كتاب الشيخ محمد بسيوني عمران
جواب الأمير شكيب أرسلان
أهم أسباب تأخر المسلمين
لماذا لا نسمي اليابان وأوروبا رجعية بتدينهما
غوائل الجامدين في الإسلام والمسلمين
كون المسلمين الجامدين فتنة لأعداء الإسلام وحجة عليه
مدنية الإسلام
الرد على حساد المدنية الإسلامية المكابرين
حث القرآن على العلم
أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير
هكذا إذا توجهت الهمم
خلاصة الجواب
كتاب الشيخ محمد بسيوني عمران
جواب الأمير شكيب أرسلان
أهم أسباب تأخر المسلمين
لماذا لا نسمي اليابان وأوروبا رجعية بتدينهما
غوائل الجامدين في الإسلام والمسلمين
كون المسلمين الجامدين فتنة لأعداء الإسلام وحجة عليه
مدنية الإسلام
الرد على حساد المدنية الإسلامية المكابرين
حث القرآن على العلم
أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير
هكذا إذا توجهت الهمم
خلاصة الجواب
لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟
لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟
تأليف
الأمير شكيب أرسلان
المقدمة
بقلم محمد رشيد رضا
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
1
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
2
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
3
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون .
4
كتب إلي تلميذي المرشد الشيخ محمد بسيوني عمران إمام مهراجا جزيرة سمبس برنيو (جاوه) كتابا يقترح فيه على أخينا المجاهد أمير البيان أن يكتب للمنار مقالا بقلمه السيال في أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر، وأسباب قوة الإفرنج واليابان وعزتهم بالملك والسيادة والقوة والثروة، وقال في كتاب آخر: إنه قرأ ما كتبناه في المنار وتفسيره من بيان الأسباب في الأمرين، وما كتبه الأستاذ الإمام في مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) في الموضوع، وإنما غرضه أن يكتب في ذلك أمير البيان بقلمه المؤثر المعبر عن معارفه الواسعة، وآرائه الناضجة؛ لتجديد التأثير في أنفس المسلمين بما يناسب حالهم الآن؛ لتنبيه غافلهم، وتعليم جاهلهم، وكبت خاملهم، وتنشيط عاملهم، وبني الاقتراح على الأسئلة الآتية التي صارت مثار شبهة على الدين عند غير علمائه، فهو يعلم مما سمعه من دروسنا في مدرسة الدعوة والإرشاد، ومما كتبناه مرارا في المنار والتفسير أن كتاب الله تعالى حجة على أدعياء الإسلام والإيمان، وليسوا هم حجة عليه.
اقترحت هذا الاقتراح لحمل أخي ووليي الأمير شكيب على كتابة شيء مثل هذا للمنار، وأنا الذي أنصح له دائما بتخفيف أحمال الكتابة عن عاتقه؛ لكثرة ما يكتب لصحف الشرق والغرب، وللأصدقاء غيرهم، فأرسلت إليه كتاب الشيخ محمد بسيوني عقب وصوله إلي، فأرجأ الجواب عنه؛ لكثرة الشواغل، إلى أن عاد من رحلته الأخيرة إلى إسبانية، وقد أثرت في نفسه مشاهد حضارة قومنا العرب في الأندلس والمغرب الأقصى، وشاهد تأثير محاولة فرنسة - تنصير - شعب البربر في المغرب؛ تمهيدا لتنصير عرب أفريقية المرزوئين باستعبادها لهم، كما فعلت إسبانية في سلفهم في الأندلس - فكتب الجواب منفعلا بهذه المؤثرات، فكان آية من آيات بلاغته، وحجة من حجج حكمته، لعلها أنفع ما تفجر من ينبوع غيرته، وانبجس من معين خبرته، فسال من أنبوب براعته، جزاه الله خير ما جزى المجاهدين الصادقين.
هوامش
كتاب الشيخ محمد بسيوني عمران
حضرة مولاي الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، نفعني الله والمسلمين بوجوده العزيز، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإن من قرأ ما كتبه في المنار وفي الجرائد العربية العلامة السياسي الكبير أمير البيان، الأمير شكيب أرسلان، من مقالاته الرنانة المختلفة المواضيع، عرف أنه من أكبر كتاب المسلمين المدافعين عن الإسلام، وأنه أقوى ضلع للمنار وصاحبه في خدمة الإسلام والمسلمين، وإني أرجو من الله تعالى أن يطيل بقاءهما الشريف في خير وعافية - كما أرجو من مولاي الأستاذ صاحب المنار أن يطلب من هذا الأمير الكاتب الكبير أن يتفضل علي بالجواب عن أسئلتي الآتية؛ وهي: (1)
ما أسباب ما صار إليه المسلمون (ولا سيما نحن مسلمو جاوة وملايو) من الضعف والانحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معا، وصرنا أذلاء لا حول لنا ولا قوة، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين .
1
فأين عزة المؤمنين الآن؟ وهل يصح لمؤمن أن يدعي أنه عزيز، وإن كان ذليلا مهانا ليس عنده شيء من أسباب العزة إلا أن الله تعالى قال:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . (2)
ما الأسباب التي ارتقى بها الأوروبيون والأمريكانيون واليابانيون ارتقاء هائلا؟ وهل يمكن أن يصير المسلمون أمثالهم في هذا الارتقاء إذا اتبعوهم في أسبابه مع المحافظة على دينهم «الإسلام» أم لا؟
هذا؛ والمرجو من فضل الأمير أن يبسط الجواب في المنار عن هذه الأسئلة، وله وللأستاذ صاحب المنار من الله الأجر الجزيل.
محمد بسيوني عمران
سنبس بورنيو الغربية
في 21 ربيع الآخر سنة 1348 •••
هذا نص كتاب السائل ويتلوه جواب الأمير، وقد وضعنا له بعض العناوين؛ لأنها كمحطات الطريق للسالكين، وعلقنا عليه قليلا من الحواشي المفيدة للقارئين، كما فعلنا ذلك في كتاب الإسلام والنصرانية لشيخنا الأستاذ الإمام - رحمه الله.
ملاحظة: الحواشي التي من قلم العلامة السيد رشيد رضا - رحمه الله - عليها التوقيع بحرف (ر)، والحواشي المضافة إلى هذه الطبعة من قلم المؤلف عليها التوقيع بحرف (ش).
هوامش
جواب الأمير شكيب أرسلان
إن الانحطاط والضعف اللذين عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق والمغارب لم ينحصر في جاوة وملايو، ولا في مكان آخر، وإنما هو متفاوت في دركاته، فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب للغور، ومنه ما هو عظيم الخطر، ومنه ما هو أقل خطرا.
وبالإجمال حالة المسلمين الحاضرة ولا سيما مسلمي القرن الرابع عشر للهجرة أو العشرين للمسيح، لا ترضي أشد الناس تحمسا بالإسلام وفرحا بحزبه، فضلا عن غير الأحمسي من أهله.
إن حالتهم الحاضرة لا ترضي؛ لا من جهة الدين، ولا من جهة الدنيا، ولا من جهة المادة، ولا من المعنى، وإنك لتجد المسلمين في البلاد التي يساكنهم فيها غيرهم متأخرين عن هؤلاء الأغيار لا يساكنهم في شيء إلا ما نزر، ولم أعلم من المسلمين من ساكنهم أمم أخرى في هذا العصر، ولم يكونوا متأخرين عنهم إلا بعض أقوام منهم ؛ وذلك كمسلمي بوسنه مثلا فإنهم ليسوا في سوي مادي ولا معنوي أدنى من سوي النصارى الكاثوليكيين، أو النصارى الأرثوذكسيين الذين يحيطون بهم، بل هم أعلى مستوى من الفريقين،
1
وككثير من مسلمي الروسية الذين ليس المسيحيون الذين يحاورونهم أرقى من الطوائف المسيحية التي تساكنهم، ولا خلاف في أن مسلمي الصين إجمالا على تأخرهم هم أرقى من الصينين البوذيين، هذا إذا كانت النسبة بين الفريقين باقية كما كانت قبل الحرب العامة، وفيما عدا هذه الأماكن نجد تأخر المسلمين عن مسايرة جيراهم عاما مع تفاوت في دركات التأخر.
ويقال: إن العرب في جزيرة سنغافورة هم أعظم ثروة من جميع الأجناس التي تساكنهم حتى من الإنكليز أنفسهم بالنسبة إلى العدد، ولا أعلم مبلغ هذا الخبر من الصحة، ولكنه على فرض صحته ليس بشيء يقدم أو يؤخر في ميزانية المسلمين العامة.
ولا إنكار أن في العالم الإسلامي حركة شديدة، ومخاضا عظيما شاملا للأمور المادية والمعنوية، ويقظة جديرة بالإعجاب؛ قد انتبه لها الأوروبيون وقدروها قدرها، ومنهم من هو متوجس خيفة مغبتها، لا يخفى هذا الخوف من تضاعيف كتاباتهم، إلا أن هذه الحركة إلى الأمام لم تصل بالمسلمين حتى اليوم الأول إلى درجة يساوون بها أمة من الأمم الأوروبية أو الأميريكية أو اليابان.
فبعد أن تقرر هذا وجب أن نبحث في الأسباب التي أوجدت هذا التقهقر في العالم الإسلامي، بعد أن كان منذ ألف سنة هو الصدر المقدم، وهو السيد المرهوب المطاع بين الأمم؛ شرقا وغربا، فقبل أن نبحث في أسباب الارتقاء فنقول:
أسباب ارتقاء المسلمين الماضي
إن أسباب الارتقاء كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية التي كانت قد ظهرت جديدا في الجزيرة العربية فدان بها قبائل العرب، وتحولوا بهدايتها من الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحا جديدة، صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم منذ أواخر خلافة عثمان وفي خلافة علي - رضي الله عنهما - لكانوا أكملوا فتح العالم، ولم يقف في وجههم واقف.
على أن تلك الفتوحات التي فتحوها في نصف قرن أو ثلثي قرن - برغم الحروب التي تسببت بها مشاقة معاوية لعلي والحروب التي وقعت بين بني أمية وابن الزبير - قد أدهشت عقول العقلاء والمؤرخين والمفكرين، وحيرت الفاتحين الكبار، وأذهلت نابليون بونابرت أعظمهم، وله تصريح في ذلك نقله عنه «لاكاس» الذي رافقه إلى جزيرة «سانت هيلانة» وغيره من المقيدين لحوادث نابليون المتبعين لأقواله؛ فقد ثبت ثبوتا قطعيا من أقوال ذلك الفاتح العظيم وسيرته أيام كان بمصر أنه كان معجبا بمحمد وعمر وبكثير من أبطال الإسلام، وإن نفسه حدثته لما كان بمصر أن يتخذ الإسلام دينا له.
فالقرآن قد أنشأ - إذا - العرب نشأة مستأنفة، وخلقهم خلقا جديدا، وأخرجهم من جزيرتهم والسيف في إحدى اليدين والكتاب في الأخرى يفتحون ويسودون، ويتمكنون في الأرض بطولها وعرضها.
ولا عبرة بما يقال في شأن العرب قبل الإسلام، وما يروى من فتوحات لهم ومدنيات أثيلة، وما ينوه به من أخلاق عظام في الجاهلية، فهذه ولا جدال قد كانت ولا تزال آثارها ظاهرة، ولا شك في مدنية العرب القديمة، وأنها من أقدم مدنيات العالم على الإطلاق، ومما يرجح أن الكتابة قد بدأت عندهم، وأنه لو فرض أن الفينيقيين الذين اخترعوا الكتابة في العالم، فالفينيقيون في الحقيقة أمة سامية عربية، ولكن دائرة تلك المدنية كانت محدودة مقصورة على الجزيرة وما جاورها، وقد أتى على العرب حين من الدهر سادهم الغرباء في أرضهم، وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، كالفرس في اليمن وعمان والحيرة، وكالحبشة في اليمن، وكالروم في أطراف الحجاز ومشارف الشام، والحقيقة أنهم لم يستقلوا استقلالا حقيقيا واسعا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم البعيدة وتخنع لهم الممالك العظام والقياصرة والأكاسرة، وتتحدث بصولتهم الناس، ولم يقعدوا من التاريخ المقعد الذي أحلهم في الصف الأول من الأمم الفاتحة، إلا بمحمد
صلى الله عليه وسلم .
فالسبب الذي به نهضوا وفتحوا، وسادوا وشادوا ، وبلغوا هذه المبالغ كلها من المجد والرقي، يجب علينا أن نبحث عنه وننشده، ونخفي المسألة ونمعن في النشدان: أهو باق في العرب وهم قد تأخروا برغم وجوده، وتأخر معهم تلاميذهم الذين هم سائر المسلمين، أم قد ارتفع هذا السبب من بينهم، ولم يبق من الإيمان إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه، ومن القرآن إلا الترنم به، دون العمل بأوامره ونواهيه، إلى غير ذلك مما كان في صدر الملة، وعنجهية الشريعة.
فقد المسلمين السبب الذي ساد به سلفهم
إذا فحصنا عن ذلك وجدنا أن السبب الذي به استقام هذا الأمر قد أصبح مفقودا بلا نزاع، وإن كان بقي منه شيء كباقي الوشم في ظاهر اليد؛ فلو كان الله تعالى وعد المؤمنين بالعزة بمجرد الاسم دون الفعل لكان يحق لنا أن نقول: أين عزة المؤمنين؟ من قوله تعالى:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين .
2
ولو كان الله قد قال:
وكان حقا علينا نصر المؤمنين .
3
بمعنى أنه ينصرهم بدون أدنى مزية فيهم سوى أنهم يعلنون كونهم مسلمين، لكان ثمة محل للتعجب من هذا الخذلان بعد ذلك الوعد الصريح بالنصر، ولكن النصوص التي في القرآن هي غير هذا، فالله غير مخلف وعده، والقرآن لم يتغير، وإنما المسلمون هم الذين تغيروا، والله تعالى أنذر بهذا فقال:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
4
فلما كان المسلمون قد غيروا ما بأنفسهم كان من العجب أن لا يغير الله ما بهم، وأن لا يبدلهم الذل والضعة، من ذلك العز وتلك الرفعة، بل كان ذلك يعد منافيا للعدل الإلهي، والله - عز وجل - هو العدل المحض.
كيف ترى في أمة ينصرها الله بدون عمل، ويفيض عليها الخيرات التي كان يفيضها على آبائها، وهي قد قعدت عن جميع العزائم التي قد كان يقوم بها آباؤها؟! وذلك يكون أيضا مخالفا للحكمة الإلهية والله هو العزيز الحكيم، وما قولك في عزة دون استحقاق، وفي غلة دون حرث ولا زرع، وفي فوز دون سعي ولا كسب، وفي تأييد دون أدنى سبب يوجب التأييد؟!
لا جرم أن هذا مما يغري الناس بالكسل، ويحول بينهم وبين العمل، بل مما يخالف النواميس التي أقام الله الكون عليها، وهو مما يستوي به الحق والباطل، والضار والنافع، والموجب والسالب، وحاشا الله أن يفعل ذلك، ولو أيد الله مخلوقا بدون عمل لأيد من دون عمل محمدا رسوله ولم يحوجه إلى القتال والنزال والنضال، واتباع سنن الكون الطبيعية للوصول إلى الغاية.
وتصور أمة لله عندها مئة وهي تؤدي من المئة خمسة فقط، أتعد نفسها قد أدت ما عليها وهي تطمع في أن يكافئها الله كما كان يكافئ أجدادها الذين كانوا يؤدون المئة مئة، وإن قصروا عن المئة أدوا بالأقل تسعين أو ثمانين منها؟! كل هذا مخالف لما وعد الله على رسله، ومخالف للعقل والمنطق، ومخالف لحكمة التشريع، وليس هذا هو الشرط الذي شرطه الله على المؤمنين، وليس هذا هو البيع الذي يستبشر به المؤمنون.
قال الله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .
5
فأين حالة المسلمين اليوم من هذا الوصف الذي في كتاب الله؟ وأين حالتهم من سلفهم الذين كانوا يتهافتون على الموت الأحمر؛ لإحراز الشهادة، وكثيرا ما كانوا ينشدون الموت ولا يجدونه؟! وكان فارسهم يكر وهو يقول: إني لأشم ريح الجنة، ثم لا يزال يكر ويخوض غمرات الحرب حتى إذا استشهد قال: هذا يوم الفرح، وإذا فاتته الشهادة برغم حرصه عليها عاد إلى قومه حزينا كئيبا.
المقابلة بين حالي المسلمين والإفرنج اليوم
اليوم فقد المسلمون أو أكثرهم هذه الحماسة التي كانت عند آبائهم، وإنما تخلق بها أعداء الإسلام الذين لم يوصهم كتابهم بها، فتجد أجنادهم تتوارد على حياض المنايا سباقا، وتتلقى الأسنة والحراب عناقا، ولقد كان مبلغ مفاداتهم بالنفائس وتضحيتهم للنفوس في الحرب العامة فوق تصور عقول البشر، كما يعلم ذلك لك أحد؛ فالألمان فقدوا نحو مليوني قتيل، والفرنسيون فقدوا مليونا وأربع مئة ألف قتيل، والإنكليز فقدوا ست مئة ألف قتيل، والطليان فقدوا أربع مئة وستين ألف قتيل، والروس هلك منهم ما يفوق الإحصاء، وهلم جرا، هذا من جهة النفوس، وإنكلترا بذلت سبعة مليارات من الذهب (أي سبعة آلاف مليون جنيه) وفرنسة بذلك نحو مليارين، وألمانيا أنفقت ثلاثة، وإيطالية أنفقت خمس مئة مليون، وروسية أنفقت ما أوقع فيها المجاعة التي آلت إلى الثورة ثم إلى البلشفة، وهلم جرا.
فليقل لي قائل: أية أمة مسلمة اليوم تقدم على ما أقدم عليه هؤلاء النصارى من بيع النفوس، وإنفاق الأموال بدون حساب في سبيل أوطانهم ودولهم، حتى نعجب نحن لماذا آتاهم الله هذه النعمة والعظمة والثروة، وحرم المسلمين اليوم أقل جزء منها؟
وقد يقال: إن المسلمين فقراء ليس عندهم هذه الأموال لينفقوا هذا الإنفاق كله، فنجيب بأننا نوزع هذه النفقات على الأوروبيين بنسبة رأس المال، لا نكلف المسلمين إلا الإنفاق مثل الأوروبيين على هذه النسبة، فهل تسخو الأمم الإسلامية الحاضرة بما تسخو الأمم الأوروبية التي منها من قد أنفقت في الحرب العامة أكثر من نصف ثروتها؟
الجواب: لا، ليس في المسلمين اليوم من يفعل ذلك لا أفرادا ولا أقواما، وندر في المسلمين من ينفق الزكاة الشرعية.
وقد يقال: إن الأمة التركية وهي أمة مسلمة قد أنفقت كل ما تقدر عليه في حرب اليونان، ولم تقصر عن شأو الأوروبيين في المفاداة بالأنفس والنفائس.
والجواب: نعم.
قد كان ذلك، ومن الترك من بذل ثلث ثروته، ومنهم من بذل نصف ثروته في هذه الحرب، ولكنهم لما فعلوا ذلك انقلبوا بنعمة من الله وفازوا، وحرروا أنفسهم واستقلوا، وارتفعوا بعد أن كانوا هووا، وعزوا بعد أن كانوا ذلوا، إذا الأمم الإسلامية إذا ائتمرت في المعاداة بما أمرها به كتابها كما كان يفعل آباؤها، أو افتدت على الأقل بما هو دأب الأوروبيين اليوم من بذل النفوس والنفائس في سبيل حفظ بيضتها، وذود المعتدين عنها، لم تقطف من ثمرات التضحية إلا مثل ما قطفه غيرها، وانقلبت بنعمة من الله وفضل لم يمسها سوء.
ولكن الأمم الإسلامية تريد حفظ استقلالها بدون مفاداة ولا تضحية، ولا بيع أنفس ولا مسابقة إلى الموت، ولا مجاهدة بالمال، وتطالب الله بالنصر على غير الشرط الذي اشترطه في النصر
6
فإن الله - سبحانه - يقول:
ولينصرن الله من ينصره ،
7
ويقول:
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم .
8
ومن المعلوم أن الله تعالى غير محتاج إلى نصرة أحد، وإنما يريد بنصرته تعالى إطاعة أوامره واجتناب نواهيه، ولكن المسلمين أهملوا جميع ما أمرهم به كتابهم (في ذلك) أو أكثره، واعتمدوا في استحقاق النصرة على كونهم مسلمين موحدين، وظنوا أن هذا يغنيهم عن الجهاد بالأنفس والأموال، ومنهم من اعتمد على الدعاء والابتهال لرب العزة؛ لأنه يجده أيسر عليه من القتل والبذل، ولو كان مجرد الدعاء يغني عن الجهاد لاستغنى به النبي
صلى الله عليه وسلم
وصحابته، وسلف هذه الأمة فإنهم الطبقة التي هي أولى بأن يسمع الله دعاءها، ولو كانت الآمال تبلغ بالأدعية والأذكار، دون الأعمال والآثار، لانتقضت سنن الكون، وبطل التشريع، ولم يقل الله تعالى:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .
9
ولم يقل:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله .
10
ولم يقل للمعتذرين عن القتال:
لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله .
11
ولم يقل:
أني لا أضيع عمل عامل منكم .
12
لقد ظن كثير من المسلمين أنهم مسلمون بمجرد الصلاة والصيام وكل ما لا يكلفهم بذل دم ولا مال، وانتظروا على ذلك النصر من الله، وليس الأمر كذلك؛ فإن عزائم الإسلام لا تنحصر في الصلاة والصيام، ولا في الدعاء والاستغفار، وكيف يقبل الله الدعاء ممن قعدوا وتخلفوا، وقد كان في وسعهم أن ينهضوا ويبذلوا؟!
13
اعتذار المسلمين عن أنفسهم ورده
يقولون: ليس عند المسلمين ما عند الإفرنج من الثروة والسعة لينفقوا في أعمال الخير وفي مساعدة بعضهم بعضا. فنقول لمن يحتج بهذه الحجة: إننا نرضى منهم أن ينفقوا على نسبة رءوس أموالهم كما تقدم الكلام عند ذكر الجهاد بالمال، فهل المسلمون فاعلون؟!
إننا نراهم قد محوا رسوم الأوقاف والمؤسسات الخيرية التي تركها آباؤهم، فضلا عن كونهم لا يتبرعون بأموالهم الخاصة، ولا يجرون مع الأوروبيين في ميدان من جهة التبرع لأجل المشروعات العامة، فكيف يطمع المسلمون أن تكون لهم منزلة الأوروبيين في البسطة والقوة والسلطان، وهم مقصرون عنهم بمراحل في الإيثار والتضحية؟! فإن العمل لأجل السلطان في الأرض، أشبه بالحرث في الأرض، فبقدر ما تشتغل فيها هي تعطيك، وإن قصرت في العمل قصرت هي في الثمر، والمسلمون يريدون سلطانا يشبه سلطان الأوروبيين بدون إيثار ولا بذل، ولا فقد شيء من لذائذهم، وينسون أن الله تعالى يقول:
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين .
14
وقد يقولون: إننا جربنا البذل والتضحية، وابتلينا بالنقص من الأموال والأنفس والثمرات وصبرنا ولم يفدنا ذلك شيئا، وبقي الأوروبيون مسلطين علينا، إني أنقل هذا القول عن بعضهم؛ لأني قد سمعته كثيرا.
والجواب: هل يقدرون أن يقولوا لنا أن ما يدعونه من البذل والتضحية يشبه شيئا مما يقوم به النصارى واليهود من هذا القبيل؟ أو إنه إذا نسب إليه تكون نسبته نسبة الواحد إلى المئة؟
عندنا مثال حديث العهد هو مسألة فلسطين: حدثت وقائع دموية بين العرب واليهود في فلسطين فأصيب بها أناس من الفريقين، فأخذ اليهود في جميع أقطار الدنيا يساعدون المصابين من يهود فلسطين، وأراد العالم الإسلامي أن يساعد عرب فلسطين كما هو طبيعي، فبلغت تبرعات اليهود لأبناء ملتهم من فلسطين مليون جنيه، وبلغت تبرعات المسلمين كلها 13 ألف جنيه أي نحو جزء من مئة.
15
فسيقولون: إن المسلمين لا يملكون مثل ثروة اليهود، ونعود فنجيبهم: نرضى منهم بأن ينفقوا في مساعدة ملتهم على قدر اليهود والإفرنج بالنسبة إلى رءوس أموالهم، ولا نطالب منهم الفقراء الذين لا يملكون ما يزيد على كفاية عائلاتهم.
قال الله تعالى:
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل .
16
ثم قال تعالى:
إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف .
17
ونجيب أيضا: إنه وإن كان اليهود أغنى بالأموال من المسلمين، فالمسلمون أكثر جدا بالعدد؛ لأن اليهود عشرون مليونا، والمسلمين نحو من أربع مئة مليون،
18
فلو أن كلا من المسلمين تبرع لفلسطين بقرش واحد - وهو الذي لا يعجز عنه أحد في العالم مهما اشتد فقره - لاجتمع من ذلك ثلاثة ملايين جنيه ونصف.
فلنترك تسعة أعشار المسلمين ونفرض هذه الإعانة لفلسطين على عشر واحد منهم أي على 35 مليون نسمة لا غير، وهؤلاء الخمسة والثلاثون مليون نسمة نجدهم حول فلسطين في لمحة بصر، فإن مسلمي مصر وسورية وفلسطين والعراق ونجد والحجاز واليمن وعمان هم 35 مليونا، ولنتقاض من هؤلاء أداة قرش واحد عن كل جمجمة، فماذا يجتمع لنا من ذلك؟
الجواب: يجتمع ثلاثماية وخمسون ألف جنيه.
فالمسلمون قد تبرعوا عن هذه الأعداد كلها بثلاثة عشر ألف جنيه أي بما يساوي نحو ثلثي عشر القرش عن كل نسمة من عشر عددهم.
أهذا ما تريدون أن تسموه «تضحية»؟
أو بمثل هذه تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم؟
أو هذه درجة نجدتكم لإخوانكم في الدين وجيرانكم في الوطن والقائمين عنكم بالدفاع عن المسجد الأقصى الذي هو ثالث الحرمين وأول القبلتين؟ أفلم يقل الله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة .
19
أفهذه نجدة الأخ لأخيه؟!
يقولون: لماذا سادت الأمة الإنكليزية هذه السيادة كلها في العالم؟ نجيبهم: إنها سادت بالأخلاق والمبادئ الوطنية العالية، حدثني رجل ثقة أنه يعرف إنكليزيا ذا منصب في الشرق كان يأمر خادمه أن يشتري له الحوائج اللازمة لبيته يوميا من دكان رجل إنكليزي في البلدة التي هم فيها، فجاءه الخادم مرة بجدول حساب وفر عليه به 20 جنيها في شهر، فسأله الإنكليزي: كيف أمكنك هذا التوفير؟
فقال الخادم: تركنا دكان الإنكليزي الذي كنا نشتري منه، وصرنا نشتري من دكان أحد الأهالي من العرب.
فقال له الإنكليزي: ارجع إلى دكان الإنكليزي الذي كنا نشتري منه.
فقال الخادم: ولو كان ذلك يستلزم إنفاق 20 جنيها زيادة؟!
قال الإنكليزي: ولو كان ذلك يستلزم إنفاق 20 جنيها زيادة.
وسمعت أن كثيرين من الإنكليز الذين في الأقطار لا يشترون شيئا ذا قيمة إلا من بلادهم، ويرسلون إلى لندرة فيوصون على كل ما يحتاجون إليه؛ حتى لا يذهب مالهم إلى الخارج.
أفنقيس هذا بأعمال المسلمين الذين مهما أوصيتهم بالشراء من أبناء جلدتهم أو أوطانهم وعلموا أنهم يقدرون أن يوفروا في السلعة الواحدة نصف قرش إذا أخذوها من الإفرنجي تركوا ابن جلدتهم أو ملتهم ورجحوا الإفرنجي؟ أفلم يكن سبب حبوط مقاطعة العرب لليهود في فلسطين أشياء كهذه؟
20
حرموا أنفسهم أمضى سلاح في يدهم وهو المقاطعة في الأخذ والعطاء مع اليهود من أجل فروق تافهة مؤقتة، ونسوا أن الضرر الذي يصيبهم من الأخذ والعطاء مع اليهود هو أعظم ألف مرة من ضرر هاتيك الفروق الزهيدة.
نتائج إعانة مصر لمجاهدي طرابلس وبرقة
وكنت مرة أشكو إلى أحد كبار المصريين إهمال إخواننا المصريين لمجاهدي طرابلس وبرقة الذين إن لم تجب عليهم نجدتهم؛ قياما بواجب الأخوة الإسلامية والجوار، وجبت عليهم احتياطا من وراء استقلال مصر واستقبال مصر؛ لأنه كما أن وجود الإنكليز في السودان هو تهديد دائم لمصر، فوجود الطليان في برقة هو تهديد دائم لها أيضا.
فكان جواب ذلك السيد لي: لقد بذل المصريون مبالغ وفيرة يوم شنت إيطالية الغارة على طرابلس، ولم يستفيدوا شيئا، فإن إيطالية لم تلبث أن أخذتها.
فقلت له: إن المصريين قد نهضوا في الحرب الطرابلسية نهضة هي دون شك ترضي كل مسلم، بل ترضي كل إنسان يقدر قدر الحمية، ولكن المبلغ الذي تبرعوا به يومئذ معلوم وهو 150 ألف جنيه.
فهل يطمع المسلمون في أنحاء المعمور أن ينقذوا طرابلس من براثن إيطالية بمئة وخمسين ألف جنيه؟ وهل هذه التضحية تقاس في كثير أو قليل إلى التضحيات التي قامت بها إيطالية بالمال والرجال؟!
كانت إعانة مصر في الحرب الطرابلسية 150 ألف جنيه وأنفقت الدولة العثمانية على تلك الحرب نحو مليون جنيه.
فانظر إلى ما كان لذلك من النتائج: (النتيجة الأولى):
وهي أهم شيء: حفظ شرف الإسلام، وإفهام الأوروبيين أن الإسلام لم يمت، وأن المسلمين لا يسلمون بلدانهم بلا حرب، وفي ذلك من الفائدة المادية والمعنوية للإسلام ما لا ينكره إلا كل مكابر. (النتيجة الثانية):
أن هذا المبلغ الضئيل بالنسبة إلى نفقات الدول الحربية قد كان السبب في توطين الطرابلسيين أنفسهم على المقاومة والمجاهدة بما رأوا من نجدة إخوانهم لهم، فكانت هذه المقاومة سببا لتجشم إيطالية المعتدية من المشاق والخسائر ما هو فوق الوصف، إلى أن صار كثير من ساسة الطليان يصرحون بندمهم على هذه الغارة الطرابلسية. (النتيجة الثالثة):
مهما يكن من عدد القتلى الذين فقدهم العرب في هذه الحرب فإن مجموع قتلى الطليان إلى اليوم يفوق مجموع قتلى العرب أضعافا مضاعفة.
فلقد لقي الطليان في هذه الحرب من الأهوال ما لا يتسع لوصفه مقالة أو رسالة، وفي واقعة واحدة هي واقعة «الفويهات» على باب بنغازي، ثبت فيها 150 مجاهدا عربيا لثلاثة آلاف جندي طلياني من الفجر إلى غروب الشمس إلى أن انقرضوا جميعا، إلا أفذاذا أتى عليهم الليل، ورجع العدو ولما يموتوا، وبينما كان العرب في حزن عظيم على من فقدوهم في تلك المعركة؛ إذ جاءهم الخبر البرقي من الأستانة عن برقية وردت سرا من برلين عن برقية رقمية جاءت من سفارة الألمان في رومية بأنه سقط في هذه المعركة ألف وخمس مئة جندي من الطليان، وأصاب الجنون سبعة من ضباطهم.
وهذه وقعة من خمسين وقعة بالأقل تضاهيها، فالمسلمون قد قاتلوا في هذه المعركة جيشا يفوقهم في العدد عشرين ضعفا وقتلوا نصفه أي قتلوا عشرة أضاعفهم، والله تعالى قد قدرهم لهم في حال القوة أن يغلبوا عشرة أضعافهم، وفي حال الضعف أن يغلبوا ضعفيهم فقط كما قال في سورة الأنفال:
21
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين . (النتيجة الرابعة):
أنه قد كانت نفقات إيطاليا في الحرب الطرابلسية في السنة الأولى منها أي من سنة 1911 إلى سنة 1912 نحو مئة مليون جنيه، ويظن أنها من عشرين سنة إلى اليوم - إذ المقاومة لم تنقطع حتى هذه الساعة - قد بلغت ثلاث مئة مليون جنيه.
22
فهذا كان كله نتيجة تلك الإعانات القليلة والنفقات الضئيلة التي قام بها المسلمون في تلك الحرب، ولكن المسلمين ينتظرون أن تنهزم إيطالية الدولة الكبيرة التي أهلها 44 مليون نسمة، ودخلها السنوي 200 مليون جنيه في صدمة واحدة، أو في السنة الأولى من الحرب
23
وإن لم يتحقق أملهم هذا انقطع منهم كل رجاء وبطلت كل حركة، وأصاب بعضهم اليأس الذي هو مرادف الكفر بصريح الذكر الحكيم:
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
24
ولنضرب مثلا ثالثا ونمسك بعده عن ضرب الأمثال؛ لأنها لا تعد ولا تحصى:
قام أهل الريف المغربي في وجه الدولة الإسبانية مدة بضع سنين إلى أن تغلبوا عليها وطردوا جيوشها بعد أن أبادوا منهم في واقعة واحدة 26 ألف جندي، وغنموا 170 مدفعا، مع أن جميع أهل الريف بقضهم وقضيضهم ثمان مئة ألف نسمة، وعدد أهالي إسبانية 22 مليون نسمة، وأراضي الريف أكثرها قاحل، والأهالي فيه فقراء يعيشون من كسب أيديهم، ولقد قاموا بعمل أدهش أهل الأرض بالطول والعرض.
فلو كان أهل الريف نصارى لانثالت عليهم الملايين من الجنيهات من كل الجهات؛ إما بطريقة خفية، وإما بواسطة جمعية الصليب الأحمر في سبيل مداواة جرحاهم.
فليقل لنا المسلمون كم جنيها قدموا للريف في ذلك الوقت؟!
ثم تألب الفرنسيس مع الإسبانيين وحشدوا لحرب الريفيين 300 ألف مقاتل وحصروا الريف من كل جانب من البر والبحر، وكانت طياراتهم القاذفة بالديناميت على قرى الريفيين تحصى بالمئات لا بالعشرات، ولم تكف طيارات الفرنسيس والإسبانيول حتى جاء سرب طيارات أميركية من نيويورك؛ نجدة لفرنسة وإسبانية (النصرانيتين على المسلمين؛ لأنهم مسلمون).
هذا كله والمسلمون ينظرون إلى حرب الريف مكتوفي الأيدي، ولبثوا مكتوفي الأيدي مدة سنة، وأخيرا نهض منهم أفراد لجمع شيء من أجل جرحى الريف، ولأجل بعث الحمية في الناس لم يكتف محرر هذه السطور بالكتابة، بل تبرع بأربعة جنيهات لأجل القدوة، فماذا كان مجموع تلك الإعانات من كل العالم الإسلامي؟ الجواب 1500 جنيه لا غير، فهل من خذلان بين المسلمين يفوق هذا الخذلان؟!
خيانة بعض المسلمين لدينهم ووطنهم واعتذارهم الباطل
ويا ليت المسلمين وقفوا عند هذا الحد في خذلان الريفيين، بل قامت منهم فئات يقاتلون الريفيين بأشد مما يقاتلون به الأجانب، وتألبت على محمد بن عبد الكريم قبائل وافرة العدد شديدة البأس؛ مالئوا الفرنسيس والإسبانيول على أبنائهم ملتهم ووطنهم؛ تزلفا إلى الفرنسيس والإسبانيول، وابتغاء الحظوة لديهم، وقد جرى مثل ذلك عندنا في سورية يوم الثورة على فرنسة، وجرى في بلاد إسلامية كثيرة،
25
أفبمثل هذه الأعمال يطالب أخونا الشيخ بسيوني عمران ربه بما وعد تعالى به من جعل العزة للمؤمنين؟!
وإذا سألت هؤلاء المسلمين الممالئين للعدو على إخوانهم: كيف تفعلون مثل هذا وأنتم تعلمون أنه مخالف للدين وللشرف وللفتوة وللمروءة وللمصلحة وللسياسة؟ أجابوك: كيف نصنع فإن الأجانب انتدبونا، ولو لم نفعل لبطشوا بنا، فاضطررنا إلى القتال في صفوفهم؛ خوفا منهم، ونسوا قوله تعالى:
أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين .
26
وقوله تعالى:
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين .
27
وكلام مثل هؤلاء في الاعتذار غير صحيح؛ فإن الأجانب قد ندبوا كثيرا من المسلمين إلى خيانات كهذه فلم يجيبوهم ولم تنقض عليهم السماء من فوقهم، ولا خسفت بهم الأرض من تحتهم، ثم إنه إن كان الأجانب المحتلون لبلاد المسلمين قد أصبحوا يغضبون على المسلمين الذين لا يلبون دعوتهم إلى خيانة قومهم، فإنما كان ذلك من أجل كثيرين من المسلمين كانوا يعرضون عليهم خدمتهم في مقاومة إخوانهم، ويقومون بها بكل نشاط ومناصحة، ويبدون كل أمانة لهم في أثناء تلك الخيانة، ولولا هذا التبرع بالخيانة، والتسرع إلى مظاهرة الأجنبي على ابن الملة، لما استأسد الأجنبي وصار يتحكم في المسلمين هذا التحكم الفاحش، ويتقاضاهم أن يخالفوا قواعد دينهم ومقتضى مصلحة دنياهم من أجل مصلحته، بل قام يحملهم على الموت لأجل الموت.
فإن الموت موتان: أحدهما: الموت لأجل الحياة؛ وهو الموت الذي حث عليه القرآن الكريم المؤمنين إذا مد العدو يده إليهم، وهو الموت الذي قال عنه الشاعر العربي:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وهو الموت الذي يموته الإفرنسي لأجل حياة فرنسة، والألماني لأجل حياة ألمانية، والإنكليزي في سبيل بريطانيا العظمى - وهلم جرا - ويجده على نفسه واجبا لا يتأخر عن أدائه طرفة عين.
وأما الموت الثاني: فهو الموت لأجل استمرار الموت، وهو الموت الذي يموته المسلمون في خدمة الدول التي استولت على بلادهم؛ وذلك أنهم يموتون حتى ينصروها على أعدائها، كما يموت المغربي مثلا حتى تنتصر فرنسة على ألمانية مثلا، ويموت الهندي حتى تتغلب إنكلترة على أي عدو لها، ويموت التتري في سبيل ظفر الروسية، والحال أنه بانتصار فرنسة على أعدائها تزداد في المغرب غطرسة وظلما وابتزازا لأملاك المسلمين وهضما لحقوقهم؛ وذلك كما حصل بعد الحرب العامة؛ إذ ازداد طمع الفرنسيين في أهل المغرب، وحدثوا أنفسهم بتنصير البربر؛ ليدمجوهم في الشعب الفرنسي، ويأمنوا على مستقبل المغرب الذي صاروا يطلقون عليه لقب «إفريقية الإفرنسية».
وبالاختصار يموت المغربي على ضفاف الرين أو في سورية حتى يزداد موتا في المغرب؛ لأن كل طائفة تفوز بها فرنسة في الخارج هي زيادة في قهر المغربي وإهانته وإذلاله مما لا سبيل للمناكرة فيه، ومما قد ثبت بالتجربة، وكذلك موت الهندي في نصرة إنكلترا هو تطويل في أجل عبودية الهند، وكذلك موت التتري في خدمة الروسية لا عاقبة له سوى ازدياد قهر الروس للتتر، وهلم جرا.
وهذا الموت لأجل الموت هو ما كان بخط منحن كما يقال؛ أي باعتبار النتيجة، ولكنه هناك موت لأجل الموت مباشرة بدون واسطة، وهو عندما يموت المغربي في قتال أخيه المغربي الذي قام يحاول أن يزحزح شيئا من النير الإفرنسي الذي كاد يدق عنقه، وإن لم يدق عنقه بتاتا استحياه حياة هي أشبه بالموت منها بالحياة.
ولو انحصرت هذه الأمور في العوام والجهلاء لعذرناهم بجهلهم، وقلنا: إنهم لا يدرون الكتاب ولا السنة ولا السياسة الدنيوية، ولا الأحوال العصرية، وإنهم إنما يساقون كما تساق بهيمة الأنعام إلى الذبح.
ولكن الأنكى هو خيانة الخواص، مثال ذلك الوزير المقري الذي هو أشد تعصبا لقضية رفع الشريعة الإسلامية من بين البربر من الفرنسيس أنفسهم،
28
ومثله البغدادي باشا فاس الذي طرح نحو مئة شخص من شبان فاس وجلدهم بالسياط؛ لكونهم اجتمعوا في جامع القرويين وأخذوا يرددون دعاء: «يا لطيف الطف بنا فيما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر» ومفتي فاس الذي أفتى بأن إلغاء الشرع الإسلامي من بين البربر ليس بإخراج للبربر من الإسلام، وهلم جرا.
وكل من هؤلاء الخونة المارقين أخزاهم الله قد بلغ من الكبر عتيا، وانتهى من أموال الأمة شبعا وريا، وهو لا يزال حريصا على الزلفى إلى فرنسة، وإثبات صداقته لها ولو بضياع دينه ودنياه؛ حتى تبقي عليه منصبه وحظوظه في هذه البقية الباقية من حياته التاعسة.
29
وليس واحدا من هؤلاء ولا من في ضربهم في المغرب إلا وهو مطلع على نيات فرنسة وعلى مراميها من جهة هذا النظام الجديد لأمة البربر، وليس فيهم إلا من هو عارف بوجود جيش من القسوس والرهبان والراهبات يجوس خلال بلاد البربر ويبني الكنائس ويصيد اللقطاه والأيتام والفقراء وضعفاء الإيمان،
30
وليس فيهم إلا من هو عالم بمنع فرنسة فقهاء الإسلام والوعاظ من التجوال بين البربر؛ حتى ترتفع الحواجز أمام دعوة المبشرين إلى النصرانية
31
وقد يكون المقري والبغدادي هذان هما في مقدمة الموقعين على الأوامر بمنع علماء الإسلام وحملة القرآن من الدخول إلى قرى البربر، وقد يكون المقري هذا هو الذي خصص المبلغ من مال المخزن لجريدة «مراكش الكاثوليكية» التي تطعن في الإسلام، وتقذف محمدا - عليه الصلاة والسلام - ولدينا كثير من أعدادها التي تتضمن هذه المطاعن.
وبعد هذا فمن يدري؟ فقد يكون المقري مصليا وصائما وبيده سبحة يقرأ عليه أورادا، ومن يدري؟ فقد يكون البغدادي السيئ الذكر ممن يتمسحون بالقبور ويستغيثون بالأولياء ويتظاهرون بهذا الورع الكاذب، وأما المفتي فهو المفتي فلا حاجة إلى تثبيت كونه يصلي الخمس، ويصوم ويتهجد، ويوتر ويتنفل ... إلخ.
وقد مضى علينا نحن في سورية شيء من هذا لأوائل عهد الاحتلال، لكن لم تكن خيانة هؤلاء المعلمين في قضية دينية مباشرة؛ فقد اقترحت عليهم فرنسة أن يمضوا برقية إلى جمعية الأمم ينكرون بها عمل المؤتمر السوري الفلسطيني المطالب باستقلال سورية وفلسطين، فأمضاه منهم عمائم مكورة، وطيالس محررة مجررة، ورقاب غليظة، وبطون عظيمة، وإن لم أقل الآن: أخزاهم الله، أخشى عتاب إخواننا المغاربة الذين يرونني خصصت بهذا الدعاء صدرهم الأعظم، ومفتيهم الأكبر، وأعفيت معممي سورية، فلذلك يقضي العدل بأن نقول: أخزاهم الله أجمعين، أخزى الله الذين منهم في المشرق، والذين منهم في المغرب ممن يوقعون على اقتراحات الأجانب المضرة بالدين والوطن.
32
ولعل الأخ الشيخ بسيوني عمران يقول: إن هؤلاء أفراد قلائل؛ فلا يجوز أن نجعل الأمة الإسلامية مسئولة عن مخازيهم وموبقاتهم.
والجواب على ذلك: أن الظلم يخص والبلاء يعم كما لا يخفى، ولكني لا أسلم أن هؤلاء أفراد قلائل، وأن الأمة غير مسئولة! إذ لو كان وراء هؤلاء أمة يخشونها ما تجاسروا على الإتجار بدينها بعد الإتجار بدنياها، بل كانوا لو اقترح عليهم الفرنسيس اقتراحا مضرا بملتهم وأمتهم ولم يقدروا على رده اعتزلوا مناصبهم، ولزموا بيوتهم.
وكان الفرنسيس كلفوا بالعمل غيرهم، فإذا أبى الخلف ما أباه السلف مرة بعد مرة علم الفرنسيس أن لا فائدة في الإصرار، فعدلوا على دسيستهم البربرية وما أشبهها، ولكنهم مصرون عليها بسبب استظهارهم بأناس ممن يزعمون أنهم «مسلمون» فهم يهدمون الإسلام بمعاول في أيدي أبنائه، ويقولون: لسنا من هذا الأمر في قبيل ولا دبير.
33
أفلا ترى كيف قالوا عن الظهير البربري: إنه قد أصدره السلطان وحكومة المخزن؟
34
أفهذا هو الإسلام الذي يناشد الله الشيخ بسيوني عمران بتأييد أهله؟
قال الله تعالى:
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون .
35
ولا شك أن «المسلمين» الذين يبلغون هذه الدرجات من الانحطاط وتتركهم الأمة الإسلامية وشأنهم يلعبون بحقوقها، يستحقون للإسلام التمحيص الذي هو فيه
36
فإنما سمح الله بأن يستولي الأجانب على ديار المسلمين ويجعلوهم خولا، ويغتصبوا جميع حقوقهم؛ تعليما لهم وتهذيبا، وتصفية وتطهيرا؛ كما يصفى الذهب الإبريز بالنار.
قال الله تعالى:
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون .
37
لقد أصبح الفساد إلى حد أن أكبر أعداء المسلمين هم المسلمون، وإن المسلم إذا أراد أن يخدتم ملته أو وطنه وقد يخشى أن يبوح بالسر من ذلك لأخيه؛ إذ يحتمل أن يذهب هذا إلى الأجانب المحتلين فيقدم لهم بحق أخيه الوشاية التي يرجو بها بعض الزلفى، وقد يكون أمله بها فارغا.
38
كلمة الملك ابن سعود في تخاذل المسلمين وتعاديهم
ولله در الملك ابن سعود حيث يقول: ما أخشى على المسلمين إلا من المسلمين، ما أخشى من الأجانب كما أخشى من المسلمين.
39
وهو كلام أصاب كبد الصواب، فإنه ما من فتح فتحه الأجانب من البلاد المسلمين إلا كان نصفه أو قسم منه على أيدي أناس من المسلمين منهم من تجسس للأجانب على قومه، ومنهم من بث لهم الدعاية بين قومه، ومنهم من سل لهم السيف في وجه قومه، وأسال في خدمتهم دم قومه.
فأين إسلامهم وإيمانهم من قوله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة
40
وقوله:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم
41
وقوله:
إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون
42
وقوله:
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين .
43
أفبمثل هذا تكون طاعة الله ورسوله؟ أم بمثله تكون أخوة الإيمان وولايته وولاية أهله؟
أو لمثل هؤلاء يعد الله العز والنصر والتمكين في الأرض، وهم سعاة بين أيدي الأجانب على ملتهم ووطنهم وقومهم؟! كلما عاتبهم الإنسان على خيانة اعتذروا بعدم إمكان المقاومة، أو باتقاء ظلم الأجنبي، أو بارتكاب أخف الضررين؟ وجميع أعذارهم لا تتكئ على شيء من الحق، ولقد كانوا قادرين أن يخدموا ملتهم بسيوفهم، فإن لم يستطيعوا فبأقلامهم، فإن لم يستطيعوا فبألسنتهم، فإن لم يستطيعوا فبقلوبهم،
44
فأبوا إلا أن يكونوا بطانة للأجانب على قومهم، وأبوا إلا أن يكونوا روادا لهم على بلادهم، وأبوا إلا أن يكونوا مطايا للأجانب على أوطانهم، وتراهم مع ذلك وافرين ناعمي البال، متمتعين بالهناء وصفاء العيش، وهم يأكلون مما باعوا من تراث المسلمين، وينامون مستريحين، مثل هؤلاء ليس لهم وجدان يعذبهم من الداخل، ولا نجد من المسلمين من يجرؤ أن يعذبهم من الخارج.
45
لم نكن لنطلق الكلام إطلاقا على العالم الإسلامي في هذا الموضوع، فإن الأمة الأفغانية مثلا لا يمكن أحد أن يخطب فيها في حب الأجانب علنا ويبقى حيا، والنجديون لا يوجد فيهم من يجرؤ أن يمالئ الأجانب على قومه، والمصريون قد ارتقت تربيتهم السياسية كثيرا عن ذي قبل؛ فأصبحت مجاهرة أحدهم بالميل للأجنبي، أو تفضيل حكم الأجنبي خطرا عليه، فأما في سائر بلاد الإسلام فمن شاء من المسلمين أن يخلع الرسن ويجاهر بالعصيان لعدو دينه وبلده فلا يخشى شرا، ولا يحاذر قلقا ولا أرقا.
أفلمثل هؤلاء يقول الله تعالى:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا .
46
حاشا لله تعالى أن يكون عني بهؤلاء «المسلمين» الذين يخونون ملتهم، ويسعون بين يدي أعدائها، ويناصبون إخوانهم العداوة؛ ابتغاء مرضاة الأجانب والحصول على دنيا زائلة وحطام فان، كيف وقد قرن الإيمان بلازمة؛ وهو عمل الصالحات؟ بئسما شروا به أنفسهم، وكذلك لا يعني الله بهؤلاء المسلمين الذين إن لم يكونوا خامروا على قومهم، وسعوا بين أيدي الأجانب في خراب أمتهم، وأوطئوا مناكبهم لركوب الغريب الطامح، فإنهم اكتفوا من الإسلام بالركوع والسجود، والأوراد والأذكار، وإطالة السبحة والتلوم في السجدة، وظنوا أن هذا هو الإسلام، ولو كان هذا كافيا في إسلام المرء وفوزه في الدنيا والآخرة لما كان القرآن ملآن بالتحريض على الجهاد، والإيثار على النفس، والصدق والصبر، ونجدة المؤمن لأخيه، والعدل والإحسان، وجميع مكارم الأخلاق، ولو كان هذا كافيا لأجل التحقق بالإسلام لما قال الله تعالى:
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين .
47
أفيقدر أخونا الشيخ بسيوني عمران أو غيره أن يقول: إن المسلمين اليوم - إلا النادر الأندر والكبريت الأحمر - يفضلون الله ورسوله على آبائهم وإخوانهم وأزواجهم وتجارتهم وأموالهم ومساكنهم، أو يؤثرون حب الله ورسوله - وإنما حب الله ورسوله إقامة الإسلام - على الجزء اليسير من أموال اقترفوها وتجارة يخشون كسادها؟
لنعمل هذه التجربة، فبضدها تتبين الأشياء.
الموازنة بين المسلمين والنصارى في البذل لنشر الدين
لنفرض أن مسألة تنصير البربر دخلت في طور النجاح، وانتدب البابا الكاثوليكيين الذين في العالم لبذل الأموال اللازمة لهذا التحويل الذي تتوخاه فرنسة في البربر من دين الإسلام إلى دين النصرانية، فكم مليونا تظن من الجنيهات يدر على المبشرين والرهبان والراهبات لبناء الكنائس والمدارس والملاجئ والمستشفيات ومراكز الأسقفيات وما أشبه ذلك؛ لإتمام هذا العمل الذي تضم به الكثلكة ثمانية ملايين من البرابر إلى الأربعماية مليون كاثوليكي الذين في العالم؟
لا شك أن الجواب يكون: عدة ملايين تجمع في بضعة أشهر، فإن قيل للبروتستانتيين: تعالوا فقد أذنا لكم في تنصير البرابرة فابذلوا في هذه السبيل ما أمكنكم، فإنها تدر حينئذ الملايين بقدر ضعفي ما يدر من الكاثوليكيين، وفي مدة أقصر من المدة التي يجمع فيها المال الذي يجود به هؤلاء.
فلنقل للمسلمين: إن البرابر صاروا على شفا الخروج من الإسلام، وإن الأس في هذا الصبوء عن دين الإسلام هو الجهل، فعلينا أن نرسل إليهم علماء ووعاظا؛ ليتفقهوا في الدين، وأن نبني لهم المساجد والمدارس والكتاتيب والملاجئ ... إلى غير ذلك من الوسائل التي تمسك بحجزاتهم عن مفارقة الإسلام والمسلمين.
فكم تظن المبلغ الذي يجود به المسلمون بعد اللتيا والتي لهذا العمل؟ لا أظن أنهم يجودون بما يتجاوز جزءا من مئة مما يبذله الكاثوليك أو البروتستانت.
48
فهذه هي حمية المسيحيين على دينهم، وهذه هي حمية المسلمين.
ومن الناس من يسأل عن أسباب انحطاط المسلمين وقصورهم عن مباراة سواهم، فلو تأمل في هذه الفروق في النهضة والحمية لوجد عندها الجواب الكافي.
ومن أغرب الأمور أن نرى الأوروبيين ودعاتهم وتلاميذهم من الشرقيين بعد هذا كله يتهمون المسلمين بالتعصب الديني وينبزونهم بلقبه، وينتحلون لأنفسهم التساهل في الدين! إن هذا والله لعجب عجاب.
وها أنذا الآن في كتابتي هذه التي معناها الدفاع لا التجاوز، والأستاذ الأكبر صاحب المنار، وعبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين وغيرنا من المدافعين عن حق الإسلام، والرجال الذين يبغون منع الاعتداء على الإسلام وينادون المسلمين لينتبهوا للخطر المحدق بهم - متهمون بالتعصب الديني ومنبوزون بهذه الكلمة، لا بين غير المسلمين فقط، بل بين المسلمين الجغرافيين أيضا - أعني الذين يتباهون بأن سياستهم «لادينية» وطالما صرحوا بأنهم لا يقيمون للدين وزنا، وطالما تزلفوا إلى المسيحيين بكونهم هم لا يدافعون عن الدين الإسلامي كما يدافع زيد وعمرو ... وهؤلاء فئة معروفة يعرفهم الناس، وهم يعرفون أنفسهم، ولو فكر المسيحيون في شأنهم لعلموا أنهم ليسوا على شيء، وأنهم لا يستحقون الاحترام منهم؛ لأن الذي يتزلف إلى الناس بمثل هذه الطرق حري بأن لا يكون أهلا للثقة ولا للكرامة، وما يزين المرء شيء مثل الاستقامة واستواء الباطن والظاهر.
فالمسلم إذا لا يخلص من لقب «متعصب» إلا إذا سمع أن الفرنسيس يحاولون تنصير البربر، فمر بذلك كأن لم يسمع شيئا، وإلا إذا سمع أن الهولانديين نصروا مئة ألف - وقد زعم أحد نواب البرلمان الهولاندي أنهم فازوا بتنصير مليون مسلم من مسلمي الجاوى - وهز كتفه قائلا: أنا لا يهمني أكان الجاوي مسلما أم مسيحيا ... هنالك «المسلم» يصير «راقيا» ويعد «عصريا» ويصير محبوبا ويقال فيه كل خير؟!
وأما الأوروبي فله أن يبذل القناطير المقنطرة على بث الدعاية المسيحية بين المسلمين، وله أن يحميها بالمدافع والطيارات والدبابات، وله أن يحول بين المسلمين ودينهم بالذات وبالواسطة، وله أن يدس كل دسيسة ممكنة لهدم الإسلام في بلاد الإسلام، وليس عليه حرج في ذلك، ولا يسلبه هذا العمل صفة «راق» و«متمدن » و«عصري» وأغرب من هذا أنه لا يسلبه نعت «مدني» و«لاديني» و«متساهل».
وهؤلاء «المسلمون الجغرافيون» برغم هذه الشواهد الباهرة للأعين، وبرغم ما عملته جمهورية فرنسة «اللادينية» في قضية البربر لمآرب دينية كاثوليكية، وبرغم حماية هولاندة لمبشري الإنجيل في الجاوى، وبرغم قرار الحكومة البلجيكية رسميا إكمال تنصير أهل الكونغو،
49
وبرغم منع الإنكليز في الأوغاندا وفي دار السلام - وكذا السودان - من بث الدعاية الإسلامية بين الزنوج، وبرغم أمور كثيرة لا يسعنا الآن شرحها، لا يزالون يخدعون المسلمين قائلين لهم: إن أوروبة قد رفست الدين برجلها، وصارت على خطة لادينية وبذلك قد اتسق لها الرقي ونجحت، ونحن لن نفلح ما دمنا سائرين على خطة إسلامية.
50
قد قام ببث هذه السفسطة أناس في تركيا ووجدوا ممن تلقاها بالقبول عددا كبيرا، وترى أناسا في مصر والشام والعراق وفارس يقولون بها ويكابرون في المحسوس ولا يبالون؛ لأنهم يجدون على كل الأحوال من الأغرار من يصدقهم.
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
51
هوامش
أهم أسباب تأخر المسلمين
من أعظم أسباب تأخر المسلمين الجهل، الذي يجعل فيهم من لا يميز بين الخمر والخل، فيتقبل السفسطة قضية مسلمة، ولا يعرف أن يرد عليها.
ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين العلم الناقص، الذي هو أشد خطرا من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدا عالما أطاعه ولم يتفلسف عليه، فأما صحاب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون، أقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.
ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين فساد الأخلاق؛ بفقد الفضائل التي حث عليها القرآن، والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة وبها أدركوا ما أدركوه من الفلاح، والأخلاق في تكوين الأمم فوق المعارف، ولله در شوقي إذ قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أكبر عوامل تقهقر المسلمين فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص، وظن هؤلاء - إلا من رحم ربك - أن الأمة خلقت لهم أن يفعلوا بها ما يشاءون، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادة بطشوا به؛ عبرة لغيره.
وجاء العلماء المتزلفون لأولئك الأمراء، المتقلبون في نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم، وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح بحجة أنه شق عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة.
ولقد عهد الإسلام إلى العلماء بتقويم أود الأمراء، وكان قديما في الدول الإسلامية الفاضلة بمثابة المجالس النيابية في هذا العصر، يسيطرون على الأمة، ويسددون خطوات الملك، ويرفعون أصواتهم عند طغيان الدولة، ويهيبون بالخليفة فمن بعده إلى الصواب.
وهكذا كانت تستقيم الأمور؛ لأن أكثر أولئك العلماء كانوا متحققين بالزهد، متحلين بالورع، متخلين عن حظوظ الدنيا، لا يهمهم أغضب الملك الظالم الجبار أم رضي، فكان الخلائف والملوك يرهبونهم، ويخشون مخالفتهم؛ لما يعلمون من انقياد العامة لهم، واعتقاد الأمة إمامتهم، إلا أنه بمرور الأيام خلف من بعد هؤلاء خلف اتخذوا العلم مهنة للعيش، وجعلوا الدين مصيدة للدنيا، فسوغوا للفاسقين من الأمراء أشنع موبقاتهم، وأباحوا لهم باسم الدين خرق حدود الدين، هذا؛ والعامة المساكين مخدوعون بعظمة عمائم هؤلاء العلماء، وعلو مناصبهم، يظنون فتياهم صحيحة، وآراءهم موافقة للشريعة، والفساد بذلك يعظم، ومصالح الأمة تذهب، والإسلام يتقهقر، والعدو يعلو ويتنمر، وكل هذا إثمه في رقاب هؤلاء العلماء.
1
ومن أعظم عوامل تقهقر المسلمين الجبن والهلع، بعد أن كانوا أشهر الأمم في الشجاعة واحتقار الموت، يقوم واحدهم للعشرة وربما للمئة من غيرهم، فالآن أصبحوا - إلا بعض قبائل منهم - يهابون الموت الذي لا يجتمع خوفه مع الإسلام في قلب واحد، ومن الغريب أن الإفرنج المعتدين لا يهابون الموت في اعتدائهم، هيبة المسلمين إياه في دفاعهم، وأن المسلمين يرون الغايات البعيدة التي يبلغها الإفرنج في استحقار الحياة والتهافت على الهلكة في سبيل قوميتهم ووطنهم، ولا تأخذهم من ذلك الغيرة، ولا يقولون: نحن أولى من هؤلاء باستحقار الحياة؛ وقد قال الله تعالى:
ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون .
2
وقد انضم إلى الجبن والهلع اللذين أصابا المسلمين اليأس والقنوط من رحمة الله، فمنهم فئات قد وقر في أنفسهم أن الإفرنج هم الأعلون على كل حال
3
وأنه لا سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه، وأن كل مقاومة عبث، وأن كل مناهضة خرق في الرأي، ولم يزل هذا التهيب يزداد ويتخمر في صدور المسلمين أمام الأوروبيين إلى أن صار هؤلاء ينصرون بالرعب، وصار الأقل منهم يقومون للأكثر من المسلمين، وهذا بعكس ما كان في العصر الأول:
يرى الجبناء أن الجبن حزم
وتلك خديعة الطبع اللئيم
نسي المسلمون الأيام السالفة التي كان فيها العشرون مسلما لا غير يأتون من (برشلونة) إلى (فراكسية) من سواحل فرنسة ويستولون على جبل هناك، ويبنون به حصنا، ويتزايد عددهم حتى يصيروا مئة رجل فيؤسسون هناك إمارة تعصف ريحها بجنوبي فرنسة وشمالي إيطالية، وتهادنها ملوك تلك النواحي وتخطب ولاءها، وتستولي على رءوس جبال الألب، وعلى المعابر التي عليها الطرق الشهيرة بين فرنسة وإيطالية، لا سيما معبر سان برنار الشهير، وتضطر جميع قوافل الإفرنج أن تؤدي للعرب المكوس لأجل المرور، تتقدم هذه الدولة العربية الصغيرة في بلاد (البيامون) مسافات بعيدة إلى أن تبلغ سويسرة وبحيرة (كونستانزه) في قلب أوروبة، وتضم القسم العالي من سويسرة إلى أملاكها، وتبقى خمسا وتسعين سنة مستولية على هذه الديار إلى أن تتألب الأمم الإفرنجية عليها، ولا تزال تناجزها إلى أن استأصلتها، وكانت تلك العصابة العربية يوم انقرضت لا تزيد على ألف وخمس مئة رجل
4 (وقد نشرنا تفصيل خبرها في المجلد 24 من المنار).
شبهات الجهلاء الجبناء وردها
من السخفاء من يقول: نعم؛ قد كان ذلك، لكن قبل أن يخترع الإفرنج آلات القتال الحديثة، وقبل المدافع والدبابات والطيارات، وقبل أن يصير الإفرنج إلى ما صاروا إليه من القوة المبنية على العلم، وهذا القول هو منتهى السخف والسفه والحماقة، فإن لكل عصر علما وصناعة ومدنية تشاكله، وقد كانت في القرون الوسطى علوم تشاكلها، كما هي العلوم والصناعات والمدنية الحاضرة في هذا العصر، وأمور الخلق كلها نسبية، ولقد كانت في العصر الذي نتكلم عنه آلات قتال ومنجنيقات ودبابات ونيران مركبة تركيبا مجهولا اليوم، وكانت في ذلك الوقت كما هي المدافع والرشاشات وقنابر الديناميت وما أشبه ذلك في هذه الأيام.
على أنه ليست الدبابات والطيارات والرشاشات هي التي تبعث العزائم، وتوقد نيران الحمية في صفوف البشر، بل الحمية والعزيمة والنجدة هي التي تأتي بالطيارات والدبابات والقنابر، وما هذه إلا مواد صماء لا فرق بينها وبين أي حجر، فالمادة لا تقدر أن تعمل شيئا من نفسها، وإنما الذي يعمل هو الروح، فإذا هبت أرواح البشر وتحركت عزائمهم فعند ذلك نجد الدبابات والطيارات والرشاشات والغواصات وكل أداة قتال ونزال على طرف التمام.
يقولون: إلا أن هذا ينبغي له العلم الحديث، وهذا العلم مفقود عند المسلمين، فلذلك أمكن الإفرنج ما لم يمكنهم. (والجواب): أن العلم الحديث أيضا يتوقف على الفكرة والعزيمة، ومتى وجدت هاتان وجد العلم الحديث ووجدت الصناعة الحديثة، أفلا ترى أن اليابان إلى حد سنة 1868 كانوا أمة كسائر الأمم الشرقية الباقية على حالتها القديمة، فلما أرادوا اللحاق بالأمم العزيزة تعلموا علوم الأوروبيين، وصنعوا صناعاتهم، واتسق لهم ذلك في خمسين سنة، وكل أمة من أمم الإسلام تريد أن تنهض وتلحق بالأمم العزيزة يمكنها ذلك وتبقى مسلمة ومتمسكة بدينها، كما أن اليابانيين تعلموا علوم الأوروبيين كلها وضارعوهم ولم يقصروا في شيء عنهم ولبثوا يابانيين ولبثوا متمسكين بدينهم وأوضاعهم، وأيضا فمتى أرادت أمة مسلمة أدوات أو أسلحة حديثة ولم تجدها؟ إن ملاك الأمر هو الإرادة؛ فمتى وجدت الإرادة وجد الشيء المراد.
فلو أن أمة من أمم الإسلام أرادت أن تتسلح لوجدت السلاح الحديث اللازم بأنواعه وأشكاله من ثاني يوم، ولكن اقتناء السلاح ينبغي له سخاء بالأموال، وهم لا يريدون أن يبذلوا، ولا أن يقتدوا بالإفرنج واليابان في البذل، بل يريدون النصرة بدون سلاح وعتاد، أو السلاح والعتاد بدون بذل أموال، وإذا تغلب العدو عليهم من بعد ذلك صاحوا قائلين: أين المواعيد التي وعدنا إياها القرآن في قوله:
وكان حقا علينا نصر المؤمنين .
5
كأن القرآن ضمن للمؤمنين النصر بدون عمل وبلا كسب ولا جهاد بالأموال والأنفس، بل بمجرد قولنا: إننا مسلمون، أو بمجرد الدعاء والتسبيح؟ وأغرب من ذلك بمجرد الاستغاثة بالأولياء، فأصبح الكثير من المسلمين، وهم عزل من السلاح الحديث، وهم غير مجهزين بالعلم اللازم لاستعماله لا يقومون للقليل من الإفرنج المسلحين المجهزين، وصاروا إذا التقى الجمعان تدور الدائرة في أغلب الأحيان على المسلمين، فتوالى هذا الأمر عليهم مدة طويلة إلى أن فقدوا كل ثقة بنفوسهم، واستولى عليهم القنوط، ودب فيهم الرعب، وألقوا بأنفسهم إلى العدو، وبعد أن كانوا مسلمين، صاروا مستسلمين، وقد ذهلوا عن قوله تعالى:
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس .
6
ونسوا أنه لا يجوز أن يتطرق اليأس إلى قلب أحد؛ لا عقلا ولا شرعا، ولا سيما المسلم الذي يخبره دينه بأن اليأس هو الكفر بعينه، وغفلوا عن قوله تعالى في سلفهم:
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء
الآيات.
7
فنجدهم إذا استنهضتهم لمعاونة قوم منهم يقاتلون دولة أجنبية تريد لتمحوهم كان أول جواب لهم: أية فائدة من بذل أموالنا في هذا السبيل وتلك الدولة غالبة لا محالة؟! ولو تأملوا لوجدوا أن الاستسلام لا يزيدهم إلا ويلا، ولا يزيد العدو إلا استبدادا وجبروتا؛ سنة الله في خلقه، ولو فكروا قليلا لرأوا أن هذا الشح بالمال على إخوانهم الذين في مواطن الجهاد لم يكن توفيرا وإنما كان هو الفقر بعينه؛ لأن الأمة المستضعفة لا تعود حرة في تجارتها واقتصادياتها، بل يمتص العدو الغالب عليها كل ما فيه علالة رطوبة في أرضها، ولا يترك للأمة المستضعفة إلا عظاما يتمششونها، من قبيل «قوت لا يموت» وكثيرا ما تحصل مساغب ويموتون جوعا كما يقع كثيرا في جزائر الغرب والهند وغيرهما، ترى المجاعات واقعة في الهند ولا يموت منها ولا إنكليزي، وتراها تشتد في الجزائر ولا يموت بها إلا المسلم،
8
وما السبب في ذلك إلا أن الأجانب قد استأثروا بخيرات البلاد، ولم يتركوا للمسلمين إلا الفقر، فقام المسلمون اليوم يعتذرون عن عدم بذل الأموال لمساعدة إخوانهم بعدم وجودها، وهذا صحيح إلى حد محدود؛ وذلك أنهم بخلوا بها في الأول فجنوا من بخلهم على الجهاد الذل والخنوع أولا، والفقر والجوع ثانيا، فإن من سنن الله في أرضه أن الذل يردفه الفقر، وأن العز يردفه الثراء، والمثل العربي يقول: من عز بز، والشاعر العربي الإيادي يقول:
لا تذخروا المال للأعداء إنهم
إن يظهروا يأخذوكم والتلاد معا
هيهات لا خير في مال وفي نعم
قد احتفظتم بها إن أنفكم جدعا
والمتنبي يقول:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
فالمسلمون عز عليهم المال ففقدوه، وعزت عليهم الحياة ففقدوها، وأبى الله إلا تصديق كلام النبي المحوى إليه حيث يقول: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على القصاع»، قالوا أومن قلة فينا يومئذ يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع من قلوب أعدائكم، من حبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت».
هذا الحديث رواه لي الشيخ محمد بن جعفر الكناني الفاسي - رحمه الله - يوم لقيته في المدينة المنورة منذ خمس وعشرين سنة، ثم قرأته في الكتب، واستشهدت به في مقدمة حاضر العالم الإسلامي، وألفاظه تختلف في رواية عن رواية، فالأستاذ صاحب المنار أمتع الله بطول حياته هو الأدرى بأصح رواياته
9
ومعناه ظاهر وهو: أن المسلمين يأتي عليهم يوم يصيرون فيه مأكلة، وتمتد إليهم الأيدي من كل جهة، فهذا العصر الذي نحن فيه هو ذلك اليوم، وأن المسلمين لا يكون عيبهم يومئذ قلة، الكثرة بنفسها لا تفيد أن تقترن بجودة النوع والكمية التي لا تغني عن الكيفية،
10
وعلة العلل في ضعف المسلمين ذلك اليوم هو الجبن والبخل، صريح ذلك في قوله
صلى الله عليه وسلم : «من حبكم الدنيا وكراهيتكم الموت».
11
ومن المعلوم أن الإفراط في حب الدنيا يحرم الإنسان التمتع بها، وأن الغلو في المحافظة على الحياة تكون عاقبته زيادة التعرض للهلاك
12
هذه هي من سنن الله في خلقه أو من النواميس الطبيعية كما يقال في هذا العصر، فالقرآن يأمر المسلم بأن يحتقر الحياة والمال وكل عزيز في سبيل الله، ويأمر المسلم أن يثبت ولا ييأس، وأن يصبر ولا يتزلزل مهما أصيب، وتراه يقول:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين .
13
هكذا يريد الله ليكون المسلمون، فإن لم يكونوا هكذا بصريح نص القرآن، فكيف يستنجزون الله عداته بالنصر والتمكين والسعادة والتأمين؟!
ضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين
ومن أكبر عوامل انحطاط المسلمين الجمود على القديم، فكما أن آفة الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم، بدون نظر فيما هو ضار منه أو نافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغير شيئا، ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم الإسلامي؛ ظنا منهم بأن الاقتداء بالكفار كفر، وأن نظام التعليم الحديث من وضع الكفار.
فقد أضاع الإسلام جاحد وجامد.
أما الجاحد فهو الذي يأبى إلا أن يفرنج المسلمين وسائر الشرقيين ويخرجهم عن جميع مقوماتهم ومشخصاتهم، ويحملهم على إنكار ماضيهم، ويجعلهم أشبه بالجزء الكيماوي الذي يدخل في تركيب جسم آخر كان بعيدا فيذوب فيه ويفقد هويته، وهذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه واعترافه بأن آباءه كانوا سافلين، وأنه هو يريد أن يبرأ منهم لا يصدر إلا عن الفسل الخسيس، الوضيع النفس، أو عن الذي يشعر أنه في وسط قومه دنيء الأصل، فيسعى هو في إنكار أصل أمته بأسرها؛ لأنه يعلم نفسه منها بمكان خسيس ليس له نصيب من تلك الأصالة، وهو مخالف لسنن الكون الطبيعية التي جعلت في كل أمة ميلا طبيعيا للاحتفاظ بمقوماتها ومشخصاتها؛ من لغة وعقيدة وعادة وطعام وشراب وسكنى وغير ذلك إلا ما ثبت ضرره.
14
محافظة الشعوب الإفرنجية على قوميتها
فلننظر إلى أوروبة - لأنها هي اليوم المثل الأعلى في ذلك - فنجد كل أمة فيها تأبى أن تندمج في أمة أخرى، فالإنكليز يريدون أن يبقوا إنكليزا، والإفرنسيس يريدون أن يبقوا إفرنسيسا، والألمان لا يريدون أن يكونوا إلا ألمانا، والطليان لا يرضون أن يكونوا إلا طليانا، والروس قصارى همهم أن يكونوا روسا، وهلم جرا.
ومما يزيد هذا المثال تأثيرا في النفس أن الأيرلنديين مثلا أمة صغيرة مجاورة للإنكليز، وقد بذل هؤلاء جميع ما يتصوره العقل من الجهود ليدمجوهم في سواهم مدة تزيد عن سبع مئة سنة، فأبوا أن يصيروا إنكليزا ولبثوا أيرلنديين بلسانهم وعقيدتهم وأذواقهم وعاداتهم.
وفي فرنسة نفسها تأبى أمة «البريتون» إلا أن تحافظ على أصلها، وفي جنوبي فرنسة جيل يقال لهم «الباشكنس» احتفظوا بقوميتهم تجاه القوط، ثم تجاه العرب، ثم تجاه الإسبان، ثم تجاه الفرنسيس، وجميعهم مليون نسمة، وهم لا يزالون على لغتهم وزيهم وعاداتهم وجميع أوضاعهم.
والفلمنك يأبون أن يجعلوا اللغة الإفرنسية لغتهم والثقافة الإفرنسية ثقافتهم، ولم يزالوا يصيحون في بلجيكا حتى اضطرت دولة بلجيكا إلى الاعتراف بلغتهم لغة رسمية.
وفي سويسرة ثلاثة أقسام: القسم الألماني وهو مليونان وثمان مئة ألف، والقسم المتكلم بالطليانية وهو أكثر قليلا من مئتي ألف، والقسم المتكلم باللغة الفرنسية، وكل قسم منها يحافظ على لغته وقوانينه ومنازعه مع أنهم كلهم متحدون في مصالحهم السياسية وهم يعيشون في مملكة واحدة.
وإن الدانمرك وبلاد الإسكنديناف وهولاندة فروع من الشجرة الألمانية لا مراء في ذلك، لكنهم لا يريدون الاندماج في الألمان ولا العدول عن قومياتهم، وبقي «التشيك» مئتين من السنين تحت حكم الألمان وبقوا تشيكا، واستأنفوا بعد الحرب العامة استقلالهم السياسي، بعد أن حفظوا لسانهم واستقلالهم الجنسي مدة خمسة قرون.
وقد هذب الألمان أمة المجر وعلموهم ورقوهم، ولكنهم لم يتمكنوا من إدماجهم في الألمانية، فتجدهم أحرص الأمم على لغتهم المغولية الأصلية، وعلى قوميتهم المجرية.
ولبثت الروسية العظيمة من مئتين إلى ثلاث مئة سنة تحاول إدخال بولونية في الجنس الروسي وحمل البولونيين على نسيان قوميتهم الخاصة؛ بحجة أن العرق السلافي يجمع بين البولونيين والروس، ففشلت جميع مساعيها في إدماج البولونيين فيها، وعاد هؤلاء بعد الحرب العامة أمة مستقلة في كل شيء؛ وذلك لأنهم لم يتخلوا طرفة عين عن قوميتهم.
وليس من العجيب أن لا تريد أمة عددها 30 مليونا الاندماج في غيرها، ولكن الاستوانيين وهم مليونان فقط انفصلوا عن الروسية، ولم يقبلوا الاندماج فيها، وأحيوا استقلالهم ولسانهم المغولي الأصل وجعلوا له حروفا هجائية، ومثلهم أهالي فنلاندة المنفصلون عن الروسية أيضا.
وقد خابت مساعي الروس في إدماج الليتوانيين - من هذه الأمم البلطيكية - في الجنس الروسي، وانتفضوا بعد الحرب العامة أمة مستقلة كما كانوا مستقلين قوميا، وجميعهم أربعة ملايين، وأقل منهم جيرانهم الليتونيون
15
الذين هم مليونان لا غير، ومع هذا قد انفصلوا بعد الحرب وأسسوا جمهورية كسائر الجمهوريات البلطيكية؛ لأنهم من الأصل لبثوا محافظين على لغتهم وجنسهم.
وقد عجز الروس من جهة كما عجز الألمان من جهة أخرى عن إدخال هذه الأقوام في تراكيبهم القومية العظيمة؛ لأن كل شعب مهما كان صغيرا لا يرضى بإنكار أصله ولا بالنزول عن استقلاله الجنسي.
وقد حفظ الكرواتيون استقلالهم الجنسي مع إحاطة أمتين كبيرتين بهم؛ هم: اللاتين، والجرمان.
وحفظ الصربيون استقلالهم الجنسي مع سيادة الترك عليهم منذ قرون.
ولم يزل الأرناءوط أرناءوطا منذ عهد لا يعرف بدؤه وهم بين أمتين كبيرتين: اليونان، والصقالبة؛ أي السلاف!
وكذلك البلغار أبوا إلا أن يبقوا بلغارا فيما بين الروم والسلاف واللاتين، ثم جاءهم الترك فتعلموا التركية لكنهم بقوا بلغارا.
ولا أريد أن أخرج في الاستشهاد عن أوروبة؛ لأني إن خرجت عن أوروبة قالت تلك الفئة الجاحدة: نحن لا نريد أن نجعل قدوة لنا أمما متأخرة مثلنا.
فالأمم التي استشهدنا الآن بها كلها أوروبية، وكلها متعلمة راقية، وكلها ذوات بلدان ممدنة منظمة؛ وكلها عندها الجامعات والأكادميات والجمعيات العلمية والجيوش والأساطيل ... إلخ.
العبرة للعرب وسائر المسلمين برقي اليابانيين
ولكني أخرج من أوروبة إلى اليابان فقط؛ لأن رقي اليابان يضارع الرقي الأوروبي، وقد تم لليابان كما تم رقي أوروبة للأوروبيين؛ أي في ضمن دائرة قوميتهم ولسانهم وآدابهم وحريتهم ودينهم وشعائرهم ومشاعرهم وكل شيء لهم.
فأنقل إلى القراء العرب فقرة من رسالة طويلة جاءت من مراسل أوروبي سائح في اليابان وظهرت في جريدة «جرنال دوجنيف» بتاريخ 20 أكتوبر (1931) فإنه يقول:
إن الياباني يحب الفن قبل كل شيء، وإن رأيته ساعيا في كسب المال فلأجل إن يلذذ بالمال أهواءه المنصرفة إلى الحسن والجمال، وقد انتقش في صفحة نفسه الشعور القومي الشديد عدا الميل إلى الجمال؛ لأنه يفتخر بكون اليابان في مدة ستين سنة فقط صارت من طور أمة في القرون الوسطى إقطاعية الحكم إلى أمة عظيمة من أعظم الأمم، ومما لا ريب فيه أن الديانة اليابانية هي ذات دور عظيم في سياسة اليابان (ليتأمل القارئ) وهي في الحقيقة فلسفة مبنية على الاعتراف بكل ما تركه القدماء لسلائلهم، فالياباني العصري قد ائتلف مع جميع احتياجات الحياة العصرية، لكن مع حفظ الميل الدائم إلى الرجوع إلى ماضيه ومع التمسك الشديد بقوميته، غير مجيب نداء التفرنج (وفي الأصل التغرب
Occidentalism ) الذي لا يريد الياباني أن يأخذ منه إلا ما هو ضروري له لأجل مصارعة سائر الأمم بنجاح، ولا شك أن هذا مثال فريد في تاريخ أمم الشرق الأقصى.
ثم يقول:
كان اليابانيون يكرهون الأسفار إلى البلدان البعيدة، ويحظرون دخول الأجانب إلى بلادهم، ولكن هذا المنع قد ارتفع بعد النهضة العصرية، وتلافت اليابان ما فات بشكل مدهش، والنتائج هي أمامنا، إلا أن الماضي لا يزال عند اليابانيين مقدسا معظما في جميع طبقاتهم؛ لأنه في هذا الماضي المقدس يجد اليابانيون جميع شعورهم بقيمتهم الحاضرة، فتراهم يكافحون بوسائل المدنية الحديثة التامة التي لا سبيل إلى الحياة بدونها في أيامنا هذه، لكن ينبذون كل «تغرب» بمجرد ما يجدون أنفسهم في غنى عنه، ويعودون مع اللذة إلى شعورهم القومي الخالص الذي به يعتقدون أنهم الأعلون.
وهناك هياكل «شنتو» ومعابد «زن» والهياكل البوذية وهي مكرمة معظمة مخدومة بأشد ما يمكن من الحماسة الدينية والإيمان الثابت كما كانت منذ قرون، والحق أن هذا الاحترام الشديد الذي يشعر به اليابانيون لقديمهم ولمعبوداتهم هو الذي قام عندهم حصنا منيعا دون المبادئ الشعوبية، والأفكار الشيوعية المضرة.
ومنذ بضع سنوات ظهر في فرنسة تأليف جديد عن اليابان للمركيز (لا مازليير
La Mazelière ) قد أطنبت الجرائد في وصفه، ونشرت عنه جريدة (الديبا) مقالا رنانا، فنحن نوصي القراء الذين يهمهم أن يعرفوا كيفية ارتقاء اليابان - وهو موضوع في غاية الجلالة؛ لما فيه من الاستنتاج لسائر بلاد الشرق - بمطالعة هذا الكتاب الذي لا يمكن أن ينسب إلى مؤلفه التعصب لليابان، على أنني رأيته في الجملة مطابقا لتواريخ ألفها علماء يابانيون متخصصون في التاريخ، وهذه التواريخ مترجمة من اليابانية إلى الإفرنسية، ولا بد لي في هذه العجالة من نقل بعض فقر من تاريخ لا مازليير المذكور، قال في أثناء الكلام على تمدن اليابان العصري وخروج هذه الأمة من عزلتها القديمة ما يلي:
فبدأت اليابان تستعير من أوروبة وأمريكا قسما من مدنيتهما المادية، ومن نظامهما العسكري، ومن مباحث تعليمهما العام، ومن سياستهما المالية، فكان المجددون يجتهدون في أن يقتبسوا من كل شعب ما يرونه الأحسن عنده، فكان ذلك مشروع تجديد وهدم وإعادة بناء، وظهرت آثار ذلك في جميع مناحي الحياة اليابانية.
ثم تكلم على الحرب اليابانية الصينية، وانتهى إلى قوله الذي نترجمه ترجمة حرفية:
إن ظفر اليابان بالصين لم يثبت علو الأفكار والمبادئ العلمية التي أخذتها اليابان عن الغرب وكفى، بل أثبت أمرا آخر وهو أن شعبا آسيويا بمجرد إرادته وعزيمته عرف أن يختار ما رآه الأصلح له من مدنية الغرب (تأمل جيدا) مع الاحتفاظ باستقلاله وعقليته وآدابه وثقافته. ا.ه.
وقبلا كنت نشرت في الجرائد - وما نشرته لم يكن إلا نقطة من غدير - خلاصة الحفلات التي أقامها اليابانيون لتتويج عاهلهم منذ سنتين، وكيف استمرت مراسم هذا الاحتفال مدة شهر، وكانت بأجمعها دينية، وكيف أن الميكادر هو كاهن الأمة الأعظم، وكيف أنه من سلالة الآلهة (الشمس) وكيف اغتسل في الحمام المقدس المحفوظ من ألفي سنة، وكيف أكل مع الآلهة الأرز المقدس الذي زرعته الدولة تحت إشراف الكهنة؛ حتى يكون تام القدسية لا شبهة فيه، وكيف كان ثمة في الحفل ستماية ألف ياباني وكلهم يهتفون ليحيا الميكادو عشرة آلاف سنة، إلى غير ذلك.
هوامش
لماذا لا نسمي اليابان وأوروبا رجعية بتدينهما
فلماذا، يا ليت شعري، تتقدم اليابان هذا التقدم السريع المدهش وتصير هذه الأمة أمة عصرية يضرب برقيها المثل وهي تضرب بأعراقها إلى عقائد وعادات ومنازع مضى عليها ألفا سنة، ويكون إمبراطورها هو كاهنها الأعظم، ولا يقال عنها: (رجعية) و(مرتجعة) و(ارتجاعية) ومتأخرة ومتقهقرة (فإن كانت اليابان رجعية فمرحى بالرجعية).
ولماذا كان ملك إنكلترة وإمبراطور الهند السيد على 450 مليون آدمي في الأرض من البيض والسمر والصفر والحمر والسود هو رئيس الكنيسة الإنكليكانية، ومجالسه النيابية تبحث في جلسات عديدة في قضية الخبز والخمر؛ هل يستحيلان بمجرد تقديس القسيس إلى جسد المسيح ودمه فعلا دون أدنى شك، أم ذلك قبيل الرمز والتمثيل؟
1
ولا يقال عنه: إنه (رجعي)، ولا يقال عن دولته العظمى: إنها (متأخرة) أو (متقهقرة)، فإن كانت إنكلترة بعد هذا متقهقرة فيا حبذا (التقهقر).
ولماذا كانت القارة الأوروبية كلها مسيحية مفتخرة بمسيحيتها، تتباهى بذلك في كل فرصة، متحدة في هذا الأمر على ما بينها من عداوات ومنافسات، ولا ننبذها حتى بقولنا: (رجعية) و(ارتجاعية)، والحال أن الديانة التي تدين بها أوروبة عمرها 19 قرنا.
وهذا عهد يصح أن يقال عنه: قديم، (وقديم جدا)، وهؤلاء اليهود - مهما ننكر عليهم من الفضائل فلا نقدر أن ننكر عليهم المقدرة والذكاء والحس العملي والجد الهائل - لا يزالون يفخرون بتوراة وجدت منذ آلاف السنين ويشاركهم فيها المسيحيون.
ولماذا نرى أعظم شبان اليهود رقيا عصريا يجاهدون في إحياء اللغة العبرية التي لا يعرف مبدأ تاريخها؛ لتوغلها في القدم، ولا يقال عنهم: إنهم رجعيون ومتأخرون وقهقريون؟!
وقد نشر وايزمان رئيس الجمعية الصهيونية حديثا في جريدة (الماتن) كان من أهم ما فخر به وأدلى به كمأثرة ينبغي أن تذكرها لهم الإنسانية هو (أن فلسطين الحديثة تتكلم اليوم بأجمعها بلغة الأنبياء) يريد بفلسطين الحديثة؛ فلسطين اليهودية التي قد نشر الصهيونيون فيها اللغة العبرانية القديمة، وأجبروا نشئهم الجديد على أن يتحدثوا بها لتكون اللغة الجامعة لليهود، ومن الذي فعل هذا؟ الجواب: هم اليهود العصريون الذين هم أشد الناس أخذا بمبادئ العلم الحديث والحضارة العصرية.
وما يذكر إلا أولو الألباب .
2
وماذا عساني أحصي من هذه الأماثيل والعبر في رسالة وجيزة كهذه؟!
كل قوم يعتصمون بدينهم ومقومات ملتهم ومشخصات قومهم الموروثة ولا ينبزون بهذه الألقاب إلا المسلمين!
فإنه إذا دعاهم داع إلى الاستمساك بقرآنهم وعقيدتهم ومقوماتهم ومشخصاتهم وباللسان العربي وآدابه والحياة الشرقية ومناحيها قامت قيامة الذين في قلوبهم مرض ... وصاحوا: لتسقط الرجعية. وقالوا: كيف تريدون الرقي وأنتم متمسكون بأوضاع بالية باقية من القرون الوسطى، ونحن في عصر جديد.
جميع هؤلاء الخلائق تعلموا وتقدموا وترقوا وعلوا وطاروا في السماء؛ والمسيحي منهم باق على إنجيله وتقاليده الكنسية، واليهودي باق على وثنه وأرزه المقدس، وكل حزب منهم فرح بما لديه، وهذا المسلم المسكين يستحيل أن يترقى إلا إذا رمى بقرآنه وعقيدته ومآخذه ومتاركه ومنازعه ومشاربه ولباسه وفراشه وطعامه وشرابه وأدبه وطربه وغير ذلك، وانفصل من كل تاريخه، فإن لم يفعل ذلك فلا حظ له من الرقي؟!
فهذا ما كان من ضرر الجاحد الذي يقصد السوء بالإسلام، وبالشرق أجمع، ويخدع السذج بأقاويله.
هوامش
غوائل الجامدين في الإسلام والمسلمين
وبقي علينا المسلم الجامد، الذي ليس بأخف ضررا من الجاحد، وإن كان لا يشركه في الخبث وسوء النية، وإنما يعمل ما يعمله عن جهل وتعصب.
فالجامد هو الذي مهد لأعداء المدنية الإسلامية الطريق لمحاربة هذه المدنية محتجين بأن التأخر الذي عليه العالم الإسلامي إنما هو ثمرة تعاليمه.
والجامد هو سبب الفقر الذي ابتلى به المسلمون؛ لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط، والحال أن الإسلام هو دين دنيا وآخرة، وإن هذه مزية له على سائر الأديان، فلا حصر كسب الإنسان فيما يعود للحياة التي وراء هذه كما هي ديانات أهل الهند والصين، ولا زهده في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم الإنجيل، ولا حصر سعيه في أمور هذه المعيشة الدنيوية كما هي مدنية أوروبة الحاضرة.
والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها وصناعاتها بحجة أنها من علوم الكفار، فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم، وأورث أبناءه الفقر الذي هم فيه، وقص أجنحتهم، فإن العلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في الأرض، والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن يبحث فيها
1
فإن كنا طول العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة قالت لنا الأرض: اذهبوا توا إلى الآخرة؛ فليس لكم نصيب مني.
ثم إننا بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم الدينية والمحاضرات الأخروية جعلنا أنفسنا بمركز ضعيف بإزاء سائر الأمم التي توجهت إلى الأرض، وهؤلاء لم يزالوا يعلون في الأرض ونحن ننحط في الأرض، إلى أن صار الأمر كله في يدهم، وصاروا يقدرون أن يأفكونا عن نفس ديننا فضلا عن أن يملكوا علينا دنيانا، ومن ليست له دنيا فليس له دين، وليس هذا هو الذي يريده الله بنا وهو الذي قال:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض
الآية.
2
وقال:
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا .
3
وقال:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة .
4
وقال فيما حكاه وأقره:
ولا تنس نصيبك من الدنيا .
5
وعلمنا أن ندعوه بقوله:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
6 ... إلخ.
والمسلم الجامد لا يدري أنه بهذا المشرب يسعى في بوار ملته وحطها عن درجة الأمم الأخرى، ولا يتنبه لشيء من المصائب التي جرها على قومه إهمالهم العلوم الكونية حتى أصبحوا بهذا الفقر الذي هم فيه، وصاروا عيالا على أعدائهم الذين لا يرقبون فيه إلا ولا ذمة، فهو إذا نظر إلى هذه الحالة عللها بالقضاء والقدر بادئ الرأي، وهذا شأن جميع الكسالى في الدنيا يحيلون على الأقدار.
هذا الخلق هو الذي حبب الكسل إلى كثير من المسلمين فنجمت فيهم فئة يلقبون «بالدراويش» ليس لهم شغل ولا عمل، وليس في الواقع إلا أعضاء مشلولة في جسم المجتمع الإسلامي.
وهذا الخلق بعينه هو الذي جعل الإفرنج يقولون: إن الإسلام جبري لا يأمر بالعمل؛ لأن ما هو كائن هو كائن، عمل المخلوق أم لم يعمل.
آيات العمل المبطلة لتفسير القدر بالجبر والكسل
ولا شيء أدل على فساد هذا الزعم الإفرنجي من القرآن الملآن بالحث على العمل وباستنهاض الهمم، وابتعاث العزائم، ونوط الثواب والعقاب والفوز والفشل بالعمل الذي يعمله المكلف، قال الله تعالى:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله .
7
وقال تعالى:
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم .
8
وقال تعالى:
وسيرى الله عملكم .
9
وقال تعالى:
لنا أعمالنا ولكم أعمالكم .
10
وقال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم .
11
وقال تعالى:
والله معكم ولن يتركم أعمالكم .
12
أي لا ينقصكم أعمالكم.
وقال تعالى:
وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا .
13 «لا يلتكم» من لاته يليته، أو ولته يلته بمعنى نقصه، أي لا يبخسكم من أعمالكم شيئا، وقال تعالى:
نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون .
14
وقال عز وجل:
وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم .
15
وقال عز وجل:
وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون .
16
وقال عز وجل:
أني لا أضيع عمل عامل منكم .
17
وقال عز وجل:
فنعم أجر العاملين .
18
وقال عز وجل:
لمثل هذا فليعمل العاملون .
19
وقال عز وجل:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .
20
وقال عز وجل:
وتوفى كل نفس ما عملت .
21
وقال عز وجل:
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .
22
وقال عز وجل:
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا .
23
وقال عز وجل:
ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون .
24
وقال عز وجل:
فأصابهم سيئات ما عملوا .
25
وقال تبارك وتعالى:
ووجدوا ما عملوا حاضرا .
26
وقال تبارك وتعالى:
ليذيقهم بعض الذي عملوا .
27
وقال تعالى:
إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا .
28
وقال تعالى:
ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون .
29
وقال تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
30
وقال تعالى:
سيجزون ما كانوا يعملون .
31
وقال تعالى:
جزاء بما كانوا يعملون .
32
وقال تعالى:
ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون .
33
إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى من الآيات التي امتلأ بها القرآن، ومنها ما هو نص في مسألتنا هذه كقوله تعالى:
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم .
34
وقوله تعالى:
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم .
35
إن صاحب السؤال يعلم، وأكثر المسلمين لا يعلمون أن هذه الآية خاطب الله تعالى بها أكمل هذه الأمة إيمانا وإسلاما وهم أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ إذ تعجبوا من ظهور المشركين عليهم في غزوة أحد فرد الله عليهم ببيان السبب؛ وهو مخالفتهم أمره
صلى الله عليه وسلم
للرماة الذين يحمون ظهور المقاتلة بألا يبرحوا أماكنهم سواء كان الغلب للمسلمين أو عليهم، فلما انهزم المشركون خالفوا الأمر؛ لمشاركة المقاتلين في الغنيمة، فكر عليهم المشركون حتى شج رأس النبي
صلى الله عليه وسلم ... إلخ.
وكلها ناطقة بأن الإسلام هو دين العمل، لا دين الكسل، ولا هو دين الاتكال على القدر المجهول للبشر، كما يقول الدراويش البطالون: رزقنا على الله؛ عملنا أم لم نعمل، كما يزين للناس بعض مؤلفي الإفرنج من أن دين الإسلام دين جمود وتفويض وتسليم، وأن تأخر المسلمين إنما نشأ عن ذلك، ولو كان في هذه الدعوى ذرة ما من الصحة لما نهض الصحابة - أخبر الناس بالإسلام - وفتحوا نصف كرة الأض في خمسين سنة، ولكن التسليم الذي يتكلمون عليه، ويهرفون فيه بما لا يعرفون، إنما هو مقرون بالعمل وبالكدح وبالسعي وإلا فلا يسمى تسليما بل يسمى جمودا، ويعد بطالة وهو مخالف للقرآن والسنة.
وأما إذا كان التسليم لله مقرونا بالعمل فإنه أنفع في الدنيا والآخرة؛ لأن إفراط المرء في الاعتماد على نفسه يورطه في البطر إذا نجح، وفي الجزع إذا فشل، والذي يريده الإسلام إنما هو أن يعقل الإنسان ويتوكل
36
وأن يدبر لنفسه بهداية عقله الذي جعله الله مرشدا، ويعلم مع ذلك أن ليس كل الأمر بيده، وإن من الأقدار ما لا تدركه الأفكار، وهذا صحيح، ولما ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم
القدر سأله بعض أصحابه ألا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. (رواه البخاري ومسلم).
ومن أغرب الغرائب أن هؤلاء الإفرنج الذين لا يفتئون ينعتون الإسلام بالجبرية وينسبون تأخر المسلمين إلى هذه العقيدة - التي كان يقول بها فئة قليلة من المسلمين - يذهلون عما هو وارد في الإنجيل من آيات القضاء والقدر التي تماثل ما في القرآن وقد تزيد عليه مثل قوله: لا تسقط شعرة من رءوسكم إلا بإذن أبيكم السماوي. ومثل آي كثيرة لو أردت استقصاءها لطال المقال.
ولا نجد في الإفرنج الذين هم مغرمون بالعمل وهائمون وراء الكسب ومنكرون للقضاء والقدر في الجملة، إلا من يقرأ الإنجيل الشريف ويقدسه ويعجب بمبادئه السامية كما نعجب بها نحن، فما بالهم نسوا ما فيه من آيات القضاء والقدر؟ وما بالهم لم يصفوا أقوال المسيح صلوات الله عليه بالجبرية؟!
يحلونه عاما ويحرمونه عاما .
37
وحقيقة الأمر أن كل ما هو وارد في الإنجيل وكل ما هو وارد في القرآن من آيات القضاء والقدر إنما كان مقصودا به سبق علم الله بكل ما يقع
38
ولم يكن مقصودا به نفي الاختيار والتزهيد في الكسب.
وفي حديث الوزنتين والوزنات وغير ذلك من مواعظ الإنجيل الشريف ما يدل على ما عزاه القرآن الكريم إلى صحف إبراهيم وموسى؛ أي وغيرهما من رسل الله.
ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى .
39
هوامش
كون المسلمين الجامدين فتنة لأعداء الإسلام وحجة عليه
ونعود إلى المسلم الجديد فنقول: إنه هو الذي طرق لأعداء الإسلام على الإسلام، وأوجد لهم السبيل إلى القالة بحقه؛ حتى قالوا: إنه دين لا يأتلف مع الرقي العصري، وإنه دين حائل دون المدنية.
والحقيقة أن هؤلاء الجامدين هم الذين لا تأتلف عقائدهم مع المدنية، وهم الذين يحولون دون الرقي العصري، والإسلام براء من جماداتهم هذه.
إن الإسلام هو من أصله ثورة على القديم الفاسد، وجب للماضي القبيح، وقطع كل العلائق مع غير الحقائق، فكيف يكون الإسلام ملة الجمود؟ والقرآن هو الذي جاء فيه من قصة إبراهيم عليه السلام:
إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين .
1
وجاء فيه:
قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون * قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين .
2
وجاء فيه:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم .
3
وجاء فيه:
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون .
4
وجاء فيه:
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
5
وغير ذلك من الآيات الداعية إلى الثورة على القديم إذا لم يكن صحيحا ولم يكن صالحا.
على أن الذين يفهمون الإسلام حق الفهم يرحبون بكل جديد لا يعارض العقيدة، ولا تخشى منه مفسدة، ولا أظن شيئا يفيد المجتمع الإسلامي يكون مخالفا للدين المبني على إسعاد العباد، أفلا ترى علماء نجد وهم أبعد المسلمين عن الإفرنج والتفرنج، وأنآهم عن مراكز الاختراعات العصرية، كيف كان جوابهم عندما استفتاهم الملك عبد العزيز بن سعود أيده الله في قضية اللاسلكي والتلفون والسيارة الكهربائية؟ أجابوه: إنها محدثات نافعة مفيدة، وإنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله لا بالمنطوق ولا بالمفهوم ما يمنعها.
أفليس الأدنى لمصلحة الأمة أن تقدر الدولة على معرفة أي حادث يحدث بمجرد وقوعه حتى تتلافى أمره؟ أفليس الأنفع للمسلمين أن يتمكن الحاج ببضع ساعات من اجتياز المسافات التي كانت تأخذ أياما وليالي، لقد سألت الشيخ محمد بن علي بن تركي من العلماء النجديين الذين بمكة عن رأيه في التلفون واللاسلكي فقال لي: هذه مسألة مفروغ منها، وأمر جوازها شرعا هو من الوضوح بحيث لا يستحق الأخذ والرد.
ولم تكن مقاومة الجديد خاصة بجامدي الإسلام، فقد قاومت الكنيسة في النصرانية كل جديد تقريبا من قول أو عمل، ثم عادت فيما بعد فأجازته، ولما قال «غاليله» بدوران الأرض كفرته، ولا يزال يوجد إلى اليوم من أحبار النصارى من يكفر كل مخالف لما جاء في التوراة من كيفية التكوين، ومن سنتين حوكم أحد المعلمين في محاكم إحدى الولايات المتحدة لقوله بنظرية داروين ومنع من التدريس، ولكن هذا لا يمنع سير العلم في طريقه.
6
فالنصارى عندهم جامدون كما عندنا جامدون، والمسلم الجامد يحارب كل علم غير العلم الديني التقليدي الذي ألفه، حتى إنه ليحارب من لا يعتد في دينه إلا بالكتاب والسنة، وينسى أن العلوم الطبيعية والرياضية والهندسة وجر الأثقال والفلك والطب والكيمياء وطبقات الأرض وكل علم يفيد الاجتماع البشري هي علوم دينية إن لم تكن مباشرة فمن حيث النتيجة،
7
وكم جرى تدريس هذه العلوم في الأزهر الأموي والزيتونة والقرويين وقرطبة وبغداد وسمرقند وغيرها عندما كان للإسلام دول كبار وأعاظم رجال، وكم نبغ في الإسلام من عظماء جمعوا بين الحكمة والشريعة، ونظموا بين الحديث والرياضة، وإن أكبر فيلسوف عربي اشتهر اسمه في أوروبة هو القاضي ابن رشد؛ وقد كان من أكابر الفقهاء.
هوامش
مدنية الإسلام
أما زعم من زعم أن الإسلام لم يتمكن من تأسيس مدنية خاصة والاستدلال على ذلك بحالته الحاضرة، فهو خرافة يموه بها بعض أعداء الإسلام من الخارج، وبعض جاحديه من الداخل، أما القسم الأول فلأجل أن يصبغوا المسلمين بالصبغة الأوروبية، وأما القسم الثاني فلأجل أن يزرعوا في العالم الإسلامي بذور الإلحاد، ونحن لا ننكر تأثير الدين في المدنية، ولكننا لا نسلم بأنه يصح أن يكون لها ميزانا؛ وذلك لأنه كثيرا ما يضعف تأثير الدين في الأمم فتفلت من قيوده، وتفسد أخلاقها، وتنهار أوضاعها، فيكون فساد الأخلاق هو علة السقوط، ولا يكون الدين هو المسئول، وكثيرا ما تطرأ عوامل خارجية غير منتظرة فتتغلب على ما أثلته الشرائع من حضارة، وتزلزل أركانها، وقد تهدمها من بوانيها، ولا يكون القصور من الشريعة نفسها، فتأخر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكن من الشريعة؛ بل من الجهل بالشريعة، أو كان من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي، ولما كانت الشريعة جارية على حقها كان الإسلام عظيما عزيزا.
وأي عظمة أعظم مما كان الإسلام في أيام عمر بن الخطاب مثلا.
ومدنية الإسلام قضية لا تقبل المماحكة؛ إذ ليس من أمة في أوروبة سواء الألمان أو الفرنسيس أو الإنكليز أو الطليان ... إلخ، إلا وعندهم تآليف لا تحصى في (مدنية الإسلام) فلو لم تكن للإسلام مدنية حقيقية سامية راقية مطبوعة بطابعه، مبنية على كتابه وسنته، ما كان علماء أوروبة حتى الذين عرفوا منهم بالتحامل على الإسلام يكثرون من ذكر المدنية الإسلامية، ومن سرد تواريخها،
1
ومن المقابلة بينها وبين غيرها من المدنيات، ومن تبيين الخصائص التي انفردت بها.
فالمدنية الإسلامية هي من المدنيات الشهيرة التي يزدان بها التاريخ العام، والتي تغص سجلاته الخالدة بمآثرها الباهرة.
وقد بلغت بغداد في دور المنصور والرشيد والمأمون من احتفال العمارة، واستبحار الحضارة، وتناهي الترف والثروة، ما لم تبلغه مدينة قبلها ولا بعدها إلى هذا العصر، حتى كان أهلها يبلغون مليونين ونصف مليون من السكان، وكانت البصرة في الدرجة الثانية عنها، وكان أهلها نحو نصف مليون.
وكانت دمشق والقاهرة وحلب وسمرقند وأصفهان وحواضر أخرى كثيرة من بلاد الإسلام أمثلة تامة وأقيسة بعيدة في استبحار العمران، وتطاول البنيان ورفاهة السكان، وانتشار العلم والعرفان، وتأثل الفنون المتهدلة الأفنان.
وكانت القيروان وفاس وتلمسان ومراكش في المغرب أعظم وأعلى من أن يطاولها مطاول، أو يناظرها مناظر، أو أن يكاثرها مكاثر في ممالك أوروبة حتى هذه القرون الأخيرة.
وكانت قرطبة مدينة فذة في أوروبة لا يدانيها مدان، وكان عدد سكانها نحو مليون ونصف مليون نسمة، وكان فيه نحو سبع مئة جامع، عدا المسجد الأعظم الذي لما زرته في هذا الصيف قال لي المهندس الذي كان معي من قبل الحكومة الإسبانيولية: إنه يسع بحسب مساحته خمسين ألف مصل في الداخل و30 ألف مصل في الصحن، فجملة من يسعهم هذا المسجد العجيب ثمانون ألفا من المصلين.
ولما ذهبنا إلى آثار قصر الزهراء رأيناها آثار مدينة لا آثار قصر واحد، وعلمنا أنها تمتد على مسافة تسع مئة متر طولا في ثمان مئة متر عرضا، والإسبانيون يقولون: مدينة الزهراء.
وقال لي المهندسون الموكلون بالحفر على آثارها: إنهم يرجون الإتيان على كشفها كلها من الآن إلى خمسين سنة.
وحسبك أن غرناطة التي كانت حاضرة؛ كانت مملكة صغيرة في آخر أمر المسلمين بالأندلس، لم يكن في أوروبة في القرن الخامس عشر المسيحي بلدة تضاهيها ولا تدانيها، وكان فيها عندما سقطت في أيدي الإسبانيول نصف مليون نسمة، ولم تكن وقتئذ عاصمة من عواصم أوروبة تحتوي نصف هذا العدد، وحمراء غرناطة لا تزال يتيمة الدهر إلى اليوم.
هذه لمحة دالة من مآثر حضارة الإسلام وغرر أيامه، وإلا فلو استقصينا كل ما أثر المسلمون في الأرض من رائع وبديع لم تسع ذلك الجلود الكثيرة المرصوفة طبقا فوق طبق.
وكم حرر المؤرخون الأوروبيون تحت عنوان (مدنية الإسلام) كتبا قيمة ومجاميع صور تأخذ بالأبصار، وإن أشد مؤرخي الإفرنج تحاملا على الإسلام لا يتعدى أن يحاول التصغير من شأن مدنيته، وأن ينكر كونه أبا عذرتها، فقصارى هذه الفئة أن ينكروا كون المسلمين قد ابتكروا علوما وسبقوا إلى نظريات صارت خاصة بهم، وغايتهم أن يقولوا: إن المسلمين لم يزيدوا على أن نقلوا وأذاعوا وكانوا واسطة بين المشرق والمغرب.
وهذا القول مردود عند المحققين الذين يعرفون للمسلمين علوما ابتكروها، وحقائق كشفوها، وآراء سبقوا إليها، فضلا عما زادوا عليه وأكملوه، وما نشروه ونقلوه، ومن استرق شيئا وقد استرقه، فقد استحقه.
وبعد؛ فلم نعلم مدنية واحدة من مدنيات الأرض إلا وهي رشح مدنيات سابقة، وآثار آراء اشتركت بها سلائل البشرية ، ومجموع نتائج عقول مختلفة الأصول، ومحصول ثمرات ألباب متباينة الأجناس.
هوامش
الرد على حساد المدنية الإسلامية المكابرين
أينسى حساد الإسلام والمكابرون في عظمة فضله، الزاعمون أنه نقل وتعلم وقلد واقتدى، وأنه إنما صلى وراء غيره - أن الغرب كان غلب على الشرق، وأن المدنية الشرقية يوم ظهر الإسلام كان أخنى عليها الذي أخنى على لبد، وأنه هو الذي جددها وأحيا آثارها، وأقال عثارها؟! وأنها بعد أن كانت قد امحت ولحقت بالغابرين، أبرزها من أصدافها، وجلاها من بعد أن كانت ملفوفة بغلافها، ونشرها إلى الخافقين، وبلجها كفلق الصبح لكل ذي عينين، وأضفى عليها لباس الإسلام الخاص، ودبجها بديباجة القرآن، التي لم تفارقها في شرق ولا غرب، ولا سهل ولا غر، حتى حمل ذلك كثيرا من علماء الإفرنج ممن لم يعمه الهوى، ولم يحد في التحقيق عن مهيع الهدى، على أن اعترفوا بأن مدنية الإسلام لم تكن نسخا ولا نقلا، وإنما هي قد نبعت من القرآن، وتفجرت من عقيدة التوحيد؟!
فأما ما ترجمته حضارة الإسلام من كتب، وما أخذته عن غيرها من علوم، وما أفادته في فتوحاتها من منازع جميلة، وطرائق سديدة، أخذتها عن غيرها فلا يقدح ذلك في بكارتها الإسلامية، ومسحتها العربية؛ لأن هذا شأن الحضارة البشرية بأجمعها أن يأخذ بعضها عن بعض ويكمل بعضها بعضا، فالحلم الحقيقي ينحصر في هذا الحديث الشريف: «الحكمة ضالة المؤمن ينشدها ولو في الصين»
1
وهذه من أقدس قواعد الإسلام.
وعلى كل حال لا يقدر مكابر أن يكابر أن الإسلام كان له دور عظيم في الدنيا سواء في الفتوحات الروحية، أو العقلية، أو المادية، وأن هذه الفتوحات قد اتسقت له في دور لا يزيد على ثمانين سنة؛ مما أجمع الناس على أنه لم يتسق لأمة قبله أصلا.
وكان نابليون الأول لشدة دهشته من تاريخ الإسلام يقول في جزيرة سنت هيلانة: إن العرب فتحوا الدنيا في نصف قرن لا غير.
وتأمل أيها القارئ في أن قائل هذا القول هو بونابرت الذي لم تكن تملأ عينيه الفتوحات مهما كانت عظيمة.
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
فهذا رجل عظيم جدا استعظم حادث العرب الذي لم يسبق نظيره في التاريخ، وقد بقي دور العرب هو الأول في وقته، ولبثوا وهم المسيطرون في الأرض، لا يضارعهم مضارع، ولا يغالبهم مغالب، مدة ثلاثة قرون أو أربعة، ثم أخذوا بالانحطاط، وجعلت ظلالهم تتقلص عن البلدان التي كانوا غلبوا عليها شيئا فشيئا؛ وذلك بفتور الهمم، ودبيب الفساد إلى الأخلاق، ونبذ عزائم الدين، واتباع شهوات الأنفس، وأشد ما ابتلوا به التنافس على الإمارات والرئاسات - ولا سيما بين القيسية واليمانية - مما لولاه لدانت لهم القارة الأوروبية بأجمعها، وكانت الآن عربية كما هو المغرب.
فالمصائب التي حلت بالمسلمين إنما هي مما صنعته أيديهم، ومما حادوا به عن النهج السوي الذي أوضحه لهم القرآن الذي لما كانوا عاملين بمحكم آيه علوا وظهروا وكانت لهم الدول والطوائل، فلما ضعف عملهم به وصاروا يقرءونه بدون عمل، وانقادوا إلى أهواء أنفسهم من دونه، ذهبت ريحهم، وولى السلطان الأكبر الذي كان لهم، وانتقصت الأعداء أطراف بلادهم، ثم قصدوا إلى أوساطها وما زال الأعداء يفتحون من بلدان الإسلام حتى أصبح ثلاث مئة مليون مسلم تحت ولاية الأجانب ولم يبق في العالم سوى 70 أو 80 مليون مسلم نقدر أن نقول: إنهم تحت ولاية أنفسهم.
ولنضرب الآن بعض أمثلة عن الأمم الأخرى لأجل المقابلة بيننا وبينهم؛ إذ كانت «بضدها تتبين الأشياء».
اليونان والرومان قبل النصرانية وبعدها
كان اليونانيون قبل النصرانية أرقى أمم الأرض أو من أرقى أمم الأرض، وكانوا واضعي أسس الفلسفة، وحاملي ألوية الآداب والمعارف، ونبغ منهم من لا يزالون مصابيح البشرية في العلم والفلسفة إلى يوم الناس هذا.
وكان الإسكندر المقدوني أعظم فاتح عرفه التاريخ أو من أعظم الفاتحين الذين عرفهم التاريخ، حاملا للأدب اليوناني، ناشرا لثقافة اليونان بين الأمم التي غلب عليها، وما كانت دولة البطالسة التي لمعت في الإسكندرية بعلومها وفلسفتها إلا من بقايا فتوح الإسكندر، ثم لم تزل هذه الحالة إلى أن تنصرت اليونان بعد ظهور الدين المسيحي بقليل، فمذ دانت هذه الأمة بالدين الجديد بدأت بالتردي والانحطاط وفقد مزاياها القديمة، ولم تزل تنحط قرنا عن قرن، وتتدهور بطنا عن بطن، إلى أن صارت بلاد اليونان ولاية من جملة ولايات السلطنة العثمانية، ولم تعد إلى شيء من النهوض والرقي إلا في القرن الماضي، وأين هي مع ذلك الآن مما كانت قبل النصرانية؟
أفيجب أن نقول: إن النصرانية كانت المسئولة عن انحطاط اليونان هذا؟!
إن القائلين بأن الإسلام قد كان سبب انحطاط الأمم الدائنة به لا مفر لهم من القول بأن النصرانية قد أدت أيضا إلى انحطاط اليونان التي كانت من قبلها عنوان الرقي.
ثم كانت رومية في عصرها الدولة العظمى التي لا يذكر معها دولة، ولا يؤبه في جانب صولتها لصولة، ولم تزل هكذا هي المسيطرة على المعمور إلى أن تنصرت لعهد قسطنطين، فمنذ ذلك العهد بدأت بالانحطاط مادة ومعنى، إلى أن انقرضت أولا من الغرب، وثانيا من الشرق، ولم تسترجع رومية بعد انقراض الدولة الرومانية شيئا من مكانتها الأولى، وبقيت على ذلك مدة 15 قرنا حتى استأنفت شيئا من مجدها الغابر.
وما هي إلى هذه الساعة ببالغة ذلك الشأو الذي بلغته أيام الوثنية.
أفنجعل تنصر الرومان هو العامل في انحطاط رومة وتدحرجها عن قمة تلك العظمة الشاهقة؟! لقد قال بهذا علماء كثيرون، كما قال آخرون مثل هذه المقالة في الإسلام، وكلا الفريقين جائر حائد عن الصواب.
فإن لسقوط الرومان بعد فشو الدين المسيحي فيهم، ولسقوط اليونان من قبلهم بعد أن تقبلوا دعوة بولس إلى النصرانية أسبابا وعوامل كثيرة من فساد الأخلاق، وانحطاط الهمم، وانتشار الخنا والخلاعة، وشيوع الإلحاد والإباحة، ومن هرم الدول الذي يتكلم عنه ابن خلدون، وغير ذلك من أسباب السقوط الداخلية؛ منضمة إليها غارات البرابرة من الخارج، فكانت ثمة أسباب قاسرة مؤدية إلى السقوط الذي كان لا بد منه، فلو فرضنا أن النصرانية لم تكن جاءت وقتئذ لم يكن الرومان ولا اليونان نجوا من عواقب تلك الحوادث، ولا تخطتهم نتائج تلك الأسباب.
فدعوى بعض المؤرخين الأوروبيين أن تغلب المسيحية على اليونان والرومان أخنى على عظمتها، وذهب بمدينتها، ليس فيه من الصحيح إلا كون الأوضاع الجديدة تذهب بالأوضاع القديمة؛ سنة الله في خلقه، وأنه في هيعة هذا التحول لا بد من اضطراب الأحوال وانحلال القواعد واستحكام الفوضى، وإلا فلا أحد يقدر أن يقول: إن الوثنية أصلح للعمران من النصرانية.
2
وهذه الدعوى كادت تكون أشبه بدعوى أعداء الإسلام الذين يزعمون أن الشرق كان رائعا في بحابح العمران، فجاء الإسلام وطمس المدنيات الشرقية القديمة! لولا أن الحقيقة هي كما قدمنا أن المدنيات الشرقية كانت كلها قد انقرضت أو انحطت قبل ظهور الإسلام بكثير، وأن الإسلام وحده لا غيره هو الذي جدد مدنية الشرق الدارسة، واستأنف صولته الذاهبة الطامسة، وبعث تلك الحواضر العظمى الزاخرة بالبشر كبغداد والبصرة وسمرقند وبخارى ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة وهلم جرا، فإن كانت قد بقيت للشرق آثار مدنيات قديمة فإن الإسلام هو الذي وطد بوانيها، وطرز حواشيها، وحمل السيف بيد والقلم بيد إلى أبعد ما تصوره العقل من حدود الأقطار التي لم يسبق لشرقي أن يطأها بقدمه.
فإذا كان الإفرنج الصليبيون من الغرب، وكان المغول أولئك الجراد المنتشر من الشرق، قد دمروا ما بنى الإسلام في تلك الممالك، ونسفوا عمران هاتيك الحواضر، وكانت منافسات ملوك الإسلام الداخلية للشهوات، وإمعانهم في الضلالات، ومحيدهم عن جادة القرآن القويمة، وفقدهم ما يزرعه في الصدور من الأخلاق العظيمة، وقد قضت في الداخل، على ما عجز عن تعفيته العدو من الخارج، فليس الذي في هذا التقلص ذنب الإسلام، ولا التبعة في هذا الانقلاب عائدة على القرآن، وإنما الذنب هو ذنب الهمج من الإفرنج، وجناية ذلك الجراد الزحاف من المغول، وإنما هي تبعة المسلمين الذين رغبوا عن أوامر كتابهم واشتروا بآياته ثمنا قليلا، إلا النادر منهم.
وأيضا فقد تنصرت الأمم الأوروبية في القرن الثالث والرابع والخامس والسادس من ميلاد المسيح، وبقيت أمم في شرقي أوروبة إلى القرن العاشر حتى تنصرت، ولم تنهض أوروبة نهضتها الحالية التي مكنتها تدريجا من هذه السيادة العظمة بقوة العلم والفن إلا من نحو أربع مئة سنة أي من بعد أن دانت بالإنجيل بألف سنة، ومنها بعد أن دانت به بسبعماية سنة، ومنها بثمان مئة سنة، ... إلخ.
وهذه هي القرون المسماة في التاريخ بالقرون الوسطى، ولا نقول: إن الأوروبيين كانوا في هذه القرون بأجمعهم هائمين في ظلمات بعضهم فوق بعض، بل نقول: إن العرب كانوا أعلى كعبا منهم بكثير في المدنية بإقرار مؤرخيهم، وبرغم أنف لويس برتران وأضرابه.
ومن الكتب المخرجة حديثا الشاهدة بذلك: التاريخ العام للكاتب الفيلسوف الإنكليزي «ولز» و«تاريخ مدنيات الشرق» لمؤلف إفرنسي متخصص في التواريخ الشرقية اسمه «غروسه» فالحقيقة التاريخية المجمع عليها هي واحدة في هذا الموضوع، لم يظهر ما ينقضها ولن يظهر؛ وهي: إن العرب في القرون الوسطى كانوا أساتيذ الأوروبيين، وكان الواحد من هؤلاء إذا تخرج على العرب تباهى بذلك بين قومه.
سبب تأخر أوروبا الماضي ونهضتها الحاضرة
أفنجعل هذا التأخر الذي كان عليه الأوروبيون في القرون الوسطى مدة ألف سنة ناشئا عن النصرانية التي كانت دينهم الذي يعضون عليه بالنواجذ؟!
نعم؛ إن الأمم البروتستانتية منهم تجعل مصدر هذا التأخر الكنيسة البابوية لا النصرانية من حيث هي، وتزعم أن نهضة أوروبة لم تبدأ إلا بخروج (لوثير، وكلفين) على الكنيسة الرومانية.
وأما فولتير ومن في حزبه من أقطاب الملاحدة فلا يفرقون كثيرا بين الكاثوليك والبروتستانت، وعندهم أن جميع هذه العقائد واحدة، وأنها عائقة عن العمل والرقي، ولهذا قال فولتير تلك الكلمة عندما ذكر لديه لوثير، وكلفين، قال: «كلاهما لا يصلح أن يكون حذاء لمحمد
3 » يرى أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
بلغ من الإصلاح ما لم يبلغا أدناه، مع اعتقادم الكثير أن مذهبهما كان فجر أنوار أوروبا.
4
والحق الذي لا يرتاب فيه أن النصرانية نفسها لم تكن هي المسئولة عن جهالة الإفرنج المسيحيين مدة ألف سنة في القرون الوسطى، بل للمسيحية الفضل في تهذيب برابرة أوروبا.
وهؤلاء اليابانيون هم وثنيون، ومنهم من هم على مذهب بوذا، ومنهم من يقال لهم: طاويون ، وكثيرون منهم يتبعون الحكيم الصيني كنفوشيوس، ولقد مضى عليهم نحو ألفي سنة ولم تكن لهم هذه المدنية الباهرة ولا هذه القوة والمكانة بين الأمم، ثم نهض اليابان من نحو ستين سنة وترقوا وعزوا وغلظ أمرهم، وعلا قدرهم، وصاروا إلى ما صاروا إليه ولم يبرحوا وثنيين.
فلا كانت الوثنية إذا سبب تأخرهم الماضي ولا هي سبب تقدمهم الحاضر، وقد تفاوت اليابان والروسيا وتحاربتا فتغلبت اليابان على روسيا؛ مع أن اليابانيين في العدد هم نصف الروس، ولكن مما لا شك فيه أن اليابانيين أرقى من الروس، والحال أن روسية عريقة في النصرانية، واليابان عريقة في الوثنية.
فليترك إذا بعض الناس جعل الأديان هي المعيار للتأخر والتقدم.
5
أفنقول من أجل هذا المثال: إن الإنجيل هو الذي أخر روسيا عن درجة اليابان، وإن عبادة الآلهة ابنة الشمس هي التي جذبت بضبع اليابان حتى سبقت روسيا؟!
إن لهذه الحوادث أسبابا وعوامل متراكمة ترجع إلى أصول شتى، فإذا تراكمت هذه العوامل في خير أو شر تغلبت على تأثير الأديان والعقائد، وأصبحت فضائل أقوم الأديان عاجزة بإزاء شرها، كما أصبحت معايب أسخفها غير مؤثرة في جانب خيرها.
ولسنا هنا في صدد أسباب تقدم اليابان السريع حتى نبين أن اعتقاد عامتهم (وجود حصان مقدس يركبه الإله فلان) لم يقف حائلا دون تقدمهم المبني على ما ركب في فطرتهم من الحماسة، وما أوتوا من الذكاء، وما أورثهم نظام الإقطاع القديم من التنافس في المجد والقوة.
وعندنا أمثلة كثيرة تكاد لا تحصى في هذا الباب اجتزأنا منها بما ذكرناه، ولم نكن لنتعرض لهذا المقام لولا حملات القسوس والمبشرين وكثير من الأوروبيين على الإسلام، وزعمهم أنه عنوان التأخر، وأنه رمز الجمود، وتحدثهم بذلك في الأندية والمجامع ونشرهم هذه الافتراءات في المجلات والجرائد، وقولهم: إن الشجرة تعرف من ثمارها، وإن حالة العالم الإسلامي الحاضرة هي نتيجة جمود الإسلام، وتحجر القرآن.
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
6
وحسبك أن المسيو سان (المقيم الإفرنسي السامي) في المغرب ينشر في العدد الأخير من (مجلة الأحياء) الإفرنسية مقالة يتكلم فيها على يقظة المغرب بعد (ليل الإسلام)! هكذا تعبيره.
فإن كان تأخر إحدى الممالك الإسلامية حقبة من الدهر يجب أن يقال فيه (ليل الإسلام) فكم كان ليل النصرانية طويلا عندما بقيت أوروبة المسيحية زهاء ألف سنة وهي في حالة الهمجية أو ما يقرب من الهمجية.
إن إدخال الأديان في هذا المعترك وجعلها هي وحدها معيار الترقي والتردي ليس من النصفة في شيء، أما الإسلام فلا جدال في كونه هو سبب نهضة العرب وفتوحاتهم المدهشة مما أجمع على الاعتراف به المؤرخون شرقا وغربا، ولكنه لم يكن سبب انحطاطهم فيما بعد كما يزعم المفترون الذين لا غرض لهم سوى نشر الثقافة الأوروبية بين المسلمين دون ثقافة الإسلام، وبسط سيادة أوروبة على بلدانهم، بل كان السبب في تردي المسلمين هو أنهم اكتفوا في آخر الأمر من الإسلام بمجرد الاسم، والحال أن الإسلام اسم وفعل.
هوامش
حث القرآن على العلم
باعث للمسلمين على سبق الأمم في الرقي
العالم الإسلامي يمكنه النهوض والرقي واللحاق بالأمم العزيزية الغالبة إذا أراد ذلك المسلمون ووطنوا أنفسهم عليه، ولا يزيدهم الإسلام إلا بصيرة فيه وعزما، ولن يجدوا لأنفسهم حافزا على العلم والفن خيرا من القرآن الذي فيه:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
1
والذي فيه:
وزاده بسطة في العلم .
2
والذي فيه:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم .
3
والذي فيه:
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط .
4
والذي فيه:
بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم .
5
والذي فيه:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات .
6
والذي فيه:
ويعلمهم الكتاب والحكمة .
7
وفيه:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
8
وفيه:
فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما .
9
وغير ذلك من الآيات الكريمة، وفيه ما هو خاص بالأمة العربية:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
10
وقد زعم بعضهم - ومن جملتهم (سيكار) هذا الذي بالمغرب قد ألف كتابا في الطعن على الإسلام، وهو الذي يكتب في مجلة «مراكش الكاثوليكية» - أن المراد بلفظة «العلم» في القرآن هو العلم الديني، ولم يكن المقصود به العلم مطلقا لنستظهر به على قضية تعظيم القرآن للعلم وإيجابه للتعليم.
وقد أتى سيكار من المغالطة في هذا الباب ما لا يستحق أن يرد عليه؛ لما فيه من المكابرة في المحسوس، وكل من تأمل مواقع هذه الآيات المتعلقة بالعلم وبالحكمة وغيرها مما يحث على السير في الأرض والنظر والتفكير يعلم أن المراد هنا بالعلم هو العلم على إطلاقه متناولا كل شيء، وأن المراد بالحكمة هي الحكمة العليا المعروفة عند الناس، وهي غير الآيات المنزلة والكتاب كما يدل عليه العطف، وهو يقتضي المغايرة، ويعزز ذلك الحديث النبوي الشهير: «اطلبوا العلم ولو في الصين».
11
فلو كان المراد بالعلم هو العلم الديني - كما زعم سيكار - ما كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يحث على طلبه ولو في الصين؛ إذ أهل الصين وثنيون؛ لا يجعلهم النبي مرجعا للعلم الديني كما لا يخفى.
وفي بعض الآيات من القرائن اللفظية والمعنوية ما يقتضي أن المراد بالعلم علم الكون؛ لأنه في سياق آيات الخلق والتكوين، وهي في القرآن أضعاف الآيات في العبادات العملية؛ كالصلاة والصيام؛ كقوله تعالى:
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء .
12
أي العلماء بما ذكر في الآية من الماء والنبات والجبال وسائر المواليد المختلفة الألوان وما فيها من أسرار الخلق، لا العلماء بالصلاة والصيام والقيام.
وقد كنا ظننا هذا الرجل على شيء من حب الحقيقة، فلما أنكر المدنية الإسلامية رددنا عليه من المنار وجادلناه بالتي هي أحسن، وعظمنا من قدر المدنية المسيحية، ووقرنا منها، ورددنا على القائلين من الأوروبيين بأن النصرانية كانت وقفا لسير المدنية، وسببا لسقوط اليونان والرومان ، إلى غير ذلك.
فكان من سيكار هذا أن نشر سلسلة مقالات تتضمن من الطعن على الإسلام ما لو جئنا برده لم نستغن عن إيراد شبه واعتراضات تتعلق بالدين المسيحي مما نأبى أن نتعرض له؛ لأنه ليس من العدل، ولا من الكياسة، ولا من حسن الذوق أن نغيظ إخواننا المسيحيين من أجل رجل اسمه سيكار أو غيره من هذه الطبقة من الدعاة والمبشرين، هذا زائدا إلى ما رأيناه في كلامه من الخلط والخبط والمغالطة التي من قبيل قوله: إن العلم المقصود في القرآن ليس هو العلم المعروف عند الناس بمفهومه المطلق، وإنما هو العلم الديني فقط؛ لأن القرآن لا يهمه شيء من علوم الدنيا! فمكابر كهذا لا يستحق الجواب.
ثم علمنا أن المسيو سيكار هذا هو من مستخدمي فرنسة في الرباط بإدارة الأمور الإسلامية، وأنه هو والمسيو لويس برينو مدير التعليم الإسلامي هناك، والقومندان ماركو مدير قلم المراقبة على الجرائد والمطبوعات، والقومندان مارتي مستشار العدلية الإسلامية ورهطا آخرين - هم الذين لعبوا الدور الأهم في قضية العمل لتنصير البربر.
وما كان استخدام فرنسة لهم في مهمات كلها عائدة للإسلام إلا على نية نقض كل ما يقدرون عليه من بناء الإسلام بالمغرب، وستذوق فرنسا ولو بعد حين وبال ما عملته وتعمله من التعرض للدين الإسلامي الذي تعهدت في معاهداتها باحترامه.
إنا لا نريد لفرنسا إلا خيرا ولكننا ننصح لها بالعدول عن هذه السياسة التي هي على خط مستقيم ضد المبادئ التي تعلنها عن نفسها من أن الأديان في نظرها على حد سواء! فإن كانت الأديان عند الدولة الإفرنسية على حد سواء؛ فلماذا هذا الاجتهاد في تنصير البربر وهم مسلمون؟! ولماذا هذه المساعي الحثيثة في تنصير العلويين سكان جبال اللاذقية، وفي فصلهم عن الوحدة السورية، والحال أن العلويين هم فرقة من الفرق الإسلامية كما لا يخفى؟! وكذلك ننصح الإنكليز بالعدول عن دعايتهم الدينية في السودان والأوغاندة، وننصح لهولاندة بترك دعايتها الدينية بين مسلمي إندونيسيا.
كلمة لطلاب النهضة القومية دون الدينية
يقول بعض الناس
13
ما لنا وللرجوع إلى القرآن في ابتعاث همم المسلمين إلى التعليم! فإن النهضة لا ينبغي أن تكون دينية، بل وطنية قومية كما هي نهضة أهل أوروبة؟! ونجيبهم: أن المقصود هو النهضة؛ سواء كانت وطنية أم دينية
14
على شرط أن تتوطن بها النفوس على الخب في حلبة العلم، ولكننا نخشى إن جردناها من دعوة القرآن أن تفضي بنا إلى الإلحاد والإباحة وعبادة الأبدان واتباع الشهوات، مما ضرره يفوت نفعه، فلا بد لنا من تربية علمية سائرة جنبا إلى جنب مع تربية دينية، وهل يظن الناس عندنا في الشرق أن نهضة من نهضات أوروبا جرت دون تربية دينية؟! وهل جرت نهضة اليابان دون تربية دينية؟!
أفلم يقل رئيس نظار ألمانيا في الرايستاغ منذ ثلاث سنوات: إن ثقافتنا مبنية على الدين المسيحي؟ وهذه هو إعلان ألمانيا التي هي المثل الأعلى في العلم والصناعة وإتقان الآلات والأدوات، لا ينازع في ذلك أحد، ولا أعداؤها.
أفتوجد جامعة في ألمانيا أو إنكلترا أو غيرهما من هذه الممالك الراقية من دون أن يكون فيها علم اللاهوت المسيحي؟!
15
ثم إنهم عندما يقولون: في أوروبا (نهضة وطنية) أو (نهضة قومية) أو جامعة وطنية أو قومية، لا يكون مرادهم بالوطن: التراب والماء والشجر والحجر، ولا بالقوم: السلالة التي تنحدر كلها من دم واحد، وإنما الوطن والقوم عندهم لفظتها تدلان على وطن وأمه بما فيهما من جغرافية وتاريخ وثقافة وحرث وعقيدة ودين وخلق وعادة؛ مجموعا ذلك معا، وهذا الذي يناضلون عنه، ويستبسلون كل هذا الاستبسال من أجله.
هوامش
أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير
من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير فقدهم كل ثقة بأنفسهم؛ وهو من أشد الأمراض الاجتماعية، وأخبث الآفات الروحية، لا يتسلط هذا الداء على إنسان إلا أودى به، ولا على أمه إلا ساقها إلى الفناء وكيف يرجو الشفاء عليل يعتقد بحق أو بباطل أن علته قاتلته؟! وقد أجمع الأطباء في الأمراض البدنية أن القوة المعنوية هي رأس الأدوية، وأن أعظم عوامل الشفاء إرادة الشفاء، فكيف يصلح المجتمع الإسلامي ومعظم أهله يعتقدون أنهم لا يصلحون لشيء، ولا يمكن أن يصلح على أيديهم شيء، وأنهم إن اجتهدوا أو قعدوا فهم لا يقدرون أن يضارعوا الأوروبيين في شيء؟!
وكيف يمكنهم أن يناهضوا الأوروبيين في معترك وهم موقنون أن الطائلة الأخيرة ستكون للأوروبيين لا محالة؟! فصال مثلهم مع هؤلاء مثل أولئك الأقران الذين كان يبطش بهم سيدنا علي - رضي الله عنه - في وقائعه؛ فقد حدثوا أنه سمعت له في صفين أربع مئة تكبيرة، وكان من عادته - كرم الله وجهه - أنه يكبر كلما صرع قرنا، فقيل له في ذلك؛ فأجاب: كنت إذا حملت على الفارس ظننت أني قاتله؛ فكنت أنا ونفسه عليه.
وهكذا أصبح المسلمون في الأعصر الأخيرة يعتقدون أنه ما من صراع بين المسلم والأوروبي إلا سينتهي بمصرع المسلم ولو طال كفاحه، وقر ذلك في نفوسهم، وتخمر في رءوسهم، لا سيما هذه الطبقة التي تزعم أنها الطبقة المفكرة العاقلة المولعة بالحقائق، الصادفة عن الخيالات - بزعمها - فإنها صارت تقرر هذه القاعدة المشئومة في كل ناد، وتجعل التشاؤم المستمر والنعاب الدائم من دلائل العقل وسعة الإدراك، وتحسب اليأس من صلاح حال المسلمين من مقتضيات العلم والحكمة وما زالت تنفخ في بوق التثبيط، وتبث في سواد الأمة دعاية العجز؛ إلى أن صار الاستخذاء ديدن الجميع إلا من رحم بك، وكانت روحه من أصل فطرتها قوية عزيزة.
ولم تقتصر هذه الفئة على القول بأن حالة المسلمين الحاضرة هي متردية متدنية لا تقاس بحالة الإفرنج في قليل ولا كثير بل زعمت أن التعب في مجاراة المسلمين للإفرنج في علم أو صناعة أو كسب أو تجارة أو زراعة أو حرب أو سلم أو أي منحى من مناحي العمران هو ضرب من المحال، وشغل بالعبث لا يليق بالعاقل إتيانه، وكأن المسلمين من طينة، والإفرنج من طينة أخرى، فعلو الإفرنج على المسلمين أمر لا بد منه؛ وكأنه كتب في اللوح المحفوظ وجف به القلم، ولم يبق أمام المسلمين إلا أن يعلموا كونهم طبقة منحطة عن طبقة الإفرنجة ويعملوا بمقتضى هذه العقيدة.
وكثيرا ما وقعت لي مجادلات مع هؤلاء المفلسفين بالفارغ صغار النفوس، ولم يكن يدخل في عقولهم المنطق، ولا يعظهم التاريخ، ولا ينفع في إقناعهم علم الطبيعة ولا التشريح، ولا يحيك بهم استنتاج ولا قياس؛ وذلك لما غلب عليهم من آفة الذل، ومرض الاستخذاء، وقد أحس الأوروبيون بما عند المسلمين من هذه الحالة الروحية الموافقة لمصالحهم الاستعمارية، فصاروا يروجونها فيهم، ويقووون عندهم هذه العقيدة، فانطبق على هؤلاء الناعقين بالبين الآية الشريفة:
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا .
1
ولم يكن الإفرنجة وسعاتهم ودعاتهم بملومين على ترويج هذه النظريات التاعسة بين المسلمين؛ لأنها مما يسهل الاستعمار ويمهد طرقه ويكفيهم المقاتلات والمنازلات ويوفر عليهم المزاحمات والسابقات، ويجعل لهم التفوق بلا نزاع، والتسلط دون جدال ولكن العجب كل العجب من هؤلاء المسلمين الذين أمرهم الله ليتصفوا بالعزة ويتسموا بالأنفة ويستوفوا تمام الرجولة كيف كانوا ينقادون لهذه الأضاليل التي مآلها عبوديتهم للأجانب، لقد صدق فيهم كلام الله - تعالى:
وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين .
2
وأكثر ما كانوا يؤكدونه للناس من عدم قابلية المسلمين هو استحالة قيامهم بالمشروعات العمرانية والأعمال المادية وكل ما يتعلق به حساب ورقم أو مساحة وقياس؛ فإذا قلت لهم: إن كان المسلمون لا يحسنون هذه العلوم كما تزعمون فكيف استطاعوا أن يؤثروا هذه الآثار الباهرة التي يؤمها السياح من أقاصي الدنيا وكيف ملئوا مصر والشام والعراق والمغرب وإيران والهند والقسطنطينية وغيرها مباني ومؤسسات تبهر الأبصار وتحير الأفكار وكانت لهم معامل ومناسج ودور صناعات متنوعة وغير ذلك مما يعد في الصناعة من الطراز الأول؟ أجابوك: قد كان هذا قبل أن يرقى الإفرنج هذا الرقي الحديث، وقبل أن يكشفوا أسرار الكون التي كشفوها وغير ذلك مما ليس بجواب عن هذا الخطاب والموضوع، هو في واد، وهذا في واد.
فنحن نريد أن نقول: إن كل من سار على الدرب وصل، وإن المسلمين إذا تعلموا العلوم العصرية استطاعوا أن يعملوا الأعمال العمرانية التي يقوم بها الإفرنج، وإنه ليس هناك فرق في القابلية البشرية؛ ولكن على شرط أن ينفض المسلمون عن أنفسهم غبار الخمول، ويلغوا هذه القاعدة التي قد كانت من أسباب شقائهم زمنا طويلا؛ وهي أن كل عمل عمراني في الشرق لا بد من أن يستعار له شركة أوروبية لتقوم به وإلا فلا يستطاع عمله، ولقد أتت التجارب بعد ذلك بما يثبت فساد هذه النظرية بتمامها، وتمكن المسلمون في كثير من البلاد من إنشاء شركات صناعية وتجارية وتأسيس معامل ومناسج ودور صناعة نجحت نجاحا باهرا كذب مزاعم تلك الفئة المثبطة وصيرها موضوعا للهزء.
ولما عزم السلطان عبد الحميد الثاني العثماني على مد سكة حديدية من دمشق إلى الحرمين الشريفين قوبل هذا المشروع أوانئذ بمزيد الاستغراب تبعا للعادة، ومن الناس من ضحكوا به وقالوا: نحن نرى أنفسنا عاجزين عن إنشاء طريق عجلات، فكيف نستطيع أن ننشئ سكة حديدية طولها يزيد عن ألفي كيلو متر وأنى لنا المال والعلم اللازمان لمشروع عظيم كهذا؟! وأغرب من تشاؤم المسلمين وشعورهم بالعجز عن القيام بهذا العمل أن المهندس الألماني الكبير مايستر باشا الذي انتدبه السلطان لرئاسة مهندسي هذا الخط هو نفسه كان لا يعتقد إمكان إنشاء هذا الخط، وكان هذا الرجل صديقي فسألته مرة عن رأيه فيه فقال: لي إنه يرجو إيصاله إلى معان وهي مسافة أربع مئة كيلو متر من دمشق، فأما مده من معان إلى المدينة فيكاد يكون من المستحيل. فسألته: هل ذلك من عدم وجود المال؟
قال: على فرض وجد المال فإن دون إنشاء الخط موانع طبيعية يتعذر التغلب عليها؛ فإن السكة يلزم لها ماء في كل محطة، والماء لا يوجد إلا في محطات معدودة، وإن أنشأنا صهاريج تملأ بماء المطر لم يؤمن أن الحرارة في الصيف تنشف بشدتها مياه الصهاريج، وهناك صعوبة أخرى وهي أن الخط سيمتد في أمكنة كلها رمال، وقد تهب الرياح السافياء فتأتي برمال تغطي الخط، ولا يمكن منع ذلك إلا بزرع الحلفاء والقصب والطرفاء، وكل هذا يلزمه ماء حتى ينمو؛ وأين الماء من تلك الأراضي؟! هذا كان كلام المهندس الكبير لي من جهة الطبيعة، ثم ذكر الخطر الواقع على الخط من أعراب البادية.
فأما أنا فكنت معتقدا خلاف اعتقاد الآخرين قائلا بأن ليس ثمة صعوبات لا يستطاع تذليلها، وكنت من الذين ينددون بالمتشائمين والمتهكمين، ونظمت في هذا المشروع قصيدة أحث بها الأمة على التبرع لأجله، وتبرعت أنا من جيبي بخمسة عشر جنيها، وذكرت ما سيكون لهذا الخط من الفوائد العمرانية والاقتصادية والعسكرية؛ فضلا عن تسهيل الحج الذي هو هدفه الأسمى، وكان مطلع قصيدتي:
ألا يا بني الإسلام هل من مساعد
لفعل سماوي المثوبة ماجد
فلما طبعت القصيدة ونشرتها سلقني الكثيرون من أولئك الغربان بألسنة حداد؛ وكأني كفرت في تنويهي بمشروع يربط الشام بالحجاز ويختصر المسافة بينهما على الحجاج من 40 يوما إلى أربعة أيام وهزءوا ما شاءوا، وتمنطقوا بقدر ما أرادوا، ولكن كل تلك الفلسفة لم تجدهم فتيلا ونجز الخط الحديدي من دمشق إلى المدينة المنورة؛ وهي مسافة ألف وأربع مئة كيلو مترا، ولولا خلع السلطان عبد الحميد لكان قد تم إلى البلد الحرام، ولكن من بعده فترت الهمة بإكماله، وجاءت الحرب وعواقبها فقضت بإهماله.
ثم إن هذا الخط جاء من أبدع الخطوط الحديدية في العالم، صادفت مرة فيه أحد كبراء مسلمي الهند من أعضاء مجلسها الأعلى وهو ممن تثقفوا ثقافة إنكليزية محضة وتخرج من جامعة أكسفورد فقال لي: لا يوجد في نفس إنكلترة سكة حديدية تضاهي في الإتقان هذه السكة، ولو لم أشاهدها بعيوني ما صدقت بوجودها. وبالفعل لم يصدق كثير من المسلمين أخبارها فأرسلوا وفودا يشاهدونها بأعينهم، فكان المسافر يصل من دمشق إلى المدينة في ليلتين، وكانت دمشق تستفيد كل سنة من هذا الخط ما يقارب 200 ألف جنيه، وعمرت القرى التي مر بها الخط، وارتفعت أثمان الأراضي ارتفاعا مدهشا، وتضاعف عمران المدينة المنورة أضعافا، هذا فضلا عما توفر من المشاق والأخطار على الحجاج والزائرين، والتجار والمسافرين.
وأما الصعوبات الطبيعية التي كانوا يقدرونها فلم يصح منها شيء، وأما الأعراب فلم يقع منهم على الخط أدنى اعتداء، وكان عند كل محطة من محاط الخط قلعة فيها جند للمحافظة، وكل تلك المحطات والقلاع كانت مبنية أمتن بناء، ولما كان لا يتاح لغير المسلمين دخول أرض الحجاز فكان إنشاء الخط؛ أي القسم الداخل منه في الحجاز كله على أيدي مهندسين مسلمين، حتى إن مايستر باشا الألماني نفسه لم يتجاوز في إشرافه بلدة تبوك.
ولما ذهبت إلى المدينة المنورة زائرا للنبي
صلى الله عليه وسلم
وذلك سنة 1330ه، كنت أسمع أن عدم مد الخط الحديدي من المدينة إلى مكة نشأ عن اعتراض قبائل العرب من حرب وغيرها، وأنهم لا يسمحون بمرور الخط في أراضيهم، ففحصت هذه القضية فوجدت أكثرها هراء وافتراء، وسألت شيوخ القبائل عما يقال من معارضتهم في إنشاء السكة؛ فقالوا: لو كنا معارضين لإنشائها لعارضنا ذلك من أول دخولها في أرض الحجاز، والحال أننا كنا مساعدين للحكومة على هذا المشروع بكل قوانا، فسألتهم التوقيع على عريضة للدولة يطلبون فيها تمديد هذا الخط من المدينة إلى مكة فوقع عليها جم من أولئك المشايخ، ولم تكن الدولة عهدت إلي بهذه المهمة، وإنما قمت بها خدمة للوطن وللملة.
ولولا طروء الحرب العامة بعد ذلك بقليل لكان بوشر بمد الخط الحديدي من المدينة إلى مكة، فلما انتهت الحرب العامة واحتلت إنكلترة فلسطين وفرنسا سوريا كان أول ما توجهت إليه همم الإنكليز والفرنسيس هو تعطيل هذا الخط الحديدي الذي يربط القطر الشامي بجزيرة العرب ويقرب صلات المسلمين بعضهم ببعض.
وكم احتج المسلمون على تعطيل هاتين الدولتين لهذا الخط الحيوي للشام والحجاز، وكم أبدوا وأعادوا في أن هذه السكة الحديدية الحجازية كانت تركيا قد جعلتها من جملة أوقاف المسلمين فلا يحق لدولة أجنبية أن تعبث بأوقافهم! فلم يكن ذلك ليقنع تينك الدولتين بالاعتدال ورفع الاعتداء، ولا تزال هذه المؤامرة الفظيعة على هذا الحق المقدس من حقوق المسلمين نافذة إلى يوم الناس هذا، فإذا قام شخص مثلنا يذكرهم بهذا الاعتداء القبيح ضاقت صدورهم به ودس عليه الإنكليز في السر، وطعن عليه الفرنسيس في الجهر، ونعتوه «بعدو فرنسا» وما أشبه ذلك .
والحال أننا إنما نريد صلاح أحوال بلادنا، ولا نضمر لأحد سوءا، والشاهد الذي نقصده هنا هو ما سبق إنشاء سكة الحجاز من تشاؤم كثير من المسلمين، واستهزائهم واستنكارهم وتأكيد أنه خط محال إنشاؤه، ومشروع يكون من قلة العقل تعليق الأمل به، وهذا مثال من أمثلة كثيرة لا يمكن استقصاؤها من كثرتها؛ فقلما تدخل بلدا من بلدان الإسلام، ولا يوردون لك من هذه الأمثال.
وكما ظن المسلمون أنهم لا يحسنون شيئا من المشروعات العمرانية، وأنه لا بد لهم من الأوروبي حتى يدخلوا الإصلاح في بلادهم، وأنه من دون الإفرنجي لا يقدرون على أية عمارة ولا مرفق ذي بال، كذلك ذهبوا إلى أنه لا حظ لهم في الأعمال الاقتصادية أصلا، وأن كل مشروع اقتصادي إسلامي صائر إلى الحبوط إن لم تكن له أركان إفرنجية، وقد طال نومهم على هذه العقيدة الفاسدة حتى لم يبق في بلادهم شيء اسمه اقتصاد إلا كانت إدارته بأيدي الإفرنج أو اليهود، وحتى لو دعا منهم داع إلى تأليف شركة تجارية أو صناعية أو زراعية لم يدخلها صاحب رأس مال من المسلمين إلا إذا كانت إدارتها بيد إفرنجي أو يهودي، وكلمة الجميع عندهم: نحن لا يخرج من أيدينا عمل ولا نصلح لشيء.
وقد بقي اليهود والإفرنجة يتمتعون بخيرات بلاد الإسلام قرونا وحقبا طوالا دون مزاحم ولا مراغم، ويستدرون فيها أخلاف كل صنعة، ويستورون زناد كل مرفق إلا ما ليس له بال حتى ولو قدر ما ضاع على المسلمين في ظل هذا الوهم بالمليارات وعشرات المليارات ما كانت فيه مبالغة وكأن المسلمين لم يوجدوا في الدنيا إلا عملة أو أكرة يشتغلون بأيديهم، ولا يشتغلون بعقولهم.
وبهذا السبب خلا الميدان في بلاد الإسلام لأصناف الأجانب يركضون فيه جياد قرائحهم وعزائمهم، ويجمعون الثروات التي ليس وراءها متطلع لمزيد؛ وذلك على ظهور المسلمين ومن أكياسهم، وقد يكثر التحدث بما يصيب الأجانب من هذه المكاسب الطائلة التي كان أهل الإسلام أولى بها؛ لأنها من بلادهم ولا تحفزهم همة ولا تأخذهم غيرة فيجربون الخب في الحلبات الاقتصادية إلى أن نبغ في مصر محمد طلعت باشا حرب، فكان في هذا الباب أمة وحده، وأدرك بواسع عقله وثاقب فكره أن ليس في هذا الموضوع شيء يفوق طاقة المسلمين، ولا مما يتعذر وجود أدواته عندهم، وأن قصورهم فيه عن مباراة الأجانب لم يكن إلا من آثار ذلك التوهم القديم الذي هو أنهم لا يحسنون الجري في أي ميدان من ميادين الاقتصاد، وقد وجدت عند هذا الرجل في جانب رجاحة العقل وسداد الحكم همة بعيدة قعساء، ونزعة وطنية صافية من الأقذاء، سالمة من الأهواء، فاجتمعت فيه جميع الشروط اللازمة لمن شاء أن يبدأ بالشرق بنهضة اقتصادية تزاحم بالمناكب وثبات الأجانب، ومما يندر في الرجال الجمع بين الحساب الدقيق والخيال الواسع، وهما قد انتظما جنبا إلى جنب في دماغ طلعت باشا حرب، فكانت سعة خياله مساعدة له على الإقدام نحو المشروعات التي هي مظان الأرباح، وكانت دفة حسابه مساعدة له على نجاحها، وضمان أرباحها، وبالاختصار اقتحم طلعت حرب معركة هي الأولى من نوعها في المجتمع الشرقي.
وعندما باشر جمع رأس المال الذي كان حدده لإنشاء بنك مصر وهو 80 ألف جنيه عانى في ذلك أهوالا، ونحت جبالا؛ وذلك لما ران على عقول المسلمين من أنهم لا يقدرون على الاستقلال بعمل اقتصادي، وأن كل عمل منهم في هذا السبيل حابط من نفسه، هابط على أم رأسه، فلما أخذ طلعت باشا حرب يتقاضى أغنياء مصر المشاطرة في هذا المشروع لبوا نداءه؛ حياء منه، لا اعتقادا بأنه سيأتي بثمرة، وبقيت ثقتهم بأجمعها في بنوك الأجانب، وما زال معولهم عليها إلى أن شاهدوا بأعينهم النجاح الذي كاد يكون معجزة في نظرهم، وارتفع رأس مال بنك مصر من 80 ألف جنيه إلى مليون جنيه، واحتوت خزائنه من الودائع على عدة ملايين من الجنيهات، واشتمل على أملاك وملفات وشركات متعددة متنوعة تقدر بملايين أخرى من الجنيهات؛ بحيث زادت الأموال التي تحت تصرف البنك على عشرين مليون جنيه، وكل هذا في ثماني عشرة سنة أنشأ فيها طلعت باشا حرب ومدحت باشا يكن ورفاقهما على حساب بنك مصر شركة مصر للغزل والنسج التي معملها في المحلة هو من أكمل وأعظم معامل الغزل والنسيج في العالم يعمل فيه 18 ألف عامل يندر فيهم غير المصري، ويسد من المنسوجات القطنية ثلث حاجة القطر المصري بأجمعه، فيكون قد وفر على المملكة المصرية ثلاثة ملايين جنيه سنويا، كانت من قبل تخرج من جيوب المصريين لتدخل في جيوب الأوروبيين.
وهناك من توابع بنك مصر شركة مصر لنسج الحرير، وشركة مصر للتمثيل والسينما، وكل هذه نالت معروضاتها الجوائز الكبرى في المعرض الدولي الباريزي سنة 1937 ثم شركة مصر لمصايد الأسماك، وشركة مطبعة مصر، وشركة مصر للطيران، وشركة مصر للسياحة، وناهيك بشركة مصر للملاحة البحرية وما أنشأته من المنشآت الجواري كالأعلام؛ مثل: زمزم، والكوثر، والنيل، وغيرها؛ مما كاد يكون كالأحلام، فصار الحجاج يبلغون الحجاز على بواخر يرون بها أنفسهم في مثل قصور الملوك؛ فراهة، ورفاهة، وراحة، ونعيما، ومقاما كريما، وصار سياح مصر الكثيرون إلى أوروبا في فصل الصيف يركبون تحت العلم المصري الشريف بواخر لو قرنت ببواخر الأمم الأوروبية لحلت بينها في الصف الأول، هذا بعد أن قضينا كل الدهر نسير ونسري في البواخر الأجنبية ونؤدي إليها أموالنا بلا سبب سوى قصور هممنا عن إنشاء بواخر خاصة بأوطاننا؛ بها ركوبنا، وعليها نقل بضائعنا، وليس هنا محل تفصيل مشروعات طلعت باشا حرب باعث النهضة الاقتصادية في الشرق لنخوض في هذا العباب، ولا مقصدنا تمجيده والإشادة بمآثره ولو بالحقيقة، وإنما كان إيرادنا هذه القصة على سبيل المثال لما كان عليه المسلمون من الجبن في المواطن الاقتصادية إلى أن هب هذا الرجل مدير بنك مصر فأيقظهم من سباتهم، وأعلمهم أنهم رجال كما الأوروبيون رجال، وأنهم إذا شحذوا غرار عزائمهم وأعملوا أسنة قرائحهم قدروا على ما يقدر عليه الأجانب من الأعمال الاقتصادية الكبيرة.
وها نحن أولاء الآن نرى العاملين في بنك مصر وفي الشركات المضافة إليه ثلاثين ألف مستخدم وعامل كلهم مصريون؛ إلا النادر الأندر، وهكذا بدأ المسلمون يقتحمون معارك الحياة الاقتصادية في كل فن من فنونها، وتولدت عندهم في أنفسهم ثقة كانت محجوبة عنهم من قبل؛ بحيث إن أحمد حلمي باشا والسيد عبد الحميد شومان من فلسطين أسسا في القدس بنكا كل رأس ماله خمسة عشر ألف جنيه، وتوفقا - بحسن إدارتهما - إلى أن صيرا هذا البنك العربي الوحيد في القطر الشامي من البنوك المعدودة ذوي الفروع الكثيرة صار يشتمل على خمس مئة ألف جنيه.
وكذلك أسسا بنكا زراعيا شاطر في تأسيسه أكثر من خمسة آلاف مساهم من عرب فلسطين، وبلغ رأسماله نيفا ومئة ألف جنيه، فسدت بهذين البنكين الأمة العربية في فلسطين حاجتها، واستغنى ذوو الحمية منها عن الالتجاء إلى بنوك الأجانب، وفهم الناس أن هؤلاء ليسوا فوق الشرقيين، وأنهم لا يعجزون.
إنما جئنا بهاتين المسألتين للاستدلال على الأضرار الفظيعة التي كان يحدثها بالمسلمين عدم ثقتهم بأنفسهم.
ولعلهم بدءوا يتعافون الآن من هذا المرض الاجتماعي المهلك، والله غالب على أمره.
هوامش
هكذا إذا توجهت الهمم
الإصلاحات المعنوية والمادية في البلاد المقدسة
توالت على بلاد الإسلام المقدسة قرون وأحقاب كانت فيها أشد البلاد افتقارا إلى الإصلاح، وأقربها إلى الفوضى، وأقلها أمنة سبل وراحة سكان، وأكثرها عيثا وفسادا، وكانت هذه الحالة فظيعة جدا مخجلة لكل مسلم، مرمضة لكل مؤمن حجة ناصعة للأجانب على المسلمين الذين لا يقدرون أن ينكروا ما في الحجاز من اختلال السبل، واضطراب الحبل؛ مع كونه هو مهد الإسلام، ومركز الحجيج العام، في كل عام، إلى بيت الله الحرام، والمشاعر العظام، ومهوى قلوب يتأجج بها الغرام؛ لزيارة مرقد الرسول عليه الصلاة والسلام.
كل الأجانب يستظهرون بهذه الحالة على دعوى أن الإسلام لا يلتئم مع العمران، وأنه هو والفوضى توءمان، وأنه لو كان دينا عمرانيا لما كانت تكون هذه الحالة السيئة في مركزه، ولما عجز عن إقامة العدل والأمن في مأزره.
وحقيقة الحال هي أن تلك الفوضى لم تنشأ إلا عن إهمال العمل بقواعد الشرع الإسلامي، وعن إرخاء العنان لبعض الأمراء الذين كانوا يلون أمر الحجاز؛ مدلين على الناس بما لهم من النسب النبوي الشريف الذي كان يحول بين سلاطين الإسلام وبين تشديد الوطأة عليهم، أو إرهاف الحد فيهم، وقد كان هذا من خطل الرأي ومن التقصير في جانب الشرع؛ فإن الشريعة الإسلامية لا تعرف نسبا ولا حسبا.
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون .
1
وإن الله تعالى قد جعل التقوى فوق كل المناقب والمحامد، وقرر أن من قصر به عمله لم ينهض به نسبه، ومن المروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «ألا إن بعض آل بيتي يرون أنفسهم أولى الناس بي؛ وليس الأمر كذلك، إنما أوليائي المتقون؛ من كانوا وحيث كانوا، ألا إني لا أجيز لأهل بيتي أن يفسدوا ما أصلحت».
هذا حديث نقله لنا خاتمة المحدثين المرحوم السيد بدر الدين الحسني المغربي الدمشقي، وكيف كانت درجة ثبوته فهو مطابق لروح الشرع، تتفجر معانيه من كل ناحية من الكتاب.
ولهذا كان سلاطين الإسلام من وقت إلى آخر ينذرون من أمراء الحرمين من كانوا يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، ولقد ذهب مثلا ذلك الكتاب الذي كتبه أحد سلاطين مصر من المماليك إلى أحد أمراء مكة المكرمة؛ وهو الذي يقول فيه:
اعلم أن الحسنة في نفسها حسنة؛ وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة؛ وهي من بيت النبوة أسوأ، وقد بلغنا أنك بدلت حرم الأمن بالخيفة، وأتيت ما يحمر له الوجوه وتسود الصحيفة، فإن وقفت عند حدك؛ وإلا أغمدنا فيك سيف جدك.
ولا ينبغي أن يفهم من هنا أن هؤلاء الأمراء لم يكن فيهم إلا من استحق هذا الوصف، كلا؛ فقد وجد فيهم الأمراء العادلون، إلا أنه قد بقيت مع الأسف أحوال الحجاز غير مستوية، وأعراب البادية يسطون على الحجاج، وليس لداء معرتهم علاج، وكانت كل من الدولة العثمانية والدولة المصرية ترسل طوابير من الجند النظامي مصحوبة بالمدافع وسائر آلات القتال؛ لأجل خفارة قوافل الحج، وتؤدي إلى زعماء القبائل الرواتب الوافرة، وكل هذا لم يكن يمنع الأعراب ومن لا يخاف الله من الدعار من تخطف الحجاج في كل فرصة تلوح لهم.
وكثيرا ما كانت قافلة الحج تضطر إلى الرجوع وقد فاتها الحج أو الزيارة بعد أن قصدوا ذلك من مكان سحيق، وتكلفوا بذل الأموال، وتجشموا مشاق الأسفار في البر والبحر، فكانوا يذوبون من الشوق على ما فاتهم، ويتحرقون من الوجد، ويبكون بصيب الدمع، والناس بأجمعهم يحوقلون ويقولون: (ليس لها من دون الله كاشفة) ذاهبين إلى أن سطو الأعراب هؤلاء داء عضال لا تنفع فيه حيلة ولا وسيلة، وقد عمت بهم البلوى، وإلى الله المشتكى.
وهكذا توالت القرون والحقب والناس على هذا الاعتقاد لا يتزحزحون عنه إلى أن آل أمر الحجاز إلى الملك عبد العزيز بن سعود منذ بضع عشرة سنة؛ فلم تمض سنة واحدة حتى انقلب الحجاز من مسبعة تزأر فيها الضواري في كل يوم بل في كل ساعة إلى مهد أمان، وقرارة اطمئنان، ينام فيها الأنام بملء الأجفان، ولا يخشون سطوة عاد، ولا غارة حاضر ولا باد، وكأن أولئك الأعراب الذين روعوا الحجيج مدة قرون وأحقاب لم يكونوا في الدنيا، وكأن هاتيك الذئاب الطلس تحولت إلى حملان؛ فلا نهب ولا سلب ولا قتل ولا ضرب، ولو شاءت الفتاة البكر الآن أن تذهب من مكة إلى المدينة، أو من المدينة إلى مكة، أو إلى أية جهة من المملكة السعودية وهي حاملة الذهب والألماس والياقوت والزمرد، ما تجرأ أحد أن يسألها عما معها.
ما من يوم إلا وتحمل فيه إلى دوائر الشرطة لقط متعددة، ويؤتى بضوال فقدها أصحابها في الطرق، وأكثر من يأتي بها الأعراب أنفسهم؛ خدمة للأمن العام، وإبعادا للشبهة عنهم وعن ذويهم، فسبحان محول الأحوال ومقلب القلوب، ووالله لا يوجد في هذا العصر أمن يفوق أمن الحجاز لا في الشرق ولا في الغرب، ولا في أوروبا ولا في أمريكا، وقد تمنى المستر كراين الأميركي صديق العرب الشهير في إحدى خطبه أن يكون في وطنه أمريكا الأمن الذي رآه في الحجاز واليمن.
وكل من سكن أوروبة وعرف الحجاز في هذه الأيام يحكم بأن الأمنة على الأرواح والأعراض والأموال في البقاع المقدسة هي أكمل وأشمل وأوثق أوتادا وأشد أطنابا منها في الممالك الأوروبية والأمريكية، فأين أولئك الذين كانوا يقولون: إن الأعراب لا يقدر على ضبطها إنسان، وإن سكان الفيافي هم غير سائر البلدان؟! فها هو ذا ابن سعود قد ضبطها بأجمعها في مملكته الواسعة، ومحا أثر الغارات والثارات بين القبائل، وأصبح كل إنسان يقدر أن يجوب الصحاري وهو أعزل، ويدخل أرض كل قبيلة دون أن يعترضه معترض أو يسأله سائل إلى أين هو غاد أو رائح، ولو قيل لبشر: إن بلادا كان ذلك شأنها من الفزع والهول وسفك الدماء وقطع الطرق قد مرد أهلها على هذا البغي وهذا العدوان من سالف الأزمان، وإنه يليها ابن سعود فلا تمضي على ولايته لها سنة واحدة حتى يطهرها تطهيرا ويملأها أمنا وطمأنينة؛ لظن السامع أنه يسمع أحلاما أو خرافات، أو اتهم القائل في صحة عقله.
ولكن هذا قد صار حقيقة كلية، وقضية واقعية في وقت قصير، وما أوجده إلا همة عالية، وعزمة صادقة، وإيمان بالله، وثقة بالنفس، وعلم بأن الله تعالى مؤيد من أيده، ناصر من نصره، يحث على العمل ويكافئ العامل، ويكره اليأس، ويقول لعباده:
ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون .
2
وقد سرت بشرى الأمان الذي شمل البلاد المقدسة الحجازية فعمت أقطار الإسلام، وأثلجت صدور أبنائه، وارتفعت عن الحجاز تلك المعرة التي طالما وجم لها المسلمون؛ وذلك بقوة إرادة الملك عبد العزيز بن سعود، والتزامه حدود الشرع، ولكن ليس هذا كل شيء وقد بقيت حاجات في الصدور؛ فلم يزل يعوز الحجاز وسائل كثيرة للراحة والهناء من قبيل الإصلاحات المادية العمرانية التي يتوق إليها الحجاج ولا يجدونها، وهي إصلاحات عصرية لا طاقة للحجاز بها مع قلة الوارد إلى بيت المال، وازدياد الخرج على الدخل، وأيضا مع استئثار أكثر بلاد المسلمين بأوقاف الحرمين الشريفين، وعدم استعمالها فيما وقفت عليه.
وقد كان يتحتم على العالم الإسلامي أن يشاطر منذ زمن طويل في إزاحة هذه العلل المادية التي يعتذر الحجاز بحق عن أن يقوم بها وحده؛ لا سيما أن الحرمين الشريفين ليسا للعرب وحدهم؛ بل لجميع المسلمين.
فلم تزل هذه المسألة موضوع الأماني ومتجه الآمال، والناس ينتظرون فيها الابتداء بعمل من الأعمال، إلى أن عقدت مصر عزيمتها على هذا الأمر الذي تعتبر مصر جد أمينة بأن تطلع به، وبأن تكون فيه السباقة والقدوة لغيرها.
ولم يطلق على مصر لقب «كنانة الله في أرضه» عبثا؛ بل هي من قديم الدهر موئل الحجاز وانبار المسنتين من أهله، وحسبك ما قامت به مصر عام الرمادة من ميرة الحجاز بطلب سيدنا عمر إلى سيدنا عمرو - رضي الله عنهما - ومن بعد ذلك لم تشتد بأهل الحرمين لأواء، ولا عضتهم مسغبة بنابها إلا أسرعت إليهم مصر بالإغاثة وتفريج الكربة، لم تتخلف مصر عن هذا الواجب في وقت من الأوقات، وفي هذه الأيام عندما اشتد الشعور بوجوب إصلاح الحجاز من الناحية العمرانية بعد أن أزيحت علته من جهة تأمين السوابل كانت مصر هي الناهضة لمد يد المساعدة إليه في هذا الشأن، وكأنما كتب في اللوح المحفوظ أن يكون محمد طلعت باشا حرب هو الطالع حربا على الخلل والفوضى والإهمال في عمران الشرق، فوجه شطرا من همته العلياء شطر البيت الحرام الذي قد أمرنا الله بأننا حيث ما كنا نولي وجوهنا شطره؛ لئلا يكون للناس علينا حجة، فكان طلعت باشا حرب في هذه الحلبة أيضا هو المجلي، وكان قد بدأ من بضع سنين بتأسيس شركة الملاحة البحرية، وأنشأ البواخر الجواري كالأعلام البالغة الحد الأقصى من أسباب الراحة والانتظام؛ مثل: زمزم، والكوثر، وغيرهما مما قد سبق الكلام عليه، وحصل بذلك من الفرج لحجاج بيت الله الحرام ما تحدثت به الركبان، وشاع ذكره في البلدان، ولكن لم يكن هذا كل ما تسمو إليه همة هذا الرجل من إصلاح عمراني وتنظيم مادي في الحجاز؛ فقصد إلى الأرض المقدسة ونظر في مختلف العلل التي تجب معالجتها، وعرض نتيجة مشاهداته على الحكومة المصرية التي أسرعت في إجابته إلى تقرير اللازم من هذه الإصلاحات الحيوية بالاتفاق مع الحكومة السعودية التي بذلت كل ما في وسعها لأجل تسهيل الاتفاق، وتيسير الارتفاق، فكان ما ستنفقه الحكومة المصرية والحكومة السعودية في هذه النوبة من إصلاحات الحجاز لإنشاء طرق وإنارة كهربائية وتوزيع مياه وتطهيرها وغير ذلك نحوا من مئتين وأربعين ألف جنيه.
وهكذا تكون الدولة المصرية قد نهجت السبيل لجميع الحكومات الإسلامية في العالم أن تشاطر في القيام على قدر إمكانها بما يستلزمه الحجاز من الإصلاحات العصرية التي لا مندوحة عنها في قطر يؤمه المسلمون من المشارق والمغارب سالكين إليه البر والبحر والجو وهو مرشح حتما بواسطة طرق الانتقال الحديثة؛ لزيادة العمران، وتكاثف السكان، وليكون أنموذجا للجمال الصوري والمعنوي، ومثالا لطيب النجعة في الشتاء والصيف، فإن الذي يشتمل عليه الحجاز من المصايف البديعة؛ كالطائف والهدى ووادي محرم ووادي ليه وجبال الشفا العالية ثلاثة آلاف متر عن سطح البحر - يندر وجود أشباهه في المعمور كما فصلنا ذلك في رحلتنا الحجازية الموسومة «بالارتسامات اللطاف»، لا يعوز هذه الأمكنة الممتازة بطيب هوائها وجودة مناخها وجمال إقليمها سوى الطرق المعبدة للسيارات حتى تقرب المسافات.
وقد نشرت شركة بنك مصر عن الإصلاحات اللازمة للحجاز تقارير وافية قيمة من أقلام المهندسين البارعين الذين أنفذتهم شركة البنك إلى الأراضي المقدسة؛ مثل محمد الجمال بك نائب المدير العام لمعامل الغزل والنسيج المصرية، الذي تكلم عن حالة الحجاز العمومية وقابلية أرضها وما يلزم لهذه البلاد من الأسباب الفنية والمدارس الصناعية، وألم بمشروع المياه الذي يلزم له بناء خزان في مرتفع تعلو عنه عين زبيدة؛ بحيث يسد كل عوز في مكة ومن جهة المياه، وبمشروع إضاءة مكة بالكهرباء، وبمشروع إنشاء طريق صالحة للسيارات من جدة إلى البلد الحرام، أو سكة حديدية توصل بينهما.
ومشروعات أخرى تضمنها هذا التقرير الواضح المفيد الذي ليس فيه محل نظر سوى تخمينه عدد مسلمي المعمور بمئتين وخمسين مليونا، فهذا خطأ فاحش ناشئ عن متابعة إحصاءات قديمة أوروبية غير نزيهة، أو ثمة خطأ مطبعي تصحيحه 350 مليونا (ثلاث مئة وخمسون مليونا) وهذا أيضا دون الواقع كما أوضحنا ذلك بالإحصاءات الرسمية والبراهين الساطعة في مجلتنا «لا ناسيون آراب»؛ ردا على الزاعمين أن عدد المسلمين 260 مليونا، مع أن مسلمي آسية وحدها ينيفون على 260 مليونا، وقد بقي غير داخل في هذا الإحصاء مسلمو إفريقيا الذين يناهزون مئة مليون، ومسلمو أوروبا الذين هم من خمسة إلى ستة ملايين.
ولقد اهتممنا بهذا الموضوع عمدا؛ لما نحسه من تحرج صدور الأوروبيين بكثرة عدد المسلمين، واجتهاد الدول الاستعمارية بخاصة أن ينقصوا من عددهم، ويخسروا من وزنهم، فمحصنا هذا البحث عدة مرات؛ لما نشعر من نيتهم هذه.
ثم نعود إلى قضية إصلاحات الحجاز؛ فنقول: إن من جملة التقارير الوافية في هذا الموضوع تقريرا محررا بقلم المهندس المحقق السيد حسن البهتيمي الذي يتكلم على تحويل مجرى السيل عن مكة، وعلى تحسين طريق المسعى بين الصفا والمروة، وتحسين طريقة ورود المياه بعرفات من عين زبيدة، وإنارة البلد الأمين بالكهرباء، وتقريرا آخر في هذه المسائل نفسها من قلم السيد مصطفى ماهر رئيس مهندسي مياه الجيزة والجزيرة بمصر ذهب فيه إلى أنه بعد أن يتم إصلاح توزيع عين زبيدة وعين حنين التي يتفرغ منها المجرى المسمى بعين الزعفران؛ يجب أن يباشر الحفر في سائر الآبار والأودية التي هي مظان مياه غزيرة تفيض عن حاجة مكة من جهة شرب الشفة، وتكفي للزراعة والبساتين؛ قال: ومشروع المياه سيكون مفتاحا للبحث عن هذه الكنوز الأرضية.
وتكلم المهندس المشار إليه عن بئر زمزم؛ وقال: إن في مائها أملاحا نافعة كأملاح المياه التي يستشفى بها في أوروبا؛ فهي من هذه الوجهة صالحة لتوضع في زجاجات معقمة مقفلة وتحمل إلى الخارج وتباع فيكون منها ربح جزيل.
ثم أشار بالوسائل اللازمة لصيانتها من الجراثيم الضارة، وأن يتولى عالم بكتريولوجي دوام تحليلها؛ ليكون تعقيمها تاما.
وتكلم عن عملية مياه عين زبيدة وبناء الخزانات اللازمة بتفاصيل ليس هنا مكانها.
وأصحب التقرير بالرسوم التي توضح كل شيء، وأشار إلى إنارة مكة بالقوة الكهربائية وما فيها من أرباح وفوائد؛ وذلك كما قرره المهندسون الآخرون، ولكل وجهة هو موليها .
وفي تقرير المهندس الكبير السيد مصطفى ماهر كلام خاص بالمدينة المنورة التي هي جنة من جنان الأرض، وفيه وصف مياهها العذبة الغزيرة، وحدائقها الغناء، وقد ختم تقريره الشائق بقوله:
وإني أسأل الله أن يوفق عباده المؤمنين إلى مد يد المعونة إلى الأراضي المقدسة قبلة المسلمين، كل فيما يقدر عليه؛ للتيسير على أهلها، والاحتفاظ لهذه البقاع الطاهرة بما يليق بها من الجلال والوقار. ا.ه.
وتنتهي مجموعة هذه المباحث - التي أعظم اليد في إجرائها لطلعت باشا حرب - بالتقارير الصحية الجلية الوافية من قلم العلماء المتخصصين السادة: محمد حسن العبد، ومصطفى ماهر، وحسن حسني راشد الكيمائي بوزارة الصحة المصرية، وحسن البهتيمي وكيل القلم الفني ببنك مصر.
وفي هذه التقارير التحليلات المفصلة الدقيقة لمياه بئر زمزم، ومياه عين زبيدة، ومياه عين الزعفران في مكة، وعين الزرقاء في المدينة المنورة، مع التواصي الفنية اللازمة للاستفادة منها.
ولما كانت هذه المجموعة قد نشرت وتوزعت اكتفينا منها بلمحة دالة في هذه الرسالة؛ سائلين الله أن يوفق كلا من الدولتين العزيزتين: المصرية، والسعودية، إلى إتمام هذه الإصلاحات الجليلة بحذافيرها، فإن الإصلاح واجب في كل مكان، فكيف البقاع المقدسة؟!
هوامش
خلاصة الجواب
أن المسلمين ينهضون بمثل ما نهض غيرهم
بقلم شكيب أرسلان
لوزان 11 نوفمبر سنة 1930
إن الواجب على المسلمين - لينهضوا ويتقدموا ويتعرجوا في مصاعد المجد، ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم - هو الجهاد بالمال والنفس الذي أمر به الله في قرآنه مرارا عديدة، وهو ما يسمونه اليوم (بالتضحية).
فلن يتم للمسلمين ولا لأمة من الأمم نجاح ولا رقي إلا بالتضحية، وربما كان الشيخ محمد بسيوني عمران أو غيره من السائلين عن رأينا في هذا الموضوع قد ظن أني سأجيبه أن مفتاح الرقي هو قراءة نظريات (أينشتين) في النسبية مثلا، أو درس أشعة (رونتجين)، أو ميكروبات (باستور)، أو التعويل في اللاسلكي على التموجات الصغيرة أكثر من الكبيرة، أو درس اختراعات (أديسون)، وأن سبب حادثة المنطاد الإنكليزي الذي سقط أخيرا واحترق هو كونه لم ينفخ بالهليوم وإنما بالهيدروجين، والحال في الهيدروجين - وإن كان أخف في الوزن - قابل للاشتعال، وإنه لا خوف من اشتعال الهليوم - وإن كان أثقل شيئا من الهيدروجين - وما أشبه ذلك.
والحقيقة أن هذه الأمور إنما هي فروع لا أصول، وإنها نتائج لا مقدمات، وإن (التضحية) أو الجهاد بالمال والنفس هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف، ودنت منها جميع القطوف والمجاني.
وليس بضروري أن يكون صاحب الحاجة عالما بعملها حتى يكون عالما بالاحتياج إليها.
قال لي مرة حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني:
إن الوالد الشفيق يكون من أجهل الجهلاء، فإذا مرض ابنه اختار له أحذق الأطباء، وعلم أن هناك شيئا نافعا هو العلم، لا يعلم هو شيئا منه، ولكنه يعلم بسائق حرصه على حياة ابنه أنه ضروري.
ولم يكن محمد علي عالما وربما كان أميا، ولكنه بعث مصر من العدم إلى الوجود في زمن قصير، وصيرها في زمانه من الدول العظام بسائق هذا العلم الأعلى الذي هو العقل السليم والإرادة، وهو الذي يبعث صاحبه إلى التفتيش عن العلوم وحمل الأمة عليها.
فالمسلمون يمكنهم إذا أرادوا بعث العزائم وعملوا بما حرضهم عليه كتابهم أن يبلغوا مبالغ الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين من العلم والارتقاء، وأن يبقوا على إسلامهم كما بقي أولئك على أديانهم، بل هم أولى بذلك وأحرى، فإن أولئك رجال ونحن رجال، وإنما الذي يعوزنا الأعمال، وإنما الذي يضرنا هو التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال، فلننفض غبار اليأس ولنتقدم إلى الأمام، ولنعلم أننا بالغو كل أمنية بالعمل والدأب والإقدام، وتحقيق شروط الإيمان، التي في القرآن:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين .
1
هوامش
نامعلوم صفحہ