288

Lessons by Sheikh Yasser Burhami

دروس للشيخ ياسر برهامي

اصناف

آثار تحقيق معاني العبودية في القلوب
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران:١٤١ - ١٤٢].
فإن الله ﷾ جعل الأيام دولًا بين الناس، بين الذلة والتمكين، بين القوة والضعف، بين الفقر والغنى، كما جعل ذلك في الكائنات، بين الليل والنهار، بين الحياة والموت، وهو ﷿ بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، قال تعالى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ».
وقال ﷿: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود:١٢٣].
فعندما تشتد الظلمات بأهل الإيمان فإنهم دائمًا يلجئون إلى الله ﷾، وينادونه في وسطها: أن لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين؛ لأن كل مؤمن يعلم أن ما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيديهم ويعفو الله ﷿ عن كثير، ويعلم أن الله ﷾ هو الإله وحده المعبود بالحق لا شريك له، ولا يتوجه المؤمن إلى أحد سواه، وهو الإله الذي تفزع إليه الخلائق في حوائجها.
وإذا اشتدت الظلمات علم الإنسان حقيقة التوحيد، وأقر بها حتى يكون ذلك سببًا للفرج بإذن الله، فينادي: (لا إله إلا أنت) فينزه الله ﷿ عن كل نقص، وينزه الله ﷿ عن الظلم والعبث، وعدم الحكمة، وينزهه عن الضعف؛ لأن مواطن الشدة كثيرًا ما يضل فيها الناس، ويظنون أن الله ﷾ ما قدر ذلك بحكمته جل وعلا يظنون ظن الجاهلية، ويظنون بالله ظن السوء، ومنهم من يظن أن ذلك خارج عن قضائه وقدره، ومنهم من يظن بالله ﷿ الظلم، وأنه لا يستحق أن يفعل الله به ذلك، وأنه ينبغي أن يكون غير ذلك، والله سبحانه منزه عن ذلك كله.
فينادي المؤمن من قلبه وبلسانه: (سبحانك) فهو ينزه الله ﷿ عن الظلم، وعن أن يكون في هذا الوجود ما يخرج عن قضائه وقدره وقدرته وعلمه وحكمته؛ فلا يظن أنه لا يستحق أن يفعل الله به ذلك، وأنه ينبغي أن يكون غير ذلك، فالله سبحانه منزه عن ذلك كله؛ لأنه قدر ﷾ المقادير بالحكمة.
فينادي المؤمن: (لا إله إلا أنت سبحانك)، فالمؤمن يعلم أن ما أصابه كان بسبب ظلمه لنفسه، وأنه لابد أن يعترف بالظلم لنفسه؛ وأن يبوء بذنبه ليغفره الله له، وأن يعترف كما اعترف الأبوان -من قبله- بظلمهما لأنفسهما، قال تعالى: ﴿قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:٢٣]، فعندما يعترف الإنسان بالظلم، وبنعمة الله عليه؛ يكون ذلك من أسباب الفرج، فيقول: «سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».
إذا حقق العبد هذه العقائد في قلبه كما ينطق بها لسانه، وتضرع إلى الله ﷿ بصوت ضعيف منكسر لا يجبره إلا الله وحده لا شريك له، ويعلم أن الله سبحانه هو الجبار، ولا يجبر الكسير سواه، ويجبر القلوب على فطرتها وشقيها وسعيدها، فينكسر حينها للجبار سبحانه ولا يتجبر، ويعلم أن عاقبة كل جبار هي الخيبة قال تعالى: «وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ»، والله ﷾ إذا وجد من عبده المؤمن ذلك فإنه ﷾ يسخر ملائكته تشفع له وتدعو له، وتقول: صوت ضعيف في بلاد غريبة، هذا وهو فيها غريب لا يزال يصعد إلى الله ﷿ منه عمل صالح، ودعوة متقبلة، فتشفع له الملائكة عند الله سبحانه، وهو الذي يسخرها، فيستجيب الله ﷿ دعوة عبده، ويفرج كربه، كما قال ﷾ عن يونس ﵇ وهو في بطن الحوت: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء:٧٨ - ٨٨].
فليست هذه خاصة بيونس عليه وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والتسليم، وليست خاصة بالأنبياء، بل هي لكل مؤمن تيقن بهذه الحقائق، وعلم هذا العلم، وأيقن هذا اليقين، فاستجاب الله ﷿ له، ويستجيب لكل مؤمن مكروب في أي موضع دعاه، فدعوة ذي النون لا يقولها مكروب إلا فرج الله ﷿ كربه.
فنقولها جميعًا: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، والله ﷾ جعل في قصص أنبيائه ورسله النور والهدى، واليقين والصبر، والموعظة والعبرة، والتثبيت لقلوب المؤمنين قال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود:١٢٠].

24 / 2