Lessons by Sheikh Yasser Burhami
دروس للشيخ ياسر برهامي
اصناف
سعة علم الله تعالى فيما يتعلق بالجنين
والله سبحانه يعلم كل شيء عما في الرحم قبل أن يوجد ويتكون، أي: فليس المقصود أنه من مفاتيح الغيب بعد أن يتكون، فإنه بعد التكون يكون أمرًا نسبيًا، لكن الناس يظنون أن العلم الحديث قد جعل مسألة العلم بهذا شيئًا قديمًا، فالناس في هذا الوقت يعرفون تصور الجنين، ولكنهم لا يعرفون عنه كل شيء، وهذا من الجهل أيضًا؛ لأن علم ما في الأرحام ليس مقتصرًا على كونه ذكرًا أو أنثى، وإنما هو علم كل ما يتعلق بهذا الكائن من علم عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، وشكله وصفاته وأفعاله وحاله في البرزخ ومآله يوم القيامة، فالله سبحانه قد علم ما في الأرحام، وليس مجرد أنه ذكر أو أنثى فقط، فهذا من ضمن ما أحاط الله به علمًا، ولكن علم الله السابق على وجود هذا المخلوق، وعلى وجود الأعضاء التناسلية لهذا الجنين، أما بعد تكون الأعضاء التناسلية فإنَّ ذلك يصبح من الغيب النسبي؛ لأنه من الممكن أن تشق بطن المرأة ويعرف ما في بطنها، فالملك الذي خلّق هذا الجنين قد علم بشأن هذا الجنين الذي خلّقه بأمر الله ﷾، فالغيب النسبي هذا ليس هو المقصود بأنه من مفاتيح الغيب، فمفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، فمن الحقيقة أنه قبل أن تتكون الأعضاء التناسلية مثلًا للجنين من ذكر أو أنثى لا يمكن لبشر ولا لغيره أن يعلم ما شأن هذا الجنين، مع أنه من يوم تكون الجنين من بويضة ملقحة لابد أن يعرف نوعه في الأغلب أي: لابد أن يكون نوعه محددًا، فهم يقولون: إن التكون ناتج عن حيوان منوي ذكري أو حيوان منوي أنثوي، ومع ذلك فالأمر لا يزال محتملًا، فقد اكتشفوا في الطب مؤخرًا منذ عشر سنوات تقريبًا: أنه في أول الأسبوع السابع تتكون الأعضاء التناسلية للجنين؛ لأن الأعضاء التناسلية تبدأ في التشكل قبل هذا التاريخ بطريقة واحدة بالضبط، وتكون الذكر مثل تكون الأنثى تمامًا، ثم في الأسبوع السابع يبدأ الافتراق، وهذه معجزة ظاهرة للنبي ﵊؛ لأن النبي ﷺ قبل ألف وأربعمائة سنة قال: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة قال الملك الذي يخلقها: أي رب! نطفة علقة؟ مخلقة أم غير مخلقة؟ ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما عمله؟ ما أجله؟ ما رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك).
فالرسول ﵊ يحدد فيقول: (ثنتان وأربعون ليلة)، أي: ستة أسابيع، فسبحان الله! والذكر مثل الأنثى تمامًا، ثم في الأسبوع السابع يبدأ الافتراق؛ ولذلك فمن الممكن أن يقولوا في الجنين: هذا سيكون ذكرًا أو هذا سيكون أنثى، ولكن بعد الأسبوع السابع، أما قبل الأسبوع السابع فهذا مستحيل، مع أنه من الممكن أن تتحلل الكروموسومات قبل هذا وينظر أن هذا الحيوان المنوي الذكري الذي لقح البويضة يكون من تلقيحه ذكر، ولكنهم يقولون: إنهم اكتشفوا في الأسبوع السابع أن هناك إنزيمًا يطرأ في ذلك التوقيت، وهو الذي يتحكم في تشكيل الأعضاء، حتى ولو كان تشكيل الكروموسومات مختلفًا أصلًا، أي: من الممكن أن يكون تركيبه الجيني تركيب الكروموسومات ذكرًا، لكن هذا الهرمون إذا نقص صارت الأعضاء التناسلية أنثى، ولو أن تركيبه أنثى كبداية خلايا وزاد هذا الهرمون أو الإنزيم في التوقيت، فإن الأعضاء التناسلية ستتكون ذكرًا، فسبحان الله! ينتظرون حتى يتكون فيعرفوه، فمهما قالوا فهو احتمال غالبًا، فهو إلى هذه اللحظة بأمر الله ﷾، وهناك على هذا الباب كلام آخر وهو: أن الملك يكتب ما يأمره الله من عمله ورزقه وشقي أم سعيد، وهذا يكون قبل أن يقع هذا الأمر، ونحن نقول: إن مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فنحن نقول ذلك ونلتزمه ونقول: حتى إن علم هذا الملك مقيد بمشيئة الله ﷾، فإن الكتابات اللاحقة على اللوح المحفوظ كتابات قابلة للمحو والإثبات، قال الله ﷿: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد:٣٩]، وقال ابن عباس ﵁: الكتاب كتابان: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.
إذًا: فالكتاب الذي رفعت أقلامه، وجفت صحفه: هو اللوح المحفوظ.
وأما كتب الملائكة فتظل رغم أنه لم يكتب فيها شيء؛ فمن الممكن أن تمحى ويكتب غير ذلك إذا شاء الله، إذًا: فعلم الملك مقيد بأن الله يشاء إمضاء هذا وإنفاذه، أو يشاء محوه، فلو شاء الله أن يمحو ما كتبه الملك لمحاه ﷾، قال تعالى: «يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ»، ولذلك نجد أن هذه الأمور التفصيلية يمكن أن يطلع عليها بعض المخلوقين، لكن لا على جهة الجزم والقطع، وإنما على جهة التعليق على مشيئة الله.
كما أن النبي ﷺ أخبر ليلة بدر بمصارع بعض المشركين، فقد كان يمر على أماكن ويقول: (هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله) فقد علقه النبي ﵊ على مشيئة الله، فما أخبر الرسول ﷺ أو ما علمه ملك أو أحد من خلق الله عن أمر تفصيلي في مفاتيح الغيب الخمس فسوف يكون معلقًا على المشيئة ليظل في خمس لا يعلمهن إلا الله، وما أخبر به من تفصيل دقيق فإنه يظل مجملًا في أجزاء أخرى كالتوقيت مثلًا، فالرسول ﵊ أخبر بتفاصيل ما يقع في أمر الدجال ونزول عيسى بن مريم، ولكن يبقى هذا الأمر إجمالًا وهو: زمن وقوع ذلك، كما أن تفاصيل ما في الجنة وما في النار وما في الساعة مقطوع بها، فلا نقول: إنه معلق على المشيئة إن شاء الله أمضاه وإن شاء لم يمضه، بل إن الله ﷿ شاء ذلك قطعًا وجزمًا، فهو شاء أن يبعث الناس يوم القيامة، وأن يحيي الموتى، وهذا مقطوع به وقد شاء الله فعله، وليس إن شاء؛ لأن لفظ (إن شاء) يعني: أنه من المحتمل أنه يفعل ذلك أو لا يفعل ذلك، لكن هذه الأمور ستحصل قطعًا، فلابد أن نجزم أن هناك جنة ونارًا، وأن هناك قيامة وحسابًا وسؤالًا وثوابًا وعقابًا، وأن هناك ميزانًا وصراطًا، وهذا مقطوع به، لكن يبقى هناك إجمال من جهة التوقيت أو التفاصيل الكاملة، أي: أن الرسول ﷺ إما أن يخبر بأمور مجزوم بها لكن فيها إجمالًا من جهة، أو أن يخبر بتفاصيل دقيقة جدًا فيبقى التعليق على مشيئة الله ﷿، وبذلك تظل مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، قال ﷿: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام:٥٩].
8 / 12