Linguistic Fallacies
مغالطات لغوية
ناشر
مؤسسة هنداوي
پبلشر کا مقام
٢٠١٨ م
اصناف
الإهداء
إلى الأم الجليلة الجميلة الأزلية … مصر،
وقد نال منها الوهن والشحوب،
داعيًا الله أن يُهوِّن عليها آلام المخاض.
1 / 7
كَلمة
اللغة العربية لغة وَعي ولغة شهادة، وينبغي إنقاذها سليمة بأي ثمن؛ للتأثير في اللغة الدولية المستقبلة.
لوي ماسنيون
1 / 9
مُقدِّمة
سيكون هذا الخيط وصْل ما بينك وبين الماضي فعُدْ إليه، عُد إلى نفسك؛ فلا شيء ينشأ من لا شيء، ولن يعتمد مستقبل أمرك إلا على ماضيك الذي كنتَ فيه، وحاضرك الذي أنت عليه.
أندريه جيد: ثيسيوس
تُعاني الفصحى هذه الأيام وهنًا وذبولًا لم يعد محلَّ جدال؛ فالرَّكاكة أصبحت ظاهرةً عامة ومناخًا شاملًا، واللحن في مبادئ اللغة أصبح قاسمًا مشتركًا، لا بين عامة الناس فحسب، بل بين خاصة الأساتذة والإعلاميين والأدباء! وإنَّ لغةً تستعصي على سدنتها وأحبارها لهي لغةٌ تفقد طبيعة اللغة ووظيفتها، وتستحق من الجميع وقفةً للتدبر والمراجعة والتمحيص.
العربية لغةٌ كأي لغة، تجري عليها نواميس اللغات، وتخضع لقوانين علم اللغة العام، غير أنها في ذلك تقف حالةً خاصةً بين اللغات ونسيج وحدها؛ فهي أعرضُ اللغات متنًا وأطولها عمرًا، العربية لغةٌ جسيمةٌ هائلة الجِرم؛ لأسبابٍ حتمت ذلك:
أولًا: أنَّها في الأصل ليست (بمعنًى ما) لغةً واحدة، بل هي المجموع الجبري للغة العربية المشتركة ولهجات القبائل الموثقة. (^١)
_________
(^١) يقول د. محمد كامل حسين: «… ذلك أنَّ اللغويين جمعوا كل ما سمعوه من العرب على اختلاف قبائلهم ولهجاتهم، وسموا ذلك كله اللغة العربية، وهي مجموعة لغات تتفق في أمور كثيرة وتختلف في أمور كثيرة» (مجلة مجمع اللغة العربية، ج ٢٢، القاهرة، ١٣٨٧ هـ/ ١٩٦٧ م).
1 / 11
ثانيًا: أنَّها بعد الفتوحات بسطت ظلها على أصقاعٍ متراميةٍ من الأرض، وقضت على لغاتٍ قديمةٍ فيها (كالسريانية واليونانية والقبطية … إلخ) بعد أن نُقِل إليها، بالترجمة والتعريب، عصارة هذه اللغات وخبرات أهلها الذين أَسلموا واستَعرَبوا؛ فصارت العربية في أدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، وصارت، من حيث الرصيد العلمي والحضاري، مجموعًا جبريًّا لعدَّة لغاتٍ عريقة!
ثالثًا: أنَّها صِينَتْ، برغم التوسع الجغرافي، من التفتُّت إلى لغاتٍ منفصلة؛ بفضل كتابٍ جامعٍ وعقيدةٍ موحدة وعلماء أفذاذ؛ فامتد بها الأجل أكثر من سبعة عشر قرنًا من الزمن محتفظةً بأسسها ونحوها وجذرها الثلاثي، وهي مزية لم تُتح لأي لغة من اللغات.
من شأن هذه الظروف التَّاريخيَّة الخاصَّة، وهذا الامتداد الجغرافي والزمني، وهذه البسطة الأفقية والرأسية، أن تجعل من العربية لغةً ضخمةً واسعة، صعبةً بطبيعة الحال، صعوبة الاكتناز والثراء والغنى، وإذا كان قدرنا أن نبذل في تعلمها جهدًا أكبر مما يبذله غيرنا في لغته فإن جهدنا فيها لا يذهب دون مقابل.
يتضمن الكتاب الذي بين يديك مراجعةً شاملةً لفقه اللغة العربية، تتناول قصتها من مبدئها إلى منتهاها، عسانا أن ندرك ما لهذا الكائن الجميل المقيم معنا وفينا من جلالٍ وحسب؛ فنحتشد لنصرته، ونتنادى لإنقاذه.
(١) أخطاء النحاة
في الفصل الأول والثاني تجد عرضًا مفصَّلًا لعملية جمع اللغة العربية على أيدي النحاة الأوائل، أخطأ النحاة في جمع اللغة وتقعيدها أخطاءً منهجيةً معروفة، عرضنا لها بشيء من التفصيل، وأخذناها بحجمها، ووضعنا أمرها في نصابه.
قد تكون لبعض الأخطاء ثمارٌ حلوةٌ، وعواقب محمودة، ونواتج بَعديةٌ سائغة تتجاوز منشأها، وتصبح قِيمةً بحقها الشخصي! مثلما ينتج اللؤلؤ عن خطأٍ حلَّ بالمحار؛ فتغمدته حظوة الزمن:
خلط اللهجات كان خطًّا منهجيًّا بغير شك، أفضى إلى لغةٍ جسيمةٍ داخلها عنصرٌ اصطناعي؛ لغةٍ متخمة بالمترادف والمشترك والأضداد والغريب؛ لغة لم يتحدث بها أحدٌ في أي وقت على نحوٍ طبيعي؛ ذلك أنها ليست لغةً واحدةً، كما قلنا، بل حزمة لغات، غير أن هذه الجسامة صارت وديعة الزمن؛ الزمن الذي يُقصي
1 / 12
ويصطفِي، ويَعجِم ويُجرِّب؛ فأخذها بالتنقيح والنخل، واجتبى منها الأجمل والأسلس، فاستوت في النهاية لغةً بديعةً قسيمةً تامةَ الخلق خلابةَ البنيان.
وأخطأ النحاة حين استندوا إلى الشعر في أغلب شواهد اللغة، وهنا أيضًا لا نعدم أثرًا إيجابيًّا لهذا الخطأ المنهجي؛ فاللغة التي استمدت مادتها وشواهدها من الشعر لا يمكن إلا أن تكون «لغة شاعرة»، تؤثر النغم وتكره الثقل، وتعرف الحذف والإيجاز واللمح، ويدخل المجاز منها في الصميم. (^١)
ثم عرضنا لرأي النحاة في نشأة اللغة وطبيعتها. لم يكن الإطار المعرفي الذي يفكر داخله النحاة ليسمح لهم بأكثر مما رأوه، واستثنينا عبد القاهر الجرجاني الذي كانت نظريته في «النظم» استباقًا مدهشًا لكثير من الأفكار الفلسفية واللغوية المعاصرة.
ثم انتقلنا في فصل «اللغة والمنطق» إلى قضية النحو العربي، وبينَّا أن تاريخ النحو كان تاريخ صراعٍ بين ثقافتين: ثقافة العرب وثقافة الموالي، كُتب فيه النصر، للأسف، لثقافة الموالي الذين بالغوا في تضخيم النحو وأثقلوه ومَنطَقوه، وجمدوا اللغة وأبعدوها عما ألفته في «بيت أبيها» من رحابةٍ وسماحة وسجية، وهذه تذكرةٌ تحمل في ذاتها دعوةً إلى إعادة «تعريب النحو»! وتخليصه من اللحاء الأرسطي الثقيل، الذي أضرَّ بالعربية وخنقها وأوحى إلى الناس أن يهجروها.
وفي فصل «التغير اللغوي» نَوَّهْنا إلى ظاهرة التغير وعرضنا، بشيء من التفصيل، لأسبابه وأنواعه، والتوتر القائم بين فكرة «التغير» وفكرة «اللحن» في أذهان اللغويين القدماء والمحدثين، وبينَّا أن الخطأ المشهور لا يعود خطأً؛ إذ إنَّ شرعية اللغة الشيوع! وعرضنا نماذج من «تصحيح الصحيح»! جعلنا منها فرصًا لتصويب الفكر قبل الكلمات، وبينَّا أنَّ كثيرًا مما يقال له «خطأ» في اللغة هو خطأ اللغويين أنفسهم هواة «قُلْ ولا تقُل»، الذين ثقل على أذهانهم الركام الأرسطي فعزلهم عن السليقة العربية، وأفقدهم الفطرة اللغوية فجعلوا يخطِّئون الناس ويبثون فيهم اليأس من الفصحى والتوجس منها.
وفي فصل «العامية والفصحى» عرضنا لقضية ازدواجيتنا اللغوية التي تهدد العقل العربي بالانشطار والتشوش، وبينَّا أن سد الفجوة بين العامية والفصحى لا يكون باحتقار
_________
(^١) يقول أدونيس في «الشعرية العربية»: «فالمجاز في اللغة العربية أكثر من أن يكون مجرد أسلوب تعبيري، إنَّه في بنيتها ذاتها.»
1 / 13
العامية، بل بمهادنتها واسترفادها، ورصد فصيحها وترويجه وإدراجه في مناهج التعليم، حتى يأنس النشء بلغتهم التي يدرسونها ولا يعودوا يحسون في دراسة الفصحى أنهم يتعلمون لغةً أجنبية.
وفي فصل «تعريب العلم» اقتحامٌ لهذه المسألة الشائكة المعلقة، بينَّا فيه أن التعريب ضرورة ملحَّة: قومية وعلمية ونفسية ولغوية، وأن التقاعس عن التعريب هو انتحارٌ جماعي بشع، وتخلٍّ عن أمانةٍ تاريخيةٍ علينا أن نحملها ولا نشفق منها.
وفي فصل «مزايا العربية» بيَّنا، بحيدةٍ وموضوعية، ما تتمتع به العربية من فضائل بنيويةٍ ودلالية، وعرضنا لقضية غياب فعل الكينونة ودلالته الفلسفية، واحتمال وجود منهجٍ علمي وفلسفي مضمرٍ في قلب العربية علينا أن نستكشفه ونستوحيه.
وفي فصل «ضرورة الإصلاح» عرضنا لمعنى الإصلاح وخصائصه، واقترحنا ما أسميناه «نظرية الاستعمال» كوصفةٍ شاملة للإصلاح اللغوي في مجال التقعيد والتعليم والتعلم، وأشرنا بسهمٍ إلى الطريق الثالث الذي ينبغي أن نتخذه في مسِيرنا إلى الفصحى الجديدة التي علينا أن نؤسسها، مثلما أسس دانتي الإيطالية، تواتينا في ذلك رياح الكوكبية وقوى العولمة التي تحلُّ لنا، من حيث لا نحتسب، مشكلة الحرف العربي، وتعكس الميول اللغوية القديمة؛ إذ تقرب اللهجات وتوحد اللغة وتمنع انشعابها، وتيسِّر نشرها وتعلُّمها، وتلقيها على مسامع الناس بالغدو والآصال، وقلنا: إنَّ تلك فرصةٌ سانحة علينا أن ننتهزها ولا نضيعها.
(٢) إحياء التراث
ليس ثمة تناقضٌ بين تجديد اللغة وإحياء التراث كما قد يبدو للنظرة السطحية العجلى، فالحق أن العربية لغةٌ معمرة، تنمو من داخلها بالاشتقاق والتعريب، ويظل جذرها الثلاثي حاضرًا عتيدًا، ويظل ماضيها موصولًا بحاضرها يغذوه ويمسكه ويمده بأسباب النماء.
بإهاب كل مُجدِّدٍ كبيرٍ كلاسيكيٌّ كبيرٌ، وفي طي كل تجديدٍ شيءٌ من الإحياء! وإن جيلًا نسي ماضيه لهو جيلٌ شائخٌ لا مستقبل له. ليس إحياء التراث غيابًا في الماضي أو اغترابًا عن الحاضر وغفلة عن الآتي؛ فلا بناء بغير دعائم، ولا سُمُوق بغير جذور، ليس إحياء التراث ترفًا بل ضرورة، ولا سُباتًا بل هو الصحو واليقظة والإفاقة، إنه ضرورة لكل أمة تريد أن تسترد وعيها وتستعيد توجهها وتتعرف خط سيرها. إن حاضرًا بلا ماضٍ هو ذهولٌ
1 / 14
وشرودٌ وفقدان ذاكرة، وضربٌ في التيه بعد ضياع الخرائط واشتباه الطرق والتباس الأمام والوراء.
ألفاظ مهجورة: من التجديد أن نبعث بعض الألفاظ المهجورة التي هي أكثر إسعافًا لنا من المشهور وأكثر حداثةً من الحديث! ألستَ ترى أن نصف ألفاظ العلم هي جذورٌ وضمائم لاتينية ويونانية كانت ميتةً فأحيتنا؟! كذلك الأمر في العربية:
هناك ألفاظٌ نهجرها لأننا لم نجدها ذات نفعٍ لنا أو غَناءٍ في حياتنا الجديدة.
وهناك ألفاظٌ تهجرنا لأنها لم تجدنا أكفاءً لها، ولما كانت تَذْخَره لنا من ذَهبِ المعنى.
هناك ألفاظٌ تموت عنا.
وهناك ألفاظٌ نموت عنها.
(٣) خطورة القضية اللغوية
تولد كل الأجنة عاريةً إلا جنين الفكر فيولد متلبِّسًا باللغة.
تعسِت فكرةٌ رانت على البشر دهورًا تقول إن اللغة مجرد وسيلةٍ للتعبير عن الفكر ونقله إلى الآخرين، تعرض له من خارج وهو تامٌّ مكتمل كأنها غلاف الهدية أو كساء البدن أو وعاء السائل.
إنَّما شأن اللغة أبلغ من ذلك خطرًا وأبعد نفوذًا وأشد هولًا.
اللغة هي ذخائر المقولات وخزائن المفاهيم، بحيث يستحيل عليك أن تفكر تفكيرًا مركبًا ثريًّا بلغةٍ ساذجةٍ فقيرة.
اللغة هي «دالة الفكر» ونماذج الرؤية، بحيث لا تملك أن ترى من العالم إلا بقدر ما تسمح لك لغتك أن ترى.
اللغة هي حاملة العالم، وأطلس الوجود، بحيث لا بجانبك الصواب إذا قلت إن حجم وجودك هو حجم لغتك.
هكذا يتبين لنا مبلغ السَّفَه الذي نأتيه إذا نحن تخلَّينا عن هذه اللغة الجميلة الجليلة بعد كل الذي بلغته من الثراء والارتقاء.
التعريب شرط الحداثة والتغريب حياةٌ بالانتساب.
1 / 15
من الحذق حين نثاقف العالم الغربي المتحضر أن نأخذ عنهم، ونهضم زادهم، ونتمثله تمامًا، ونحيله، بحكم التمثُّل ذاته، إلى كياننا وبنيتنا، لا أن نمنحهم أنفسنا ونتقمصهم تقمُّصًا رخيصًا، ونضحي بحقيقتنا دون مقابل.
آية الهضم التام أن يتحول المهضوم إلى الهاضم، فأنت، كما يقول بياجيه، حين تهضم الملفوف وتتمثله تحوِّله إلى أنسجتك وبنائك العضوي ولا تتحول أنت إلى ملفوف! كذلك الحال في هضم الفكر الغربي وتمثله، فمن شأن الفكر الذي تستوعبه بالفعل أن يتَعضَّى فيك ويذوب في كيانك ويصطبغ بصبغتك؛ فلا نكاد نتبين من ملامحه الأولى شيئًا إلا من طريق الظن والاستنباط، فهو يغيرك ويطورك فيما يتشتت داخلك ويتبدد فيك.
ذلك هو الفهم الحق والتمثل الأصيل.
وحالما تبينَّا في خطابك فكر غيرك كما هو، وتجلَّت لنا ملامحه بتمامها، فهو الدليل على أنك لم تقدر على هذا الفكر ولم تفهمه، وإن كنت تستظهره وتردده، إنه الفكر الذي لم تستوعبه بل استوعبك، ولم تهضمه بل هضمك.
ذلك هو التقليد السطحي والتقمص الرخيص.
لكي نقول: إننا استوعبنا الحداثة حقًّا يتعين أن نرى الحداثة استعربت وتحدثت العربية، ولكي نقول: إننا فهمنا العلم حقًّا؛ ينبغي أن يكون لدينا ما يثبت أن العلم نفسه فهم العربية، أي تعرَّب وتوطَّن في معجمنا وطاب له المقام! وما دون ذلك هو استعمالٌ من الظاهر، هو تمسُّحٌ وتقوُّلٌ وتخلفٌ مقلوب.
إن لدينا منتسبين كبارًا يعيشون بيننا في الشرق كمواطنين بالانتساب في العالم الغربي، يتلبَّسون بالنموذج الأوروبي الأمريكي، ويتشدقون في مجالسهم بالإنجليزية، ويوقعون بها أعمالهم ورسائلهم، إن أسلوبهم يثير الشفقة، وإنجليزيتهم، بحكم الانتساب ذاته، ركيكةٌ عجماء، يظن هؤلاء أنهم متحضرون مجددون، وهم غارقون إلى الأذقان في تقليد آخر، لقد نسوا لغتهم التي لن يبدعوا إلا بها، واستعاروا لغة غيرهم التي لن يعرفوها إلا بالنقل والوساطة، ولو عرفوا من اللفظ معناه المباشر فإنهم في عَمَهٍ عن شحناته وظلاله، وإيحاءاته وتداعياته، وتجلياته الثانية وأقانيمه الأخرى، ومَنشَئه في التاريخ ومسيره في الزمن، وهم بذلك يخسرون البُعد الثالث للغة، ويتبنون لغةً مسطَّحةً مصمتة لن يفكروا بها إلا تفكيرًا مسطحًا مصمتًا.
1 / 16
إن حياة الانتساب هذه تضحيةٌ بالحياة وتنازلٌ عن الإرث ونفيٌ للذات، ووقرٌ وفقرٌ وخزي، لقد باع أصحابنا أنفسهم مجانًا وصاروا مسوخًا لا تروق أعينَ الشرق أو الغرب، واختاروا أن يكونوا أذيالًا لا عمل لها إلا التبعية، ولا مكان إلا المؤخرة.
(٤) في ظل الفصحى
اللغة «جِينٌ» آخر.
فكما أن الجينات شفراتٌ أو مخططات يسير وفقًا لها الكيانُ البشري جسميًّا ونفسيُّا، فإن اللغة شفرةٌ ومنظورٌ ونماذج رؤية تشكل وعينا وإدراكنا الخاص للوجود، وتحكم وجهتنا في الفكر والفعل، وطريقتنا في تصور ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
بهذا المعنى تكون العروبة قَرابةَ رؤيةٍ بقدر ما هي قَرابة دمٍ، وتكون الدعوة إلى الفصحى دعوةً إلى الوحدة، وإلى لمِّ الشمل، وإلى اجتماع الإخوة بعد افتراقٍ وشتاتٍ وغُربة.
عادل مصطفى
٢٥/ ٢/ ٢٠١٠
1 / 17
الفصل الأول جمع المادة اللغوية
من يتأمل علوم العربية، من نحوٍ وصرفٍ وأصواتٍ ومعاجم وعروض … لا يسعه إلا الإجلال لمن ابتكروا هذه العلوم من العدم، وشيدوا هذه الصروح من الصفر، بعزمٍ صادقٍ وإخلاصٍ نادر، وحذقٍ منقطع النظير. (^١)
على أنَّ غاية الإجلال لهذا السَّلف العظيم أن نقتدي به في الخصلة التي جعلت منه سلفًا عظيمًا؛ في اجتهاده وابتكاره؛ فنجتهد نحن أيضًا ونبتكر، وننخل ونغربل، ونراجع ونصوِّب.
_________
(^١) في «باب في صدق النَّقَلة وثقة الرواة الحملة» يقول ابن جني في «الخصائص»: «… لم يُوفَّق لاختراعه، وابتداء قوانينه وأوضاعه، إلا البر عند الله سبحانه، الحفيظ بما نوَّه به وأعلى شأنه، أوَلَا يعلم أن أمير المؤمنين عليًّا هو البادئه والمنبِّه عليه … ثم تحقق ابن عباس به، واكتفال أبي الأسود ﵀ إياه … ثم تتالى السلف عليه … ويكفي من بعد ما تعرف حاله ويُتَشاهَد به من عفة أبي عمرو بن العلاء ومن كان معه … وهذا الأصمعي وهو صنَّاجة الرواة والنقلة … ومعلومٌ كم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته؛ لأنه لم يقْوَ عنده إذ لم يسمعه … هذا إلى ما يعرف عن عقل الكسائي وعفته وظلفه ونزاهته حتى إن الرشيد كان يجلسه ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته ويأمرهما ألا ينزعجا لنهضته … وحسبنا من هذا حديث سيبويه وقد حطب بكتابه وهو ألف ورقة علمًا مبتكرًا ووضعًا متجاوزًا لما يسمع ويرى، قلما تسند إليه حكايةٌ أو توصل به رواية … وهذا أبو علي (الفارسي) ﵀ كأنه بعدُ معنا ولم تبِنْ به الحال عنا، كان من تحوُّبه وتأنِّيه وتحرُّجه كثيرَ التوقف فيما يحيكه، دائم الاستظهار لإيراد ما يرويه، فكان يقول أنشدت لجرير فيما أحسب، وأخرى: قال لي أبو بكر فيما أظن، وأخرى: في غالب ظني كذا، وأرى أني قد سمعت كذا» (ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الرابعة ١٩٩٩، الجزء الثالث، ص ٣١٢ - ٣١٦).
1 / 19
(١) الفصحى (المشتركة) واللهجات
يبدأ المشهد اللغوي بجزيرة العرب، نجد والحجاز ومنطقة الفرات، في القرن الخامس والسادس الميلاديين، وقد انتظمتها لهجاتٌ محلية متعددة، تتحدث بها قبائل متفرقة أدى بها اتساع الصحراء إلى عزلةٍ نسبية، ولما كانت تلك القبائل على عزلتها تتبادل التجارة وتتلاقى في الحج والأسواق والندوات، كان لا بد من وجود لغةٍ «مشتركة» يتفاهم بها الناس جميعًا على اختلاف قبائلهم، كانت مكة، أم القرى، هي مهوى الأفئدة وملتقى الحج والتجارة وأسواق الخطابة والشعر، وقد كفل لها نشاطها التجاري وثراؤها الاقتصادي ارتقاءً حضاريًّا وسلطانًا سياسيًّا؛ الأمر الذي جعل اللهجة القُرَشية هي اللهجة الغالبة في تكوين اللغة المشتركة، وإن لم تتطابق معها تمام التطابق، هذه الفصحى المشتركة هي التي يتخذها الخطباء والشعراء، وهي التي تُكتب بها المعاهدات وتُتخذ في مواقف الوفادة والتشاور والحروب والعبادة، وقد نزل بها القرآن الكريم ليفهمه العرب جميعًا على اختلاف لهجاتهم المحلية، وبذلك سادت المشتركة واستتبت وازدهرت وارتقت ارتقاءً عظيمًا.
نحن إذن بإزاء مستويين لغويين متباينين: المستوى اللهجي من جهة، ومستوى الفصحى أو المشتركة من جهة أخرى، ومن العبث وإهدار الطاقة أن نسأل الآن أيهما السابق على الآخر: أهي لهجاتٌ تبلورت منها المشتركة (مرتكزةً كثيرًا على لهجة قريش)؟ أم هي المشتركة تفرعت عنها اللهجات شأنها شأن غيرها من اللغات الكبرى كاللاتينية والجرمانية؟ ذلك أمرٌ مختلطٌ ملتبس غامض يثير فيضًا من الحدوس والتخمينات والفروض، ولا يؤدي إلى نتائج حاسمةٍ صلبة.
ثمة موقفان متمايزان أمام الباحث في أمر العلاقة بين المشتركة واللهجات:
الموقف الأول: أن يَعتبِر كلًّا منهما مستوًى خاصًّا ولا يخلط بينهما بالرغم من إدراكه للتأثير المتبادل بينهما؛ فكل لهجة مستوًى خاصٌّ ينبغي ألا يختلط بغيره من اللهجات ولا بالمشتركة، كل لهجة مستوًى متفرد في دلالة الألفاظ وفي الأصوات والصيغ والتراكيب.
والموقف الثاني: أن يعتبر المشتركة هي اللهجات نفسها، فتكون المشتركة (الفصحى) هي المجموع الجبري ل «لغة قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين.»
الموقف الأول هو الموقف العلمي الصحيح (ما ينبغي أن يكون)، ولقد راود بعضَ النحاة على نحوٍ عارضٍ لا يشكل اتجاهًا أو منهجًا، والموقف الثاني هو الموقف الخاطئ
1 / 20
من الجهة العلمية، وهو الموقف الذي اتخذه النحاة مع الأسف (ما هو كائن)، فأدى إلى اضطراب الدراسة وتعقد النحو، فتجد في المسألة الواحدة وجوهًا، وتجد لكل وجهٍ توجيهًا، وتجد لهذه الوجوه والتوجيهات سندها في اللغات واللهجات.
لقد اتُخذت اللهجات تُكأةً في النحو العربي لكثير من التفريعات التي تُتدارَك على القاعدة العامة أو تنقضها تمامًا، مما زاد من تعقيد النحو وصعوباته. قيل لأبي عمرو بن العلاء كيف تصنع فيما خالفتك به العرب وهم حجة؟ فقال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات. وتفسير هذا المسلك العلمي هو فهم علمائنا للصلة بين الفصحى واللهجات، واعتبارهم الفصحى هي نفس اللغات المتعددة مما أطلقوا عليه أنه «كلام العرب»، ولا تمكن دراسة هذا الحشد الكبير المختلط إلا بهذه الطريقة، وهكذا جاء النحو العربي وفيه قواعد عامة ذات احتمالات ولغات تُتدارَك عليها أو تنقضها، مثال ذلك أن العرب بعامة تقف على المنصوب المنون بإبدال التنوين ألفًا، ولكن أبا الحسن قطرب وأبا عبيد والكوفيين ذكروا أن من العرب من يقف على المنصوب المنون بالسكون، فيقول «رأيت زيد»، وهي لهجة بعض فروع ربيعة. إن الفصحى المشتركة لم تحمل هذا ليشيع ويوفق عليه عرفها، ولكن النحاة حملوه ودرسوه من اللهجة، ووضعوا له قاعدةً تمثل ظاهرةً ضمَّها النحوُ العربي، ذاك الذي يُفترَض فيه أنه للفصحى أساسًا. (^١)
(٢) سمات اللغة المشتركة
تتميز أي لغةٍ مشتركة بصفاتٍ معينة؛ الأولى: أنها فوق مستوى العامة، بمعنى أن العامة لا يستعملونها في خطابهم، وإذا سمعوا متكلمًا بها رفعوه فوق مستوى ثقافتهم، فاللغة المشتركة العربية التي نظم بها الشعراء وخطب بها الخطباء، لم تكن في متناول العرب جميعًا، بل كانت في مستوًى أرقى وأسمى مما يمكن أن يتناوله العامة، وحتى الإعراب الذي يعد أهم مميزات الفصحى لم تكن كل العرب تقدر عليه، روي عن ابن أبي إسحق: «العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق فيه.» وعن يونس: «العرب تشامُّ الإعراب ولا تحققه.» وعن الخشخاش بن الحُباب: «العرب تقع بالإعراب وكأنها لم تُرِدْ.» (^٢)
_________
(^١) د. محمد عيد: المستوى اللغوي للفصحى واللهجات، عالم الكتب، ١٩٨١، ص ٦٢ - ٦٣.
(^٢) د. رمضان عبد التواب: بحوث في فقه اللغة، جامعة عين شمس، القاهرة، بدون تاريخ، ص ٣٣.
1 / 21
والسمة الثانية للغة المشتركة: أنها لا تنتمي صفاتها أو عناصرها إلى بيئة محلية بعينها، بمعنى أن الخطيب باللغة المشتركة لا يكاد السامع يكشف عن بيئته المحلية؛ فاللغة المشتركة لغةٌ منسجمة موحَّدة لا يمكن أن تنتمي إلى بيئةٍ خاصة من بيئات الجزيرة العربية، فلا يحق لنا أن نقول مثلًا: إن اللغة المشتركة هي لغة قريش أو تميم أو غيرها من قبائل العرب، بل هي مزيج من كل هذا، تكوَّنت له شخصيته وكيانه وأصبح مستقلًّا عن اللهجات، وإن التمس هذا المزيج في نشأته بعض صفات هذه اللهجات بعد هضمه، من ذلك أن المشتركة العربية تحقق الهمز، بينما لهجة قريش نفسها تسهيل الهمز، ومن ذلك «أن شعر الشعراء من ربيعة لا يعرف ما اشتهر عن لهجتها من الكشكشة، وشعر الشعراء من تميم لا يعرف العنعنة»، (^١) وفي ديوان الهذليين لا نكاد نجد ما عرف عن لهجة هذيل من فحفحة واستنطاء ونحو ذلك. (^٢)
والصفة الثالثة للغة المشتركة: أنها ليست لغة سليقة، ومعنى السليقة أن تتكلم لغة من اللغات بغير شعور بما لها من خصائص، وباستحالة أن تخطئ فيها دون أن تدرك خطأك وتتداركه على الفور. وأكبر دليل على أن الفصحى لم تكن لغة سليقة لكل العرب، تلك الروايات الكثيرة التي تشير إلى وقوع اللحن من العرب، قبل الإسلام وبعده. إن صاحب اللغة الذي يتكلمها بالسليقة، كما يقول د. إبراهيم أنيس، يستحيل عليه الخطأ في ظواهر تلك اللغة دون أن يدرك أنه أخطأ؛ فالإنجليزي لا يخطئ في كلامه إلا إذا قسنا كلامه بمستوًى لغوي آخر فوق كلام الناس، ونحن في كلامنا بالعامية لا نخطئ، فإذا زل اللسان في لحظة ارتباك أو تلعثم رجعنا عن هذا الزلل في لمح البصر، وأدركنا أننا وقعنا فيه، ولا يُتصور وقوع الخطأ من صاحب السليقة اللغوية في أي ظاهرة من ظواهر لغته: في تركيب
_________
(^١) د. إبراهيم أنيس: مستقبل اللغة العربية المشتركة، القاهرة، معهد الدراسات العربية العالية، مطبعة الرسالة، ١٩٦٠، ص ١٢.
(^٢) الكشكشة، وتُعزى إلى ربيعة ومضر (وإلى بكر أيضًا وبني عمرو بن تميم وناس من أسد) هي إبدال كاف المؤنثة في الوقف شينًا أو إلحاقها شينًا، مثل «مالش؟» بدلًا من «مالَكِ»، و«أُكرُمكِش» بدلًا من «أُكرِمكِ». والعنعنة، وتعزى إلى تميم وقيس وأسد ومن جاورهم، قيل إنها إبدال ألف أن المفتوحة عينًا، فتقول «عَنَّك» بدلًا من «أَنَّك». والفحفحة، وتعزى إلى هذيل، هي قلب الحاء عينًا، فتقول «عتَّى» مثلًا من «حتَّى». والاستنطاء، ويعزى إلى هذيل وسعد بن بكر والأزد وقيس والأنصار، هو جعل العين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء، فتقول مثلًا «أنطَى» بدلًا من «أعطى».
1 / 22
أصواتها أو في ترتيب الكلمات بجملها، أو في صيغها، أو في طريقة النفي والإثبات، أو في طريقة الاستفهام والتعجب ونحو ذلك. (^١)
(٣) تشييء السليقة اللغوية
حين يتعلم الطفل لغة أهله بالمحاكاة والمران، والمحاولة والخطأ، فإنَّه يحتشد ويُعمل ذهنه فيما يُنطق له ويركز فيما يقول، وإذا أخطأ فقد لا يعي أنه أخطأ حتى يُظهِره الكبارُ على خطئه، حتى إذا اكتمل تعلُّمه وتمت له السيطرة على لغته فإنه يتحدث بها من غير حاجة إلى احتشاد وتركيز وتيقظ، ودون وعي بخصائصها وتوجس من أخطائها، هنالك يقال إنه يتكلم ب «السليقة»، السليقة إذن هي تَمكُّن المرء من لغةٍ ما بحيث يتكلم بها عفويًّا وتلقائيًّا ودون التفات منه إلى قواعدها وضوابطها. يتحدث الطفل لغته الأم بالسليقة، وبوسع المرء أن يتمكَّن من لغةٍ أجنبية ويتكلمها بالسليقة إذا أولاها اهتمامًا متصلًا وثابر على تعلمها ولم ينقطع عن التدريب والممارسة.
يقول ابن خلدون: «اعلم أنَّ اللغات كلها ملكاتٌ بالصناعة؛ إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال؛ بلغ المتكلم حينئذٍ الغاية من إفادةٍ مقصودة للسامع، وهذا هو معنى البلاغة، والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقع أولًا وتعود منه للذات صفةٌ، ثم يتكرر فتكون حالًا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكةً أي صفةً راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغةُ العربيةُ موجودةً فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيُلقَّنها أولًا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكةً وصفةً راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل
_________
(^١) د. إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثامنة ٢٠٠١، ص ١٧٣.
1 / 23
وتعلمها العجم والأطفال، وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع، أي بالملكة الأولى التي أُخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم.» (^١)
السليقة إذن ليست «شيئًا» Res أو «كيانًا» Entity سحريًّا يرتبط بالبداوة أو بالجنس العربي ويمتنع على غير العربي مهما أخلص السعي وواصل التعلم، ولكن قدماء اللغويين العرب كان لهم رأيٌ آخر: فقد سيطرت عليهم فكرة أن الكلام بالعربية لا يستقيم لغير العربي، وكأن في الأمر شيئًا سحريًّا هو سر السليقة العربية؛ شيئًا يجري في دماء العرب ويختلط برمالهم ودِمَنهم، يورثه الآباء أبناءهم وترضعه الأمهات أطفالهن في لبانهن، إنه «تشييء» Reification أو «أَقْنَمة» Hypostatization السليقة إن جاز التعبير، وهو الذي جعل نحاة الكوفة يأخذون اللغة عن أي عربي يصادفونه، ويأخذون حتى عن الأطفال والمجانين (والنساء) كما ذكر السيوطي في «المزهر»، وهم بذلك قد خلطوا بين مستويات الأداء المختلفة حيث كان ينبغي الفصل بينها.
«على أن النحاة قصروا هذه السليقة على قومٍ معينين وعلى زمنٍ معين وبيئة معينة، فنشأ في مخيلاتهم ما يمكن أن يعبر عنه ب «ديكتاتورية الزمان والمكان» مغالين في الحرص على العربية والاعتزاز بها.» (^٢)
(٤) ديكتاتورية الزمان
جمع قدماء النحاة المادة اللغوية التي تنتمي إلى فترة تمتد من منتصف القرن الثاني قبل الهجرة وتنتهي في منتصف القرن الثاني الهجري أو نهايته، والحق أنه من الصعب، استنادًا إلى عدد من الشواهد، أن نقبل رأي من ذهب إلى أن حركة العمل اللغوي الميداني قد توقفت في القرن الثاني الهجري، وبدأت ملاحظة التغير الذي يعتري الاستخدام اللغوي بعد القرن الثاني، إذ نرى مثلًا أن الأزهري (ت. ٣٧٠ هـ) في القرن الرابع قد اعتمد في معظم المادة التي وردت في معجمه «تهذيب اللغة» على النقل المباشر، إذ إنه جمعها من البدو الذين عاش بينهم فترة من الزمن، ونميل إلى ما ورد لدى المصادر العربية من أن الاستشهاد باللغة
_________
(^١) ابن خلدون: المقدمة، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى ٢٠٠٠، ص ٤٤٨ - ٤٤٩.
(^٢) د. إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة، ص ٣١.
1 / 24
(العمل اللغوي الميداني) قد انتهى في القرن الرابع، (^١) وقد اتخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة قرارًا مؤداه «أن العرب الذين يوثق بعربيتهم ويُستشهد بكلامهم هم عرب الأمصار إلى نهاية القرن الثاني وأهل البدو من جزيرة العرب إلى نهاية القرن الرابع»، (^٢) باعتبار أن لغة العرب بقِيتْ نقية خالصة في البوادي حتى نهاية القرن الرابع الهجري، وفي الحواضر حتى نهاية القرن الثاني الهجري، قبل أن يعتريها الفساد ويتسرب إليها اللحن.
ولا يخفى على القارئ، فضلًا عن ديكتاتورية الزمان، أن هذا خلطٌ آخر: خلط عصور، فقد امتدت الفترة التاريخية للغة المجموعة حوالي خمسة قرون، وتعامل النحاة مع هذه المادة اللغوية على أنها تنتمي إلى نظامٍ لغوي واحد، وتعذر عليهم أن يدركوا أن اللغة ظاهرة اجتماعية تتغير عبر الزمن، وأن من الخطأ أن تأخذ مادةً لغوية مستقاة من القرن الثاني قبل الهجرة مأخذ مادةٍ من القرن الرابع الهجري وتدرجها في نظامٍ لغوي واحد (أو «حالة» لغويةٍ واحدة بتعبير فرديناند دي سوسير). لقد فطن النحاة إلى ظاهرة التغير اللغوي الناجم عن عوامل خارجية فحدَّدوا فترة الاستشهاد، غير أنهم فيما يبدو لم يفطنوا إلى ظاهرة التغير اللغوي الناجم عن عوامل داخلية في اللغة ذاتها، وآية ذلك أنهم أخذوا شواهدهم من فترة زمنية هي نفسها كافية لحدوث تغيرٍ كبير.
لم يشأ العرب، كما يقول د. كمال بشر، «أن يأخذوا عامل الزمن في الحسبان؛ فلم يعترفوا على ما يبدو بأن اللغة ظاهرة اجتماعية قابلة للتطور على مدى الأيام، وقد جاءت خطة دراستهم العامة على وفق هذا التصور غير الدقيق.» (^٣)
(٥) ديكتاتورية المكان
في منتصف القرن الثاني الهجري وما تلاه ازدهرت دراسة اللغة، ودأب العلماء والدارسون على الترحل إلى الأعراب في مواطنهم للأخذ عنهم، وقام الأعراب في المقابل بالوفادة على الحضر لتقديم المادة اللغوية للدارسين والعلماء.
_________
(^١) د. سعيد حسن بحيري: المدخل إلى مصادر اللغة العربية، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٠٠، ص ١٣.
(^٢) الجزء الأول من «مجلة المجمع»، ص ٢٠٢.
(^٣) د. كمال بشر: دراسات في علم اللغة، القسم الثاني، دار المعارف، القاهرة، ١٩٧١، ص ٥٧.
1 / 25
لم يأخذ النحاة بلهجات القبائل كيفما اتفق، بل تواصوا على الأخذ من قبائل بعينها، هي «القبائل الموثقة» التي يصح الأخذ عنها، وعلى ترك قبائل أخرى؛ لفساد لغتهم. وللفارابي (ت ٣٥٠ هـ) نصٌ مشهور في ذلك وَرَدَ مختصرًا جدًّا في كتاب «الحروف»، ومفصَّلًا في «الاقتراح» و«المزهر» للسيوطي، يقول الفارابي: «والذين عنهم نُقلت اللغة العربية، وبهم اقتُدي، وعنهم أُخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخذ ومعظمه، وعليهم اتُّكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هُذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط، ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون في صلاتهم بغير العربية، ولا من تغلب والنمر؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر؛ لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أزد عمان لمخالطتهم للهند والفرس، ولا من أهل اليمن أصلًا، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وسكان الطائف؛ لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم.»
تتصف القبائل الموثقة بأنهم يعيشون في وسط الجزيرة العربية بحيث تحققت لهم العزلة، والعزلة مظنة النقاوة والخلوص، وأنهم يعيشون في البوادي لا الحضر، والبوادي مظنة العزلة ويندر أن يجتازها الأغراب، أما القبائل غير الموثقة فتقع في أطراف الجزيرة فيكثر اتصالها بغير العرب، أو تقع في الحضر فيكثر تعرضها لوفادات الأجانب ومخالطة الأعاجم، وبصفة عامة تُكوِّن هذه القبائل ما يشبه السور الخارجي للقبائل الموثقة. يقول ابن جني في «باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أُخذ عن أهل الوبر»: (^١) «علة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلاط والفساد والخطل، ولو عُلم أن أهل مدينةٍ
_________
(^١) المدر: الطين اللزج المتماسك، وأهل المدر سكان البيوت المبنية (أي أهل الحضر)، خلاف البدو أهل الخيام.
1 / 26
باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيءٌ من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذلك أيضًا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها، وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا؛ (^١) لأنا لا نكاد نرى بدويًّا فصيحًا، وإن نحن آنسنا منه فصاحةً في كلامه، لم نكد نعدم ما يُفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه»، (^٢) ويقول السيوطي في «الاقتراح»: «ومما افتخر به البصريون على الكوفيين أن قالوا نحن نأخذ اللغة عن حَرَشَة الضِّباب وأَكَلَة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكوامخ.»
يختلف البصريون عن الكوفيين في منهج البحث والمعيار الذي حددوه للمصدر اللغوي الذي يُؤخذ عنه؛ لذا اختار البصريون قبائل بعينها للأخذ عنها، وتركوا قبائل أخرى باعتبارها فاسدة اللغة، وأسموا لغاتها باللغات الشاذة التي لا يُؤخذ بها، على حين كان الكوفيون يوثقون كل القبائل على حدٍّ سواء، ويحتجون بكل ما يؤخذ عنها، ويؤسسون عليه نحوهم وقواعدهم.
يرى د. رمضان عبد التواب أن «الفرق بين اللغة المشتركة واللهجات لم يكن واضحًا في أذهان اللغويين في هذه الحقبة من التاريخ وضوحًا تامًّا؛ ولذلك سعى البصريون للأخذ عن قبائل معينة، وهدفهم الوصول إلى تقعيد اللغة الأدبية المشتركة، غير أنَّهم لم يُفرِّقوا فيما أخذوه عن هذه القبائل بين تلك اللغة المشتركة ولهجات الخطاب، ومن هنا جاء الخلط والاضطراب، ورأيناهم يؤوِّلون كل مثال شذ عن قواعدهم. ولم يكن الكوفيون أقل منهم حظًّا في الاضطراب والخلط؛ لأنَّهم أخذوا اللغة عن كل العرب، ولم يفرقوا كذلك بين اللغة المشتركة ولهجات الخطاب.» (^٣) ويقول في حديثه عن المعاجم العربية: «تخلط هذه المعاجم كثيرًا بين مستوى العربية الفصحى واللهجات القديمة، في اللفظ والدلالة، بلا إشارة إلى ذلك في الكثير من الأحيان، مثل: السِّراط والصِّراط والزِّراط، بمعنى الطريق مثلًا، وكذكرها لكلمة «العجوز» مثلًا أكثر من سبعين معنى، من بينها: الإبرة، والجوع، والسمن، والقبلة، واليد اليمنى، فمن المحال أن تكون هذه المعاني جميعًا مستعملةً في الفصحى.» (^٤)
_________
(^١) القرن الرابع الهجري.
(^٢) الخصائص، الجزء الثاني، ص ٧.
(^٣) د. رمضان عبد التواب: بحوث في فقه اللغة، ص ٦٠.
(^٤) المرجع السابق، ص ١٣٩.
1 / 27
يقول ابن جني في الخصائص: «إذا كثر على المعنى الواحد ألفاظٌ مختلفة فسُمعت في لغة إنسانٍ واحد فإن أحرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفًا منها، من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله، وذلك كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك، وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد، نحو قولهم: هي رَغوة اللبن، ورُغوته، ورِغوته، ورُغاوته، ورِغاوته، ورُغايته … وكقولهم: جئتُه من عَلُ، ومن عِل، ومن علا، ومن عَلْوُ، ومن عَلْوَ، ومن عَلْو، ومن عُلُوٍّ، ومن عالٍ، ومن مُعالٍ، فإن أرادوا النكرة قالوا: من علٍ، وههنا من هذا ونحوه أشباهٌ له كثيرة، وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغاتٍ لجماعات، اجتمعت لإنسانٍ واحد، من هنا ومن هنا، ورَوَيْتُ عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصقر؛ فقال أحدهما الصقر (بالصاد)، وقال الآخر السقر (بالسين)، فتراضيا بأول واردٍ عليهما فحكيا له ما هما فيه، فقال: لا أقول كما قلتما، إنما هو الزقر.» (^١)
لقد وقع النحاة في خطأ منهجيٍّ كبير إذ خلطوا بين اللهجات ولم يميزوا بين هذه اللهجات؛ فاضطرهم ذلك في كثير من الحالات إلى التأويل والتخريج الذي أظهر اللغة بمظهر الاضطراب، وخلطوا بين مستوى المشتركة وبين اللهجات معتبرين أن المشتركة تشمل لغات هذه القبائل المتعددة؛ فأدى ذلك إلى بناء قواعد المشتركة (الفصحى) على ظواهر لهجية، وإلى اختلاف الآراء حول المسائل اعتمادًا على ما ورد من بعض القبائل، وإلى تضخم المعجمات القديمة واشتمالها على الحوشي المتروك، وإلى ظاهرة الترادف المفرط، والاشتراك، والأضداد، وكثرة الشذوذ، واضطراب أوزان الفعل الثلاثي وصيَغه المختلفة.
(٦) مسألة الثقة بالرواية
من أوجه النقد الشهيرة التي استهدفت عملية جمع اللغة عدم توافر الثقة بالرواة ثقةً تشابه ما توافر لرواية الحديث، فقد قيل إن بعض اللغويين كان غير موثوقٍ به، كأن يكون غير عدل، أو يروي عن صبيان، أو عن مجانين، أو كان راوية من أهل الأهواء، وكان بعض الجامعين لا يتحرى الصدق بل يتيح لنفسه أن يضع، وقد ورد مثل هذا النقد على أقلام
_________
(^١) الخصائص، الجزء الأول، ص ٣٧٤ - ٣٧٥.
1 / 28
المحدثين والأقدمين معًا. في مجلة مجمع اللغة العربية ج ٨ ص ٢٠٩ يقول د. أحمد أمين إن بعض جامعي اللغة لم يكن يتحرى في جمعه، بل يدوِّن كل ما يسمع سواء سمع من ثقة أو غير ثقة. وفي كتاب «اللغة بين المعيارية والوصفية» يقول د. تمام حسان: «وليس ببعيد أن يكون الأعراب الضاربون في الصحارى التي طَرَقها الرواة قد فطنوا إلى ضالة هؤلاء الناس، وإلى أنهم يجرون وراء غريب اللغة أو غريب التراكيب، ويحسنون إلى من يُنِيلهم هذا المطلب، وليس ببعيد كذلك أن بعض الأعراب قد اتخذ من التجارة بالغريب وسيلةً للرزق ليس من صالحه أن تفنى، فإذا ما نضب معينُ ما عنده من اللغة عَمَدَ إلى الاختراع وبالغ في ذلك، ولا سيما حين فطن إلى سرور الرواة بما يقول واحتفالهم به … على أن الرواة واللغويين أنفسهم لم يكونوا في بعض الأحيان فوق مستوى الشبهات، فقد كان الرواة يأخذون من كلام الأعراب ما وافق هدفهم، ويتركون منه ما لا يعجب به الناس في الحاضرة، ولا ينفع اللغويين، أو لا يحفل به اللغويون، لبعده عما قعَّدوه من قواعد.» (^١) ثم يشير إلى ظاهرة اختلاق الروايات والنصوص التي تسد في التقعيد فراغًا صودف وحاجةً عَرَضَت. جاء في العقد الفريد عن الأصمعي: «ورأيت أعرابيًّا ومعه بنيٌّ له صغير ممسك بفم قربة وقد خاف أن تغلبه القربة، فصاح يا أبت! أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها.» يعلق د.
تمام على هذا الخبر قائلًا: «ولستُ أشك في أن هذا الخبر مختلق، بل إن هذا النص الذي نطق به الغلام كما يرويه الأصمعي أو من ألصق به هذا الخبر ليبدو كأنه منتزعٌ من صفحةٍ من صفحات كتب القواعد تتكلم عن إعراب الأسماء الخمسة، فالمسألة إذن ليست مسألة موقف اجتماعي يسجَّل كما هو وتأتي النصوص فيه جزءًا من هذا الموقف، لا بل إن النص والخبر هنا يخلقان الموقف المصطنع الذي يدور الكلام فيه حول إعراب كلمة بعينها، ولا يبدو لنا نصًّا لغويًّا ذا عنصرٍ اجتماعي واضح.» (^٢)
نحن هنا، كما في كثير من المواضع في تراثنا، أمام قلبٍ لمنطق الأمور و«وضع للعربة أمام الحصان» Hysteron proteron أمام قاعدةٍ تُلتمس لها الشواهد، لا شواهد تُستخلص منها القاعدة، أمام نص «احتيالي» Ad hoe، «قُدَّ» على مقاس المشكلة التي «قُيض» لحلها؛ ذاك موقفٌ حرج يبتلي أخلص العلماء، ويزين له أن يرشو ضميره ويختان نفسه.
_________
(^١) د. تمام حسان: اللغة بين المعيارية والوصفية، عالم الكتب، القاهرة، ط ٤، ٢٠٠٠، ص ٨٤ - ٨٥.
(^٢) المرجع السابق، ص ٨٦.
1 / 29