Linguistic Beauty in Texts from Revelation - Book
لمسات بيانية في نصوص من التنزيل - كتاب
ناشر
دار عمار للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الثالثة
اشاعت کا سال
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٣ م
پبلشر کا مقام
عمان - الأردن
اصناف
المقدمة
يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهك وعظيم سلطانك.
وبعد:
فهذه جملة من نصوص التنزيل العزيز سُئلتُ عن سِرِّ التعبير في بعضها واخترتُ بعضها الآخر من سور متعددة لأبيّن طرفًا مما فيها من أسرار تعبيرية ولمسات فنية لعلَّ فيها نفعًا لدارسي القرآن ولتكون خطوةً أخرى بعد كتاب (التعبير القرآني) في بيان شيء من أسرار هذا السِّفْر العظيم كتاب الله الخالد.
قال لي بعضهم بعد أن اطّلع على كتاب (التعبير القرآني)، لو أَسميتَهُ (الإعجاز القرآني) .
فقلتُ له: هذا العنوان أكبرُ مني وأنا لا أستطيع أن أنهض ببيان الإعجاز القرآني ولا بشيءٍ منه، وإنما هو دراسة في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني العظيم الذي لا تنتهي عجائبه.
إن هذا الكتاب - وكذلك الكتاب الذي قبله أعني كتاب (التعبير القرآني) ليس في بيان الإعجاز القرآني، وليس هو خطوة واحدة في هذا الطريق، وإنما هو خطوة في طريق قد يُوصِلُ السالكَ إلى طريق الإعجاز أو شيء من الإعجاز.
إن إعجاز القرآن أمرٌ متعدد النواحي متشعبُ الاتجاهات ومن المتعذر أن ينهض لبيان الإعجاز القرآني شخصٌ واحد ولا حتى جماعة في زمنٍ ما مهما كانت سَعَةُ علمهم واطلاعهم وتعدد اختصاصاتهم إنما هم يستطيعون بيانَ شيءٍ من أسرار القرآن في نواحٍ متعددة حتى زمانهم هم، ويبقى القرآن
1 / 5
مفتوحًا للنظر، لمن يأتي بعدنا في المستقبل ولِمَا يَجِدُّ من جديد. وسيجد فيه أجيالُ المستقبل من ملامح الإعجاز وإشاراته ما لم يخطر لنا على بال.
وأضرب مثلًا لتعدد نواحي الإعجاز، فإني سمعتُ وقرأت لأشخاص مختصين بالتشريع والقانون، يُبَيِّنون إعجازَ التشريع القرآني، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته ما لا يصحُّ استبدال غيرها بها، وإن اختيار هذه الألفاظ في بابها أَدقُّ وأعلى مما نُبيِّنُ نحن من اختياراتٍ لغوية وفنية وجمالية.
وقرأتُ وسمعت لأشخاص متخصصين بعلم التشريح والطب في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها يفوق ما نذكره في علم البلاغة. فألفاظهُ مختارة في منتهى الدقة العلمية. من ذلك على سبيل المثال أن ما ذكره القرآن من مراحل تطور الجنين في الرحم هي التي انتهى إليها العلمُ مما لم يكنْ معروفًا قبل هذا العصر مما دعا علماء أجانب إلى أن يعلنوا إسلامهم. وليس ذلك فقط؛ بل إن اختيار تعبير (العلقة) و(المضغة) - مثلًا أعجب اختيار علمي.
فاختيار التعبير بـ (العلقة) اختيارٌ له دلالته، فإن المخلوق في هذه المرحلة أشبه شيء بالعلقة، وهي الطفيلية المعروفة. وكذلك التعبير بـ (المضغة)، فالمضغة كما قرأنا في كتب التفسير، هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ. ولكن لاختيار كلمة (مضغة) سببٌ آخر، ذلك أن (المضغة) هي قطعة اللحم الممضوغة أي التي مضغتها الأسنان، وقد أثبت العلمُ الحديث أن الجنين في هذه المرحلة ليس قطعة لحم عادية بل هو كقطعة اللحم التي مضغتها الأسنان، فاختيار لفظ (المضغة) اختيارٌ علمي دقيق. إنه لم يقل "قطعة لحم صغيرة" ولو قال ذلك لكان صوابًا ولكن قال: (مضغة) لِمَا ذكرتُ ورُبَّما لغيرهِ أيضًا، والله أعلم.
1 / 6
وقرأتُ فيما توصَّلَ إليه علم التاريخ وما دَلَّتْ عليه الحفرياتُ الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام وأدق الأخبار ما لم يكن يعرفهُ جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان. وأن الذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبقٌ على ما جاء في القرآن الكريم كلمةً كلمة ولم يكن ذلك معلومًا قبل هذا القرن البتة.
وقرأتُ في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير (الملك) في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة موسى، فعرفتُ أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة فـ (العزيز) أدقُّ ترجمةٍ لمن يقوم بذلك المنصب في حينه، وأن المصريين القدامى كانوا يفرقون بين الملوك الذين يحكمونهم فيها إذا كانوا مصريين أو غير مصريين، فالملكُ غير المصري الأصل، كانوا يسمونه (الملك)، والمصري الأصل يسمونه (فرعون) وأن الذي كان يحكم مصر في زمن يوسف غير مصري، وهو من الهكسوس فسماه (الملك)، وأن الذي كان يحكمها في زمن موسى هو مصري فسماه (فرعون)، فسمى كل واحد بما كان يُسمى في الأزمنة السحيقة.
وعرفت من الإشارات الإعجازية في مختلف العلوم كما في أسرار البحار والضغط الجوي وتوسع الكون وبداية الخلق ما دعا كثيرًا من الشخصيات العلمية إلى إعلان إسلامهم.
بل إن هناك أمورًا لم تُعرفْ إلا بعد صعود الإنسان في الفضاء، واختراقه الغلاف الجوي للأرض، وقد أشار إليه القرآن إشارات في غاية العجب ذلك أن الإنسانَ إذا اخترق الغلاف الجوي للأرض، وجد نفسه في ظلام دامس وليل مستديم ولم تُرَ الشمسُ، إلا كبقية النجوم التي نراها في الليل. فالنهارُ الذي نعرفه نحن، لا يتعدى حدودَ الغلاف الجوي فإن
1 / 7
تجاوزناه كنا في ظلام لا يعقبه نهار. وقد أشار إلى ذلك القرآن إشارة عجيبة في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾ [يس: ٣٧] فجعل النهار كالجلد الذي يُسلخ وأما الليل: فهو الأصل، وهو الكل، فشبَّه الليلَ بالذبيحة، والنهار جلدها؛ فإن سُلخ الجلد ظهر الليل فجعل النهار غلافًا والليل هو الأصل.
وقال: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ [الحجر: ١٤-١٥] . أي: لو مكنّاهم من الصعود إلى السماء، لانتهوا إلى ظلام وقالوا: ﴿سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾، وغير ذلك وغيره.
وعلى هذا فالإعجاز القرآنيّ متعدِّدُ النواحي، متشعب الاتجاهات، ولا يزال الناس يكتشفون من مظاهر إعجازه الشيء الكثير، فلا غرو أن أقول إذن: إن الإعجاز أكبر مما ينهضُ له واحد، أو جماعة في زمن ما.
إن التعبير الواحد، قد ترى فيه إعجازًا لغويًا جماليًا، وترى فيه في الوقت نفسه، إعجازًا علميًا، أو إعجازًا تاريخيًا، أو إعجازًا نفسيًا، أو إعجازًا تربويًا أو إعجازًا تشريعيًا، أو غير ذلك.
فيأتي اللغوي، ليبين مظاهرَ إعجازهِ اللغوي، وأنه لا يمكن استبدالُ كلمةٍ بأخرى، ولا تقديم ما أُخِّرَ أو تأخير ما قُدِّمَ، أو توكيد ما نُزعَ منه التوكيد، أو عدم توكيدِ ما أُكِّدَ. ويأتيك العالم في الطب ليقول من وجهة نظر الطب، ألطف وأدق مما يقوله اللغوي. ويأتيك العالم في التشريع، ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التشريع والقانون. ويأتيك المؤرخ ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التاريخ، ويأتيك صاحب كل علم، ليقول مثل ذلك من وجهة نظر علمه.
إننا ندلُّ على شيء من مواطن الفن والجمال، في هذا التعبير الفني الرفيع، ونضع أيدينا على شيء من سُمُوِّ هذا التعبير، ونبين أن هذا
1 / 8
التعبير، لا يقدر على مجاراته بشر، بل ولا البشر كلهم أجمعون، ومع ذلك لا نقول: إن هذه هي مواطن الإعجاز، ولا بعض مواطن الإعجاز وإنما هي ملامح ودلائل، تأخذ باليد وإضاءات توضع في الطريق، تدل السالكَ على أن هذا القرآن كلامٌ فنيٌّ مقصود، وُضع وضعًا دقيقًا ونُسج نسجًا مُحْكمًا فريدًا، لا يشابهه كلام، ولا يرقى إليه حديث ﴿فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ﴾ [الطور: ٣٤] .
أما شأن الإعجاز، فهيهات هيهات، إنه أعظمُ من كل ما نقول، وأبلغ من كل ما نَصِفُ، وأعجبُ من كل ما نقف عليه من دواعي العجب.
إن هذا القادم من الملأ الأعلى، والذي نزل به سيدٌ من كبار سادات الملأ الأعلى، فيه من الأسرار، ودواعي الإعجاز، ما تنتهي الدنيا ولا ينتهي.
قد ترى أن في قولي مبالغةً وادعاءً أو انطلاقًا من عاطفةِ دينٍ أو التهابِ وجدانٍ، وليس بوسعي أن أمنعكَ من هذا التصور، ولا أن أردَّ عنك ما ترى.
ولكن، لو فُتح القلبُ المقفل، وأُوقد السراجُ المُعطَّل، وأشرقت بالنور حنايا لم تكن تعرف النور، ولامست فؤادك نفحةٌ من روح الملك القدوس، وهبَّت على أوديةِ نفسك، نسمةٌ من عالم الروح، وسمعتَ صوتًا يملأ نفسك، قادمًا من بعيد، من الملأ الأعلى يقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق﴾ [الحديد: ١٦] . ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٧] . فقفَّ شعرُ بدنك، واقشعرّ جلدك، ومار فؤادك، وتحركت السواكن، واضطرب بين جنبيك ما اضطرب، والتهب فيه ما التهب، وانهمرت الدموع تسيلُ في شعاب القلوب التي قتلها الظمأ،
1 / 9
وأقفرها الجفاف، تغسل الأوضار وتروي حبات القلب وتُندِّي اليَبَسَ وتُحيي المواتَ فعند ذاك تذوقُ ما لم تَعهدْ له مَذَاقًا ولا طعمًا، وتحسُّ ما لم يكن لك فيه سابقُ معرفةٍ، ولا إحساس، وتصيحُ بكل جوارحك قائلًا: والله لقد آن! والله لقد آن! وعند ذاك تعرفُ ما أقول وتفهمُ ما أُشير إليه، ولكن أنّى لي أنْ أُوصِلَكَ إلى هذا؟!
وكيف أُوصلُكَ وأنا المنقطعُ، وأُعطيك وأنا المحروم؟ ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
إنما هي دلائلُ أضعها في الطريق وإشارات وصُوى، وشيء من خافت النورِ في مصباحٍ ناضبِ الزيت، غير ناقعِ الفتيل، عسى اللهُ أن ينفع بها سالكًا، ويجنِّب العثار ساريًا في الليل البَهيم؛ فتنالنا منه دعوةٌ صالحة تنفعنا في عَرَصات القيامة.
وفي الختام لا أجدُ خيرًا من أن أُوصيك ما أوصى به رسولُ الله ﷺ صاحبه أبا ذر، وليكن ذلك منك على ذِكْرٍ وإياك أن تنساه:
يا أبا ذر أَحْكمِ السفينةَ فإنَّ البحرَ عميق
وخَفِّفِ الحملَ فإنَّ العَقبةَ كَؤُود
وأكثرِ الزادَ فإنَّ السفرَ طويل
وأخلصِ العملَ فإنَّ الناقدَ بصير.
1 / 10
سورة الفاتحة
نفتتح الكتاب بسورة الفاتحة تَبَرُّكًا.
﴿الحمد للَّهِ﴾ .
معنى ﴿الحمد﴾: الثناءُ على الجميل من نعمةٍ أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد: أنْ تذكر محاسنَ الغير، سواء كان ذلك الثناءُ على صفةٍ من صفاتهِ الذاتية كالعلم والصبر والرحمة والشجاعة، أم على عطائه وتَفضُّلهِ على الآخرين. ولا يكون ﴿الحمد﴾ إلا للحَيِّ العاقل.
وهذا من أشهر ما فُرِّقَ بينه وبين المدح. فإنك قد تمدح جمادًا، وقد تمدح حيوانًا ولكن لا تحمده، فقد تقولُ كلامًا في مدح الديك، وفي مدح البقر، وفي مدح الكلب، وفي مدح الذهب، وفي مدح اللؤلؤ وغير ذلك، ولكن لا تحمده.
جاء في تفسير الرازي: "إن المدحَ قد يحصل للحي ولغير الحي، ألا ترى أن مَنْ رأى لؤلؤة في غاية الحُسْنِ أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ويستحيل أن يحمدها فثبت أنَّ المدح أَعمُّ من الحمد".
1 / 11
ومما ذكر في الفرق بينهما أيضًا:
"إن المدحَ قد يكون قبل الإحسان، وقد يكون بعده، أما الحمد فإنه لا يكونُ إلا بعد الإحسان". فإن الحمد يكون لما هو حاصلٌ من المحاسن في الصفات، أو الفعل، فلا يُحمَدُ مَنْ ليس في صفاته ما يستحق الحمد، ولا يُحمَدُ مَنْ لم يفعل جميلًا. أما المدح، فقد يكون قبل ذلك، فقد تمدح إنسانًا ولم يفعل شيئًا من المحاسن والجميل، ولذا كان المدح مَنْهيًا عنه، بخلاف الحمد، فإنه مأمورٌ به، فقد قال ﷺ: "احثُوا الترابَ في وجوه المَدَّاحين". في حين قال: "مَنْ لم يَحمدِ الناسَ لم يحمدِ الله"
وبذا علمنا من قوله: ﴿الحمد للَّهِ﴾ أنَّ الله حَيٌّ، له الصفات الحسنى والفعل الجميل، فحمدناه على صفاته، وعلى فِعْلِه وإنعامه. ولو قال: (المدح لله) لم يُفِدْ شيئًا من ذلك.
وهناك فرقٌ آخر بين الحمد والمدح، وهو أنَّ في الحمد تعظيمًا وإجلالًا ومحبة، ما ليس في المدح.
فكان اختيار (الحمد) أولى من اختيار (المدح) .
وفَرَّقُوا بين الحمد والشكر، فقالوا:
"إن الحمد يعمُّ ما إذا وصل ذلك الإنعامُ إليكَ أو إلى غيرك، وأما الشكر، فهو مختصٌّ بالإنعام الواصل إليك".
1 / 12
فأنتَ تشكر الشخص إذا أوصلَ إليك نعمةً، وأما الحمدُ فإنه لا يختص بذاك، فإنك تحمدهُ على إنعامه لك، أو لغيرك.
ومن جهة أخرى، إنَّ الشكرَ لا يكون إلا على النعمة، ولا يكون على صفاته الذاتية، فإنك لا تشكرُ الشخصَ على عِلْمِه، أو على قدرته وقد تحمده على ذاك. جاء في (لسان العرب): "والحمد والشكر متقاربان والحمدُ أعمّهما، لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية، وعلى عطائه، ولا تشكره على صفاته".
فكان اختيار الحمد أولى أيضًا من الشكر، لأنه أعَمُّ، فإنك تُثني عليه بنعمه الواصلة إليك، وإلى الخلق أجمعين، وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية، وإن لم يتعلق شيء منها بك. فكان اختيار (الحمد) أولى من المدح والشكر.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنه قال: ﴿الحمد للَّهِ﴾، ولم يقل: (أحمدُ الله)، أو: (نَحمدُ الله)، وما قاله أولى من وجوه:
منها: أنَّ قولنا "أَحمدُ الله" أو "نحمد الله" مختصٌّ بفاعل معين. ففاعل "أحمد" هو المتكلم، وفاعل: (نحمد) هم المتكلمون، في حين أن عبارة: ﴿الحمد للَّهِ﴾ مطلقة لا تختصُّ بفاعلٍ معين وهذا أولى. فإنك إذا قلت: (أَحمدُ الله) أخبرت عن حمدك أنتَ وحدك، ولم تُفِدْ أن غيركَ حَمِدهُ، وإذا قلت: نحمد الله، أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أن غيركم حمده، في حين أن عبارة ﴿الحمد للَّهِ﴾ لا تختص بفاعل معين فهو المحمودُ على وجه الإطلاقِ، منكَ ومِنْ غيركَ.
1 / 13
ومنها: أنك إذا قلت: أحمدُ فلانًا، لا يعني أنه يستحقُّ الحمدَ فقد تُثني على شخصٍ لا يستحقُّ الثناء، وقد يهجو شخصٌ شخصًا، وهو لا يستحق الهجو، ذلك أن الشخص قد يضع المدح في غير موضعه، ويضع الهجو في غير موضعه، ويفعل أفعالًا لا ينبغي أن يفعلها، فأنتَ إذا قلت: أحمدُ الله، أخبرتَ عن فعلك، ولا يعني ذلك أنَّ مَنْ تحمده يستحقُّ الحمد في حين أنك إذا قلت: ﴿الحمد للَّهِ﴾ أفاد ذلك استحقاق الله للحمد وليس ذلك مرتبطًا بفاعلٍ معين.
ومنها: أن قولك: (أحمد الله)، أو: (نحمد الله)، مرتبطٌ بزمن معين، لأن الفِعْلَ له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال، أو الاستقبال، ومعنى ذلك أن الحمد لا يحدث في غير هذا الزمان الذي تحمده فيه. ولا شك أن الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمدَ فيه محدود، وهكذا كلُّ فِعْلٍ يقوم به الشخصُ محدود الزمن، فإن أقصى ما يستطيع أن يفعله، أن يكون مرتبطًا بعمره، ولا يكون قبل ذاك وبعده فِعْلٌ فيكون الحمد أقل مما ينبغي، فإنَّ حمدَ الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يُحَدَّ بفاعل، أو بزمان في حين أن عبارة: ﴿الحمد للَّهِ﴾ مُطلقة غير مقيدة بزمن معين، ولا بفاعل معين، فالحمد فيها مستمرٌّ غير منقطع.
جاء في (تفسير الرازي): "إنه لو قال: (أحمدُ الله)، أفاد ذلك كون ذلك القائل قادرًا على حمده، أما لما قال: ﴿الحمد للَّهِ﴾ فقد أفاد ذلك، أنه كان محمودًا قبلَ حمدِ الحامدين، وقبلَ شُكْرِ الشاكرين. فهؤلاء سواء حمدوا، أم لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا، فهو تعالى محمودٌ من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم".
1 / 14
ومن ذلك أن: (أحمد الله)، جملة فعلية، و﴿الحمد للَّهِ﴾ جملة اسمية، والجملة الفعلية دالة على الحدوث والتجدد، في حين أن الجملة الاسمية دالة على الثبوت، كما هو معلوم، وهي أقوى وأدوم من الفعلية، فقولك: (متبصّر)، أقوى وأثبت من: (يتبصّر)، و: (مثقف)، أقوى وأثبت من: (يتثقف)، و: (متدرب) أقوى وأثبت من: (يتدرب)، فاختيار الجملة الاسمية أوْلى من اختيار الجملة الفعلية ههنا، إذ هو أدلُّ على ثبات الحمد واستمراره.
ومنها: "أن قولنا: ﴿الحمد للَّهِ﴾ معناه: أن الحمد والثناء حقٌّ لله وملكه فإنه تعالى، هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد. فقولنا: ﴿الحمد للَّهِ﴾ معناه: إن الحمد لله حقٌّ يستحقه لذاته ولو قال: (أحمد الله) لم يدلّ ذلك على كونه مستحقًا للحمد لذاته. ومعلوم أنَّ اللفظ الدال على كونه مستحقًا للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصًا واحدًا حمده".
ومنها: "أن الحمدَ عبارة عن صفة القلب، وهي اعتقاد كون ذلك المحمود مُتفضِّلًا منعمًا مستحقًا للتعظيم والإجلال. فإذا تَلفَّظَ الإنسانُ بقوله: (أحمدُ الله)، مع أنه كان قلبه غافلًا عن معنى التعظيم اللائقِ بجلال الله، كان كاذبًا لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدًا مع أنه ليس كذلك. أما إذا قال: الحمد لله، سواء كان غافلًا أو مستحضرًا لمعنى التعظيم، فإنه يكونُ صادقًا لأن معناه: أن الحمد حقٌّ لله، وملكه، وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلًا بمعنى التعظيم والإجلال، أو لم يكن. فثبت أن قوله: ﴿الحمد للَّهِ﴾ أَوْلى من قوله: أحمد الله. ونظيره قولنا: (لا إله إلا الله)، فإنه لا يَدْخلُه التكذيبُ بخلاف قولنا: (أشهدُ أن لا إله إلا الله)، لأنه قد
1 / 15
يكون كاذبًا في قوله: (أشهد) ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١] ".
فثبت أن: ﴿الحمد للَّهِ﴾ أولى من: (أحمد الله) أو: (نحمد الله) .
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن عبارة الحمد هذه يمكن أن تُقالَ بالرفع، أي: (الحمدُ لله)، ويمكن أن تقال بالنصب، أي: (الحمدَ لله)، فأي العبارتين أَوْلى بالاختيار؟
والجواب: أن قراءة الرفع، أولى من قراءة النصب، ذلك أن قراءة الرفع تدل على أن الجملة اسمية، في حين أن قراءة النصب، تدل على أن الجملة فعليه بتقدير: نحمد، أو أحمد، أو احمدوا، بالأمر. والجملة الاسمية أقوى وأثبت من الفعلية، لأنها دالةٌ على الثبوت كما مر إيضاحه.
جاء في (الكشاف): "والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء، للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله تعالى: ﴿فَقَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ﴾ [الذاريات: ٢٥]، رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم، ﵇، حَيَّاهُمْ بتحيةٍ أحسن من تحيتهم، لأن الرفع دالٌّ على معنى ثبات السلام لهم، دون تجدده وحدوثه".
وجاء في (البحر المحيط): "وقراءة الرفع أمكن في المعنى، ولهذا أجمع عليها السبعةُ، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى، فيكون قد أخبر بأن الحمدَ مستقرٌّ لله تعالى.. ومَنْ نصب فلا بد من عامل تقديره: أحمد الله أو حمدت الله فيتخصَّصُ الحمدُ بتخصيصِ فاعلهِ وأشعر بالتجدد والحدوث".
1 / 16
وجاء في (تفسير البيضاوي): "وإنما عدل عنه إلى الرفع، ليدلَّ على عموم الحمد وثباته، دون تَجَدُّدِه وحدوثه".
وقد تقول: أليس تقدير فِعْلِ الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع، بمعنى: (احمدوا الحمدَ لله)، كما تقول: (الإسراع في الأمر)، بمعنى أسرعوا؟
والجواب: لا، فإن قراءةَ الرفع أولى أيضًا، ذلك لأن الأمر بالشيء، لا يعني أن المأمور به مستحق للفعل، فقولك: امدحْ زيدًا، لا يعني أن زيدًا مستحقٌّ للمدح، وقولك: اهجُ خالدًا، لا يعني أن خالدًا مستحق للهجو. وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أُمِرَ به، فقد يؤمر الإنسانُ بشيء وهو غير مقتنع به، كأن تقول: اذكر فلانًا بخير، وهو لا يستحق أن يُذكر بخير، أو أن المأمور غير مقتنع بذاك بخلاف الرفع، فإنه يفيد ثُبوتَ الشيء، واستقرارَه على جهة الاستحقاق. وحتى لو أفاد الأمر أفاد ذلك على جهة الثبات أيضًا والدوام نحو: صبرٌ جميلٌ يا فتى، بمعنى: اصبر. فكان الحمدُ لله أولى من: الحمدَ لله بالنصب في الإخبار والأمر.
وهي أعني: (الحمد لله)، أَوْلى من: (حمدًا لله) .
ذلك أن: (الحمدُ لله) جملة اسمية، كما ذكرنا، و: (حمدًا لله)، فعليه، والجملة الاسمية، أقوى وأثبت من الفعلية، كما ذكرنا قبل قليل.
وإن (الحمد) مُعَرَّفةٌ بأل في حين أن (حمدًا) نكرة، والتعريف ههنا يفيد ما لا يفيدهُ التنكير، ذلك أن (ال) قد تكون لتعريف العهد، فيكون المعنى: أن الحمدَ المعروفَ بينكم هو لله. وقد تكون لتعريف الجنس على
1 / 17
سبيل الاستغراق، فيدل على استغراق الأحمدة كلها. وَرجَّحَ بعضهم المعنى الأول، ورجح بعضهم المعنى الثاني، بدليل قوله ﷺ: "اللهم لك الحمدُ كلُّه" فدل على استغراق الحمد كله.
والراجحُ فيما يبدو لي، أن المعنيين مرادان، ذلك أن التعبيرَ يحتملهما معًا، فعلى هذا يكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم، هو لله سبيل الاستغراق والإحاطة، فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.
وعلى أية حال، هو أولى من التنكير الذي ليس فيه دلالة على هذا المعنى.
واختلف في جملة الحمد هذه أعني: (الحمدُ لله) أَخبريةٌ هي، أم إنشائية؟ فذهب معظم العلماء إلى أنها خبرية، وأن القصد هو الإخبار بثبوت الحمد لله، كما تقول: (المال لزيد)، و(الكتاب لخالد) . وقيل: هي إنشائية، فإن القصدُ ذِكْرُ ذلك على جهةِ المدحِ والتعظيم، وقال بعضهم: "هي وأمثالها، إخبارية لغة ونقلها الشارع للإنشاء لمصلحة الأحكام"، وقال بعضهم: هي إخبار يتضمن إنشاء.
جاء في (روح المعاني): "إن الحمد إخبار عن محاسن الغير، مع المحبة والإجلال. والمدح إخبار عن المحاسن ولذا كان الحمد إخبارًا يتضمن إنشاء، والمدح خبرًا محضًا".
وهذا هو الراجح في رأيي، فإنها تحتمل الخبر وإنشاء التعظيم، فتجمع المعنيين معًا. وعبارة الحمد الواردة في السورة أعني: (الحمد لله)
1 / 18
أولى من: (إن الحمد لله)، مِن أكثر مِن وجه، ذلك لأنه ليس المقام مقام شَكٍّ أو إنكار، فيحتاج إلى التوكيد، فإنها توجيه للمؤمنين الذي يُقِرُّونَ ذلك ولا ينكرونه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن عبارة: (الحمد لله)، تحتمل الخبر وإنشاء التعظيم كما ذكرنا فتجمع المعنيين معًا، ولو قلت: (إن الحمد لله) لأصبحت خبرًا محضًا لا تحتمل الإنشاء. ونظير ذلك الدعاء فإنه إنشاءٌ فإذا أدخلت عليه (إن) خرج من الدعاء إلى الخبر فإن قولك: (رحمة الله عليه)، و: (الله يغفر له)، دعاء فإذا أدخلت (إن) عليه، فقلت: (إن رحمة الله عليه) و(إن الله يغفر له)، كان الكلامُ خبرًا لا دعاء.
فـ (الحمدُ لله) أولى من (إن الحمد لله) لِمَا فيها من جمع مَعْنيي الخبر والإنشاء. كما أن عبارة الحمد هذه أعني: (الحمدُ لله) أولى ههنا من: (لله الحمد) من أكثر من وجه.
من ذلك أن عبارةَ (للهِ الحمدُ) فيها اختصاصٌ، أو إزالةُ شكٍّ عمَّن ادَّعى أنَّ الحمد لغير الله أو ادّعى أنَّ هناك ذاتًا مشتركة معه في الحمد فقدمتَ الجار والمجرور لإزالة هذا الشك أو لقصد الاختصاص، في حين أنَّ المقامَ ليس مقام إزالة شك، ولا أنَّ هناك من ادّعى أن الحمد لغير الله فتقدم الجار والمجرور لقصد الاختصاص.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن الحمد في الدنيا ليس مختصًا لله وحده، وإن كان هو سببه كله، فالناس قد يحمد بعضهم بعضًا "فالأستاذ يتسحق الحمدَ من التلميذ، والسلطان العادل، يستحق الحمد من الرعية". وفي الحديث: "مَنْ لم يحمد الناس، لم يحمد الله". ومعنى
1 / 19
ذلك أنْ تعرفَ لكل ذي فضل فضله. وقال الله تعالى، في ذم بعض الناس: ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ﴾ [آل عمران: ١٨٨]، فإن حُمِدُوا بما فَعلوا، فلا بأس في ذلك.
وجاء في تفسير الرازي ذِكْرُ الفرقِ بين قوله: ﴿الحمد للَّهِ﴾، وقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، لماذا قدم (الله) في العبادة فقال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ولم يقدمه في (الحمد) فقال: "إن قوله (الحمد) يحتمل أن يكون لله ولغير الله، فإذا قلت (لله) فقد تَقيَّدَ الحمدُ بأن يكون لله. أما لو قدم قوله: (نعبد) احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله، وذلك كفر.
والنكتةُ: "أن الحمدَ لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر، كما جاز لله لا جَرَمَ حَسُنَ تقديمُ الحمد أما ههنا، فالعبادة لما لم تجز لغير الله، لا جرم قَدَّمَ قوله: ﴿إِيَّاكَ﴾ على نعبد".
وقد تقول: ولكن الله سبحانه قال في مكان آخر: ﴿فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين﴾ [الجاثية: ٣٦] . فقدم مستحق الحمد، فما الفرق؟
ونقول: ومَن يُنْكر التقديم والتأخير؟ وإنما يكون ذلك بحسب المقام، فإذا اقتضى المقامُ التقديمَ، قُدِّمَ وإلا فلا.
وفي آية الجاثية، اقتضى المقام التقديم، أعني: تقديم الذات المستحقة للحمد، وتخصيصه بها. فقد ذكرت سورة الجاثية أصنافًا من الكفار، وفَصَّلت في ذكر عقائدهم، ومواقفهم من آيات الله ورسله.
فقد ذكرت أنهم اتخذوا من دون الله أولياء (الآية ١٠)، وأنهم اتخذوا الهوى إلهًا لهم (الآية ٢٣) . وأنهم نسبوا الحياةَ والموتَ إلى الدهر، لا
1 / 20
إلى الله ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] . فلم يعترفوا لله بشيءٍ من خصائص الربوبية والألوهية. ولم يُقِرُّوا له بفضل على الإنسان، ولذا كرر وأعاد القول إنه هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن. وهو الذي يُحيي ويميت وإنه وحده المُتفضِّلُ في هذا الوجود، لا مُتفضِّلَ سواه على الحقيقة، فقال سبحانه: ﴿وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الجاثية: ٥] .
وقال: ﴿الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية: ١٢-١٣] . ﴿وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق﴾ [الجاثية: ٢٢] . ﴿قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [الجاثية: ٢٦] .
فالله هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن، ولم يشاركه في ذلك أحد، وهو الذي خلق الإنسان وسخر له ما في السماوات، وما في الأرض، وتَفضَّلَ عليه بالنعم، فهو الذي أنزل المطر وأخرج الرزق من الأرض، وسخّر البحر، وفعلَ وفعل، فهو وحده المتفضل على وجه الحقيقة، وهو المستحق الحمد على جهة الحصر والقصر، فقدم الذات الإلهية، وقَصَرَ الحمدَ عليه، لأن المقام يقتضي ذلك بخلاف سورة الفاتحة التي ليس فيها شيء من ذاك، وهي - أعني: سورة الفاتحة - توجيه للمؤمنين الذين يخصون الله بالعبادة ويطلبون منه الثبات على الهدى.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إنَّ جُلَّ التعبيرات في سورة الجاثية، جرت على طريقة الحصر:
﴿لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [الجاثية: ٩] .
﴿مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ [الجاثية: ١٠] .
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الجاثية: ١٠] .
﴿لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾ [الجاثية: ١١] .
1 / 21
﴿الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر﴾ [الجاثية: ١٢] .
﴿إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [الجاثية: ١٥] .
﴿فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الجاثية: ١٧] .
﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ [الجاثية: ٢٤] .
﴿وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] .
﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: ٢٤] .
﴿مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الجاثية: ٢٥] .
﴿قُلِ الله يُحْيِيكُمْ﴾ [الجاثية: ٢٦] .
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ [الجاثية: ٢٧] .
﴿يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون﴾ [الجاثية: ٢٧] .
﴿اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٨] .
﴿ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين﴾ [الجاثية: ٣٠] .
﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا﴾ [الجاثية: ٣٢] .
﴿بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الجاثية: ٣٣] .
﴿وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ﴾ [الجاثية: ٣٤] .
﴿وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ [الجاثية: ٣٤] .
﴿فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا﴾ [الجاثية: ٣٥] .
﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ﴾ [الجاثية: ٣٥] .
﴿فَلِلَّهِ الحمد﴾ [الجاثية: ٣٦] .
﴿وَلَهُ الكبريآء﴾ [الجاثية: ٣٧] .
فاقتضى المقام تقديم الذات، المستحقة للحمد من كل ناحية في سورة الجاثية.
1 / 22
ثم انظر كيف جاء مع الحمد باسمه العَلَم، فقال: ﴿الحمد للَّهِ﴾، ولم يأتِ بوصفٍ آخر بدله، فلم يقل مثلًا: (الحمد للخالق)، أو الرازق أو للحَيِّ، أو للقادر، ونحو ذلك من نعوت الله وصفاته، ذلك أنه لو جاء بأيّ وصفٍ بدل لفظ الجلالة، لأفهمَ ذلك أن الحمدَ إنما استحقه بهذا الوصف دون غيره، فلو قال: (الحمد للعليم)، لأفهم أن الحمد إنما استحقه بوصف العلم، ولو قال: (الحمد للقادر)، لأفهم أن الحمد إنما استحقه بوصف القدرة، وهكذا بقية أوصافه الحسنى، فجاء بالذات ليدل على أن الحمد إنما استحقه لذاته هو، لا بوصفٍ دون وصف، فكان ذلك أولى.
جاء في (روح المعاني): "أتى باسم الذات في الحمدلةِ لئلا يتوهم لو اقتصر على الصفة اختصاص استحقاقه الحمد بوصفٍ دون وصف، وذلك لأن اللام على ما قيل للاستحقاق، فإذا قيل: (الحمد لله) يفيد استحقاق الذات له، وإذا علق بصفة أفاد استحقاق الذات الموصوفة بتلك الصفة له ... ومعنى الاستحقاق الذاتي ما لا يُلاحَظُ معه خصوصيةُ صفة".
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن اسم (الله) مناسب لقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، فإن لفظ (الله) مناسبٌ للعبودية، لأن هذا اللفظ على أشهر الأقوال مأخوذ من لفظ (الإله)، أي: المعبود. و(أَلِهَ) معناه: (عبدَ) فكان لفظ (الله) مناسبًا للعبادة. فقد اقترنت العبادة أكثر ما اقترنت بلفظ (الله) في القرآن الكريم، فقد اقترنت به أكثر من خمسين مرة، وذلك نحو قوله: ﴿بَلِ الله فاعبد وَكُن مِّنَ الشاكرين﴾ [الزمر: ٦٦] . وقوله: ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله﴾ [الرعد: ٣٦] . وقوله: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤] وغير ذلك.
ومن ناحية أخرى، أنه لو جاء بوصف غير اسم العلم، لم يفهم أن المقصود به الله صراحة، فلو قلت: (الحمدُ للحَيِّ)، كان (الحي) مشتركًا
1 / 23
بين الله وغيره، وكذلك العليم والقادر والسميع. بل حتى لو جئت بما لا يَصحُّ وصفُ غيرِ الله به، فقلتَ مثلًا: (الحمد للبارئ)، أو للقيوم أو لفاطر السماوات والأرض، أو غير ذلك، لم يفهم أن المقصود به الله صراحة، فكان ذكر (الله) أولى من ذكر أي اسم آخر.
فتبين من هذا أن: ﴿الحمد للَّهِ﴾ أَوْلى من:
المدح لله أو الشكر لله.
وأولى من: أحمدُ الله أو نحمدُ الله، أو احمدِ اللهَ (بالأمر) .
وأولى من، الحمدَ لله.
وأولى من، حمدًا لله.
وأولى من، إنَّ الحمدَ لله.
وأولى من، لله الحمد.
وأولى من، الحمدُ للحَيِّ، أو القادر، أو العليم، ونحو ذلك من الصفات والأسماء.
﴿رَبِّ العالمين﴾ .
الربُّ: المالك، والسيد، والمربّي والقيّم، والمنعم، وربُّ العالمين: مالِكُهم وسيدهم، ومُرَبِّيهم، والمُنْعِم عليهم.
ومالكُ الشخص وسيده، ومربيه والقيم المنعم عليه أَحَقُّ بالحمد وأولى به من غيره "وبُدئ بالرب، لأنه له التصرف في المَسُود والمملوك والعابد بما أراد من خير أو شرّ".
1 / 24