أبواب الخير
فتح الله ﷿ لعباده أبواب الخير وضاعف أجورهم، ترغيبًا لهم في دخولها، والتنافس فيها، ونوع ﷿ هذه الأبواب؛ حتى إذا تعذر على المرء أحدها وجد غيره أمامه مفتوحًا، فعلى المسلم أن يشمر عن ساعد الجد لاغتنام أعمال الخير والتزود منها لملاقاة ربه ﷿.
1 / 1
فضل تفريج كربات المسلمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [الأنعام:١٣٤].
ثم أما بعد: يقول ﵌: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
هذه أبواب عظيمة -عباد الله! - من أبواب الخير يعلمها لنا معلم الخير ﵌، فأول هذه الأبواب: تنفيس كربات المؤمنين، (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، فالجزاء من جنس العمل، كما قال ﷿: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:١٥٢] وقال النبي ﷺ: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وقال ﷺ: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)، فالجزاء من جنس العمل.
فـ (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة).
فإن قال قائل: لماذا قابل النبي ﷺ كربة الدنيا بكربة يوم القيامة فقال: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، ثم قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة)، ولم يقل ﷺ: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الدنيا وكربة من كرب يوم القيامة؟ ف
الجواب
أن الكربة هي: الشدة الشديدة، وأكثر الناس لا يصابون بذلك، وإنما قليل منهم من يصاب بهذه الكرب العظيمة في الدنيا، ثم إن تنفيس كربة يوم القيامة أضعاف مضاعفة من تنفيس كرب الدنيا، كما دلت على ذلك الأدلة.
يقول النبي ﷺ في حديث الصحيحين في الشفاعة: (يترك الله ﷿ الناس بعضهم يموج في بعض.
أي: لا يقضي بينهم بحساب، فيبلغون من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم؟ ألا تنظرون أحدًا يشفع لكم عند ربكم؟ فيذهبون إلى آدم فيقول: لست لها، ويحيلهم على نوح ﵇، وهو أول أولي العزم من الرسل، فيقول: لست لها، فيحيلهم على إبراهيم، ثم يحيلهم إبراهيم على موسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم، ثم يذكر موسى القبطي الذي قتله فيحيلهم على عيسى، فيقول عيسى: لست لها، ولكن ائتوا محمدًا عبدًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون نبينا محمدًا ﷺ فيقول: أنا لها أنا لها، فيدخل على ربه ﷿، فإذا رأى ربه ﷿ خر ساجدًا فيقال: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع في الخلائق كلهم).
فالله ﷿ يترك الناس يموج بعضهم في بعض، كما قال تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ [الكهف:٩٩].
يقول عبد الله بن مسعود ﵁: (تدنو الشمس م
1 / 2
فضل ستر المسلمين والتحذير من تتبع عوراتهم
قال ﷺ: (ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة).
والناس أحد رجلين: إما أن يكون مشهورًا بالصلاح، أو مستور الحال على كل حال لا يعرف منه جرأة على الله ﷿، ولا فسق عن شرع الله ﷿، فمثل هذا إذا وقع في معصية فينبغي على المسلمين أن يجتهدوا في ستره، ولا يرفعوا أمره إلى السلطان لإقامة الحد عليه، ويؤمر بأن يستر على نفسه، وأن يتوب بينه وبين الله ﷿.
وكان أحد العلماء يأمر من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقول له: اجتهد في ستر عصاة المسلمين، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، والمعاصي إذا ظهرت وعرفت فإنها تضر الناس كلهم، وإذا كانت مستورة لم تضر إلا صاحبها، فينبغي للمسلم أن يسعى في ستر عصاة المسلمين.
يقول ﷺ: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يبلغ الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم -أي: عيوبهم وذنوبهم- فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته).
فإذا كان يجتهد في كشف الستر عن العصاة وفضح من يعصي الله ﷿ فإن الله ﷿ يتتبع عورته حتى يظهر للناس فضائحه ومعاصيه.
فينبغي للمسلمين أن يجتهدوا في ستر عصاة المسلمين، والمجتمع المسلم مجتمع طاهر نظيف لا تظهر فيه المعاصي ولا الفواحش، ومن عصى الله ﷿ اجتهد الناس في ستره.
والصنف الثاني من الناس: من يكون مجاهرًا بمعصية الله ﷿، ولا يبالي إذا ذكر بهذه المعاصي بل يتباهى بمعصيته لله ﷿، فمثل هذا ينبغي للناس أن يأخذوا على يديه، وأن يرفعوا أمره إلى ولاة الأمر من أجل أن يقام الحد عليه؛ حتى ينزجر هو وأمثاله عن الجرأة على معصية الله ﷿ وعلى شرعه.
1 / 3
فضل إعانة المسلمين
قال ﷺ: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) وهذا أيضًا لأن الجزاء من جنس العمل، فمن كان يساعد إخوانه ويسعى في قضاء حوائجهم فالله ﷿ يساعده ويقضي له حوائجه.
وأرسل الحسن البصري جماعة من أصحابه في قضاء حاجة لأخ لهم، وقال لهم: مروا بـ ثابت البناني فخذوه معكم، فمروا بـ ثابت فاعتذر وقال: أنا معتكف، فلما بلغوا الحسن البصري قال لهم: قولوا له: يا أعمش! أما علمت أن سعيك في حاجة أخيك خير لك من حجة بعد حجة -والأعمش لقبه- فذهبوا إلى ثابت فأخبروه بقول الحسن فخرج معهم.
وكان أبو بكر ﵁ يحلب للحي أغنامهم؛ لأنه كان من العيب عند العرب أن تحلب النساء الغنم، فكان إذا غاب الرجال لا تجد النساء من يحلب الغنم، فكان أبو بكر يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف، قالوا: الآن لا يحلبها، قال: إني لأرجو ألا يمنعني ما دخلت فيه عن عمل كنت أعمله.
وكان عمر ﵁ يتعاهد الأرامل ويقضي لهن حوائجهن، فرآه طلحة بن عبيد الله -أحد العشرة المبشرين بالجنة- يتردد على بيت امرأة في الليل، فدخل طلحة بالنهار فرأى عجوزًا عمياء مقعدة، فقال: ما يفعل هذا الرجل عندك؟ قالت: إنه منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ويحك يا طلحة! أوعورات عمر تتبع؟ وكان أبو وائل يدور على عجائز الحي يقضي لهن حوائجهن من السوق.
ويقول مجاهد أحد التابعين: صحبت ابن عمر في سفر لأخدمه فكان يخدمني.
هذا هدي السلف ﵃، وهذا حرصهم على طاعة الله ﷿ وعلى قضاء حوائج إخوانهم، (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
1 / 4
فضل تعلم العلم
قال ﷺ: (ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة) والطريق إلى تحصيل العلم إما أن يسعى إلى عالم يتعلم منه أو يسأله، أو يسعى إلى معهد أو مدرسة يتعلم منها العلوم الشريفة علوم الشرع، وإما أن يكون طريقًا معنويًا كأن ينوي دراسة علم معين، أو ينظم إلى معهد أو مدرسة أو دار تحفيظ؛ من أجل أن يدرس علمًا من العلوم الشرعية.
ف (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة).
قالوا: وتسهيل الطريق إلى الجنة إما أن يسهل الله ﷿ له هذا العلم، والعلم يوصل إلى الله ﷿ وإلى الجنة من أقرب طريق، كما قال بعضهم: هل من طالب علم فيعان عليه؟ والعبد لا يعرف كيف يتقي الله ﷿ حتى يعلم ما يحبه الله ﷿ ويرضاه، إذ كيف يتقي من لا يدري كيف يتقي؟ فلا بد أن يتعلم العلم حتى يتقي الله ﷿، بل إن الله ﷿ حصر الخشية منه في العلماء، فقال ﷿: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:٢٨].
وإنما أداة حصر في اللغة.
وقال عبد الله بن مسعود: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله ﷿ جهلًا.
وقيل للإمام الشعبي: يا عالم! قال: إنما العالم من يخشى الله.
فالعلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان.
أما علم اللسان فلا ينتفع به العبد، وأما علم القلب فهو الذي ينتفع به العبد، وهو أول علم يرفع من الأرض، كما قال النبي ﷺ: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن ينزع العلم بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
فنزع العلم من قلوب العلماء جائز في قدرة الله ﷿؛ لأن الله على كل شيء قدير، ولكن هذا الحديث يبين أن ذلك لا يحدث، وأن الله ﷿ إذا أراد أن يرفع العلم فإنه يقبض العلماء، ولا ينزع العلم من صدورهم، ولكن يقبض علماء السنة، الذين هم علماء القلب والخشية، فيتخذ الناس رءوسًا جهالًا فيسألون فيفتون بغير علم فيَضِلُّوا ويُضِلُّوا، فهذا أول علم يرفع كما قال بعضهم: ألا أخبركم بأول علم يرفع هو الخشوع.
فينزع هذا العلم أولًا -عباد الله- ثم ينزع كذلك علم اللسان، وكما قال النبي ﷺ: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب -أي: نقش الثوب- فلا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة، ويسرى على كتاب الله ﷿ في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الرجل الكبير والمرأة العجوز يقولون: لا إله إلا الله وجدنا آباءنا عليها فنحن عليها إلى أن يتوفانا الله).
فقال صلة بن زفر لـ حذيفة: يا حذيفة! ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة حتى كررها ثلاثًا، فقال حذيفة: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار.
فبعد أن يرفع علم القلب وهو الخشية يرفع كذلك العلم من السطور ومن الصدور، ونعوذ بالله من أن ندرك هذا الزمان.
فالله ﷿ يرفع القرآن قبل قيام الساعة، فلا يبقى في الأرض منه آية.
فاعرفوا عباد الله! نعمة العلم النافع ونعمة القرآن، وتصوروا هذا الزمان الذي يرفع فيه القرآن من السطور ومن الصدور فيعيش الناس بلا قرآن كأنهم البهائم، ويبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، وتأتي ريح من جهة الشمال فتأخذ المؤمنين من تحت آباطهم فتقبض كل روح مؤمنة، ولا يبقى إلا الكفرة والفجرة، فكيف تكون الأرض بعد ذلك؟ ثم تقوم القيامة بعد ذلك على شرار الخلق بعد أن يرفع القرآن، وبعد أن تهدم الكعبة على يد ذي السويقتين الحبشي حجرًا حجرًا، فتهدم الكعبة ويرفع القرآن.
فينبغي أن نعرف نعمة وجود الكعبة وحج الناس وعمرتهم إليها، ونعمة وجود العلم النافع والعمل الصالح، ونعمة القرآن وهذا يرفع في آخر الزمان، فيرفع أولًا علم القلب وهو الخشوع، ثم يرفع كذلك علم اللسان، فيرتفع القرآن من الصدور ومن السطور، فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى ناس لا يعرفون من الإسلام إلا كلمة: لا إله إلا الله.
فيقول صلة بن زفر أحد التابعين لـ حذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة؟ فقال: تنجيهم من النار.
وهذا فيه دليل على الحكم بإسلام من نطق بالشهادتين إذا جهل كل شرائع الإسلام من الصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك، وهو من أدلة العذر بالجهل، فإن في آخر الزمان يبقى ناس لا يعرفون صلاة ولا صيام ولا صدقة ويجهلون ذلك، ولا سبيل لتحصيل علم ذلك؛ لأن ذلك قد رفع من الأرض وتعذر الوصول إليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
1 / 5
فضل الجلوس في حلقات العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
قال ﷺ: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم فيمن عنده).
والصحابة لقوة يقينهم وشدة إيمانهم رأوا هذه الأمور الغيبية عيانًا في عالم المشاهدة، كما في حديث البراء بن عازب في الصحيحين: (كان رجل يقرأ القرآن فغشيته مثل السحابة فجعلت تدور وتدنو، فسأل النبي ﷺ فقال: هذه السكينة تنزلت بالقرآن).
فرأى السكينة في صورة سحابة كلما قرأ تدنو وتقترب منه، فلما سأل النبي ﷺ قال: (هذه السكينة تنزلت بالقرآن).
وكذلك الرحمة رآها النبي ﷺ كما في حديث سلمان الفارسي فقد روى الحاكم في مستدركه: (أن النبي ﵌ خرج على جماعة فقال: ما كنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردت أن أشارككم فيها) فكانوا في ذكر الله ﷿ وفي طاعته ﷿، فرأى النبي ﷺ الرحمة وهي تنزل على أصحابه فانضم إليهم حتى يأخذ نصيبه منها.
وفي الصحيحين كذلك من حديث أسيد بن حضير: أنه كان يقرأ في مربده أي: في مربط فرسه، فكلما قرأ جالت فرسه -أي: تحركت فرسه- فإذا سكت سكنت الفرس، قال: فخشيت أن تطأ يحيى -أي: ولده- فنظرت في السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، أو أمثال السرج فعرجت في السماء حتى ما أراها، فلما أصبح ذهب إلى النبي ﷺ فأخبره، فقال: (هذه الملائكة نزلت تسمع القرآن، ولو قرأت لأصبحت ينظر إليها الناس ما تستر منهم)؛ لأن الملائكة والجن وعذاب القبر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وتلميذه ابن رجب: من الغيب الذي يكشفه الله ﷿ لمن شاء من خلقه.
ولكن الله ﷿ قد يري بعض خلقه الملائكة كما رأى النبي ﷺ جبريل في صورة دحية الكلبي، ورآه الصحابة ﵃، ففي الحديث: (بينما نحن جلوس عند النبي ﷺ جاءه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ولا يعرفه منا أحد، وجلس إلى النبي ﷺ وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم سأله عن علامات الساعة؟ فقال النبي ﷺ بعد أن انصرف: علي بالرجل، فطلبوه فلم يجدوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) فالملائكة يريها الله ﷿ من يشاء من عباده، فـ أسيد بن حضير رأى الملائكة وهي تنزل في مثل الظلة، قالوا: وهذا الظلة هي السحابة في الحديث المذكور آنفًا؛ لأن هذه ملائكة الرحمة تنزل معها الرحمة والسكينة.
ويقول النبي ﷺ كما في صحيح مسلم: (إن لله ملائكة سيارة يطوفون في الطرقات يلتمسون أهل الذكر، فإذا رأوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف وجدتم عبادي؟ قال: وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، قال: هل رأوني؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوني؟ قالوا: لو رأوك لكانوا أكثر لك تسبيحًا وتحميدًا وتكبيرًا، قال: فماذا يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أشد لها طلبًا، وأكثر لها سعيًا، قال: ومما يتعوذون؟ قالوا: يتعوذون من النار، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب العالمين! قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أكثر منها استعاذة، وأشد منها فرارًا، قال: أشهدكم يا عبادي! أني قد غفرت لهم، فيقال: فيهم فلان ليس منهم وإنما أتى لحاجة، فيقول ﷿: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فهذه الملائكة تحب ما يحبه المؤمنون من ذكر الله ﷿، فهي تبحث عن أهل الذكر، فإذا رأتهم تسابقت في رفع أعمالهم الصالحة إلى الله ﷿، كما أخبر النبي ﷺ عندما سمع أن رجلًا يصلي خلفه فلما قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم لك الحمد حمدًا طيبًا مباركًا فيه، كما تحب ربنا وترضى، فسأل النبي ﷺ عن قائل هذه المقالة فأخبر فقال: (والله لقد ابتدرها كذا وكذا ملك أيهم يصعد بها إلى الله ﷿ من حبهم للمؤمنين).
فهم يحبون أن يرفعوا الكلام الطيب إلى الله ﷿، ويتسابقون في ذلك؛ لأنهم يعلمون أن الله ﷿ يحب أن يتفضل على عباده ويكرمهم، كما قال النبي ﷺ: (
1 / 6
التفاضل عند الله بالأعمال لا بالأنساب
قال ﷺ: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) أي: لا يساعده ولا يسرع به أن أباه أحد المشايخ أو الصالحين أو الأولياء، أو أنه من نسب النبي ﷺ، قال ﷿: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون:١٠١]، ولا ينفع نسب النبي ﷺ إلا أهل الإيمان والطاعة والعمل الصالح، قال النبي ﷺ: (كل نسب مقطوعة يوم القيامة إلا نسبي وصهري)، تزوج عمر ﵁ أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب قال: والله ما بي حاجة إلى الزواج، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (كل نسب مقطوعة يوم القيامة إلا نسبي وصهري).
فلا ينفع نسب النبي ﷺ إلا من كان من أهل الإيمان والعمل الصالح.
فهم النبي ﷺ وشقيق أبيه أبو لهب ينزل فيه في الدنيا: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد:١ - ٥] فلم ينفعه نسب النبي ﷺ وهو كافر، فلا ينفع نسب النبي ﷺ إلا أهل الإيمان وأهل العمل الصالح، وأما سائر الأنساب فلا تنفع بحال من الأحوال، بل إن الأنساب يوم القيامة تتقطع، (فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وكما قال النبي ﷺ: (يضرب الصراط على ظهري جهنم فأكون أول من يجيزها، ويمر الناس بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كشد الرجل، أي: إسراع الرجل في المشي، ومنهم من يتلبط على بطنه فتعلق يد فيجرها، وتعلق رجل فيجرها، فيقول: يا رب! لم أبطأت بي؟ فيقول: إني لم أبطئ بك ولكن أبطأ بك عملك).
فتكون قوة مشي العبد على الصراط بحسب قوة عمله، والصراط على متن جهنم، فمنهم من يكردس في جهنم، ومنهم الناجي، ومنهم الناجي المخدوش وغير ذلك، فمن أبطأ به عمله في المرور على الصراط لم يسرع به نسبه.
فهذا الحديث النبوي الشريف يتضمن وصايا عظيمة، وأبوابًا كبيرة من أبواب الخير، وهو قوله ﷺ: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.
اللهم أعزنا بالإسلام قائمين، وأعزنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.
اللهم فرج كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، ورد غائبنا بخير وعافية يا رب العالمين! اللهم بلغنا رمضان، اللهم سلمنا إلى رمضان، وتسلمه منا متقبلًا.
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم إنا نسألك أن تذل اليهود والأمريكان، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان الحاقدين، ومن والاهم من العلمانيين والمنافقين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
1 / 7
أحوال القلوب
لقد جعل الله تعالى من قلوب عباده القلب السليم، وهو قلب المؤمن الذي سلم من الشرك والبدعة والشهوة المحرمة والشبهة، وجعل منها القلب الميت، وهو قلب الكافر، وجعل منها القلب المريض، وهو الذي تمده مادة فيها حياته؛ وهي محبة الله، ومادة فيها هلاكه؛ وهي محبة سوى الله والتلوث بأوضار الشهوات والشبهات، وعلاج هذا البلاء هو القرآن الكريم تلاوة وعملًا.
2 / 1
أقسام القلوب
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلًا، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلًا، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد:٢١].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين.
ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال:٤٢].
فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله ﷿ وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله ﷿، وخير الهدي هدي محمدٍ ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [الأنعام:١٣٤].
لما كانت القلوب -عباد الله- توصف بالحياة وضدها، قسم العلماء القلوب إلى ثلاثة أقسام هي: القلب الصحيح أو السليم، والقلب المريض أو السقيم والقلب الميت.
وقالوا في تعريف القلب السليم: هو القلب الذي قد صارت السلامة صفة له، فقد سلم مما سوى الله ﷿، فإذا أحب أحب في الله، وإذا كره كره في الله، وإذا أعطى أعطى في الله، وإذا منع منع في الله، ولا تتم سلامة هذا القلب، حتى يعقد صاحبه مع الرسول ﵌ عقدًا محكمًا مبرمًا على الائتمام به في جميع أقواله وأفعاله، فسلم من عبودية غير الله ﷿، ومن اتباع غير رسول الله ﵌، ولا يدخل الجنة إلا من أتى الله ﷿ بقلب سليم، قال تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:٨٨ - ٨٩].
القلب الميت: فهو الذي أخلص العبودية لهواه، فإذا أحب أحب لهواه، وإذا كره كره لهواه، وإذا أعطى أعطى لهواه، فهواه آثر عنده من رضا مولاه، والدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، ينادى إلى الله والدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب إلى الداعي، ويتبع كل شيطان مريد، فصاحب هذا القلب واقف مع حظوظه وشهواته، لا يبالي ﵁ أم سخط، كما قال الله ﷿: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية:٢٣].
قال بعض السلف: هو الذي كلما هوى شيئًا ركبه.
كلما زينت له نفسه فعل شيء فإنه يفعله، لا يحجزه شيء من تقوى الله ﷿، ولا يدفعه شيء إلى حب الله ﷿.
وبين القلب السليم والقلب الميت القلب السقيم: وهو الذي تمده مادتان، ففيه من محبة الله ﷿ والدار الآخرة ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها ما هو مادة هلاكه وعطبه، فقد يدعوه الداعي إلى الله ﷿ فيستجيب له، وقد يدعوه إلى غير الله ﷿ فيستجيب له.
فالقلب الأول: حي مخبت واعٍ، والثاني: يابس ميت، والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى الموت أدنى.
يقول حذيفة ﵁: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان، مادة إيمان، ومادة نفاق فهو للغالب عليه منهما.
ومعنى قلب أجرد، أي: متجرد مما سوى الله ﷿، قد أخلص عبوديته ومحبته لله ﷿.
وفيه سراج يزهر: أي: فيه مصباح يضيء، وهو المؤمن الذي وصفه الله ﷿ بقوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام:١٢٢].
فالمؤمن في قلبه مصباح يضيء يميز به بين الشبهات والدلائل الواضحات، وبين البدعة والسنة، والهدى والضلال، ففي قلبه فرقان يفرق به بين الحق والباطل.
وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وهو الذي قد دخل قلبه في غلاف فلا يخرج منه كفر ولا يدخله إيمان، كما قال الله ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة:٦].
والقلب الثالث: قلب منكوس عر
2 / 2
آفات القلب إذا تشرب الفتن
إن القلب الذي يشرب الفتن ينتكس حاله، ويصاب بآفتين عظيمتين متضامنتين إلى هلاكه وعطبه.
2 / 3
اختلاط الحق بالباطل على القلب
الآفة الأولى: أنه يختلط عليه الحق بالباطل، والهدى بالضلال، والطاعة بالمعصية، فلا يفرق بين طاعة ومعصية، ولا بين بدعة وسنة.
وقوله ﷺ: (حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا): أي: عليه ربدة، وهي: لون التراب.
وقوله: (كالكوز مجخيًا): كالكوز الذي قد علاه الصدى، المقلوب الذي لا ينتفع به وليس فيه خير وليس بحسن المنظر والمظهر.
فانظروا -عباد الله- كيف تؤثر الذنوب والمعاصي في القلوب؟ والله! لو نظر العبد نظرة محرمة لوجد غبها وأثرها وشقاءها في قلبه، فكيف بمن يقارفون الزنا، وشرب الخمر، وقتل النفس التي حرم الله؟ أفلا يؤثر ذلك على القلوب؟! بلى والله إنها تؤثر، وينتكس القلب، ويشتد عطبه وهلاكه حتى لا يستطيع العبد أن يميز بين هدى وضلال، وبدعة وسنة، فيصير القلب قبيح المنظر والمخبر، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه.
2 / 4
اتباع صاحب القلب لهواه
والآفة الأخرى: أن صاحب هذا القلب يتبع هواه، وإذا أعرض العبد عن شرع الله ﷿ وقع في اتباع الهوى.
فإما أن تكون متبعًا لشرع الله ﷿؛ معظمًا له، تتقيد بشرع الله، وتتكلم بشرع الله، وتعمل بشرع الله ﷿، وإما أن تكون متبعًا للهوى، كما قال الله ﷿: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ [ص:٢٦].
فاتباع الهوى يكون بعد الإعراض عن شرع الله ﷿، قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [القصص:٥٠]، وأكثر الناس اليوم يتبعون أهواءهم، لا يقيدهم شرع الله ﷿، ولا يقومون ولا يعملون به، سواء في ذلك الحكام أو المحكومين، الكل يتبع الهوى ويتخذ الهوى إلهًا من دون الله ﷿، لا يعظمون الله ﷿، ولا يعظمون شرع الله ﷿، فخاض الناس في طريق الهوى، والهوى يهوي بصاحبه في الدنيا والآخرة؛ يهوي بصاحبة إلى قمة الرذائل والفواحش والمنكرات في الدنيا، ويهوي به في النار يوم القيامة.
عباد الله: إن من اتبع الهوى ضاعت عليه مصالح الدنيا والآخرة، وخسر في الدنيا والآخرة: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:٢٨]، أي: ينفرط عليه أمره، وتذهب عليه مصالحه؛ فهذه آفة من الآفات التي تصيب القلب الذي يشرب الفتن، والذي يفتتن بالفتن يقع في اتباع الهوى إلا ما أشرب من هواه.
أما القلب الذي لا يشرب الفتن والذي ينكر المنكر ولا يفتتن بالشبهات فإنه يزداد إشراقه وبياضه، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض.
والقلوب -عباد الله- خلقت لمعرفة علام الغيوب وغفار الذنوب ﷿، فلا حياة لها، ولا صلاح لها ولا سعادة لها إلا في ذلك، والصحابة أطباء للقلوب، أبر الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، تربية رسول الله ﵌، علماء في أحوال القلوب وفي أقسام القلوب، يقول عبد الله بن مسعود لرجل: داو قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، أي: مراد الله ﷿ من العباد صلاح قلوبهم.
والعمل الصالح يثمر صبغة وصلاحًا في القلوب، فقد تكون أعمال العبد كثيرة ولكن فيها رياء أو عجب، أو غير اتباع سنة النبي ﵌، فالعمل الصالح هو الموافق لسنة رسول الله ﷺ، والذي ينتج عن الإخلاص والذي لا يفعله صاحبه عجبًا ولا رياء، ولذلك قال الله ﷿: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:٨٨ - ٨٩]، ما قال: من أتى كذا وكذا من الأعمال، ولكن جعل الدخول إلى الجنة بالقلب السليم، ومدح إبراهيم إمام الحنفاء وأبي الأنبياء، بقوله ﷿: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات:٨٤]، وكان إبراهيم ﵊ سليم القلب من الشرك، والولاء لغير الله ﷿، شديد المحبة لله ﷿، مخلص الدين لله ﷿، ألزمه الله ﷿ بملته وبشريعته، فقال: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج:٧٨]، وقال: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النحل:١٢٣].
2 / 5
بعد الصحابة عن اتباع الهوى وصلاح قلوبهم
إن العبد إذا أصيب قلبه باتباع الهوى فإنه يضل عن مصالحه في الدنيا والآخرة، فالصحابة كانوا يعلمون أن المدار على القلوب، وأن النجاة ببر القلوب، وأن العبد يسبق بقلبه وبأحواله الإيمانية أكثر مما يسبق به أصحاب الاجتهاد في الأعمال الظاهرة، كما قال ابن مسعود للتابعين: لأنتم أكثر عملًا من أصحاب رسول الله ﵌، ولكنهم كانوا خيرًا منكم؛ كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة، فيخبر ابن مسعود ﵁ التابعين أنهم أكثر اجتهادًا في العبادة؛ فهم أكثر صلاة وصيامًا وقيامًا، ولكن الصحابة سبقوا ببر القلوب، فقد تهيأت لهم أحوال، وصاحبوا النبي ﵌، وعاصروا التنزيل، فارتفعت أحوالهم الإيمانية، فلا يمكن أن يسبقهم من بعدهم، وإن اجتهد أكثر من اجتهادهم في الصلاة والقيام وتلاوة القرآن؛ لأن السبق سبق القلوب.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدًا وتجي في الأول فآيات الصدق والبذل والتضحية في جيل الصحابة ﵃ كانت مجيدة؛ لأن قلوبهم وصلت إلى درجة عالية جدًا من الأحوال الإيمانية من محبة الله، والإخلاص لدين الله ﷿ والرضا بالله ﷿ ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﵌ نبيًا ورسولًا، فلما انتفعت قلوبهم، وحسنت أحوالهم الإيمانية، وجدت مواقف إيمانية في البذل والتضحية لله ﷿، ووجدت الأعمال التي تصدق ما في القلوب من إيمان.
فلم يمكن للتابعين أو من بعدهم أن يلحقوا بهم أو يجدوا أثرًا من غبارهم في ذلك، فقد سبقوا سبقًا بعيدًا ﵃، وذلك لأنهم عاصروا رسول الله ﷺ سيد العابدين، قال بعض الصحابة: إن الله ﷿ نظر في قلوب الخلق فرأى قلب محمد ﵌ هو أنقى قلوب الخلق فاصطفاه الله ﷿ برسالته، ثم نظر في قلوب الخلق فرأى قلوب الصحابة ﵃ أنقى قلوب الخلق بعد قلب النبي ﷺ فجعلهم وزراء نبيه، فارتضاهم الله ﷿ لصحبة رسول الله ﵌، ثم إنهم ازدادوا صفاء، وإيمانًا، ومحبة لله ﷿ وبذلًا لإعلاء دين الله ﷿؛ لأنهم عاصروا رسول الله ﷺ.
يقول أنس ﵁ معبرًا عن حال الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ: ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله ﷺ حتى أنكرنا قلوبنا، أي: بمجرد أن دفنوا الجسد الشريف تغيرت قلوبهم؛ لأنهم فقدوا مصدرًا عظيمًا من مصادر الصفاء النفسي، والعلو الإيماني الذي كانوا يجدونه بمعاشرة رسول الله ﵌.
أما حساسيتهم من الذنوب: يقول أنس ﵁: إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله ﷺ من الموبقات، وأنس ﵁ لا يخاطب أمثالنا، ولكنه يخاطب الجيل المفضل الثاني بعد جيل الصحابة ﵃، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:٣٢]، وقال أيضًا: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج:٣٠].
فالمدار على القلوب، فقد خلقت لمعرفة علام الغيوب، وغفار الذنوب ﷿، فلا تسعد إلا بذلك؛ لا تسعد بالجاه ولا بشهوات ولا بدنيا ولا بأعراضها ولا شهرتها ولا زينتها، قال ﷿: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨]، فلا تسعد إلا بالله، ولا تصلح إلا بالله ﷿، يقول النبي ﷺ: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، فالعبد الذي في قلبه غير الله لابد أن يشقى بذلك، فإن القلب مثل السماوات والأرض: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء:٢٢]، فكذلك قلوب العباد لو كان فيها آلهة إلا الله ﷿ لفسدت بذلك فسادًا لا يرجى له صلاح، حتى تعرف ربها ﷿ وتوحده ﷿.
2 / 6
مرض القلوب بالشبهات والشهوات
والقلوب تمرض بنوعين من المرض، بأمراض الشبهات أو الشهوات، فأما أمراض الشهوات فكقول الله ﷿ لأمهات المؤمنين، وبالأولى جميع نساء الأمة: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب:٣٢]، فإن المريض يضره ما لا يضره السليم، والسليم يدفع بصحته وسلامته كثيرًا مما لا يتحمله المريض؛ فيأمر الله جل نساء بألا يخضعن بالقول؛ لأن هذا يؤثر في الذي في قلبه مرض الشهوة.
وأمراض الشبهات، كقول الله ﷿: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة:١٠]، قال مجاهد وغيره: في قلوبهم شك من لقاء الله، ومن وعد الله ﷿، ومن صدق الله ﷿.
فالقلوب تمرض بالشبهات أو الشهوات، وعلاج ذلك كله في كتاب الله ﷿: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء:٨٢].
فعلاج الشبهات والشهوات في القرآن، فالقرآن فيه من الأدلة البصرية والبراهين الواضحة الساطعة، وفيه من الدلائل والبينات ما يزيل كل شبهة من قلب العبد، وفيه من التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن زينة الدنيا والاهتمام بالآخرة، ما يزهد العبد من الدنيا وشهواتها؛ فيزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة، فيعالج بذلك القرآن أمراض الشبهة والشهوة، وبذلك كان العلاج بالقرآن، وكانت تلاوة القرآن من أنفع العبادات للقلب، كما قال خباب بن الأرت: تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه.
وكان ابن مسعود يقبل المصحف ويقول: كلام ربي كلام ربي.
وقال عثمان ﵁: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم.
فلو سلمت القلوب لأحبت القرآن، ولانسجمت معه؛ لأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وسبب انصراف الناس عن سماع القرآن وتلاوته لما في قلوبهم من شبهات وشهوات، فلو سلمت قلوبهم لأحبت القرآن، وتوافقت معه، وصار العبد لا يستغني عن سماعه وتلاوته ليل نهار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
2 / 7
أهمية نعمة الوقت
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستعديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
مع قدوم الإجازة الصيفية عباد الله لنا نصيحتان لإخواننا من الشباب ولعموم الناس.
النصيحة الأولى: أن نحرص على الأوقات، وألا نضيعها في غير الطاعات، فإن عمر العبد رأس ماله، وإن من أعظم نعم الله ﷿ علينا نعمة العمر، ونعمة الوقت، ونعمة الليل والنهار، ونعمة الأنفاس، كما قال ﷿: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم:٣٣ - ٣٤]، وقال ﷿: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان:٦٢].
قال بعض السلف: من فاتته طاعة الله ﷿ في الليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن فاتته طاعة الله ﷿ بالنهار كان له من أول الليل مستعتب.
فينبغي علينا -عباد الله- أن نعرف قيمة الوقت والنفَس، يقول النبي ﷺ: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والمغبون الذي باع شيئًا بأقل من ثمنه، أو اشترى شيئًا بأكثر من ثمنه، ويوم التغابن هو يوم القيامة؛ لكثرة المغبونين فيه، فأكثر الناس لا يعرفون نعمة الوقت والزمن والأنفاس، فلا يعمروا ذلك بطاعة الله ﷿، يقول النبي ﷺ: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه).
فينبغي علينا -عباد الله- أن نعرف شرف الوقت وشرف النفَس، فمن علامة المقت أضاعت الوقت، وعلامة التوفيق أن تكون أنفاس العبد في طاعة الله ﷿، وأن تكون أوقاته معمورة بطاعة الله ﷿، قال الشافعي: صحبت الصوفية فما استفدت منهم إلا حرفين: الحرف الأول: الوقت كالسيف فإن لم تقطعه قطعك، والحرف الثاني: النفس إن لم تشعلها بالحق شغلتك بالباطل.
وهذا كلام يكتب بماء الذهب، فالوقت كالسيف إن لم تقطعه بطاعة الله ﷿ قطعك أي: أنفقته في غير طاعة الله ﷿، فكان هلاكك في ذلك، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، فالذي لا يكون مشغولًا بالدعوة إلى الله ﷿ أو بطاعة الله ﷿، فإن نفسه ستشغله بمعصية الله ﷿، فتضيع عليه حياته في غير طاعة الله ﷿ فيهلك ولابد.
2 / 8
أهمية غض البصر
النصيحة الثانية: وهي أننا وصلنا إلى موسم الصيف موسم البلايا، موسم التبرج والفجور والسفور، فننصح أنفسنا بغض البصر، كما قال الله ﷿: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور:٣٠ - ٣١].
فأمر الله ﷿ المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وبين الله ﷿ أن شأن المؤمنين الامتثال لأمر الله ﷿، فقال: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ»، والتقدير: إن قلت للمؤمنين غضوا يغضوا؛ لأن شأن المؤمن أن يلتزم بأمر الله ﷿، فهذا أزكى للعبد وأنفع له في الدنيا ولآخرة، فالعين رائد القلب؛ ولذلك قرن الله ﷿ بين الأمر بغض البصر وحفظ الفرج.
كما قال بعضهم: وكنت متى ما أطلقت طرفك يومًا رائدًا لقلبك أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر فالعين عباد الله! رائد القلب، فإذا ألفت العين ألف القلب.
ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف (سئل النبي ﷺ عن نظر الفجأة فقال: اصرف بصرك)، أي: إذا وقع بصر العبد على محرم من غير قصد ونية، فالواجب على المسلم أن يصرف بصره لله ﷿، وسمى النبي ﷺ إطلاق البصر زنا تنفيرًا من هذه المعصية، فقال النبي ﵌: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه)، فالنبي ﷺ نفر من إطلاق البصر وسمى ذلك زنا.
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر والمرء مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح وتظن ذاك دواء جرحك وهو في التحقيق تجريح على تجريح فقتلت قلبك باللحاظ وبالبكاء فالقلب منك ذبيح أي ذبيح الناظر يرمي بسهام غرضها قلبه، فكل نظرة كأنها سهم يوجه إلى قلبه، فينبغي على العبد عباد الله أن يغض بصره لله ﷿، وأن يحفظ فرجه، وأن يشتغل بطاعة الله ﷿، وأن يعرض عن أماكن الاختلاط والمجون، وأصحاب السوء وأهل الأسواق والملاهي، والأماكن التي هي مظنة كثرة التبرج والاختلاط بين الرجال والنساء.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا من مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم عليك بالطواغيت والجبابرة يا رب العالمين! اللهم عليك بالذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا.
اللهم عليك بالعلمانيين والمنافقين، والذين ينفذون مخططات الغرب والشرق الكافرة في بلاد المسلمين.
اللهم دمرهم تدميرًا، والعنهم لعنًا كبيرًا، وطهر منهم البلاد، وخلص منهم العباد يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن ترزقنا توبة نصوحًا.
اللهم اهد شباب المسلمين اللهم اهد أطفالنا وأطفال المسلمين اللهم اهد نساءنا ونساء المسلمين يا رب العالمين! وألزمهم بالعفة والحياء والحجاب يا رب العالمين! اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والربا والزنا، وردهم إليك ردًا جميلًا.
وصل اللهم وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
2 / 9
اكنزوا هذه الكلمات
خلق الله ﷿ الثقلين لعبادته وتوحيده، وشرع لهم العبادات التي ترتفع بها درجاتهم في الدنيا والآخرة، فعلى العبد المسلم أن يكثر من فعل الأعمال الصالحة، وأن يجتنب الأعمال المحرمة، وألا ينافس أهل الدنيا في دنياهم؛ حتى ينجو في الدنيا والآخرة.
3 / 1
فضل الأعمال الصالحة
الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون.
وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
أشهد أن محمدًا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي والأمر المرضي على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله ﷿، وخير الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه عن شداد بن أوس ﵁ قال: قال رسول الله ﵌: (إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم؛ إنك أنت علام الغيوب).
قوله: (إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات)، هذه الكلمات من الباقيات الصالحات، والباقيات الصالحات ينتفع بها العبد في الدنيا والآخرة، قال الله ﷿: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف:٤٦].
وقال ﷿: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل:٩٦].
فكل ما كان من الباقيات الصالحات ومن الأعمال الصالحة فهو أنفع مما يفنى ومما يذهب، فالمال والبنون من زينة الدنيا، ولكن الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملًا: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل:٩٦].
روي أن سليمان بن داود ﵉ مر ومعه الإنس والجن والطير على حراث -أي: يحرث الأرض- فقال الحراث: ما أعظم ما أوتي سليمان بن داود.
فقال له سليمان: تسبيحة خير من ملك سليمان؛ التسبيحة تبقى وملك سليمان لا يبقى.
فما عند الله ﷿ خير، فينبغي على العبد إذا تسابق الناس إلى الذهب والفضة أن يتسابق إلى طاعة الله ﷿.
قال عبد الله بن مسعود ﵁: نعم كنز المؤمن البقرة وآل عمران، يقوم بها من آخر الليل، وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، ولا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.
فإذا كنز الناس الذهب والفضة فينبغي على المؤمن أن يكنز طاعة الله ﷿.
وفي بعض الإسرائيليات: (نعم كنز المؤمن ربه).
أي: أن المؤمن يكنز طاعة الله، ويكنز محبة الله ﷿، ومن كان كنزه ربه ﷿ -أي: طاعة ربه وخشية ربه والتوكل على ربه- فإنه يأمن من العدم، ويأمن من الفاقة، ويأمن من المسكنة، ويأمن من الافتقار إلى أهل الدنيا، كما قال بعضهم: من كنز ربه ﷿ أمن من العدم، ومن لازم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر من ذكر الموت أكثر من الندم.
فمن كنز ربه ﷿ أمن من العدم، أي: من الفاقة ومن الفقر؛ لأنه غني بالله ﷿، مطمعه طاعة ربه ﷿ وطلب رضا ربه ﷿.
ومن لازم الباب أثبت في الخدم، أي: من داوم على طاعة الله ﷿ اصطفاه الله ﷿ فأثبت في الخدم.
ومن أكثر ذكر الموت أكثر من الندم.
3 / 2
ذم الدنيا وعقوبة من لا يؤدي ما وجب عليه في ماله
قال بعض السلف: بئس الرفيقان: الذهب والفضة، لا ينفعانك حتى يفارقانك.
أي: أن العبد لا ينتفع بالذهب والفضة إلا إذا أنفقهما، فبئس الرفيقان هما.
وقال بعضهم: إنما سمي الذهب ذهبًا لأنه يذهب، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض.
ولما نزلت: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة:٣٤ - ٣٥] قال النبي ﵌: (تبًا للذهب والفضة.
فقال الصحابة ﵃: فما يتخذ أحدنا يا رسول الله؟! قال: يتخذ قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة صالحة).
فهذا ما ينبغي أن يحرص عليه المؤمن: أن يملك قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة صالحة؛ فإن ذلك خير من الذهب والفضة، فالذهب يذهب، الفضة تنفض، ولا يبقى إلا الإيمان والعمل الصالح.
يقول النبي ﵌: (إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات).
أي: إذا رأيتم الناس يكنزون الذهب والفضة.
وما أدي زكاته فليس بكنز، ولكن الكنز الذي لا تؤدى زكاته، فالذي يجمع مالًا ولا يؤدي زكاته متوعد بهذه الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ﴾ [التوبة:٣٤ - ٣٥]، قالوا: لأنه إذا سئل حق الفقير يقطب جبينه فيكوى جبينه، ثم ينحرف قليلًا فيكوى جنبه، ثم يولي الفقير ظهره فيكوى ظهره، ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة:٣٥].
ورد في صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار، فيحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره، فإذا بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى مكانه بعد ذلك إما إلى الجنة وإما إلى النار) أي: أن هذا من عذاب يوم القيامة، وله عذاب كذلك في الآخرة.
وقال النبي ﵌: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا مثل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه، ثم يأخذ بلهزمتيه فيقول: أنا مالك، أنا كنزك، وتلا قوله ﷿: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران:١٨٠]) أي: أنه يمثل له ماله شجاعًا أقرع، أي: حية قد سقط شعر رأسها من كبر سنها وكثرة سمها.
قوله: (له زبيبتان يطوقه) أي: يطوق رقبته أو وسطه.
وقوله: (ثم يأخذ بلهزمتيه) أي: بشقيه.
وقوله: (فيقول له: أنا مالك، أنا كنزك) وهذا العقاب لمن أخذ المال من الوجوه الحلال، ومنع الحقوق الواجبة، منع الزكاة الواجبة، ولم يصل في هذا المال رحمه، ولم ينفق في أوجه البر والخير، فهذه عقوبة مانع الزكاة يوم القيامة، فكيف بالذين تحصل لهم الأموال من الوجوه المحرمة، ويمنعون الحقوق الواجبة، لا شك أن عذابهم أشد من ذلك؛ لأنهم يعذبون على جمع المال من الوجوه المحرمة، ثم يعذبون كذلك على منع الحقوق الواجبة.
(ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة)، لا يعذب بها وهي بحجمها، وإنما تصفح له صفائح؛ حتى يكثر العذاب الذي يعذب به، ويحمى عليها في نار جهنم ويكوى بها جبينه وجنبه وظهره.
وقيل: هذه الأماكن تكثر فيها مواضع الإحساس، ويغلظ فيها الجلد؛ حتى يشتد العذاب.
3 / 3
حاجة العبد إلى الثبات على الدين
فإذا كنز الناس الذهب والفضة فما هي وصية رسول الله ﷺ؟ وما الواجب على المؤمن أن يكنزه؟ قال: (فليكنز أحدكم هذه الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد)، والثبات في الأمر أي: على الطاعة والتمسك بدين الله ﷿.
وكان النبي ﷺ يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلبي على طاعتك) فينبغي على العبد أن يسأل الله ﷿ الثبات على الأمر، والأمر هو طاعة الله ﷿، والتمسك بدين الله ﷿.
والعبد يحتاج إلى الثبات على الأمر في ثلاثة مواضع: وهو في الدنيا يحتاج أن يسأل ربه الثبات على الأمر حتى يداوم على طاعة الله ﷿.
قال الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ [الانشقاق:٦].
وقال الله ﷿: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ [العنكبوت:٥].
لم يدع الله ﷿ للمؤمن حدًا دون الموت: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر:٩٩] فمن سار في طريق العبادة إلى الله ﷿ لا يقف، ولا يلتفت؛ لأنه لو فعل ذلك انقطع، فينبغي عليه أن يداوم على طاعة الله ﷿، وكان أحب العمل إلى رسول الله ﷺ أدومه وإن قل، أحب العمل إلى الله ﷿ أدومه وإن قل، وكان عمل رسول الله ﷺ ديمة، أي: إذا عمل شيئًا من الخير يداوم عليه، فالله ﷿ يحب أن يديم فضله، وأن يوالي إحسانه، فيحب من العبد أن يداوم على طاعة الله ﷿ حتى يدوم عليه الفضل من الله ﷿، وحتى لا ينقطع عنه الخير من الله ﷿.
فيحتاج العبد إلى الثبات على الأمر وهو في الدنيا، قال الله ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت:٣٠] قال بعض السلف: الذين قالوا: (ربنا الله) كثير، والذين استقاموا قليل.
وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت:٣٠] يقول: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
فالعبد يحتاج أن يتوكل على الله ﷿، ويحتاج معونة الله ﷿؛ حتى يستمر على الاستقامة، فكيف يأمن من أمره بيد غيره؟ ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [المائدة:١٧] كم هلك مثلك؟ قال أبو الدرداء: ما أهون العباد على الله ﷿ إذا عصوه.
وكان الحسن يكثر البكاء ويقول: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي، أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي، أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي: ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [المائدة:١٧].
فينبغي على العبد أن يداوم على طاعة الله ﷿، فهذا هو الثبات في الأمر، قال الله ﷿: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء:٦٦ - ٧٠].
فالعبد إذا فعل ما أمر الله ﷿ به وما أمر به رسوله ﷺ فهو على خير، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء:٦٦]، فالعبد إذا أطاع الله ﷿ ثبته الله ﷿ على طاعته، ومن أدخل أسباب الفتنة على نفسه أولًا لم ينج آخرًا وإن كان جاهلًا، فمن تهاون في تنفيذ أوامر الله ومن عصا الله ﷿ فقد أسباب الثبات.
قال ﷿: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [النساء:٦٦] أي: في الدنيا والآخرة، ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء:٦٦] على طاعة الله ﷿ وعلى طريق الله ﷿.
وقال ﷿: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم:٧٦].
وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمد:١٧].
فالله ﷿ يزيد أهل الإيمان إيمانًا إذا اجتهدوا في طاعة الله عز و
3 / 4