تحديقه، ولشعورها بأنها تدفع نحوه، وإذا بها تفرمل قدميها في البساط، وتميل بجسدها إلى الوراء. لم ينزع منها عينيه، ولكن قلبه انكسر، انكسر حتى لم يبق فيه إلا شعور بالضياع، كأنها ليست بابنته، رغم العينين اللوزيتين والوجه المستطيل والأنف الأقنى الطويل، ونداء الدم والروح ما شأنه؟ أم هو الآخر قد خان وغدر؟ وكيف له رغم ذلك كله بمقاومة هذه الرغبة الجامحة في ضمها إلى صدره حتى الفناء؟
وقال المخبر بضجر ودون اكتراث: أبوك يا شاطرة!
وقال عليش بوجه لا يبين عن شيء: سلمي على بابا.
كالفأرة! مم تخاف؟! ألا تدري كم يحبها؟! ومد نحوها يده، ولكنه بدل الكلام شرق فازدرد ريقه، وابتسم في رقة وإغراء، وقالت سناء: لا. وتحركت لتتسلل راجعة، لولا الرجل وراءها، وهتفت «ماما» فدفعها الرجل برقة وهو يقول: سلمي على بابا!
وتجلت في الأعين نظرات اهتمام، وشماتة، وآمن سعيد بأن جلد السجن ليس بالقسوة التي كان يظنها، وقال متوسلا: تعالي يا سناء!
نامعلوم صفحہ