Lessons by Sheikh Saud Al-Shuraim
دروس للشيخ سعود الشريم
اصناف
الصبر على المصائب
بين الله ﷾ في كتابه أنه لم يخلق الحياة والموت في هذا الكون إلا ليبتلي خلقه ليعلم الصابر من القانط والراضي من الساخط، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه، والله ﷿ إذا أحب عبدًا ابتلاه لأنه يعجل له عقابه في الدنيا وعذاب الدنيا يزول ولا يدوم بخلاف عذاب الآخرة.
1 / 1
الدنيا دار ابتلاء
الحمد لله مزيل الهم، وكاشف الغم، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، فهو مولي النعم وصارف النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، ذو الشرف الأسمى والخلق الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وبارك وسلم.
أما بعد:
أيها المسلمون: شر ما منيت به النفوس يأس يميت القلوب، وقنوط تظلم به الدنيا، وتتحطم معه الآمال، إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحنًا وبلايا.
آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع، كم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوام، يشكو غلًا وسقمًا أو حاجة وفقرًا، متبرم من زوجه وولده، لوام لأهله وعشيرته، ترى من كسدت تجارته، وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه.
إن من العجائب -أيها المؤمنون- أن ترى أشباه رجال قد أتخمت بطونهم شبعًا وريًا، وترى أولي عزم ينامون على الطوى.
إن فيها من يتعاظم ويتعالى حتى يتطاول على مقام الربوبية والألوهية، وفيها من يستشهد دونه، وفيها من يستشهد دفاعًا عن الحق وأهل الحق، تلك هي الدنيا تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت، شدة ورخاء، وسراء وضراء، دار غرور لمن اغتر بها، وهي عبرة لمن اعتبر بها، إنها دار صدق لمن صدقها، وميدان عمل لمن عمل فيها: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد:٢٣] .
تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، يبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء:٣٥] ولكن إذا استحكمت الأزمات وترادفت الطوائف؛ فلا مخرج إلا بالإيمان بالله والتوكل عليه وحسن الصبر، ذلك هو النور العاصم من التخبط، وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط.
إن من آمن بالله، وعرف حقيقة دنياه؛ وطن نفسه على احتمال المكاره، وواجه الأعباء مهما ثقلت، وحسن ظنه بربه، وأمل فيه جميل العواقب، وكريم العوائد، كل ذلك بقلب لا تشوبه ريبة، ونفس لا تزعزعها كربة، مستيقنًا أن بوادر الصفو لا بد آتية: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [آل عمران:١٨٦] .
إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل، ولا يذهب بأعبائها إلا العمالقة الصبارون أولو العزم من الناس، أصحاب الهمم العالية: ﴿أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه﴾ حديث أخرجه الترمذي وغيره، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والطبراني في الكبير والأوسط من معاجمه عن رسول الله ﷺ قال: ﴿إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله ﷿﴾ .
أيها المؤمنون: كم من محنة في طيها منح ورحمات، هاهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ﵈ يضرب المثل في الرضا عن مولاه، والصبر على ما يلقاه صبرًا جميلًا بعده صبر أجمل مع الأخذ بالأسباب والقوة بالأمل، يقول لأبنائه في حاله الأول: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف:١٨] ثم يقول في الحال الثاني، وهو أعظم أملًا، وبربه أكثر تعلقًا: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف:٨٣] .
كل ذلك من هذا الشيخ الكبير صاحب القلب الوديع، ثم يقول: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف:٨٦] يقين أرسى من الجبال، وعلم بالله لا يرقى إليه شك، وإن من علمه ويقينه وقوة رجائه أن أمر أبناءه: ﴿يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف:٨٧] .
1 / 2
الفرق بين الصابر والجازع
إن المؤمن الواثق لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان إن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد، أما الإنسان الجزوع فإن له من سوء الطبع ما ينفره من الصبر، ويضيق عليه مسالك الفرج إذا نزلت به نازلة، أو حلت به كارثة أو ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتعجل في الخروج متعلقًا بما لا يضره ولا ينفعه.
إن ضعف اليقين عند هؤلاء وأمثالهم يصدهم عن الحق، ويضلهم عن الجادة؛ فيخضعون ويذلون لغير رب الأرباب ومسبب الأسباب، يتملقون العبيد، ويتقلبون في أنواع هذه الملذات، ويكيلون من المديح والثناء ما يعلمون من أنفسهم أنهم فيه كذبةً أفاكون، بل قد يرقى بهم تملقهم المقيت أن يطعنوا في الآخرين، ويقعوا في الأبرياء من المسلمين.
إن أي مخلوق مهما بلغ من عز أو منزلة فلن يستطيع قطع رزق، أو رد مقدور، أو انتقاصًا من أجل: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [الروم:٤٠] .
في حديث عن أبي سعيد مرفوعًا: ﴿إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله﴾ .
إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره، وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، إن من فقد الثقة بربه اضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرة همومه، وضاقت عليه المسالك، وعجز عن تحمل الشدائد، فلا ينظر إلا إلى مستقبل أسود، ولا يترقب إلا الأمل المظلم.
أيها الإخوة في الله: هذه هي حال الدنيا، وذلك هو مسلك الفريقين فعلامَ الطمع والهلع؟ ولماذا الضجر والجزع؟
أيها المسلم: لا تتعلق فيما لا يمكن الوصول إليه، ولا تحتقر من أظهر الله فضلك عليه، واستيقن أن الله هو العالم بشئون خلقه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، هو أغنى وأقنى، وهو أضحك وأبكى، وهو أمات وأحيا.
إن المؤمن لا تبطره نعمة، ولا تفزعه شدة.
إن أمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن.
في هذا صح الخبر عن المصطفى ﷺ، فاتقوا الله يرحمكم الله، واصبروا واثبتوا وأملوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون، ولا تطغينكم الصحة والثراء، والعز والرخاء، ولا تضعفنكم الأحداث والشدائد، ففرج الله آت ورحمة الله قريب من المحسنين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأحسن اللهم عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر:٢-٣] .
نفعني الله بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد ﷺ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
1 / 3
الحكمة من الابتلاءات
الحمد لله جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، أحمده سبحانه وأشكره، فنعمه علينا تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله خص بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون- واعلموا أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وإذا أراد الله بعبده خيرًا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة، لهذا جاء في الأخبار عن المصطفى المختار صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
الابتلاءات في هذه الدنيا مكفرات للذنوب، حاطة للخطايا، تقتضي معرفتها الإنابة إلى الله، والإعراض عن خلقه، وهي هدىً ورحمة وصلوات من المولى الكريم: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:١٥٧] .
فاتقوا الله ربكم، وأحسنوا الظن به، وأملوا فيما عنده، واعملوا صالحًا.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير نبيكم محمد بن عبد الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، ودمر اليهود ومن شايعهم وسائر الكفرة والملحدين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك يا رب العالمين.
اللهم أيد بالحق إمام المسلمين، وارزقه البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى، واجمع به كلمة المسلمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك، اللهم سدد سهامهم وآراءهم وأنزل عليهم النصر، وثبت أقدامهم، اللهم اجعل الدائرة على أعدائهم، واجعل تدبير الأعداء في تدميرهم يا قوي يا عزيز.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون؛ فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
1 / 4
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
الذكر حياة القلب، وسبيل لانشراح الصدر، بل به تجلى الكروب، وتزول الهموم، وتطرد الشياطين، ولكن لا ينبغي الذكر باللسان مع غفلة القلب، وهذه الخطبة تبين منزلة الذكر من العبادات وفائدته للذاكرين.
2 / 1
أهمية الذكر
الحمد لله ذاكر من ذكره، يتولى الصالحين، ويثيب الذاكرين، ويزيد من شكره، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، فما خاب من ذكره، وما انقطع من شكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ سيد الذاكرين، وقدوة الشاكرين، ﷺ وبارك على آله وصحبه الأتقياء البررة، أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله ﷿، اتقوه في السر والعلن، اتقوه واعبدوه، واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
أيها الناس: إن قلوب البشر طرًا كغيرها من الكائنات الحية، التي لا غنى لها عن أي مادة من المواد التي بها قوام الحياة والنماء، ويتفق العقلاء جميعًا أن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد، وأنها تظمأ كما يظمأ الزرع، وتجف كما يجف الضرع، ولذا فهي تحتاج إلى تذليل وري، يزيلان عنها الأصداء والظمأ، والمرء في هذه الحياة محاط بالأعداء من كل جانب، نفسه الأمارة بالسوء تورده موارد الهلكة، وكذا هواه وشيطانه، فهو بحاجة ماسة إلى ما يحرزه ويؤمنه، ويسكن مخاوفه، ويطمئن قلبه، وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء، ويحرز من الأعداء ذكر الله والإكثار منه لخالقها ومعبودها، فهو جلاء القلوب وصقالها، ودواءها إذا غشيها اعتلالها، قال ابن القيم ﵀: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!
عباد الله! العلاقة بين العبد وبين ربه، ليست محصورة في ساعة مناجاته في الصباح أو في المساء فحسب، ثم ينطلق المرء بعدها في أرجاء الدنيا غافلًا لاهيًا، يفعل ما يريد دون قائد ولا محكم، كلا فهذا تدين مغشوش، العلاقة الحقة أن يذكر المرء ربه حيثما كان، وأن يكون هذا الذكر مقيدًا مسالكه بالأوامر والنواهي، ومشعرًا الإنسان بضعفه البشري، ومعينًا له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه.
2 / 2
فضل الذكر من القرآن والآثار
لقد حث الدين الحنيف على أن يتصل الإنسان بربه، ليحيي ضميره وتزكو نفسه ويتطهر قلبه، ويستمد منه العون والتوفيق، ولأجل هذا جاء في محكم التنزيل، والسنة النبوية المطهرة ما يدعو إلى الإكثار من ذ كر الله ﷿ على كل حال، فقال ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذ ِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب:٤١-٤٢] وقال سبحانه: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٣٥] وقال جل شأنه: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال:٤٥] وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:١٥٢] .
وقال سبحانه: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت:٤٥] وقال صلوات الله وسلامه عليه: ﴿كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم﴾ متفق عليه.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: ﴿ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرًا لكم من إعطاء الذهب والورق، وخيرًا لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله ﷿﴾ رواه أحمد.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: ﴿من قال سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة﴾ رواه الحاكم وحسنه الترمذي وصححه.
عباد الله: ذكر الله تعالى منزلة من منازل هذه الدار يتزود منها الأتقياء، ويتجرون فيها، وإليها دائمًا يترددون، الذكر قوت القلوب، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة الديار التي إذا تعطلت عنه صارت دورًا بورًا، وهو السلاح الذي يقاتل به قطاع الطريق، والماء الذي يقطع به لهب الحريق.
بالذكر -أيها المسلمون- تستدفع الآفات، وتستكشف الكربات، وتهون به المصائب والملمات، زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء، والذاكر الله لا تدنيه مشاعر الرغبة والرهبة من غير الله، ولا تقلقه أعداد القلة والكثرة، وتستوي عنده الخلوة والجلوة، ولا تستخفه مآرب الحياة ودروبها، ذكر الله ﷿ باب مفتوح بين العبد وبين ربه، ما لم يغلقه العبد بغفلته.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [[تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق]] .
إن الذنوب كبائرها وصغائرها لا يمكن أن يرتكبها بنو آدم إلا في حال الغفلة والنسيان لذكر الله ﷿؛ لأن ذكر الله تعالى سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في أتون الجحيم، أو غضب وسخط الرب العظيم، وعلى الضد من ذلك التارك للذكر، الناسي له؛ فهو ميت لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف:٣٦] وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:١٢٤] .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس] وكان رجل رديف النبي ﷺ على دابة، فعثرت الدابة بهما فقال الرجل: تعس الشيطان! فقال له النبي ﷺ: ﴿لا تقل تعس الشيطان؛ فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون مثل البيت، ولكن قل: باسم الله؛ فإنه يصغر عند ذلك حتى يكون مثل الذباب﴾ رواه أحمد وأبو داود وهو صحيح.
وحكى ابن القيم ﵀ عن بعض السلف أنهم قالوا: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي.
الإكثار من ذكر الله براءة من النفاق، وفكاك من أسر الهوى، وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه وما أعده الله له من النعيم المقيم، بل هو سلاح مقدم على أسلحة الحروب الحسية التي لا تكلم؛ فقد ثبت عن النبي ﷺ في فتح القسطنطينية: ﴿فإذا جاءوها، نزلوا فلم يقاتلوا بالسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله اكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون﴾ الحديث رواه مسلم في صحيحه.
2 / 3
دور الذكر في شفاء الأسقام وكشف الكروب
أيها الناس: ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يمر بالفم وتنطق به الشفتان، وأسمى ما يتعلق به العقل المسلم الواعي، والناس بعامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت، أو يدفعوها إذا أوشكت، ومع ذلك فإن ذكر الله ﷿ يحيى في نفوسهم استشعار عظمة الله وأنه على كل شيء قدير، وأن شيئًا لن يفلت من قهره وقوته، وأنه يكشف ما بالمُعنَّى إذا ألم به العناء، حينها يشعر الذاكر بالسعادة وبالطمأنينة يعمران قلبه وجوارحه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨] .
أيها المسلم الكريم: لا تخش غمًا، ولا تشك همًا، ولا يصبك قلق مادام قرينك هو ذكر الله، يقول جل وعلا في الحديث القدسي: ﴿أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم﴾ رواه البخاري ومسلم.
واشتكى عليّ وفاطمة ﵄ إلى رسول الله ﷺ ما تواجهه من الطحن والعمل المجهد، فسألته خادما، فقال ﷺ: ﴿ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم، إذا أويتما إلى فراشكما، فسبحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمداه ثلاثًا وثلاثين، وكبراه أربعًا وثلاثين، فتلك مائة على اللسان وألف في الميزان فقال علي ﵁: ما تركتها بعدما سمعتها من النبي ﷺ، فقال له رجل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين﴾ .
وليلة صفين ليلة حرب ضروس، دارت بينه وبين خصومه، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
عباد الله! لو كلف كل واحد منا نفسه أن يحرك جفنيه؛ ليرى يمنة ويسرة مشاهد متكررة من صرعى الغفلة وقلة الذكر، أفلا ينظر إلى ظلمة البيوتات الخاوية من ذكر الله تعالى، أولا ينظر إلى المرضى والمنكسرين أوكلهم الله إلى أنفسهم لما نسوه، فلم يجبروا عظمًا كسره الله، وازدادوا مرضًا إلى مرضهم، أولا ينظرون إلى المسحورين والمسحورات وقد تسللت إليهم أيدي السحرة والمشعوذين، والدجاجلة الأفاكين، فانتشلوا منهم الهناء والصفاء، واقتلعوا أطناب الحياة الهادئة، فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم.
أولا يتفكر الواحد منكم في أولئك المبتلين بمس الجان ومردة الشياطين، يتوجعون ويتقلبون تقلب الأسير على الرمضاء، تتخبطهم الشياطين من المس فلا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال؟
أرأيتم عباد الله! لو كلف كل واحد منكم نفسه بهذا، أفلا يسائل نفسه: أين هؤلاء البؤساء، من ذكر الله ﷿؟ أين هم جميعًا من تلك الحصون المكينة، والحروز الأمينة التي تعتقهم من عبودية الغفلة، والأمراض الفتاكة؟ أما علم هؤلاء جميعًا، أن لدخول المنزل ذكرًا وللخروج منه، أما علموا أن للنوم ذكرًا وللاستيقاظ منه؟
أو ما علموا أن لصباح كل يوم ذكرًا وللمساء؟ بل حتى في مواقعة الزوج أهله، بل وفي دخول الخلاء، -أعزكم الله- والخروج منه، بل وفي كل شيء، ذكر لنا منه الرسول ﷺ أمرًا، علمه من علمه وجهله من جهله.
والواقع -أيها الناس- أنه إنما خذل من خذل من أمثال هؤلاء الغافلين، لأنهم على عجزهم وضعفهم ظنوا أنفسهم شيئًا مستقلًا، لا سباق لهم في ميدان ذكر الله، بينما نجد آخرين عمالقة في قوتهم، وهم مع ذلك يرون أنفسهم صفرًا من دون ذكر الله تعالى، فكانت النتيجة أن طرح الله البركة واليُمن على من ذكروه؛ فنجوا وأفلحوا، ورفع رضوانه وتأييده عمن اعتز بنفسه؛ فتركه مكشوف السوءة، عريان العورة.
وفي حضارتنا المعاصرة كثر المثقفون، وشاعت المعارف الفكرية، ومع ذلك كله فإن اضطراب الأعصاب وانتشار الكآبة داء عام، فما الأمر وما السبب في ذلك؟
إنه خواء القلوب من ذكر الله، إنها لا تذكر الله كي تتعلق به وتركن إليه، بل كيف تذكر من تتجاهله، إن الحضارة الحديثة والحياة المادية الجافة؛ مقطوعة الصلة عن الله، إلا من رحم الله، والإنسان مهما قوي فهو ضعيف، ومهما علم فعلمه قاصر، وحاجته إلى ربه أشد من حاجته إلى الماء والهواء، وذكر الله في النوازل عزاء للمسلم ورجاء: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨] .
ولو تنبه المسلمون لهذا، والتزموا الأوراد والأذكار لما تجرأ بعد ذلك ساحر، ولا احتار مسحور، ولا قلت بركة، ولا تكدر صفو، ولا تنغص هناء.
عباد الله! هناك من الناس من يذكرون الله ولكنهم لا يفقهون الذكر، فتصبح بعيدة عن استشعار جلال الله وقدره حق قدره، وذكر الله ﷿ كلام: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:٢٣] غير أن الناس ما ألفوا منه جهلوا معناه، لا يرددونه إلا كما يرددون كلامًا تقليديًا، وإلا فهل فكر أحد في كلمة: الله أكبر التي هي رأس التكبير وعماده، وهي أول ما كلف به المصطفى ﷺ، حين أمر بالإنذار: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ [المدثر:١-٣] إنها كلمة عظيمة، تحيي موات الأرض الهامدة، فصوتها هدير كهدير البحر المتلاطم، أو هي أشد وقعًا، إنها كلمة ينبغي أن تدوي في أذن كل سارق وناهب لترتجف يده، ويهتز كيانه، وكذا تدوي في أذن كل من يهم بإثم أو معصية، ليقشعر ويرتدع، وينبغي أن تدوي في أذن كل ظالم معتدٍ متكبر، ليتذكر إن كان من أهل الذكرى أن هناك إلهًا أقوى منه، وأكبر من حيلته واستخفافه ومكره، أخذه أقوى من أخذ البشر ومكرهم وخديعتهم الله أكبر، الله أكبر كبيرًا،
فاتقوا الله أيها المسلمون! واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون، واتق الله أيها المسلم الغافل! فإن كنت بعد هذا قد أحسست أنك ممن فقد قلبه بسبب غفلته، فلا تيئس بوجوده بذكر الله.
فقد يجمع الله الشتيتين من بعد ما يظنان كل الظن ألا تلاقيا
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون:٩] .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
2 / 4
سر الذكر في دفع الضر
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله معشر المسلمين، واعلموا -وفقكم الله- أن لسائل أن يسأل: ما بال ذكر الله سبحانه مع خفته على اللسان، وقلة التعب فيه، صار أنفع وأفضل من جملة من العبادات مع المشقات المتكررة فيها؟
ف
الجواب
هو أن الله سبحانه جعل لسائر العبادات مقدارًا، وجعل لها أوقاتًا محدودة، ولم يجعل لذكر الله مقدارًا ولا وقتًا، وأمر بالإكثار منه بغير مقدار، ولأن رءوس الذكر هي الباقيات الصالحات، لما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: ﴿خذوا جُنتكم، قلنا يا رسول الله! من عدو قد حضر؟ قال: لا، جُنتَّكم من النار قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة منجيات ومقدمات وهن الباقيات الصالحات﴾ رواه الحاكم وصححه.
ثم ليعلم كل مسلم صادق أن المؤثر النافع، هو الذكر باللسان على الدوام مع حضور القلب، لأن اللسان ترجمان القلب؛ والقلب حافظة مستحفظة للخواطر والأسرار، ومن شأن الصدر أن ينشرح بما فيه من ذكر، ويلذ على اللسان، ولا يكتفي بمخاطبة نفسه به في خلواته حتى يفضي به بلسانه، متأولًا قول الله ﷿: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف:٢٠٥] فأما الذكر باللسان والقلب لاهٍ فهو قليل الجدوى، قال رسول الله ﷺ: ﴿اعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاه﴾ رواه الحاكم والترمذي وحسنه.
وكذا حضور القلب في لحظة بالذكر، والذهول عنه لحظات كثيرة، هو كذلك قليل الجدوى، لأن القلب لا يخلو من الالتفات إلى شهوات الدنيا، ومن المعلوم بداهة أن المتلبس لا يصل سريعًا.
ولذا فإن حضور القلب على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على غيره من العبادات، بل به تشرف سائر العبادات، وهو غاية ثمرات العبادات العملية، ولذا فإن رسول الله ﷺ حذر من أن تنفض المجالس دون أن يذكر الله ﷿ فيها، بقوله: ﴿ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة﴾ رواه أبو داود والحاكم.
فهذا رسول الله ﷺ يمقت مجالس الغافلين، وينهى عن كل تجمع خلا من ذكر الله، وأن المجالس التي ينسى فيها ذكر الله وتنفض عن لغط طويل حول مطالب العيش وشهوات الخلق؛ في تهويش وتشويش وهمز ولمز، هي مجالس نتنة، لا شيء فيها يستحق الخلود، إنما الذي يخلد ما اتصل بالله ﷾.
ولذا فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: ﴿من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك، إلا كفر الله له ما كان في مجلسه ذلك﴾ رواه الترمذي وابن حبان.
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله في كتابه، فقال ﷿ من قائل عليم: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦] .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، وتفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، ولا تجعل فينا شقيًا ولا محرومًا، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت؛ أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرجته، ولا دينًا إلا قضيته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا كربًا إلا نفَّسته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة فيها لك رضًا ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
2 / 5
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها
لقد جاءت الشريعة الإسلامية لجلب المصالح ودرء المفاسد، وأعظم المصالح حفظ الضرورات، وإن من الإخلال بذلك التلبس بأي أمر يؤدي إلى الإخلال بواحدة من الضرورات، وعلى المسلم أن يتجنب ذلك، وأن يحذر من الانصياع وراء مغريات الغرب وحضارة الفساد والانهيار.
3 / 1
خطر الإفساد في الأرض
الحمد لله سبحانه، وضع الخير فيما أحل وأباح، وجعل السوء فيما حرم ومنع: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة:٥٠] له دعوة الحق، وشرعة الصدق: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:١٥٣] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يضاعف الحسنات، ويمحق السيئات: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:١٠٠] وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، إمام الأنبياء، وسيد الحنفاء، وقائد الغر المحجلين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج:٢٤] .
أما بعد:
فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ﷿، فإن تقوى الله حصن عزيز تمنع أهلها، وتحرِّز من لجأ إليها، وبها تُقْطَع حُمَةُ الخطايا، فهي النجاة غدًا، والمنجاة أبدًا: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه:١٣٢] .
عباد الله: الشريعة الإسلامية شريعةٌ غراء سِمَتُها الجُلَّى أن يُعبد الله وحده في الأرض انطلاقًا من قواعد قررها الشارع الحكيم؛ متمثلة في جلب المصالح ودرء المفاسد وحينما يظهر التعارض بين مفسدة ومصلحة فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وذلك كله يدور محوره حول ضروراتٍ خمس أجمعت الأنبياء والرسل قاطبة على حفظها ورعايتها وهي:
- الدين.
- والنفس.
- والمال.
- والعرض.
- والعقل.
3 / 2
جزاء المفسدين
قال النبي ﷺ: ﴿مَن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمِل بها بعده كُتِب عليه مثل وزر مَن عَمِل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء﴾ رواه مسلم.
وفي لفظ لـ مسلم أيضًا: ﴿مَن دعا إلى ضلالة﴾ الحديث.
فهذان اللفظان -عباد الله- صريحان كل الصراحة في تحريم سن الأمور السيئة وإشاعتها بين الناس، سواء كان ذلك تعليمَ علمٍ أو أدبٍ أو عبادةً أو غيرَ ذلك، وسواء كان العمل بها في حياته أو بعد مماته: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل:٢٥] ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت:١٣] .
ولقد جاء في السنة النبوية ما يدل على نسبة الأحداث إلى محدثها، وأنه يتحمل إثمه إلى يوم القيامة جراء ما أوقع فيه غيره من إخلال بنهج الله وشرعته، فمن ذلك قول النبي ﷺ: ﴿ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم كِفل منها؛ لأنه أول من سن القتل﴾ رواه البخاري ومسلم.
ويقول صلوات الله وسلامه عليه كما في الصحيحين في قصة صلاة الكسوف: ﴿رأيت عمرو بن لُحَي يجر قُصْبَه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم﴾ .
وقد ذكر أهل العلم رءوسًا كثيرة كانت سببًا في الإحداث بين المسلمين وإضعاف دينهم، بما جلبوه في أوساطهم مما يفرق ولا يجمع، ويضر ولا ينفع:
- كـ ابن سبأ: الذي قتل الخليفة عثمان ﵁.
- وعبد الرحمن بن ملجم: قاتل علي ﵁.
- والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان: اللذَين أدخلا الضلال إلى بلاد المسلمين في أصلٍ عظيم من الدين وهو الاعتقاد.
- وكـ المأمون: الذي أنشأ دار الحكمة، والتي ترجم من خلالها كتب فلاسفة اليونان، وناضل عن القول بخلق القرآن، وامتحن الناس في أرواحهم وعقائدهم، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: إن الله لا يغفل عمل المأمون حينما أدخل علم الكلام، ونصر القول بخلق القرآن، وامتحن الناس فيه.
- ومِن بعدِهم كثير وكثير ممن أحدثوا في الدين محدثات سارت بها الركبان وكان لها في الإفساد في الدين في سائر جوانبه كما فعل بولس بدين النصرانية، وفي بعض المُثُل كفاية وغُنْيَة لمن هم في الفَهم فُحُل.
عباد الله: إننا حينما نذكر مثل ذلك لنؤكد بقوة وعزم أن الله سبحانه يداول الأيام بين الناس، وأن الفساد والإفساد ماضٍ إلى يوم القيامة، مما يستدعي التحذير والتقريع من أن يقع مسلم ما في عداد المفسدين في الأرض الذين يبغونها عوجًا، من حيث يشعر أو لا يشعر، وأيًا كان هذا المسلم صغيرًا أو كبيرًا، وضيعًا أو غِطْرِيفًا، فالجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات.
وإنَّ فتح مسلمٍ ما باب الإفساد أو تخليه عن الإصلاح لما أفسد، لَيُؤكد التبعية عليه، وأن الدين قد يؤتى من قبله فيحمل وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة، ولقد تمثل ذلك جليًا في دعوات النبي ﷺ إلى الناس كافة، وكان التأكيد أقوى في مخاطبته لزعماء القبائل وملوك الناس؛ لأن مَن كان ذا مسئولية ورعاية عظيمَين كانت التبعية له أو عليه أعظم، ومن هذا المنطلق كتب النبي ﷺ كتابًا قال فيه:
﴿بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.
سلامٌ على مَن اتبع الهدى.
أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تَسْلَم يؤتِك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين﴾ رواه البخاري.
والمعنى عباد الله: أن عليه إثم الضعفاء والأتباع في مملكته إذا لم يُسلموا تقليدًا له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر.
فكل مفسدة يُخشى أن تؤتى من قِبَل ضرورة من هذه الضرورات؛ فإنه يجب درؤها، ودفعُها أولى من رفعِها، وكان على المتسبب فيها سواء كان هو المنشئ الأول أو كان محييًا لها بعد إماتة؛ كان عليه من الإثم والوزر الذي يتجدد عليه بانتشارها، ويتوالى تراكمُه في صحيفة أعماله إبَّان حياته وبعد وفاته إلى أن يَبْعثَ الله مَن في القبور؛ ما لو علمه كثير من المحرضين إلى الشر والمغذِّين للانحراف، لآثروا الموت في مهدهم على أن يقعوا في هُوَّة الذنوب والتبعات.
3 / 3
ذم دعوى تحديث الدين واتباع الكافرين
بل لقد تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك حتى إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وأهل العلم والذكر، الذين أمروا باستكمال مادة الاجتهاد الموصلة إلى تقرير المسائل تقريرًا شرعيًا يوافق الكتاب والسنة؛ مع الحذر الواعي من أن يكونوا ممن افتتن بالحضارات العالمية، وراجت عندهم شبهة تحديث الإسلام ومسايرة الركب التي بها يكون العالِم غير مأمون العواقب فيتحول من حيث يدري أو لا يدري إلى تسويغ ما لا يُستساغ شرعًا مما هو معجب به أو معجب به غيره، فيُفتي حين يُستَفتى وعينه على مَن يُفتيهم يريد أن يرضيهم وأن يظفر بتقدير وتقريظ من الإفرنج وأذنابهم، فيجور على الحق إرضاءً للخلق، ويَظْهَر عمَّا عند الله تعجلًا لِمَا عند الناس، ويغيب عن وعيه حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: ﴿مَن أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه﴾ رواه أبو داود.
ولقد صدق الله: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:١٨١] .
ولا غرو -عباد الله- فالعالِم إنما هو موقِّع عن الله حكمه ولأجل ذا سمى ابن القيم ﵀ أحد كتبه: أعلام الموقعين عن رب العالمين.
3 / 4
بيان تأثر بعض المسلمين بفتنة التغريب
عباد الله: إن كثيرًا من المسلمين يدورون فيما يعملون حول أنفسهم؛ فيما يحقق مصالحهم ومنافعهم الخاصة دون اكتراث بما يرضي الله وما يسخطه، وإن المعاصي المنبثقة من الشهوة على قبحها وسوء مغبَّتها إلا أنها أدنى خطورة وعقوبة من معصية الشبهة التي تقود إلى التغيير في الدين أو التشكيك فيه، أو السعي الدءوب في بث ما من شأنه إفساد المسلمين، أو بذر الفرقة بينهم، أو التطلع إلى إرساء قواعد التراجع عن الدين والتي يسعى إليها غَمالِيجُ إِمَّعُون من مرضى القلوب المقلدة، لا يُعرف لهم قدم ثابتة مستقرة ينصرون بها الدين ويدفعون بها ما خالفه، سيرة بعضهم في العمل تابعة لتربيتهم في محاضن الكفر وكنف الإلحاد، أو في بيوتهم وحال عشرائهم من لُداتهم ورفاقهم وجيرانهم، ممن غسلت أدمغتهم في دهاليز الكفر، ممن عناهم المصطفى ﷺ بقوله: ﴿تجدون الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهة، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه﴾ رواه الشيخان.
فترونهم -عباد الله- يجمعون بين الضلال والإسلام، بين حب ما عليه الغرب الكافر وبين الانتساب إلى الإسلام، بل ومنهم مَن يصلي ويصوم؛ لأنه تربى على ذلك؛ ولكن دفعه إليه كونه منهوم المال أو مفتون الجاه أو رائمًا شهوات مشبوهة مُدْغِمٌ بعضها في بعض مغلوب في لزوم انتمائه للدين لكنه إذا تجرع عذابه لم يكد يسيغها إلا متهوعًا.
ولا جرم -عباد الله- فالمرء مع من يخالل ويعاشر! والشيء من معدنه لا يُستَغرَب: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف:٥٨] .
وتلك العصا مِن تلكمُ العُصَيَّة ولا تلد الحية إلا حية
فمن هؤلاء وأمثالهم ينبغي الحذر والتوقي، وألا نغتر بكونهم من بني جلدة المسلمين ويتكلمون بلغتهم، فلقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان ﵁ أنه قال: ﴿كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم.
دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله! صِفْهم لنا، قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا﴾ الحديث، وفي لفظ لـ مسلم أيضًا: ﴿وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس﴾ ولقد صدق الله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ [القصص:٤١-٤٢] .
3 / 5
دعاة على أبواب جهنم من بني جلدتنا
ولِمُسْتَفْهِمٍ أن يقول: كيف يكون بعض المسلمين دعاة على أبواب جهنم؟!
فالجواب هو: أنهم كذلك ببثهم الفساد والانحراف، وإشاعة الفاحشة وما يثير الغرائز الكامنة في مثل صور فاتنة، أو مقالات تخدش الحياء وتبرز القَحَة من خلال الصحافة مثلًا، أو في مجال التعليم بزرع المبادئ الهدامة بين الطلاب من خلال كوادر غير أمينة، أو من خلال منظري التطوير العلمي في سائر البقاع فيما يقدمونه من الحد والتقليص لما يقوي صبغة الله في نفوس الطلاب: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة:١٣٨] أو التقليل من شأن العلوم الدينية في مقابل الحرص الدءوب على تكثيف ما عداها من علوم مادية أو رياضية لا يحتاج إلى معظمها الذكي ولا يستفيد منها البليد، أو في مجال أجهزة الرأي المنتشرة مُقَمَّرةً كانت أو مُشَفَّرة؛ من التفنن في نشر الانحراف ما بين حب وهوى وفنون ومجون، أو هدم لأساسات شرعية قررها الإسلام، كمحاربة تعدد الزوجات وتشويه صورته، أو التحضيض على أن يلاقي الخطيب مخطوبته في خلوة محرمة، أو التعويد على إلفة الاختلاط بين الجنسين، ومن ثم هذا سارقٌ يعلمون الناس كيف يتخلص من عقوبة السرقة، وهذه زوجة خائنة يصورون فكاكها من غيرة زوجها بالتضليل عليه، وتلك زانية تشجع على الزنا بإشاعة طرق الإجهاض.
كل هذه الصور -عباد الله- إنما هي مشاهد متكررة تُبَث على مدار اليوم والليلة ولا يخلو منها قطر أو لا يكاد.
فكم من مشهد يبث على الملايين من المسلمين في كافة الأقطار، يشاهدونه بمرة واحدة؛ فإذا استقر في وعيهم وطافت به الخواطر والأفكار سلبهم القرار والوقار، فمثلوه ملايين المرات بملايين الطرق في ملايين الحوادث.
فلا تعجبوا حينئذٍ عباد الله إذا لم تجدوا:
إلا واضعًا كفَّ حائرٍ على ذقنٍِ أو قارعًا سنَّ نادمِ
ومن ثم تستمرئها النفوس الضعيفة رويدًا رويدًا إلى أن تلغ من حَمَئِها وهي لا تشعر، فإذا ألفتها النفس لم تكد تتحول عنها إلا في صعوبة بالغة بعد لُؤىً وشدائد؛ ولكنها في الوقت نفسه تفقد خصائصها التي تميزها، ثم تموع وتذوبُ وبعد ذلك:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
* * *
وإذا لم يغبِّر حائطٌ في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبارُ
حتى تقع في أتون الفتن، فتحترق بلا لهب.
والأمة المسلمة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، وقائدة لا منقادة، فالترك للتبعية هو النجاة منها، ومستقبل المسلمين يجب أن يُصْنَع في بلادهم وعلى أرضهم وداخل سياج الدين والشريعة، وعليهم جميعًا أن يكفوا عن أخلاق التسول بكل صنوفه؛ سياسة أو اقتصادًا أو أخلاقًا ومقدرات، ويجب ألا نغتر بما نراه من زخرف الحياة الدنيا وزينتها في أمة قد تقطعت روابطها وانفصمت عراها: ﴿وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه:١٣١] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان.
وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
3 / 6
دعوة الأمة إلى التمسك بالدين لأجل النجاة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء البررة، وعلى من تَبِع طريقهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- ثم اعلموا أنه من المتحتم علينا أن يشار إلى نوع القضية التي يراد علاجها وهي: أن المسلمين بجميع قواهم؛ دينيةً كانت أو اجتماعيةً أو ما شاكلها في مأزق حرج، وهناك قوى آخذة بدفعه من على جرف هار إلى الهوة السحيقة، وهناك قوى أصيلة أولية آخذة بتمكينه في الأرض من جهة، وبِرَدِّ العادية عنه من جهة أخرى، وهذه العادية كان يُنْظَر إليها من قبل أزمان قريبة أنها آتية من أجنبي عن المسلمين ولكن الذي ظهر أنها نشأت في بيوتات المسلمين وعقر دارهم.
والحكمة -عباد الله- ضالة المؤمن، وهي تحتم علينا جميعًا أن نزداد عبرة وتبصرة بالحال، فكما أن المريض الذي يتثاقل عن الأخذ بأسباب علاجه يسبب لدائه تمكينًا؛ فكذلك السكوت والصمت والتهاون من قبل من له حق التبيين والتوضيح من ولاة أمر وعلماء ودعاة، بل إن سكوت من له حق وحراك من لا حق له، بل إن التحمس للباطل والتراخي في الحق لهو مُوْجِبٌ لاستشراء الداء، وسيحل بكثير من الأقوام الندم ولات ساعة مندم.
ثم ليعلم الضعفاء والمغفلون من أمتنا؛ الذين يحاولون في تبعيتهم وإعجابهم بما عند الأجنبي أن يؤلفوا الأمة على خلق جديد ينتزعونه ممن أعجبوا بحضارتهم، ألا فليعلموا أن الخلق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة، وإذا كان البعض يشعر في قرارة نفسه أنه لابد للأمة في نهضتها من أن تتغير؛ فإن رجوعنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ أعظم ما يصلح لنا من التغير وما نصلح به منه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد:١١] .
وإذا تقاصر المرء عن إبانة الحق فلا أقل من الاجتناب لكلمة الباطل، كما أن المرء المسلم إذا لم يستطع أن يكون مصلحًا فلا أقل من أن يصون نفسه عن أن يكون معول هدم، أو إذن دهليز لكل لاقط.
فليتق المرء ربه، ولينظر قبل الإحداث؛ في أي مزلة يضع قدمه وهو لا يدري ما الذي يوضع له في ميزان حسناته؛ مما ليس في حسابه ولا شعر أنه عمله، فنقول له ولأمثاله: رويدكم مهلًا وعلى رسلكم، إنها الهاوية، وما أدراكم ما هيه! ﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ [القارعة:١١] ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف:٥٦] .
هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦] .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفِهم شرارهم.
اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم.
اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
3 / 7
إذا غاب الإحسان
أكد الشيخ حفظه الله في هذه المادة على أهمية تحقيق الإحسان ومراقبة الله الذي لا تخفى عليه خافية والمطلع على ما في الضمائر، وأن هذه المراقبة إذا تحققت في حياة المسلم أثمرت له في الآخرة النظر إلى مولاه، وفي الدنيا صلاح القضاء، وصيانة الحياة الزوجية، والخشية لرب البرية.
4 / 1
أهمية مراقبة الله
الحمد لله فاطر السماوات والأرض، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين -الجن والإنس- بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أقام الله به الحجة، وأوضح به الطريق، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وخلفائه الأربعة، أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر أصحابه الأخيار، النجباء الأطهار.
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله ﷺ المنبعث من مشكاة النبوة لَيَحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفك يشرح للنفس ويهديها بهديه، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وتتبع النور الذي أنزل معه.
وكلما ذُكر كلام المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح، لا فلسفة فيه، يجعل ما بين المرء وصِنْوه من النية كما بين الإنسان وربه من الخوف والمراقبة.
كلامٌ يقرر أن حقيقة المسلم العالية لن تكون فيما ينال من لذته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يقنعه من منطقه، ولا فيما يلوح من خياله، بل هو السمو الروحي الذي يغلب على الأَثَرَة؛ فيسميه الناس برًا، والرحمة التي تغلب على الشهوة؛ فيسميها الناس عفة، والقناعة التي تغلب على الطمع؛ فيسميها الناس أمانة.
عباد الله: إن تنشئة النفس المؤمنة على البر والتقوى، والعفة والأمانة، والخوف والمراقبة، هي وحدها الطريقة العملية الممكنة لحل معضلة الشر والانحراف لدى المجتمع المسلم.
أرأيتم الطفل كيف يشب على الخلق الكريم والنهج القويم لو تعهَّده القَيِّم بالتوجيه والتقويم، وعلى العكس من ذلك؛ لو أهمل أمره، وتركه في مهب الريح، إنه ينشأ شريرًا خطرًا على نفسه ومجتمعه؟
ذلكم -يا عباد الله- أبرز مثل للنفس حين ينشأ الفرد على مراقبة الله والخوف منه.
عباد الله! لقد ثبت في صحيح مسلم ﴿أن جبريل ﵇ سأل النبي ﷺ عن الإحسان فقال له المصطفى ﷺ: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك﴾ الله أكبر! إنه لتعبير عجيب، تعبير يحمل في اختصاره حقيقة هائلة وخلة مذهلة، إنها كلمات تحمل في طياتها قاعدة كبرى يقيم عليها الإسلام بناءه، هي: ﴿أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك﴾ قاعدة يقيم عليها نظمه كلها وتشريعاته وتوجيهاته طُرًَّا، نظام القضاء، نظام الاقتصاد، نظام السياسة، نظام الأسرة، موقف الفرد من المجتمع، وموقف المجتمع من الفرد، نظام المجتمع بأسره، بل نظام الحياة كلها، ﴿تعبد الله كأنك تراه﴾ .
فالمرء المسلم في مواجهة خالقه ومولاه المستعلي على جميع المخلوقات، في مواجهة مولاه بنفسه وبكل جوارحه وكل خلجاته بظاهرها وباطنها، بأسرارها وما هو أخفى من الأسرار: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:١٩] سبحان الله! حتى خائنة الأعين، الخائنة التي يظن الإنسان أنه وحده الذي يحسها ويعرفها، دون أن يراها أحد من الناس أو يفهمها، وحتى السر بل وما هو أخفى من السر، الخطرات التائهة في مثالب النفس لا تصل إلا ظاهر الفكر ولا يتحرك بها اللسان للتعبير، إنه لا ستر إذًا ولا استخفاء ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:٧] وكل هذه مكشوفة لله.
﴿فإن لم تكن تراه فإنه يراك﴾ وإنه لخير لك -أيها المسلم- أن تعبد الله كأنك تراه، خير لك أن تتوجه إلى حيث يرقُبُك، إلى حيث يرقبك خالقك، فتأمن المفاجأة، إنها الرهبة في الحالَين، رهبة مصحوبة بالأمل، حال كونك متوجهًا إلى الله، مخلصًا له قلبك، عاملًا على رضاه، ورهبة مصحوبة بالذعر، حال كونك متوجهًا بعيدًا عنه، وهو من ورائك محيط، فخير لك إذن أن تعبد الله كأنك تراه.
4 / 2
من راقب الله في الدنيا جوزي بالحسنى في الآخرة
أيها المسلمون: قول النبي ﷺ في تفسير الإحسان يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قربه وأنه بين يديه كأنه يراه؛ لأنه يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم وذلك أفضل الإيمان كما ثبت عنه ﷺ أنه قال: ﴿أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت﴾ رواه الطبراني، وبه تفوز بوعد الله ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس:٢٦] وثبت عن النبي ﷺ عند مسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله ﷿ في الجنة، وهذا مناسب لجعله جزاءًَ لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته فكان جزاء ذلك النظرَ إلى الله عيانًا في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر به تعالى عن جزاء الكفار في الآخرة ﴿إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين:١٥] وجعل ذلك جزاءً لحالهم في الدنيا وهو تراكم الران على قلوبهم حتى حُجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا؛ فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة.
إن الإحسان على ما فسره به رسول الله ﷺ ينبغي أن يتجلى في الأمة بعامة، وفي كل شأن من شئونها، فالقاضي المسلم لا يُظن في الظلم والجور حين يرقب الله كأنه يراه، ولا يجوز له أن يضع نزواته وهواه في مكان العدل الذي يطلبه منه رقيبه ومولاه، بل كيف تتجه نفسه إلى البطش والغمط ومن يرقبه يقول له: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:٨] ويقول له: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء:٥٨]؟!
4 / 3
أثر مراقبة الله في حياة القاضي
إن القاضي المسلم إذا لم يعبد الله كأنه يراه فهو للدنيا أحب وللزلل أقرب، ولربما اقتطع أموال اليتامى والأرامل وأموال الوقف والفقراء والمساكين فأكل الحرام وأطعم الحرام وكثُر الداعي عليه، فالويل ثم الويل لمن أورثه قضاؤه هذه الأخلاق.
وصدق رسول الله ﷺ إذ يقول: ﴿فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة﴾ رواه البخاري.
وكان يزيد بن عبد الله من قضاة العدل والصلاح، وكان يقول: [[من أحب المال والشرف وخاف الدوائر لم يعدل فيها]] .
إذًا خير لك -أيها القاضي المسلم- أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
4 / 4