Let's Believe for an Hour - Magdy El-Helaly
هيا بنا نؤمن ساعة - مجدي الهلالي
اصناف
هيا بنا نؤمن ساعة
مجدي الهلالي
نامعلوم صفحہ
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مِلء السماوات والأرض وما بينهما، ومِلء ما شاء ربنا من شيء بعد، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وسار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فعندما تولى أبو بكر الصديق ﵁ الخلافة قام بتعيين عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة لم يفتتح جلسة، ولم يختصم إليه اثنان، فطلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء، فقال له أبو بكر: أمِن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟
فقال عمر: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يُقصِّر في أدائه .. أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه .. إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه .. دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟ ففيم يختصمون؟!
لقد مكث عمر بن الخطاب في القضاء عاما كاملًا بلا عمل، فلم يشأ أن يستمر في هذا المكان بعد أن تأكد بأنه ليس للقاضي عمل حقيقي بين أهل المدينة الأخيار الذين تمكن الإيمان في قلوبهم فسمت اهتماماتهم، وعظُم شأن الآخرة لديهم فأنابوا إليها، وصغرت الدنيا عندهم فلم يتنافسوا عليها، ومِن ثَمَّ لم يعد هناك مجال للخصومة بينهم، وإن حدثت فسرعان ما يفيئون إلى الحق دون الحاجة للذهاب إلى القاضي.
إن هذه الواقعة تعكس إلى حد كبير أثر الإيمان عندما يتمكن من القلوب، فالإيمان يصنع المعجزات ولا ريب.
ولقد نقلت إلينا كتب التاريخ مظاهر كثيرة لأثر الإيمان على جيل الصحابة رضوان الله عليهم، والذين كانوا قبل إسلامهم قوما ضالين، يأكل القوي فيهم الضعيف .. يسيئون الجوار، ويعبدون الأحجار، ويتكالبون على الشهوات، ففعل بهم الإيمان ما فعل حتى أصبحوا مضرب المثل في كل الإيجابيات والفضائل.
ونحن إذ نعيش في عصر تعلو فيه رايات المادية، وتغلب آثارها بوضوح على واقع الناس من أثَرَة وأنانية وتنافس على الدنيا ..؛ حرِيّ بنا أن نعمل باستمرار على زيادة الإيمان في قلوبنا وقلوب من حولنا حتى يتغير العُرف العام للأمة، وتظهر فيها المظاهر الإيجابية كما ظهرت في الجيل الأول.
ومن أهم الوسائل التي تعيننا -بإذن الله- على تحقيق ذلك: استشعار الحاجة الماسة لزيادة الإيمان في القلوب.
فكلما استثيرت مشاعر الاحتياج تجاه زيادة الإيمان؛ كلما قويت الرغبة، واشتدت العزيمة نحو تحقيقه.
ولكي تستثار مشاعرنا تجاه هذا الأمر علينا أن نعود لسيرة الجيل الأول فنتعرف على ثمار الإيمان وآثاره عليهم.
وعلينا كذلك التعرف على مراحل الارتقاء والزيادة الإيمانية وآثارها المختلفة، والتي تظهر بوضوح في علاقة المرء بربه وبالناس، وتظهر كذلك في كيفية تعامله مع أحداث الحياة وتقلباتها المختلفة، ليكون هذا التعرف بمثابة المرآة التي تكشف مستواه الإيماني الحقيقي أمام نفسه، وساعتها يتأكد - كما تأكدت - بأنه لا يزال ينقصه الكثير، وأن أمامه شوطا كبيرًا عليه أن يجتازه في رحلته الإيمانية، فيكون ذلك مدعاة لتشميره وسعيه الحثيث لتدارك ما فاته قبل أن يأتيه الموت فلا ينفعه حينئذ الندم، ولا الرغبة في الصلاح ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٩، ١٠٠].
نسأل الله ﷿ أن يوقظ قلوبنا ويحييها بالإيمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤].
1 / 1
الفصل الأول
من ثمار الإيمان في جيل الصحابة
1 / 2
من ثمار الإيمان في جيل الصحابة
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم:٢٤ - ٢٥].
فالإيمان كالشجرة الطيبة المباركة التي إذا ما أحسنَّا غرسها في القلب فإنها تُثمر - بإذن الله - ثمارًا يانعة وطيبة في كل الاتجاهات والأوقات، والأمثلة العملية التي تؤكد هذه الحقيقة من الكثرة بمكان، وسنذكر - بعون الله وفضله - في الصفحات القادمة بعض تلك الثمار، مع مزجها بنماذج تطبيقية من حياة الصحابة رضوان الله عليهم.
لماذا الحديث عن جيل الصحابة؟
أخرج أبو نُعيم عن عبد الله بن عمر قال: من كان مُستنًّا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا خير هذه الأمة، أبرَّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا .. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ، ونقْل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد ﷺ كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة (١).
ويقول أبو الحسن الندوي في مقدمته لكتاب «حياة الصحابة»:
إن السيرة النبوية وسير الصحابة وتاريخهم من أقوى مصادر القوة الإيمانية والعاطفة الدينية، التي لا تزال هذه الأمة تقتبس منها شعلة الإيمان، وتشتعل بها مجامر القلوب، التي يسرع انطفاؤها وخمودها في مهب الرياح والعواصف المادية، والتي إذا انطفأت فقدت هذه الأمة قوتها وميزتها وتأثيرها، وأصبحت جثة هامدة تحملها الحياة على أكتافها.
إنها تاريخ رجال جاءتهم دعوة الإسلام فآمنوا بها وصدقتها قلوبهم .. وضعوا أيديهم في يد الرسول ﷺ، وهانت عليهم نفوسهم وأموالهم وعشيرتهم، واستطابوا المرارات والمكاره في سبيل الدعوة إلى الله، وأفضى يقينها إلى قلوبهم، وسيطر على نفوسهم وعقولهم، وصدرت عنهم عجائب الإيمان بالغيب، والحب لله والرسول، والرحمة على المؤمنين والشدة على الكافرين، وإيثار الآخرة على الدنيا، والحرص على دعوة الناس، وإخراج خلق الله من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، والاستهانة بزخارف الدنيا وحُطامها، والشوق إلى لقاء الله، والحنين إلى الجنة، وعُلو الهمة، وبُعد النظر في نشر رِفد الإسلام وخيراته في العالم، وانتشارهم لأجل ذلك في مشارق الأرض ومغاربها، ونسوا في ذلك لذَّتهم، وهجروا راحاتهم، وغادروا أوطانهم، وبذلوا مُهَجَهم وحرّ أموالهم حتى أقبلت القلوب إلى الله، وهبَّت ريح الإيمان قوية عاصفة، طيبة مباركة، وقامت دولة التوحيد والإيمان والعبادة والتقوى، وانتشرت الهداية في العالم، ودخل الناس في دين الله أفواجًا (٢).
الثمار العشر:
إن الهدف الأساسي من التحدث عن ثمار الإيمان ومدى ظُهورها في جيل الصحابة رضوان الله عليهم هو استثارة مشاعر الاحتياج نحو التربية الإيمانية، وتقوية العزيمة لسلوك طريقها بإذن الله ..
ولقد تم اختيار عشر ثمار ليتم الحديث عنها - بعون الله - هي بإجمال:
أولًا: المُبادرة والمُسارعة لفعل الخير.
ثانيًا: تقوية الوازع الداخلي.
ثالثًا: الزهد في الدنيا.
_________
(١) حلية الأولياء لأبي نُعيم الأصبهاني (١/ ٣٠٥)، دار الكتاب العربي - بيروت.
(٢) حياة الصحابة للكاندهلوي (١/ ١٥) بتصرف يسير.
1 / 3
رابعًا: التأييد الإلهي.
خامسًا: إيقاظ القوى الخفية.
سادسًا: الرغبة في الله.
سابعًا: اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكلات بين الأفراد.
ثامنًا: التأثير الإيجابي في الناس.
تاسعًا: اتخاذ القرارات الصعبة.
عاشرًا: الشعور بالسكينة والطمأنينة.
والجدير بالذكر أن هذه الثمار العشر ما هي إلا قطوف يسيرة من شجرة الإيمان المباركة، ولقد تم اختيارها كباقة متنوعة، فمنها ما يتعلق بعلاقة المؤمن بربه، ومنها ما ينعكس على علاقته بدنياه وآخرته، ومنها ما يظهر آثاره على تعاملاته مع الآخرين.
وإليك - أخي القارئ - بعضًا من التفاصيل حول هذه الثمار العشر.
أولًا: المبادرة والمسارعة لفعل الخير
من أهم ثمار الإيمان الحي أنك تجد صاحبه مبادرًا ومسارعًا لفعل الخير، يتحرك في الحياة وكأنه قد رُفعت له راية من بعيد فهو يسعى جاهدًا للوصول إليها مهما كلفه ذلك من بذل وتعب وتضحية .. تراه دومًا يبحث عن أي باب يقربه من رضا ربه والتعرض لرحمته ليندفع إليه مرددًا بلسان حاله: «لبيك اللهم لبيك .. لبيك وسعديك».
ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون/٥٧ - ٦١].
فالآيات تُعطي دلالات واضحة على أن أصحاب القلوب المؤمنة الخاشعة لربها هم أكثر الناس مسارعة للخيرات وأسبقهم إليها.
وإليك - أخي القارئ - بعض الأمثلة من حياة الصحابة - رضوان الله عليهم - والتي تؤكد هذا المعنى:
- خرج جابر بن عبد الله ﵁ ذات سنة إلى بلاد الروم غازيًا في سبيل الله، وكان الجيش بقيادة مالك بن عبد الله الخثعمي، وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على أحوالهم، ويشُد من أزرهم، ويُولِي كبارهم ما يستحقونه من عناية ورعاية، فمر بجابر بن عبد الله، فوجده ماشيًا ومعه بَغل له يمسك بزمامه ويقوده، فقال له: ما بك يا أبا عبد الله، لم لا تركب، وقد يسر الله لك ظهرًا يحملك عليه؟! فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار».
فتركه مالك ومضى حتى غدَا في مقدمة الجيش، ثم التفت إليه، وناداه بأعلى صوته، وقال: يا أبا عبد الله، مالك لا تركب بغلك، وهي في حوزتك؟! فعرف جابر قصده، وأجابه بصوت عال وقال: لقد سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «من أُغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار»، فتواثب الناس عن دوابهم وكلٌ منهم يريد أن يفوز بهذا الأجر، فما رُئِي جيش أكثر مشاة من ذلك الجيش (١).
وروى النسائي عن أبي سعيد بن المُعَلَّى أنه قال:
_________
(١) أُسد الغابة (١/ ٣٠٧)، وتاريخ الإسلام للذهبي (٣/ ١٤٣)، وسيرة ابن هشام (٣/ ٢١٧، ٢١٨)، وحديث «من أُغبرت قدماه ..» أخرجه البخاري (١/ ٣٠٨، رقم ٨٦٥)، وغيره.
1 / 4
كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله ﷺ، فمررنا يومًا ورسول الله ﷺ قاعد على المنبر، فقلت: لقد حدث أمر، فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة/١٤٤]، حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله ﷺ فنكون أول من صلى (في اتجاه الكعبة) فتوارينا فصليناهما، ثم نزل رسول الله ﷺ وصلى بالناس الظهر يومئذ (١).
- وفي يوم من الأيام قَدِمتْ قافلة لعبد الرحمن بن عوف بها سبعمائة راحلة تحمل المتاع، فلما دخلت المدينة ارتجت الأرض بها، فقالت عائشة: ما هذه الرّجة؟ فقيل لها: عِير لعبد الرحمن بن عوف .. سبعمائة ناقة تحمل البُر والدقيق والطعام، فقالت عائشة: بارك الله فيما أعطاه في الدنيا، ولثواب الآخرة أعظم.
وقبل أن تبرك النوق كان الخبر قد وصل لعبد الرحمن بن عوف: فذهب إليها مُسرعًا، وقال: أشهدك يا أُمَّه أن هذه العير جميعها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله.
التنافس في الخير:
صاحب الإيمان الحي لا يُريد أن يسبقه أحد إلى الوصول للراية العُظمى .. راية رضا الله والتعرض لرحمته ومغفرته ودخول جنته، لذلك تراه حزينًا حين تتحين أمامه فرصة للاقتراب من تلك الراية ولا يستطيع اغتنامها لأسباب خارجة عن إرادته كالمرض أو الفقر، ولنا في قصة البَكَّائين خير مثال على ذلك:
فعن ابن عباس ﵄ قال: أمر رسول الله ﷺ الناس أن ينبعثوا غازين (غزوة تبوك)، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن معقل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا. فقال: «والله ما أجد ما أحملكم عليه»، فتولَّوا ولهم بكاء، وعَزَّ عليهم أن يُحبَسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملًا. فأنزل الله عذرهم: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ (٢) [التوبة/٩٢].
- وفي الصحيحين أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: ذهب أهل الدُّثور (الأموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، فقال ﷺ: «وما ذاك؟»، فقالوا: يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله ﷺ: «أفلا أُعلمكم شيئًا تُدرِكون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تُسبِّحون، وتحمدون، وتُكبِّرون، دُبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة»، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ﷺ فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله.
فقال رسول الله ﷺ: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (٣).
_________
(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١/ ١٦٨ - مكتبة العبيكان، وحديث القبلة أخرجه النسائي في السنن الكبرى - (ج ٦ / ص ٢٩١، برقم ١١٠٠٢)، ومسند أحمد بن حنبل - (ج ٤ / ص ٤٠٨، برقم ١٩٦٧٧).
(٢) الدر المنثور للسيوطي ٣/ ٤٧٩.
(٣) متفق عليه: وهذا لفظ مسلم، وأخرجه البخاري (١/ ٢٨٩ برقم ٨٠٧)، ومسلم (٢/ ٩٧، برقم ١٣٧٥).
1 / 5
شدة الحرص على دعوة الخلق إلى الله:
كلما ازداد الإيمان وشعر المرء بحلاوته كلما ازدادت رغبته في دعوة الناس جميعًا إلى الله، وإلى التحرر من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وكيف لا وهو يرى الكثيرين ممن حوله يعانون من آثار القيود والسجون المعنوية المحبوسين فيها، والتي كانت تحيط به قبل ذلك، فمَنَّ الله ﷿ عليه وحرره منها، لذلك فهو لا يهدأ ولا يقر حتى يُبلِّغ الدعوة إليهم ما وسعه الجهد والوقت والمال.
ويدفعه لأداء هذا الواجب كذلك علمه بأن الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إليه سبحانه ..
من هنا نُدرك كيف اشتد حرص الصحابة على دعوة الخلق إلى الله.
فهذا أبو بكر الصديق بعد إسلامه يُسارع بالدعوة إلى الله من وَثق به من قومه فأسلم على يديه: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عُبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف (١).
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله ﷺ لمَّا انصرف عن ثقيف اتَّبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله ﷺ: «إنهم قاتلوك»، وعرف رسول الله ﷺ أن فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أَحَب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك مُحببًا مطاعًا.
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه بمنزلته فيهم، فلما أشرف على عُلَّية (مكان مرتفع) - وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه - رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله، فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ (٢) ..
ثانيا: تقوية الوازع الداخلي (الورع)
كلما قوِي الإيمان، ازدادت حساسية الفرد تجاه الوقوع أو مجرد الاقتراب من الشبهات والمحظورات، والعكس صحيح، فكلما ضَعُف الإيمان نقصت تلك الحساسية .. يقول عبد الله بن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرَّ على أنفه، فقال به هكذا (٣) (أي: نحَّاه بيده أو دفعه).
معنى ذلك أن درجة إيمان الفرد يعكسها شعوره وحساسيته تجاه الذنوب، وفي أي الاتجاهين تكون ..
هل تقترب من حال من يقعد تحت صخور جبل مهدد بالانهيار في أي لحظة، أم من حال من تمر ذبابة على أنفه؟
من هنا نقول بأن الإيمان الحي هو الذي يضبط سلوك الإنسان، (ويترك مع كل نفس رقيبًا لا يغفل، وحارسًا لا يسهو، وشاهدًا لا يُجامل ولا يحابي، ولا يضل ولا ينسى ... يصاحبها في الغدوة والروحة، والمجتمع والخلوة، ويرقُبها في كل زمان، ويلحظها في كل مكان، ويدفعها إلى الخيرات دفعًا، ويدعُّها عن المآثم دعًّا، ويجنبها طريق الزلل، ويبصرها سبيل الخير والشر) (٤).
في يوم من الأيام ذكر النبي ﷺ أنواع الخيل وأنها لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر.
فسئل عن الحُمُر؟ قال: «ما أنزل الله عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (٥) [الزلزلة/٧، ٨].
_________
(١) السيرة لابن كثير (١/ ٤٣٧)، وذكره الحلبي في السيرة الحلبية (١/ ٤٤٩).
(٢) السيرة النبوية لابن هشام (٢/ ٥٣٨)، وأُسد الغابة (١/ ٧٦٨)، والاستيعاب لابن عبد البر (١/ ٣٢٨)، والإصابة لابن حجر (٤/ ٤٩٣).
(٣) متفق عليه: البخاري (٥/ ٢٣٢٤)، ومسلم (٨/ ٩٢).
(٤) رسالة هل نحن قوم عمليون؟ لحسن البنا ص (٧١) من مجموعة الرسائل.
(٥) أخرجه البخاري (٢/ ٨٣٥، رقم ٢٢٤٢).
1 / 6
فعندما يزداد الإيمان بأن هناك حساب على اليسير من العمل - ولو كان مثقال ذرة كما تُشير الآيات - فإن ذلك من شأنه أن يدفع المرء للتحرك بحساسية وحذر شديدين تجاه التعامل مع جميع الأشياء.
نعم، هذا هو أهم قانون لضبط السلوك ومهما وُضِعت القوانين الصارمة في المجتمعات لضبط سلوك الأفراد فلن تؤتي ثمارها إلا إذا بُدئ بإصلاح الإيمان في القلوب لتكون من ثمرته: تقوية الوازع الداخلي ... وصدق من قال:
لا تنتهي الأنفس عن غيّها ... ما لم يكن لها من نفسها دافع
الحارس الأمين:
يقول أبو الأعلى المودودي: إن الإيمان يزرع في داخل الإنسان حارسًا من الشرطة يدفعه إلى العمل ويحثه على الائتمار بأوامر الله ﷿ .. هذا الوازع النفسي، والحارس الداخلي هو الذي يشد عضد قانون الإسلام الخلقي والسلوكي ويجعله نافذًا بين الناس في حقيقة الأمر .. هذا الإيمان هو الذي يضمن هداية الفرد المسلم، والأمة المسلمة إلى سواء الطريق إذا ما كان قد تمكن من القلب.
جاء رجل فقعد بين يدي النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يَكذِبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا فيهم؟!، فقال رسول الله ﷺ: «إذا كان يوم القيامة يُحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم .. اقتُص لهم منك الفضل، فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكي، فقال رسول الله ﷺ:» أما تقرأ قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء/٤٧].
فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار (١).
شدة الورع:
عن عائشة ﵂ قالت: كان لأبي بكر غلام يُخرج له الخراج، وكان أبو بكر يُخرج من خراجه فجاء يومًا بشيء ووافق من أبي بكر جوعًا، فأكل منه لقمة قبل أن يسأل عنه، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟، قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه (٢) .. فماذا فعل أبو بكر عندئذ؟! فعل فعلا عجيبًا .. أدخل أصبعه في فمه فقاء كل شيء في بطنه ..
وروى ابن جرير الطبري في تاريخه، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا، ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئًا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا: من أنت؟، فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني: ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلًا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس (٣).
_________
(١) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (٥/ ٣٢٠، رقم ٣١٦٥) وأحمد (٦/ ٢٨٠، رقم ٢٦٤٤٤)، والبيهقي في شعب الإيمان (٦/ ٣٧٧، رقم ٨٥٨٦)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (٢/ ٢٨٠).
(٢) أخرجه البخاري (٣/ ١٣٩٥ برقم ٣٦٢٩).
(٣) نقل هذا الخبر سيد قطب في ظلال القرآن ١/ ٥٠٥، نقلًا عن تاريخ الطبري (٤/ ١٦).
1 / 7
ومن ثمار الإيمان:
ثالثًا: الزهد في الدنيا
من تعريفات الزهد: «انصراف الرغبة في الشيء مع وجوده»، ومثال ذلك: الطفل الذي يسعد سعادة غامرة حين يلعب بالدُمَى، ويحرص على اقتنائها، ويحلم بشراء الجديد منها، ولكن عندما يكبر هذا الطفل بضع سنين تجد حرصه وشغفه وفرحه بهذا اللعب يقل ويقل إلى أن يزول وتنصرف رغبته عنها فيصير زاهدًا فيها ولا يُبالى بوجودها إذا ما وُجدت، ولا يحزن على ضياعها إذا ما فُقدت.
وحال الناس مع الدنيا - بدون الإيمان - كحال الأطفال مع لِعَبهم، ولكي يزهدوا فيها لابد من نمو الإيمان في قلوبهم.
فعندما يقوى الإيمان في القلب يقل تعلق صاحبه بالدنيا، ورغبته فيها، وحرصه عليها.
نعم، هو لن يتركها ببدنه بل يتركها بقلبه، فالزهد حالة شُعورية يعيشها المرء كانعكاس لنمو الإيمان الحقيقي في قلبه، وهو لا يستلزم الفقر، ولا يتنافي مع الغنى.
الزاهد في الدنيا لا ينشغل بها كثيرًا إذا ما وُجدت بين يديه، فعلى سبيل المثال: قد يتوفر لديه العديد من الملابس، فإذا ما أراد الخروج من منزله فإنه لا يقف أمامها طويلًا إنما يرتدي ما امتدت إليه يده، وهو حين يفعل ذلك يفعله بتلقائية تعكس حالة قلبه الإيمانية.
وكلما قوى الإيمان أكثر وأكثر ازداد تعلق صاحبه بالآخرة ورغبته فيها، وازداد زهده في الدنيا بصورة أشد وأشد لدرجة أنه لا يترك لنفسه إلا أقل القليل منها وبما يُحقق له ضروريات الحياة، وليس هذا بسبب معارضته لمبدأ التمتع بمُباحات الدنيا، ولكن لأن إيمانه يأبى عليه ذلك ويدفعه لاستثمار كل ما يأتيه في حياته لداره الآخرة متمثلًا قول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾ [القصص/٧٧]، لذلك فهو يحتاج دومًا إلى من يذكره بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص/٧٧].
وكيف لا، وإيمانه يأبي عليه أن يتوسع في هذا النصيب.
هكذا كانوا:
بهذه المستويات الإيمانية تعامل الصحابة - رضوان الله عليهم - مع الدنيا فكانت منهم أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالي من ضعاف الإيمان الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة واللهو بطين الأرض.
فهذا أبو الدرداء نزلت به جماعة من الأضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخنًا، ولم يبعث إليهم بالأغطية فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف، فقال واحد منهم: أنا أذهب إليه وأكلمه، فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إلا ثوب خفيف لا يقي من حر ولا يَصُون من برد، فقال الرجل لأبي الدرداء: ما أراك بت إلا كما نبيت نحن!! أين متاعكم؟! فقال: لنا دار هناك نُرسل إليها تباعًا كل ما نحصل عليه من متاع ولو كنا قد استبقينا في هذه الدار شيئًا منه لبعثنا به إليكم، ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤود المُخِفّ فيها خير من المُثقِل، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علَّنا نجتاز (١).
وكان طلحة بن عبيد الله تاجرًا فجاءه ذات يوم مال من «حضرموت» مقداره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته جزعًا محزونًا.
فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم، وقالت: ما بك يا أبا محمد؟!! لعله رابك منَّا شيء!!
_________
(١) الإصابة ج٣ ترجمة (٦١١٧)، وأسد الغابة (٤/ ١٥٩)، تاريخ الإسلام للذهبي (٢/ ١٠٧).
1 / 8
فقال: لا، ولنِعْمَ حليلة الرجل المسلم أنت، ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت: ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وفي بيته هذا المال؟!، قالت: وما يغمك منه؟! أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلَّائك؟! فإذا أصبحت فقسمه بينهم، فقال: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق، فلما أصبح جعل المال في صُرَرٍ وجِفَان، وقسمه بين فقراء المهاجرين والأنصار (١).
وفي يوم من الأيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل «حِمص»، فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسُدّ حاجاتهم، فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه فلان وفلان، وسعيد بن عامر، فقال: ومن سعيد بن عامر؟! فقالوا: أميرنا. قال: أميركم فقير؟! قالوا: نعم، ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صُرَّة وقال: اقرؤوا ﵇ مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك.
جاء الوفد لسعيد بالصُرَّة فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يُبعدها عنه ويقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» فهبَّت زوجته مذعورة وقالت: ما شأنك يا سعيد؟! أمات أمير المؤمنين؟! قال: بل أعظم من ذلك. قالت: أأُصيب المسلمون في واقعة؟! قال: بل أعظم من ذلك، قالت: وما أعظم من ذلك؟! قال: دخَلتْ عليَّ الدنيا لتُفسد آخرتي، ودخَلتْ الفتنة في بيتي. فقالت: تخلَّص منها، قال: أوتُعِينيني على ذلك؟ قالت: نعم. فأخذ الدنانير فجعلها في صُرَرٍ ثم وزعها (٢).
وهذا خباب بن الأرت يدخل عليه بعض أصحابه وهو في مرض الموت فيقول لهم: إن في هذا المكان ثمانين ألف درهم، والله ما شدَدْتُ عليها رباطًا قط، ولا منعت منها سائلًا قط، ثم بكى، فقالوا: ما يبكيك؟! فقال أبكي لأن أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئًا، وإني بقيت فنلت من هذا المال ما أخاف أن يكون ثوابًا لتلك الأعمال (٣).
وهذا سعد ابن أبي وقاص يذهب إلى سلمان الفارسي يعوده فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله ﷺ؟ أليس ..؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين، ما أبكي ضَنًّا على الدنيا، ولا كراهية في الآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه عهد إلينا عهدًا ما أراني إلا قد تعدَّيت، قال: وما عَهِد إليك؟ قال: عَهِد إلينا أنه يكفي أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعدَّيت (٤) .. فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهما (٥).
ومن ثمار الإيمان
رابعًا: التأييد الإلهي
الله ﷿ هو مالك الكون وربه ومدبر أمره ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة/٢٨٤].
لا يوجد له شريك في ملكه، يفعل ما يشاء .. يُقدِّم ويُؤخِّر، يقبض ويبسط، يخفض ويرفع، يُعز ويُذل ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر/٢].
_________
(١) طبقات ابن سعد (٣/ ٢١٤)، وتهذيب التهذيب (٥/ ٢٠)، والإصابة (٢/ ٢٢٩) ترجمة (٤٢٦٦)، وحلية الأولياء (١/ ٧).
(٢) الإصابة ج٢، ترجمة (٣٢٧٠)، وحلية الأولياء (١/ ٢٤٤)، وتهذيب التهذيب (٤/ ٥١)، وصفة الصفوة (١/ ٣٧٢).
(٣) الإصابة، ج١، ترجمة (٢٢١٠)، وأسد الغابة (١/ ٣١٦)، وحلية الأولياء (١/ ١٤٣)، وصفة الصفوة (١/ ١٦٨).
(٤) أخرجه أبو يعلى (٨/ ٨٠، رقم ٤٦١٠)، والطبراني (٤/ ٧٧، رقم ٣٦٩٥)، والبيهقي في شعب الإيمان (٧/ ٣٠٧، رقم ١٠٤٠٠)، وأبو نعيم في الحلية (١/ ٣٦٠).
(٥) أخرجه ابن حبان (٢/ ٤٨١، رقم ٧٠٦).
1 / 9
وإن كان البشر كلهم أمام الله سواء فلا أفضلية لجنس أو قبيلة أو لون إلا أنه سبحانه يزيد من إكرامه وعنايته ورعايته للمؤمنين الذين يُحبُّونه ويُؤثرونه على هواهم ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية/٢١].
فالكرامة على قدر الاستقامة ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات/١٣].
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن/١٦].
وكلما ارتقى العبد في سلم الإيمان ازدادت ولاية الله له ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف/١٩٦].
وفي الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» (١).
هذه الولاية والكفاية تشمل الفرد المؤمن، وتشمل المجتمع المؤمن.
فعلى مستوى الفرد:
يتولى الله ﷿ أمور عبده المؤمن بما يُحقق له مصلحته الحقيقية ويجلب له السعادة في الدارين، وفي بعض الأحيان قد تكون من مظاهر تلك الولاية التضييق على العبد في أمور الدنيا إلا أنها تحمل في طياتها خيرًا كثيرًا، وفي هذا المعنى يقول ﷺ: «إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يُحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه» (٢).
الأمة والإيمان:
أما في محيط الأمة، فلا يكفي إيمان بعض الأفراد - هنا وهناك - لكي تتحقق بهم الولاية والنصرة للأمة، فالأمة كالجسد الواحد، لا يكون صحيحًا إلا إذا صحَّت جميع أعضائه. بمعنى أن وجود أفراد صالحين في ذواتهم لا يكفي لاستجلاب المعية والنُصرة الإلهية، بل لابد وأن يقوموا بالعمل على إصلاح غيرهم - بإذن الله - وأن يبذلوا غاية جهدهم في ذلك من خلال العمل على تقوية الإيمان في قلوبهم، وتصحيح التصورات والمفاهيم الخاطئة في عقولهم، ودفعهم إلى طريق التواضع ونكران الذات، وتعويدهم على بذل الجهد في سبيل الله.
وعندما يتغير العُرف العام للأمة، وتشيع فيها معاني الصلاح، ويرتفع منسوب الإيمان في القلوب ولو بنسبة معقولة تتيح للمسلم اتخاذ قرارات التضحية ببعض شهواته ومصالحه من أجل نصرة دينه .. عندئذ يتحقق موعود الله بنصر الأمة - بإذنه سبحانه - مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد/١١].
وتاريخ الأمة خير شاهد على أنه عندما يغلب الإيمان والصلاح على جيل من أجيال الأمة فإن النصر يكون حليفهم، والتأييد الإلهي لا يتجاوزهم .. انظر - إن شئت - إلى آيات القرآن وهي تُقرر وتُؤكد على هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران/١٢٠]، وقوله: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران/١٢٥].
_________
(١) أخرجه البخاري (٥/ ٢٣٨٤، برقم ٦١٣٧).
(٢) حديث صحيح: أخرجه أحمد (٥/ ٤٢٨، رقم ٢٣٦٧٧). وأخرجه أيضًا: البيهقي في شعب الإيمان (٧/ ٣٢١، رقم ١٠٤٥٠)، والحاكم (٤/ ٢٣١، رقم ٧٤٦٥) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (١٨١٤).
1 / 10
فالآية تؤكد أن الملائكة ستنزل سريعًا لتؤيد المؤمنين، وتقاتل معهم فور تحققهم بالصبر والتقوى، وفي المقابل؛ فعندما يغيب الإيمان ينقطع التأييد الإلهي، ويُترك المسلمون لأعدائهم ليسوموهم سوء العذاب.
الوعد الحق:
لقد وعد الله ﷿ عباده المؤمنين بالغلبة والنصر: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء/١٤١].
هذا الوعد القاطع متى يتحقق؟ .. يُجيب سيد قطب عن هذا السؤال في تفسيره لهذه الآية فيقول:
إنه وعد من الله قاطع، وحُكم من الله جامع: أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين، وتمثَّلت في واقع حياتهم منهجًا للحياة، ونظامًا للحكم، وتجردًا لله في كل خاطرة وحركة، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة .. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا.
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تُخالفها. وأنا أُقرر في ثقة بوعد الله لا يُخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان: إما في الشعور، وإما في العمل - ومن الإيمان أَخذُ العدة، وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله، وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية، ثم يعود النصر للمؤمنين حين يوجدون.
ففي «أُحد» مثلًا، كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول ﷺ، وفي الطمع في الغنيمة. وفي «حُنين» كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئًا من هذا .. نعرفه أو لا نعرفه .. أما وعد الله فهو حق في كل حين.
نعم، إن المحنة قد تكون للابتلاء .. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة، هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أُحُد وقصَّهُ الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه، جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين.
وحين يُقرر النص القرآني: أن الله «لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا» .. إنما يدعو الجماعة المسلمة لاستكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورًا وشعورًا، وفي حياتها واقعًا وعملًا. وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها. فالنصر ليس للعنوانات. إنما هو للحقيقة التي وراءها.
وليس بيننا وبين النُصرة في أي زمان وفي أي مكان، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان، ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك .. ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة.
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى، التي لا تَضعُف ولا تفنى .. وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها .. ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعًا.
غير أنه يجب أن نُفرِّق دائمًا بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان .. إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية، ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل. وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تُواجِه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها (١).
نماذج للولاية والتأييد الإلهي:
والنماذج العملية للتأييد الإلهي للمؤمنين كثيرة، سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو الجماعة المؤمنة.
_________
(١) في ظلال القرآن: (٢/ ٧٨٢، ٧٨٣).
1 / 11
فعلى مستوى الفرد:
* أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «مُجابيّ الدعوة» عن أنس بن مالك، قال: كان رجل من أصحاب رسول الله ﷺ يُكنى أبا معلق وكان تاجرًا يتَّجر بمالٍ له ولغيره، وكان له نُسك وورع، فخرج مرة، فلقيه لِص مُتَقَنِّع في السلاح، فقال: ضع متاعك فإني قاتلك، قال: شأنك بالمال، قال: لستُ أُريد إلا دمك، قال: فذرني أُصلي، قال: صلِّ ما بدا لك، فتوضأ ثم صلَّى، فكان من دعائه: يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعَّالًا لما يُريد، أسألك بعزتك التي لا تُرام (١)، وملكك الذي لا يُضام (٢)، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني. قالها ثلاثًا، فإذا هو بفارس، بيده حربة رافعها بين أذني فرسه، فطعن اللص فقتله، ثم أقبل على التاجر، فقال من أنت، فقد أغاثني الله بك؟ قال: إني ملَك من أهل السماء الرابعة، لما دعوتَ سمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوتَ ثانيًا، فسُمعت لأهل السماء ضجَّة، ثم ثالثًا فقيل: دعاء مكروب، فسألت الله أن يُوليني قتله (٣).
* وأخرج الحاكم عن محمد بن المنكدر أن «سفينة» ﵁ مولى رسول الله ﷺ قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، فركبت لوحًا من ألواحها فطرحني اللوح في أجَمَة (٤) فيها الأسد، فأقبل إليّ يُريدني، فقلت يا أبا الحارث: أنا سفينة مولى رسول الله ﷺ، فطأطأ رأسه، واقبل إليّ، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق، وهمهم، فظننت أنه يودعني، فكان ذلك آخر عهدي به (٥).
* ولما فتح عمرو بن العاص ﵁ مصر، أتى أهلها حين دخل بؤنة (من أشهُر القبط) فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سُنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بِكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها شيئًا من الحُلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، فإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا أشهُر بؤنة وأبيب ومَسَرى لا يجري قليلًا ولا كثيرًا حتى همُّوا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب ﵁ بذلك، فكتب إليه عمر: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة، فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي، فلما قدِم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها:
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد:
فإن كنت تجري من قِبَلِك فلا تجر، وإن كان الواحد القهار يُجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يُجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل - وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها، لأنهم لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل - فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا، وقطع تلك السُنَّة السوء عن أهل مصر (٦).
_________
(١) لا تُرام: لا تُطلب.
(٢) لا يُضام: لا يُذَل.
(٣) الإصابة (٤/ ١٨٢).
(٤) أجمة: شجر كثير ملتف (غابة).
(٥) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري رقم (٦٨٤٨)، ومعرفة الصحابة لأبي نُعيم، برقم (٣١٠٢)، ودلائل النبوة للبيهقي، برقم (٢٢٩٣).
(٦) أخرجه أبو الشيخ في العظمة (٤/ ١٤٢٤، رقم ٩٣٧٣)، وابن عساكر (٤٤/ ٣٣٦)، انظر حياة الصحابة (٣/ ٤٠٨، ٤٠٩).
1 / 12
التأييد الإلهي للفئة المؤمنة:
عندما ننظر إلى المعارك التي خاضها الجيل الأول مع أعداء الدين نجد أن الميزان «المادي» يميل بقوة نحو أعدائهم من حيث العدد والعُدَّة، ومع ذلك كان النصر حليف المؤمنين، مع الأخذ في الاعتبار بأن الفئة المؤمنة لم تُقصر أبدًا في الأخذ بالأسباب المادية المتاحة أمامها، ولكن كانت تلك الأسباب - مهما بلغت - أقل بكثير مما عند أعدائهم.
ففي معركة بدر يتجلى التأييد الإلهي في صور متعددة ليتوج في النهاية بنصر عزيز: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال/١١، ١٢].
* وفي فتح المدائن سخر الله نهر دجلة ليعبُر عليه المسلمون بخيولهم ... فبعد انتصار القادسية العظيم - كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية - دخل سعد بن أبي وقاص (نهر شير) ولكنه لم يجد فيها أحد ولا شيئًا مما يُغنم، بل قد تحول الفرس إلى المدائن وركبوا السفن، وضمُّوا السفن إليهم، ولم يجد سعد ﵁ شيئا من السفن (لعبور نهر دجلة)، وأخبر سعد بأن كسرى يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن، وإنك إن لم تدركه قبل ثلاث فات عليك وتفارط الأمر. فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تَخلُصون (تَصلُون) إليهم معه، وهم يخلُصون إليكم إذا شاؤوا فيناوشونكم في سفنهم، وإني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم، فقالوا جميعًا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل، فندب سعد الناس إلى العبور .. وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: «نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس، ولم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤوا ما بين الجانبين، فلا يُرى وجه الماء من الفرسان والرجَّالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده .. ولم يُعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له مالك بن عامر، فدعا صاحبه الله ﷿ وقال: اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي، فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه، فأخذه الناس ثم ردوه على صاحبه بعينه.
وعندما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: ديوانًا ديوانًا، أي: مجانين مجانين. ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسًا، بل تقاتلون جنًّا.
وخرج المسلمون من النهر ولم يغرق منهم أحد، ولم يفقدوا شيئًا، ودخلوا المدائن ولم يجدوا بها أحدًا (١).
_________
(١) البداية والنهاية لابن كثير ٧/ ٧٠ - ٧٢ باختصار.
1 / 13
ومن ثمار الإيمان
خامسًا: إيقاظ القوى الخفية
عندما يتمكن الإيمان من القلب تزداد رغبة العبد في القيام بكل ما يحبه ربه ويرضاه فتجده يتحدى الصعاب، ويتحمل الشدائد في سبيل ذلك.
الإيمان الحي يوقظ القوى الخفية داخل الإنسان ويجعله دومًا يتحدى أوضاعًا أقوى منه، ويجتاز مصاعب أعظم بكثير من حدود إمكاناته ..
اجتمع يوما أصحاب رسول الله ﷺ في مكة، وكانوا قلة مستضعفين فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمن رجل يُسمعهم إياه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا أُسمعهم إياه. فقالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه بِشَر. فقال: دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني.
ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى، وقريش جلوس حول الكعبة، فوقف عند المقام وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم - رافعًا بها صوته - ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن/١ - ٤].
ومضى يقرؤها، فتأملته قريش وقالت: ماذا قال ابن أم عبد؟! تبًّا له، إنه يتلو بعض ما جاء به محمد، وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن، وإن شئتم لأُغَادينَّهم بمثلها غدًا، قالوا: لا، حسبك، لقد أسمعتهم ما يكرهون (١).
وهذا عمرو بن الجموح يرى أبناءه الثلاثة يتجهزون للقاء أعداء الله في أُحد، فعزم على أن يغدو معهم إلى الجهاد، لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه، فهو شيخ كبير طاعن في السن، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج، وقد عذره الله فيمن عذرهم، فقالوا له: يا أبانا، إن الله عذرك، فعلام تُكلف نفسك ما أعفاك الله منه؟!
فغضب الشيخ من قولهم، وانطلق إلى رسول الله ﷺ يشكوهم، فقال: يا نبي الله، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.
فقال رسول الله ﷺ لأبنائه: «دعوه؛ لعل الله ﷿ أن يرزقه الشهادة». فخلوا عنه إذعانًا لأمر رسول الله ﷺ.
وما إن أزِف وقت الخروج، حتى ودع عمرو بن الجموح زوجته، ثم اتجه إلى القبلة ورفع كفيه إلى السماء وقال: «اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائبًا». ثم انطلق يُحيط به أبناءه الثلاثة .. ولما حمي وطيس المعركة، وتفرق الناس عن رسول الله ﷺ شوهد عمرو بن الجموح يمضي في الرعيل الأول ويثب على رجله الصحيحة وثبًا وهو يقول: إني لمَشتاق إلى الجنة، إني لمَشتاق إلى الجنة، وكان وراءه ابنه «خلَّاد» ومازال الشيخ وفتاه يجاهدان عن رسول الله ﷺ حتى خرَّا صريعين شهيدين على أرض المعركة، ليس بين الابن وأبيه إلا لحظات (٢).
أعمى يحمل الراية:
وإن تعجب من أثر الإيمان فعَجَبٌ إصرار عبد الله بن أم مكتوم على الجهاد وهو أعمى، وسفره مع جيش سعد بن أبي وقاص إلى القادسية لملاقاة الفرس، وهو لابس درعه، مستكمل عدته، فيتقدم ليحمل راية المسلمين ... وهو أعمى!! ويحافظ عليها إلى أن قُتل شهيدًا، وهو يحتضن الراية!! (٣).
_________
(١) صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين ١/ ٣١٤، نقلًا عن سير أعلام النبلاء للذهبي، وصفة الصفوة لابن الجوزي.
(٢) سير أعلام النبلاء (١/ ٥٤)، وتاريخ الإسلام للذهبي (٢/ ٢١٦)، والبداية والنهاية لابن كثير (٤/ ٤٢).
(٣) صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين ١/ ١٣١، ١٣٢، نقلًا عن الإصابة لابن حجر، والطبقات لابن سعد، وصفة الصفوة لابن الجوزي، والاستيعاب لابن عبد البر.
1 / 14
شلَّال الإيمان:
روى التاريخ أن جعفر بن أبي طالب ﵁ أخذ راية رسول الله ﷺ في غزوة مؤتة، فقاتل بها، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه، فعقرها ثم قاتل، فقطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره فقطعت، فاحتضن الراية بعضديه، حتى قتل وله ثلاث وثلاثون سنة، ووجد المسلمون ما بين صدره ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة، ما بين ضربة سيف وطعنة رمح، كلها من الأمام، ومات فتى الفتيان وهو يحنُّ إلى الجنة، ويتغنى بنعمائها، ويستهين بزخارف الدنيا.
هل يُتصور هذا من غير عقيدة تتغلغل في الأحشاء، ونشوة إيمانية تسري في العروق، ولذة روحية تتغلب على الشعور بالألم؟!
إن هذا الشلال من الإيمان والاحتساب، ورجاء الأجر والثواب، والشوق إلى الجنة، والحنين إلى الشهادة، والحب لله ولرسوله وللمؤمنين؛ لازال بكرًا، ولم يُستخدم بعد، ولم يقتبس منه هذا التيار المضيئ المنير) (١).
ومن ثمار الإيمان:
سادسًا: الرغبة في الله
كلما ازداد الإيمان بالله ﷿ ازدادت ثقة العبد فيه سبحانه وبأنه مالك الملك، المتصرف في شؤون كل ذرة فيه، العليم الخبير الذي لا تغيب عنه أي حركة أو سكنة في هذا الكون .. القادر المقتدر، الغفور الرحيم ....
وبنمو هذه الثقة في القلب تزداد رغبة العبد في ربه فيصبح ذهنه مشغولًا بالتفكير فيه، وقلبه حاضرًا معه .. فيتوجه إليه بالأعمال، ويتزين له بالأفعال التي ترضيه .. يُكثر من مناجاته وبث أشواقه إليه ... يسترضيه كلما قصَّر أو زلَّت قدمه ... يطلب منه المساعدة في كل أموره، والشهادة على ما يحدث له.
وفي المقابل: يصغُر حجم الناس في نظره وتقل الثقة فيهم حتى تنمحي من حيث كونهم لا يملكون له نفعًا أو ضرًّا، فلا يتزين لهم في أفعاله، ولا يسعى لعلو منزلته عندهم، بل يستغني عنهم، وينقطع من قلبه الطمع فيهم، ومن ثَّم لا يرائيهم بأقواله أو أفعاله ..
إن الرياء صورة بغيضة تعكس جهلًا عظيمًا بالله ﷿، وضعفًا شديدًا في الإيمان به .. هذه الصورة يمكنها أن تضمحل وتنمحي تلقائيًّا بزيادة الإيمان الحقيقي بالله والثقة فيه.
الراغبون في الله:
- يقول أنس بن مالك ﵁: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله .. غبتُ عن أول قتال قاتلته المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين لَيَرَيَنَّ الله مني ما أصنع.
فلما كان يوم أُحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني: المسلمين)، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعنى: المشركين)، ثم تقدم فاستقبل سعد بن معاذ، فقال: يا سعد، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها دون أحد. قال سعد: فما أستطيع أن أصف ما صنع (٢).
- ويقول سعد بن أبي وقاص: لما كانت «أحد» لقيَني عبد الله بن جحش وقال: ألا تدعو الله؟ فقلت: بلى. فخلونا في ناحية، فدعوت، فقلت: يارب إذا لقيت العدو فلَقِّني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمَّن عبد الله بن جحش على دعائي، ثم قال: اللهم ارزقني رجلًا شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت: فيم جُدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت.
قال سعد: كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط (٣).
_________
(١) نفحات الإيمان لأبي حسن الندوي.
(٢) رواه البخاري (٣/ ١٠٣٢، برقم ٢٦٥١).
(٣) أخرجه البيهقي في سننه (٦/ ٣٠٧)، والحاكم في المستدرك (٢/ ٨٦) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه، وأورده الذهبي في السير (١/ ١١٢).
1 / 15
وعندما أراد مشركوا مكة قتل خبيب بن عدي ﵁ طلب منهم أن يتركوه ليركع ركعتين، فوافقوا. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله، لولا أن تظنوا أني إنما طوَّلت جزعًا من القتل لاستكثرت من الصلاة. ثم رفعوه على خشبة، فلما أوثقوه قال: اللهم إنَّا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يُصنع بنا ..
وبعد أن صلبوه أنشد شعرًا قال فيه:
فذا العرش صبِّرني على ما يُراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد بان مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شِلْوٍ ممزَّع
لعمري ما أحفِلْ إذا مت مسلمًا ... على أي حال كان في الله مضجعي (١)
ومن ثمار الإيمان
سابعًا: اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكلات بين الأفراد
عندما يضعف الإيمان: يعلو الهوى ويسيطر على الإرادة.
والهوى هو كل ما تميل إليه النفس، أي أن غلبة الهوى معناها سيطرة النفس بأطماعها على إرادة الإنسان وقلبه، فيصبح أسيًرا لها.
فالنفس شحيحة تحب الاستئثار بكل ما تظن أن فيه نفعها فينشأ عن هذا الهوى - عندما يتمكن من القلب - الطمع والظلم والبخل والتعدي على حقوق الآخرين.
والنفس تريد دومًا العلو على الآخرين وتكره أن يتميز عليها أحد فينتج عن ذلك الحسد والحقد.
والنفس تكره الظهور بمظهر المخطئ فينشأ عن هذا الهوى عندما يسيطر على القلب: الكذب والغش والخداع ..
والنفس تكره المشاقّ والتكاليف فينشأ عن ذلك: الفسوق وعدم القيام بالأوامر الشرعية ...
وهكذا تنطلق جميع الظواهر السلبية والمشكلات من ضعف الإيمان وغلبة هوى النفس.
والحل الأول والأمثل لعلاج المجتمع المسلم من ظواهره السلبية إنما يكون بإصلاح الإيمان، فكلما ازداد الإيمان في القلوب انحسر تأثير الهوى عليها وقويت الإرادة ودفعت صاحبها لمكارم الأخلاق ومعاليها .. تأمل قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [ص/٢٤].
إيقاظ الإيمان هو البداية الصحيحة لحل المشكلات:
إن العمل على زيادة الإيمان في القلوب هو الحل الأول لكثير من المشكلات، ففي ظل الأجواء الإيمانية تذعن القلوب لداعي العفو والصفح والتسامح والتغاض عن الهفوات، فالإيمان يصنع المعجزات، ويروض النفوس، لذلك فإنه ليس من المناسب أن نحكم على شخص ما حكمًا نهائيا من خلال سلوكياته التي قد تبدو منه في حالة ضعف إيمانه، وليس من المناسب كذلك أن تدفعنا تلك التصرفات إلى مواجهته واتخاذ موقف مضاد منه؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى الاجتهاد في الانتصار لنفسه وإثبات صحة موقفه، فتزداد الأمور تعقيدًا، لذلك فالمقترح في مثل هذه الحالات أن تكون البداية هي العمل على إيقاظ الإيمان في القلوب، فتتحول تدريجيًّا الأجواء المحيطة إلى أجواء صحية يسعى فيها الجميع إلى مرضاة الله ﷿.
ففي مثل هذه الأجواء الإيمانية تصبح - في الغالب - نفس المرء وراءه وليست أمامه، عند ذلك ستتغير الدوافع، وتنتهي الكثير من المشكلات تلقائيًّا بإذن الله.
ليس معنى هذا هو انعدام حدوث المشكلات بين الأفراد، فالطبيعة البشرية وما تحمله من ضعف تأبى ذلك، ولكنها - إن حدثت - تكون هينة، عارضة سرعان ما تزول عندما يسمع أصحابها حادي الإيمان ينادي عليهم أن اتقوا الله ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص/٣٠].
_________
(١) سيرة ابن هشام (٢/ ١٧٢)، وسيرة ابن كثير (٣/ ١٣٠)، وحلية الأولياء لأبي نُعيم (١/ ١١٣)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (١/ ٤٨).
1 / 16
فعلى سبيل المثال: عندما عزم أبو بكر الصديق على قطع النفقة التي كان ينفقها على مسطح بن أثاثة لأنه كان ممن تكلم في حادثة الإفك نزل القرآن ليُذكّره وغيره بفضيلة العفو بقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور/٢٢] فعند ذلك قال الصديق: بلى والله إنّا نحب أن تغفر لنا يا ربنا، ثم أرجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا (١).
وعندما اختلف رجلان على ميراث بينهما وذهبا يحتكمان إلى رسول الله ﷺ، فماذا فعل معهما؟!.
عن أم سلمة ﵂ قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله ﷺ في مواريث بينهما قد دُرِست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله ﷺ: «إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحَن بحُجَّته من بعض فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لأخي. فقال رسول الله ﷺ: «أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخَّيَا الحق ثم استهما ثم ليتحلل كل واحد منكم صاحبه» (٢).
غنائم بدر:
عندما انتصر المسلمون على المشركين في غزوة بدر كانت هناك غنائم كثيرة مما أدى إلى اختلاف البعض حول كيفية توزيعها، وظن بعض الشباب أنهم أحق مِن غيرهم من الشيوخ .. فكيف تمَّت معالجة هذه المشكلة؟
نزلت سورة الأنفال وبدأت بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ١]. فخرجت الغنائم من أيديهم تمامًا، وأصبحت لله ورسوله.
ثم بدأت الآيات تذكِّرهم بالإيمان وعلاماته، وأوردت بعض صفات المؤمنين ليعرض كل منهم نفسه عليها ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: ٢ - ٤].
فهل يفكر أحد بعد هذه الآيات في الغنائم، أم أنه سيفكر في نفسه، وأين هو من هذه الصفات، وهل هو مؤمن حقا أم لا؟
ثم تمضي السورة فتذكرهم بما مَنَّ الله عليهم من نصر عظيم في هذه الغزوة المباركة، وأن هذا النصر كان من عند الله ﷿ وحده، لا من عند أنفسهم، فلقد غشَّهم بالنعاس، وأنزل عليهم الغيث، وأمدهم بالملائكة، وسدد رميهم، وثبت أقدامهم، وأوهن كيد عدوهم.
ثم تذكرهم الآيات بضرورة الاستجابة لله والرسول، وتخوِّفهم بأن الله يحُول بين المرء وقلبه.
_________
(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٣/ ٢٥٩، ٢٦٠.
(٢) أخرجه الإمام أحمد (٦/ ٣٢٠)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن، وابن أبي شيبة (٧/ ٣٥٣). والإسطام: هي الحديدة التي تُحرَّك بها النار.
1 / 17
وتعود الآيات بذاكرتهم إلى أيام مكة حين كانوا مستضعفين: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٦].
وبعد أن تجردت القلوب لله، وراجع كل واحد منهم إيمانه، ونسي أمر الغنائم .. جاءت الآية الحادية والأربعين لتتحدث عن كيفية تقسيم الغنائم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: ٤١].
ومن ثمار شجرة الإيمان المباركة
ثامنًا: التأثير الإيجابي في الناس
ليس على المسلم فقط أن يكون صالحًا في نفسه، بل عليه أن يعمل على إصلاح غيره ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان/١٧].
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت/٣٣].
﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف/١٧٠].
فالدعوة إلى الله هي عمل الرسل وأتباعهم ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف/١٠٨].
ونجاح الداعية في دعوته للناس يعني التأثير الإيجابي فيهم .. هذا التأثير يستلزم وجود روح حي، ورغبة جارفة تهيمن على قلبه تستحثه لإنقاذ الآخرين، فيخرُجُ كلامه محملًا بالحرقة والشفقة عليهم .. ولا يمكن التلبس بهذه الحالة إلا من خلال يقظة الإيمان وتمكنه في قلبه.
الإيمان الحي يدفع صاحبه للبدء بنفسه في القيام بالعمل الصالح قبل أن يدعو الناس إليه، فيصدق قوله فعله، ومن ثَمَّ يزداد تأثيره في الآخرين.
يقول سيد قطب: الكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال، ويؤيدها العمل هي الكلمة المثمرة، التي تُحرك الآخرين إلى العمل.
ويقول: أيما داعية لا يصدق فعله قوله، فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب مهما كانت كلماته بارعة، وعباراته بليغة (١).
متى نؤثر في الناس:
إن تغيير حال الأمة الأليم لن يتم إلا إذا غيَّر أبناؤها ما بأنفسهم، ألم يقل سبحانه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
والواقع يخبرنا بأن هذا التغيير ليس بالأمر اليسير .. فموجة المادية في عُلو، وانجذاب المسلمين نحو طين الأرض في ازدياد، ولكي يتم الأخذ بأيديهم إلى تغيير ما بأنفسهم، وتقوية الإيمان في قلوبهم، وتصحيح الأفكار والمعتقدات في عقولهم، والتأثير الإيجابي الدائم فيهم؛ لابد من وجود رجال مؤمنين إيمانًا قويًّا راسخًا كالجبال يصمد أمام أمواج المادية العاتية، ويُعين الناس على الخروج من بحر الشهوات.
من هنا نقول بأن البداية الصحيحة للتغيير هي وجود الشخص المتوهج، صاحب الروح اليقِظة، والإيمان الحي، وكما يقول الإمام حسن البنا: إذا وُجِد المؤمن الصحيح وُجِدَت معه أسباب النجاح جميعًا.
_________
(١) في ظلال القرآن ٤/ ٢٣٦٩.
1 / 18
القلوب بيد الله:
إن الذي يفتح القلوب لكلام الدعاة هو الله ﷿ فإن رأى منهم صدقًا وإخلاصًا، ورغبة في نفع المدعوين، وشفقة صادقة عليهم فإنه سبحانه يفتح لهم - بفضله - قلوبهم.
وكلما علت منزلة العبد عند ربه بالإيمان أحبه الله ﷿، ومن ثَمَّ وضع له القبول في الأرض كما في الحديث: «إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» (١).
أصلح نفسك تُصلَح لك رعيتك:
انظر إلى أبي بكر الصديق ﵁ وهو يمشي بجانب راحلة عمرو بن العاص ﵁ وهو يوصيه قبل سفره على رأس الجيش المتوجه إلى الشام قائلًا: «يا عمرو، اتق الله في سرائرك وعلانيتك واستحيه، فإنه يراك ويرى عملك .. فكن من عمال الآخرة، وأَرِد بما تعمل وجه الله، وكن والدًا لمن معك، ولا تكشفن الناس عن أستارهم، واكتفِ بعلانيتهم .. وإذا وعظت أصحابك فأوجز، وأصلح نفسك تُصلَح لك رعيتك» (٢).
ولما حضر أبا بكر الموت أوصى باستخلاف عمر بن الخطاب، ثم بعث إلى عمر فدعاه فكان مما وصاه به: إن أول ما أحذرك نفسك، وأحذرك الناس .. فإنهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت الله وفَرَقْته (٣).
وعن المِسوَر بن مخرمة قال: كنا نتعلم من عمر بن الخطاب الورع (٤).
ومن ثمار الإيمان:
تاسعًا: اتخاذ القرارات الصعبة
يتعرض المرء في حياته لمواقف تحتاج منه إلى اتخاذ قرارت قد ينتج عنها نقص يلحق به، أو أذى يُصيبه، أو ضيق الآخرين منه، لذلك تجده مترددًا قبل اتخاذها، ويظل يُفكِّر فيها، ويوازن بين الواجب الديني الذي يحُثُّه على فعل الشيء وبين الأضرار التي قد تترتب على فعله، مما قد يؤدي في النهاية إلى ترك القيام به، فيُفوِّت على نفسه مصالح كثيرة في دنياه وآخرته.
هذا الحال يعكس ضَعف القلب وعدم تمكن الإيمان منه، وفي المقابل؛ كلما ازداد الإيمان قَوِي القلب وسهل على صاحبه اتخاذ القرارات التي قد يكون لها من الناحية الظاهرية تأثير سلبي عليه ..
ومن أمثلة هذه القرارات: الشهادة على النفس أو الآخرين، الاعتراف بالخطأ، قبول النُصح، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأصدقاء وأصحاب المناصب، الإنفاق في وقت العُسرة، التضحية بما يحبه المرء ..
نماذج مشرقة:
وإليك أخي القارئ بعض الأمثلة العملية من حياة الصحابة، والتي تؤكد هذا المعنى:
- قال عروة: رأيت عمر بن الخطاب ﵁ وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك ذلك، فقال: لمَّا أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخلت في نفسي نخوة، فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها (٥).
_________
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري (٣/ ١١٧٥، رقم ٣٠٣٧)، ومسلم (٤/ ٢٠٣٠، رقم ٢٦٣٧).
(٢) حياة الصحابة ١/ ٥٤٤.
(٣) حياة الصحابة ١/ ٥٤١.
(٤) أخرجه ابن سعد (٣/ ٢٩٠).
(٥) صلاح الأمة في علو الهمة للدكتور سيد حسين العفاني (٥/ ٤٣٥).
1 / 19