وقالت ليلى في إصرار: إذن فأنا أريد أن أجلس وحدي مع عباس.
ودقت وهيبة صدرها قائلة: ماذا؟!
وقالت ليلى: هناك أشياء كثيرة أريد أن أحدثه فيها، ولن يقولها أمامكما.
وقال لطفي وكأنما صحا فجأة: هل جننت؟!
فقالت ليلى: لا تكن أنت مجنونا، اتركا الباب مفتوحا واجلسا في البهو حتى إذا جاء أحد فادخلا. لا بد أن أكلم عباس في هذا الخلاف بينه وبين أبيه.
وأثناء حديث ليلى خطر للطفي أن بقاء أخته وحدها مع عباس يفيد - ضمنا - أنه سيبقى وحده مع وهيبة، وأدرك أن لا حرج عليه أن يفعل؛ فهو يعلم أن الحديث بينهما دائر حول الخلاف الناشب في البيت، أما حديثه هو لوهيبة فاعتماده على الله وحده أن يهديه فيه سواء السبيل. وقال لطفي: تعالي يا وهيبة نجلس في البهو.
وقامت وهيبة وتركتهما، وبادرت ليلى عباس: أولا، هل لما كنت تشكوه من إهمال أختك وأمك لك دخل في هذا الخلاف؟ - لا، هذا شيء تعودت عليه. أصبحت أعلم أن أبي وحده هو رب البيت، وأن إليه وحده يتجه التقديس وتقدم الخدمات، أما أنا فشيء ضمن هذه الأشياء التي يقتنيها الناس، ولكن هذا وضع تعودته منذ نحن صغار، أما زلت تذكرين هذا الحديث؟ - إذن قل ما خلافك مع أبيك؟ - قلت له لا أريد أن أصلي لأني غير مقتنع بالصلاة.
ونظرت إليه ليلى عاجبة، ثم ما لبثت أن قالت: ماذا فعل؟ - ضربني.
ووجد نفسه يقولها دون أن يحس الغضاضة التي كان يحسها حين كانت ليلى أو إيفون تعلم أن أباه ضربه.
وقالت ليلى: وبعد؟ - لا بعد. هو لا يريد أن يرى وجهي، وأمي ووهيبة تلحان علي أن أذهب فأعتذر إليه، ومعنى اعتذاري أن أصلي وأنا لن أصلي. - فبماذا تؤمن؟ - بالإنسان، الإنسان الذي خلق الذرة وصنع الصواريخ . - ولكن أليس بين هؤلاء العلماء الذين صنعوا الذرة والصواريخ من يؤمن بالله. - لا يمكن. أيمكن لهذه العقول الجبارة أن تؤمن بالمعجزات؛ من شفاء العمى، والعصا التي أصبحت ثعبانا، والميت الذي أصبح حيا، وغيرها، أتعقلين أنت هذا؟! - وكيف لا أعقله؟ - أنت تصدقين هذه الأوهام. - أنا أصدق كل المعجزات التي جاءت في القرآن لا أستثنى منها شيئا. - لا يمكن. كنت أعتقد أنك أعقل من عرفت. - ولهذا أومن بهذه المعجزات. - أنا لا أصدق ما تقولين. أنت ما زلت أسيرة في قيود التقاليد والأوهام! - بل إني أعي ما أقول، وأقوله وأنا أحس بحرية كاملة في تفكيري. - كيف؟ - ألم تفكر لحظة في نفسك؟ إنك معجزة أعظم من كل هذه المعجزات. أنت أيها الإنسان المفكر الذي لا يؤمن بغير الإنسان. إن نفسك هي المعجزة الكبرى، ولم تستطع الوصول إلى أصلها. ما سر الروح فيك؟ عرف العلماء الجسم كيف يحيا، وعرفوا كهوف النفس وأغوارها، وأطلقوا الصواريخ وملئوا الدنيا علوما، ولكنهم لم يعرفوا سر الروح. سل هؤلاء العلماء الذين تؤمن بهم أن يخلقوا جناح ذبابة، ضعف الطالب والمطلوب. - ماذا تقولين؟! نحن أبناء الطبيعة. - ها أنت عاجز أيها الانسان المفكر، وعجزت أن تعرف سر نفسك فنسبت نفسك إلى الطبيعة إباء منك أن تنسب نفسك إلى خلق الله. ما الفارق إذن؟ ألا إنكم تحاولون أن تخلقوا شيئا تضعونه موضع هذا السر الأعظم الذي استغلق عليكم وسيظل مستغلقا. - لو أن العلماء شاءوا لعرفوا سر الروح. - لو أنهم شاءوا؟! ما لهم لم يشاءوا؟ وهل هناك أهم عند هؤلاء العلماء من أنفسهم؟ ألا يريدون أن يعيشوا فلا يموتون؟ ألا يريدون أن يعرفوا ما هم؟ ما هذه الحياة التي تدب فيهم على رغم أنوفهم، وتستلب منهم على رغم أنوفهم؟ أيريدون أن يتحكموا في الذرة والصاروخ، ولا يريدون أن يتعرفوا أنفسهم وهي أنفسهم، وحياتهم وهي حياتهم؟! - ما قلت إلا الحديث المعاد. أي نفع لهذه الصلاة وهذا الإيمان بما لم نر في عصر سيطرت فيه الآلة، الآلة التي صنعها الانسان. - أي نفع للصلاة؟! إنها الملجأ، إنها الملاذ. إن إحساسا أن هناك قوة عليا تحمينا وتشرف علينا يملؤنا إيمانا بها وطمأنينة. ولن يحتاج الإنسان إلى شيء في الحياة قدر حاجته إلى الهدوء والطمأنينة. - ضعف. لو آمنت بنفسك وبقوتك أنت الإنسان؛ لما احتجت إلى هذا الذي تقولين. - إن شعورنا بالسماء هو الذي يمدنا بالقوة في الأرض. - أنا لا أعرف السماء، وأحس نفسي قويا ماردا أفعل ما أريد. - ألا تفكر في الموت؟ - فناء. - ألا تجد أن تصوره حياة ثانية أجمل وأمتع. - كلام فارغ! أي حياة ثانية؟! وماذا أريد منها؟ ألا تكفيني حياتي هذه؟ لقد خلقت الذرة والصواريخ في هذه الحياة بلا حاجة إلى الحياة الثانية. نحن في عصر يأبى هذه الخزعبلات. - لكم أخشى عليك يوما تحتاج فيه إلى هذه الخزعبلات! - لا تخشي، لن يأتي هذا اليوم. - إذن لا فائدة. - لا فائدة في ماذا؟ - كنت أطمع أن أجعلك تعتذر إلى الشيخ سلطان. - لا تخافي. أنا محتاج لوقتي في المذاكرة، وهو لا يراني والأمور تسير. - هل أنت واثق أنها تسير؟ - لا بد أن تسير.
نامعلوم صفحہ