Lessons by Sheikh Muhammad Hassan
دروس للشيخ محمد حسان
اصناف
تارك الصلاة
إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وقد وصفها الرسول ﷺ بأنها عمود الدين، ومن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين.
لذلك عرض الشيخ -حفظه الله- أدلة وجوبها، وكفر تاركها، مبينًا تعرضه للوعيد الشديد من الله ﷿ على لسان نبيه ﷺ.
وختم حديثه بذكر عظيم فضلها وفضل المواظبين عليها.
1 / 1
جزاء تأخير الصلاة عن وقتها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله! تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا جل وعلا، ومع اللقاء الثلاثين مازلنا بفضل الله وحوله وصوله ومدده نطوف بحضراتكم في بستان سورة مريم، ولقد انتهينا بفضل الله جل وعلا في اللقاء الماضي من تفسير قول الحق ﵎: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم:٥٨].
أيها الأحبة! وبعد أن ذكر الله جل وعلا وتحدث عن هؤلاء الأصفياء من الأنبياء والأتقياء ممن تبعهم بإحسان، ذكر أنه ﵎ خلف من بعدهم خلف سيئ، هذا الخلف قال الله عنه: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم:٥٩] مفارقة عجيبة بين هذين الفريقين، فريق إذا ما تليت عليه آيات الرحمن خر ساجدًا باكيًا لله جل وعلا، وفريق اتبع هواه وجرى وراء شيطانه، فاتبع الشهوات وأضاع الصلوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ﴾ [مريم:٥٩].
يقول عبد الله بن مسعود ﵁: [«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ» [مريم:٥٩] أي أخروا الصلاة عن وقتها] وروى الإمام أبو يعلى الموصلي، وابن المنذر، وابن حبان، وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط، والحاكم والبيهقي وضعفا رفعه وصححا وقفه عن سعد بن أبي وقاص ﵁ أنه قال: (سألت رسول الله ﷺ في قول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون:٤ - ٥] أتدرون ماذا قال الحبيب ﷺ؟ قال: (يا سعد! هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها)، ولم يقل: هم الذين يضيعون الصلاة، وهم الذين يتركون الصلاة، بل قال: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها.
يقول الله جل وعلا: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم:٥٩] الله أكبر! هذا جزاء من ضيع مواقيت الصلاة، ولا أقول: من ترك الصلاة بالكلية، بل هذا جزاء من أخر الصلاة عن وقتها فسوف يلقى غيًا، وغيٌ كما أخرج البخاري في تأريخه عن عائشة ﵂ أنها قالت: [غيٌ نهر في جهنم] والعياذ بالله.
وروى الإمام ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني في الأوسط، أن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: [﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم:٥٩] قال عبد الله: الغي نهر أو وادٍ في جهنم من قيح بعيد القعر، خبيث الطعم، يقذف فيه كل من اتبع الشهوات]، ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم:٥٩] لا إله إلا الله، هذا جزاء من أخر الصلاة عن وقتها.
1 / 2
حكم تارك الصلاة تكاسلًا
يا عباد الله، أيها المسلمون في كل مكان! أنا لا أخاطب الحاضرين الآن بين يدي في هذا المسجد، وإنما أخاطب المسلمين، وأرسل إليهم بهذه الرسالة، وأبعث إليهم بهذا الشريط في كل مكان من أرض الله: أيها المسلمون! أيها الرجل! أيتها المرأة! أيها المسلم! أيتها المسلمة! أيها الشاب! أيتها الفتاة! يا من ضيعت الصلاة، يا من تركت الصلاة، يا من أخرت الصلاة عن أوقاتها، أعيروني القلوب والأسماع في هذا اللقاء -يا عباد الله- لنستمع اليوم إلى هذا الحكم الذي يخلع القلوب، ويزلزل الأفئدة، وتضطرب إليه الجوارح، ولكن هيهات هيهات، فقد ماتت القلوب إلا من رحم علام الغيوب جل وعلا.
أعيروني القلوب والأسماع لنستمع اليوم إلى حكم تارك الصلاة، فإنه حكم يخلع القلوب ويزلزل الأفئدة، فانتبهوا معي جيدًا.
يقول الإمام الشوكاني ﵀ في نيل الأوطار: لا خلاف بين المسلمين على أن من ترك الصلاة ترك جحود وإنكار فقد كفر كفرًا يخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وقال ﵀ بعد ذلك: من كان تركه للصلاة تكاسلًا مع اعتقاده بوجوبها، وهذا حال كثير من الناس -والقول للإمام الشوكاني - وهذا هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه على قولين: أما القول الأول: وهو قول مالك، والشافعي، أنهم قالوا: بأن من ترك الصلاة تكاسلًا مع اعتقاده بوجوبها لا يكفر بل يفسق، فإن تاب إلى الله جل وعلا وإلا قتل بعد ثلاثة أيام حدًا بالسيف، تقطع رأسه وتضرب عنقه بالسيف بعد ثلاثة أيام، هذا الرأي الأول.
وأما القول الثاني: والحق مع أصحاب القول الثاني بالدليل الصحيح من الكتاب وسنة رسول الله ﷺ وقول جمهور أهل العلم أنهم قالوا: من ترك الصلاة تكاسلًا وانشغالًا عنها من غير عذر شرعي، فهو كافر كافر كافر، وقد أوجب الإسلام قتله، فهو كافر، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على كفره وعلى وجوب قتله.
استمعوا معي -أيها الأحباب- لأسرد إلى حضراتكم الأدلة على ذلك، وأولًا أود أن أذكر الجميع بأني لن أتدخل بكلمة واحدة من تلقاء نفسي، وإنما سأذكر لكم الأدلة الصحيحة الصريحة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله ﷺ؛ ليعلم كل مسلم، ولتعلم كل مسلمة أن من رد هذا الكلام فهو رادٌ لكلام الله، وراد لكلام محمد بن عبد الله ﷺ.
1 / 3
الأدلة على وجوب قتل تارك الصلاة
سأكتفي بدليلين صحيحين اثنين: الدليل الأول: حديث رواه الإمام البخاري والإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر ﵄ أن النبي ﷺ قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).
وجه الاستدلال من هذا الحديث كما يقول أستاذنا ابن القيم ﵀: وجه الاستدلال من هذا الحديث المبارك أنه ﷺ أُمر بقتال الناس حتى ينطقوا بالشهادتين، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وأن دماءهم وأموالهم محرمةٌ بعد نطقهم بالشهادتين وإيتاءهم للزكاة وفعلهم للصلاة.
الدليل الثاني: الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ أنه قال: (بعث علي بن أبي طالب ﵁ بذهيبة -أي بقطعة صغيرة من الذهب- وهو في اليمن إلى رسول الله ﷺ فقسمها الرسول ﷺ بين أربعة، فقال رجل من هؤلاء: اتق الله يا رسول الله -وفي رواية: إن هذه قسمة لم يرد بها وجه الله جل وعلا- فقال الرسول ﷺ: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ فقال خالد ﵁: ألا أضرب عنقه يا رسول الله، فقال الرسول ﷺ: لا لعله أن يكون يصلي).
قالٍ الإمام ابن القيم ﵀ ووجه الاستدلال من هذا الحديث على وجوب قتل تارك الصلاة أن المانع الذي منع رسول الله ﷺ من قتله هو كونه يصلي.
فهذان دليلان صحيحان على وجوب قتل تارك الصلاة، فتعالوا بنا إذًا لنستشهد بالأدلة الصحيحة على كفر تارك الصلاة، وقد تكلمنا عن الأدلة التي تذكر وجوب قتله، وأنا لا أتوقف عند جميع الأدلة وإلا لطال الوقت جدًا، ولكنها ومضات سريعة صحيحة بإذن الله جل وعلا لتبين المراد، ونسأل الله أن يجعل في هذا الكلام النفع والبركة لكل مسلم ومسلمة على ظهر هذه الأرض، إنه ولي ذلك ومولاه.
1 / 4
الأدلة على كفر تارك الصلاة
أما الأدلة -أيها الأحبة- على كفر تارك الصلاة من الكتاب والسنة، أقدمها بقول الإمام ابن حزم ﵀: قال الإمام ابن حزم: جاء عن عمر بن الخطاب ﵁ وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي بكر وعن غيرهم من الصحابة ﵃ جميعًا أنهم قالوا: [من ترك صلاة واحدة متعمدًا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد] يقول ابن حزم: ولا نعلم لهؤلاء الصحابة مخالفًا.
من ترك صلاة واحدة متعمدًا حتى يخرج وقتها، فهو كافر مرتد عن دين الله، هذه صلاة واحدة فما ظنكم بمن ترك الصلاة جملة، ما ظنكم بمن ضيع الصلاة وما صلى لله ركعة.
يقولون: من ترك صلاة واحدة متعمدًا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، فما ظنكم بمن ضيع الصلاة، وما ظنكم بمن جلس أمام المسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة مضيعًا لفرض الله جل وعلا، وما ظنكم بمن انشغل عن الصلاة بما لا يعد في الدين عذرًا شرعيًا.
1 / 5
الأدلة من القرآن على كفر تارك الصلاة
من ترك صلاةً واحدة متعمدًا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، والأدلة على ذلك من كتاب الله ومن حديث رسول الله ﷺ كثيرة؛ فإن كثيرًا من الناس لا يأخذون إلا بأدلة الكتاب والسنة، فنقول لهم: أما الأدلة على كفر تارك الصلاة من القرآن الكريم فهي: الدليل الأول من القرآن قول الله ﵎ في سورة القلم: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم:٣٥ - ٣٦]، ويقول جل وعلا بعدها في هذه السورة أيضًا: ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [القلم:٤٣] يقول ﷾: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [القلم:٤٢ - ٤٣].
وجه الدلالة من هذه الآيات والكلام للإمام ابن القيم ﵀ يقول: وجه الدلالة من الآيات: أن الله ﵎ لم يجعل المسلمين كالمجرمين، وهذا لا يليق بحكمه ولا بحكمته ولا بعدله، بل جعل الله المسلمين ضد المجرمين والمجرمين ضد المسلمين، وقال الله ﵎ وهو يحدثنا عن أحوال المجرمين في يوم القيامة، أنه يوم يكشف عن ساق يخر المسلمون الصادقون سجدًا لله جل وعلا دليلًا على إيمانهم، وبرهانًا ساطعًا على صدق إسلامهم لربهم جل وعلا، ويأتي الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا بين هذه الصفوف كما كان حالهم من النفاق في الدنيا، يريدون أن يسجدوا مع المسلمين كما سجد المسلمون لربهم جل وعلا، فيأبى الله جل وعلا أن يسجدوا وتبقى ظهورهم رغم أنوفهم قائمة كظهور البقر، لا يستطيعون السجود لله جل وعلا.
يقول الإمام ابن القيم ﵀: فلا يسجد إلا المسلم، ولا يستطيع السجود غير المسلم، ولو كان هؤلاء من المسلمين لأُذن لهم بالسجود كما أُذن للمسلمين، ومنهم بنص الآية من ترك الصلاة في الدنيا كما قال سبحانه: ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [القلم:٤٣].
الدليل الثاني من القرآن الكريم في سورة المدثر: يقول الله ﵎: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المدثر:٣٨ - ٤٠] يتساءلون عن من؟ ﴿عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ [المدثر:٤١ - ٤٢] هذا كلام الله -يا عباد الله- ﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر:٤٣ - ٤٧] هذا قول الله جل وعلا، ووجه الدلالة من هذه الآية، والكلام للإمام ابن القيم ﵀: وجه الدلالة من هذه الآيات أن الله تعالى جعل المسلمين ضد المجرمين، وجعل من المجرمين السالكين في سقر بنص الآية من ترك الصلاة في الدنيا ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ [المدثر:٣٩ - ٤٣].
الدليل الثالث من القرآن الكريم من سورة براءة -التوبة-: قول الله ﵎: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة:١١] يقول الإمام ابن القيم ﵀: ربط الله أخوتهم في الدين بإقامتهم للصلاة، فإن لم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فلا أخوة لهم في دين الله، ولا يكونوا بذلك مع المؤمنين؛ لقول الله ﵎: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:١٠] وأكتفي بهذه الأدلة من القرآن الكريم، وفي هذا الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
1 / 6
الأدلة من السنة على كفر تارك الصلاة
أما الأدلة الصحيحة من حديث رسول الله ﷺ على كفر تارك الصلاة فهي كثيرة ووفيرة، فأعيروني القلوب والأسماع يا عباد الله.
أقول بداية: لا ينبغي لمسلم ولا لمسلمة إن سمع قول الله وقول رسوله ﷺ أن يرد قولهما بقول عالم أو رجل أو شيخ، لا والله، لا يجوز ذلك في دين الله أبدًا ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:٣٦] هذا قول الله وهذا قول رسول الله ﷺ.
الدليل الأول على كفر تارك الصلاة من حديث رسول الله ﷺ ما رواه الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله ﵄ أنه ﷺ قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) هل تريدون حديثًا أوضح من هذا الحديث يا من ضيعتم الصلاة؟ وهل تريدون كلامًا أوضح من هذا الكلام؟ الحديث رواه مسلم وبإذن الله لا أذكر حديثًا ضعيفًا أبدًا، رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله ﵄ أن النبي ﷺ قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة).
الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام أبو داود، والإمام النسائي، والإمام الترمذي وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، من حديث يزيد بن حبيب الأسلمي، أن النبي ﷺ قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
الدليل الثالث: ما رواه هبة الله الطبري، وقال الطبري: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم من حديث ثوبان مولى رسول الله ﷺ أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك).
الدليل الرابع: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الطبراني بإسناد جيد وقال: حديث صحيح على شرط الإمام مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ ذكر الصلاة يومًا فقال (من حافظ على الصلاة كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف) هذا كلام النبي ﷺ.
وذكر الإمام ابن القيم لطيفة بديعة من لطائف العلم في هذا الحديث فقال: يحشر تارك الصلاة مع هؤلاء؛ لأن تارك الصلاة يشغل عن الصلاة بشيء من هذه الأربعة، إما أن يشغله عن الصلاة ماله، أو ملكه، أو وزارته، أو تجارته، يقول: فمن شغله ماله عن الصلاة فضيعها حشر يوم القيامة مع قارون، ومن شغلته وزارته عن الصلاة فضيعها -وكثير ما هم- حشر مع وزير السوء هامان، ومن شغله ملكه عن الصلاة فضيعها -وكثير ما هم- حشر مع فرعون، ومن شغلته تجارته عن الصلاة فضيعها -وكثير ما هم- حشر مع أبي بن خلف، وهؤلاء العمالقة في الكفر والشرك في الدرك الأسفل من النار كما تعلمون جميعًا.
(من حافظ على الصلاة كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف) في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله.
الدليل الخامس: ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل ﵁ أنه ﷺ قال: (من ترك صلاةً مكتوبةً فقد برئت منه ذمة الله).
الدليل السادس: أن ترك الصلاة -يا عباد الله- يحبط جميع الأعمال، حتى الحج -يا حجاج اسمعوا- فتارك الصلاة لا يقبل الله منه حجًا، ولا صومًا، ولا زكاة، ولا صدقة، ولا خيرًا، ما الدليل؟ ما رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام الطبراني بإسناد جيد وقال حديث صحيح الإسناد على شرط الإمام مسلم أن النبي ﷺ قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح-وياله من فلاح- وإن فسدت خاب وخسر).
يقول ابن القيم ﵀: ولو قبل الله تعالى لتارك الصلاة عملًا من أعمال البر والخير ما حكم عليه الرسول بأنه من الخائبين الخاسرين والعياذ بالله، هي عمود الدين بعد توحيد الله جل وعلا، وأول ما تسأل عنه، فإذا صلحت الصلاة صلح سائر الأعمال، وإن فسدت الصلاة والعياذ بالله لا تسأل عن عمل بعدها، وفسد سائر العمل والعياذ بالله.
أكتفي بذلك -أيها الأحباب- من الأدلة الصحيحة الصريحة على كفر تارك الصلاة من حديث رسول الله ﷺ.
1 / 7
حكم صلاة الجماعة
وفي عجالة سريعة أذكر بحكم صلاة الجماعة، ونذكر هواة الصلاة في البيوت والمنازل بحكم صلاة الجماعة، ونقول لهم: يا من تصلون في البيوت والحجرات وتركتم هدي خير البريات، وتركتم الجمع والجماعات: اعلموا بأنكم على خطرٍ عظيم حتى وأنتم تصلون؛ لأن من العلماء من قال بوجوب صلاة الجماعة والحق والدليل معهم، فمنهم من قال بوجوبها، ومنهم من قال بأنها سنة مؤكدة، والحق والدليل مع من قال بوجوب صلاة الجماعة؛ وإليكم بعض الأدلة يا عباد الله.
الدليل الأول من القرآن الكريم على وجوب صلاة الجماعة في بيوت الله جل وعلا: يقول الحق ﵎: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة:٤٣] فلو كان المقصود إقامة الصلاة فقط ما قال الله في آخر الآية: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة:٤٣] وهو الذي قال في أولها: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة:٤٣] فلو كان الأمر يقتصر على الإقامة لقال الله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة:٤٣] ومعلوم أنه لا توجد كلمة في القرآن الكريم كله بدون هدف وبدون معنى وبدون حكم.
ولو كان المقصود إقامة الصلاة فقط لقال الله كما قال في آيات كثيرة من القرآن ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:٤٣] ولكنه قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة:٤٣].
يقول الشيخ ابن باز: وهذه الآية نص في وجوب صلاة الجماعة.
الدليل الثاني: هو قول الله ﵎ وحكمه على المسلمين، حتى وهم في ساحة القتال وميدان الوغى، يوم أن تصمت الألسنة وتخطب السيوف على منابر الرقاب في مواجهة أعداء الله جل وعلا، لم يسمح الله بترك صلاة الجماعة، أسمعتم دليلًا أعظم من هذا الدليل، حتى في ميدان القتال والخوف من أعداء الله أن ينقضوا على المسلمين، لم يسمح الله جل وعلا أن يصلي المسلمون الصلاة فرادى في ميدان القتال، بل أمر النبي ﷺ أن يصلي بهم في الميدان جماعة، سبحان الله! فقال له ربه جل وعلا: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ﴾ [النساء:١٠٢] وقال بعدها جل وعلا: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ [النساء:١٠٢] دليل عجيب وصريح في وجوب صلاة الجماعة، حتى في وقت الخوف والقتال، ولو كان الأمر يسيرًا -كما قال الإمام ابن القيم ﵀ لأُذن لهؤلاء في ميدان القتال أن يصلوا فرادى، وأن يصلي كل واحد منهم في موقعه، ولكن الله جل وعلا أمر رسوله ﷺ أن يصلي بهم جماعة.
الدليل الثالث: حديثٌ رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ أنه قال: (أتى النبي ﷺ رجل أعمى، وقال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، وسأل الرسول ﷺ أن يرخص له، أي أن يصلي في البيت فقال له الرسول ﷺ: هل تسمع النداء، قال: نعم.
قال ﷺ: فأجب) أجب النداء، أجب منادي الله في بيت الله جل وعلا.
الدليل الرابع: الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام مسلم أن النبي ﷺ قال -وهذا من حديث أبي هريرة أيضًا-: (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الخير لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا أن يصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معي، معهم حزم من حطب فآتي على قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار).
أسمعتم يا عباد الله! (أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) هذا حكم صلاة الجماعة.
فيا من تهوون الصلاة في البيوت وتتركون هدي رسول الله ﷺ اعلموا أنكم على خطر عظيم، ولو متم على ذلك لمتم على غير سنة النبي ﷺ كما قال عبد الله بن مسعود في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (إنها من سنن الهدى، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم) ثم يقول في آخر الحديث: (ولقد رأيتنا ولا يتخلف عن هذه الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين -أي يستند على الرجلين- حتى يقام في الصف) هذه صلاة الجماعة وهذا حكم صلاة الجماعة.
فيا من ضيعتم الصلاة! اتقوا الله جل وعلا، ويا من ضيعتم الصلاة في جماعة! اتقوا الله جل وعلا، فلو متم على ذلك لمتم على غير سنة رسول الله، وعلى غير هدي ابن عبد الله ﷺ.
بقي لنا -أيها الأحباب- أن نذكر في عجالة سريعة بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله جل وعلا، فضل الصلاة بصفة عامة، وأسأل الله ﷿ أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
1 / 8
فضل الصلاة وعظيم أجرها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! هذه هي الصلاة وهذه هي عظمة الصلاة، وهذا هو خطرها، وهذا هو حكمها، وهذا هو فضلها، ولقد تكلمنا عن الأدلة التي تقول بوجوب قتل تارك الصلاة، وعن الأدلة التي تقول بكفر تارك الصلاة، وبينا حكم صلاة الجماعة وبقي لنا في عجالة سريعة أن نذكر المسلمين والمسلمات في كل مكان في أرض الله جل وعلا بفضل هذه الصلاة.
اعلموا -يا عباد الله- رحمني الله وإياكم بأن الصلاة هي عماد الدين، فمن تركها فقد ضيع الدين، وهو لما سواها أضيع، كما كان عمر بن الخطاب ﵁ يقول: [إن من ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع، وهي عماد الدين وأس الإسلام] أي أساسه الأول بعد توحيد الله جل وعلا، فقد بني الإسلام على خمس، وأول ركن من أركانه هو التوحيد والركن الثاني هو الصلاة -يا عباد الله- وفضلها عظيم وخطرها جسيم.
وسأكتفي بهذه الأحاديث الثلاثة التي وردت في فضل الصلاة، وكلها صحيحة إن شاء الله، أما الحديث الأول رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرًا يغتسل منه كل يوم خمس مرات) أي: لو أن نهرًا بباب أحدكم وينزل كل يوم خمس مرات إلى هذا النهر ليغتسل فيه خمس مرات (أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرًا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيءٌ؟) أي: هل يبقى بعد ذلك على جسده من الأوساخ والقاذورات شيء (قالوا: لا يبقى من درنه شيء يا رسول الله، فقال ﷺ: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا) يا لها من كرامة، ويا له من فضل عظيم (فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا).
وفي الحديث الذي رواه الإمام الطبراني بإسناد جيد، ورواته محتج بهم في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود ﵁ أنه ﷺ قال: (تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها) الله أكبر (تحترقون، تحترقون) أي بالذنوب والمعاصي والشهوات والأهواء (تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) يا له من فضل! وهذا من فضل الصلاة أيها الأحباب.
وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (فضل صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ -أي: الفرد- بسبع وعشرين درجة).
فيا عباد الله! أيها المسلم وأيتها المسلمة! الله الله في الصلاة الله الله في الصلاة! فيا تارك الصلاة لقد سمعت وعلمت قول العلماء بكفرك، فتارك الصلاة والله الذي لا إله غيره ملعون، والله لكأني بتارك الصلاة ينادي عليه ثوبه الذي يرتديه على جسده، ولو أنطقه الله لقال له بلسان الحال: يا تارك الصلاة لولا أني مسخر لك لفررت من على جسدك.
والله لكأني بلقمة العيش يرفعها تارك الصلاة إلى فمه، تنادي عليه بلسان الحال وتقول له: يا تارك الصلاة يا عدو الله تأكل رزق الله وأنت مضيع لفروض الله جل وعلا.
والله لكأني بالبيت الذي يؤويه وبالمنزل الذي يعيش فيه، ينادي عليه بلسان الحال إذا ما خرج كل يوم وكل صباح، يقول له: اخرج يا عدو الله، لا صحبك الله في سفرك ولا خلفك الله في أثرك، ولا ردك الله إلى أهلك، ولا إلى أولادك سالمًا غانمًا.
يا تارك الصلاة، ويا مضيع الصلاة، اعلم بأنك على خطر عظيم، ولو مت على ذلك لمت على الكفر والعياذ بالله، فالله الله يا عباد الله، الله الله في الصلاة، فلقد كانت آخر وصيةٍ لنبيكم ﷺ وهو على فراش الموت، وقد جعل يردد هذه القولة، وهذه الوصية الغالية؛ جعل يقول (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم).
هذه رسالة وهذا شريط أرسل به وأبعث به إلى كل مسلم ومسلمة على ظهر هذه الأرض في أي بلد من بلاد الله جل وعلا، وأذكر نفسي وإياكم بعظمة الصلاة وبخطورة الصلاة، وأسأل الله جل وعلا أن يبارك في هذا الشريط، وأن يجعله نافعًا لكل مسلم ومسلمة، إنه ولي ذلك ومولاه.
وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وباسمه الأعظم الذي إن سئل به أعطى، وإن دعي به أجاب: أن يرد المسلمين إليه ردًا جميلًا، اللهم ردنا إليك ردًا جميلًا، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم لا تجعل لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا دينًا إلا أديته، ولا همًا إلا فرجته.
اللهم خفف الصلاة على قلوبنا يا رب العالمين، اللهم اجعلها قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم اجعلها قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم رب أولادنا في ظلال الصلوات، اللهم رب أولادنا في ظلال المساجد، اللهم رب أولادنا في ظلال القرآن، اللهم اجعلنا من المحافظين على الصلوات، اللهم اجعلنا من المحافظين على الصلوات، اللهم لا تجعلنا ممن هم عن صلاتهم ساهون، اللهم اقبلنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم تقبل منا صالح الأعمال، ووفقنا اللهم إلى ما تحبه وترضاه، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد!!!
1 / 9
الطريق إلى الله
الطريق إلى الله طريق واحد، وهو طريق النبي ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم، وما سواه من الطرق إنما هي طرق ضلال وغواية عن الصراط المستقيم، والناس في هذا الأمر قسمان: أولهم من ضل عن الطريق وعادى شرع الله وأهله، والآخر من اهتدى إلى الطريق وثبت عليه.
2 / 1
الطريق إلى الله هو طريق الرسول والصحابة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج:٦٢]، عالم الغيب والشهادة الذي استوى في علمه ما أسر العبد وما أظهر، الذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:٨٢]، حمدًا لك يا من اعترف بفضلك وكرمك كل حاضرٍ وباد، حمدًا لك يا من اغترف من بحر جودك وكرمك كل رائح وغاد، حمدًا لك يا من نطقت بوحدانيتك الكائنات.
فالسماء دائمًا وأبدًا تقول: سبحان من رفعني بقدرته، وأمسكني بقوته، فهو ركني وعمادي! والأرض تقول: سبحان من وسع كل شيء علمًا ومهد مهادي! والبحار تقول: سبحان من بمشيئته أجراني، وأسال عيون مائي لخطَّابي وورَّادي! والعارف به يقول: سبحان من دلني عليه، وجعل إليه مرجعي ومعادي! والمذنب يقول: سبحان من اطلع علي في المعصية ورآني، فلما رآني سترني وغطاني، ولما تبت إليه تاب علي وهداني.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، والصمد الذي لا منازع له، والغني الذي لا حاجة له، جبار السماوات والأرض، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:١٠٣].
﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥]، استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهًا عن الحلول والانتقاص، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته، فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه ﵎ كان ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان، لم يتغير عما كان، لا يحويه زمان، ولا يحده مكان، علم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:٨٢].
لا إله غيره، ولا رب سواه، من توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن فوض إليه الأمر هداه، وصدق الله إذ يقول: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر:٣٦].
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا محمدًا رسول الله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله صلاةً وسلامًا يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء، ويا سيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي -ويشهد معي الموحدون- أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت الله حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك تمشي على شوك الأسى، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج، وأمَّنت الخائف، وطمأنت القلق، ونثرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنثر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا وعن الإسلام خير ما جازى الله به نبيًا عن أمته ورسولًا عن قومه.
يا مصطفى ولأنت ساكن مهجتي روحي فداك وكل ما ملكت يدي
إني وقفت لنصر دينك همتي وسعادتي ألا بغيرك اقتدي
لك معجزات باهرات جمة وأجلها القرآن خير مؤيدي
ما حرفت أو غيرت كلماته شلت يد الجاني وشاه المعتدي
وأنا المحب ومهجتي لا تنثني عن وجدها وغرامها بمحمد
قد لامني فيه الكفور ولو درى نعم الإيمان به لكان مساعدي
يا رب صلِّ على الحبيب محمد واجعله شافعنا بفضلك في غدِ
اللهم صل وسلم عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلامًا يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! أما بعد: فيا أيها الأحباب! أحباب الحبيب المصطفى محمد ﷺ! تعالوا بنا لنطوف سويًا في روضة القرآن الكريم، لنتعرف اليوم على الطريق الصحيح، فإن موضوعي اليوم مع حضراتكم بعنوان: الطريق إلى الله ﷿، أين الطريق إلى الله ﷿؟ خاصة وأن كثيرًا من الناس اليوم قد التبست عليه الأمور واختلطت، وتشعبت به الأهواء، وكثرت من حوله الفتن، وكثرت بين يديه وأمام عينيه الفرق والجماعات، وهو في حيرة، أين هو؟ بل وأين الطريق؟ إن الطرق أمامه قد تشعبت، وإن الفرق أمامه قد اختلفت وتكاثرت وتباينت، الكل ينتصر لرأيه، والكل ينادي لمنهجه وفكره، حتى وصل الأمر إلى حد التصادم والنزاع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فتعالوا بنا لنضع النقط اليوم على الحروف، لنتعرف على الطريق، أين الطريق الذي يوصلنا إلى الله جل وعلا في وسط هذا الركام الهائل من الأفكار والفلسفات والمبادئ؟ يقول صاحب ظلال القرآن -حتى تتعرفوا على الحقيقة- يقول الشيخ سيد قطب ﵀: إن الدنيا كلها بمبادئها وأفكارها وفلسفاتها ومناهجها إن لم تكن مرتبطة بمنشئها الأول، وقدوسها الأجل الأعظم وهو الله جل وعلا، فإنما هي في ضلال وضلال، إن الطريق هاهنا واضح وبين، وإن الطريق هاهنا بين.
الطريق إلى الله -أيها الأحباب- هو طريق واحد لا اعوجاج فيه ولا انحراف، لا اختلاف فيه ولا تباين.
الطريق حدده النبي ﷺ، وحدد مراسمه من بلغ عن ربه جل وعلا، فقال فيما ذكره الله ﷾ في القرآن الكريم: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:١٥٣]، انتبهوا معي -أيها الأحباب- إلى دقة التعبير القرآني في هذه الآية: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ [الأنعام:١٥٣] لو انتبهتم معي للدقة القرآنية لوجدتم أن الله في هذه الآية قد وحد الطريق وأفرده: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي﴾ مفرد وطريق واحد، وجمع الله السبل والطرق؛ لأن الطرق المتعددة إنما هي طرق الشيطان والأهواء والضلال، وحد الله الطريق إليه وجمع السبل؛ لأن الطريق إلى الله واحد وواضح: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ [الأنعام:١٥٣] بالإفراد، ﴿فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ [الأنعام:١٥٣] بالجمع؛ لأن الطرق متعددة ومتنوعة كلها بدع وأهواء وضلالات، لا صدق ولا إخلاص ولا ابتغاء لمرضاة الله ﷿ فيها، إن الطريق الذي يسلكه ويبتغي فيه القرب من الله إنما هو طريق واحد، إنما هو طريق النبي ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
ولقد ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده، والإمام النسائي في سننه، من حديث عبد الله بن مسعود ﵁: (أن النبي ﷺ خط خطًا بيده -رسم على الأرض خطًا مستقيمًا- ثم قال: هذا صراط الله مستقيمًا، وخط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل جلس على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها) على كل هذه الطرق المتفرقة والمتنوعة شيطان، يدعو الشيطان إلى حزبه وفكره ومنهجه ومبادئه، وصراط الله مستقيم واضح بين.
وهذا مأخوذ من قول الله جل وعلا في سورة البقرة: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:٢٥٧]، لو نظرتم في هذه الآية أيضًا لوجدتم أن الله قد جمع الظلمات وأفرد النور، «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ»، جمع ظلام وجمع ظلمة، ظلمات البدع، والأهواء، والدنيا، والشياطين، والطواغيت في هذه الأرض؛ لأن الطاغوت له في كل عصر لغة، وله في كل عصر لسان، وله في كل عصر منهج، بل ألف ألف لسان، يتنوع ويتشكل بتشكل العصور والأزمان، والأماكن والأوقات.
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة:٢٥٧] الله جمع الظلمات ووحد النور؛ لأن مصدر النور واحد هو الله نور السماوات والأرض، أو كما قال عبد الله بن مسعود ﵁: [ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه]، أو كما قال الله جل وعلا: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور:٣٥].
إذًا: الظلمات متعددة، والطرق متنوعة، ولكن طريق النور هو طريق الحق وهو طريق واحد، هو طريق النبي ﷺ، وهو طريق أصحاب النبي ﷺ، من سلك هذا الطريق فقد سلك الطريق الحق إلى الله الحق، ومن شذ عن هذا الطر
2 / 2
تحذير الله ورسوله للمؤمنين من الفرقة والخلاف
يا أيها الأحباب! إن الطريق إلى الله واحد وواضح ونير، لا لبس، ولا غبش ولا غموض، ولا اعوجاج، ولا انحراف فيه، ولا التفات عنه، ولذلك فإن النبي ﷺ حذر من الفرقة والاختلاف والتباين، وقال في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام أحمد والإمام القرطبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، أن النبي ﷺ قال: (افترق أهل الكتاب على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا فرقة واحدة، ما أنا عليه وأصحابي) إذًا الطريق لا لبس فيه، إن الطريق واضح، فلم هذه الاختلافات والفرقة، ولم هذه الأحقاد، ولم هذا التنازع والتباين؟ أيها الأحباب! يا من صدقتم في حبكم لله! ويا من أخلصتم في دعوتكم لله جل وعلا! ويا من صدقتم في حبكم لرسول الله ﷺ! لا تتفرقوا ولا تختلفوا ولا تتباينوا، اجتمعوا على قلب رجل واحد، فإن أعداء الإسلام يخططون لنا وللإسلام ليل نهار، ولكننا نحن المسلمين نحن الموحدين نحن المؤمنين نحن الدعاة إلى هذا الدين اختلفنا فيما بيننا، اختلفنا على أمور فرعية لا تسمن ولا تغني من جوع وتركنا الأصول، وكلنا جميعًا موحدون ومؤمنون ومسلمون، لا إله لنا إلا الله، ولا كتاب لنا إلا كتاب الله، ولا زعيم لنا إلا ابن عبد الله ﷺ، فلم هذه الأحقاد والاختلافات والنزاعات؟ سبحان الله! لا فرق بين أخ سلفي وبين أخيه من جماعة التبليغ، ولا فرق بين هذا وبين أخيه من جماعة الإخوان، ولا فرق بين هذا وبين أخيه من جماعة أنصار السنة، كلنا جميعًا نقول: لا إله إلا الله، كلنا جميعًا نقول: محمد رسول الله ﷺ، لا منهج لنا إلا القرآن، ولا شرع لنا إلا شرع النبي ﵊، فلم هذه الفرقة أيها الأحباب، وأعداء الإسلام والله لا ينامون ليل نهار؟ ما من لحظة إلا وهم يخططون لهذا الدين، إلا وهم يدبرون لهذا الدين، إلا وهم يخططون لتشويه صورة هذا الإسلام، وأعداء الإسلام كثيرون، وكلكم يعرف من هم أعداء الإسلام، لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال وصوت الله أكبر يرتفع ليل نهار في كل المساجد، فلا تختلفوا -أيها الأحباب- فإن الطريق إلى الله واضح وبيّن وكله نور!
2 / 3
أقسام الناس في الطريق إلى الله تعالى
إن الناس على الطريق إلى الله قسمان: وهذا التقسيم ليس لي، وإنما هو تقسيم لأستاذنا ومعلمنا الإمام ابن القيم ﵀ جل وعلا وأسكنه فسيح جناته، وطيب الله ثراه، وقدس الله روحه بقدر ما قدم للإسلام ولدين الإسلام وللمسلمين، ماذا يقول الإمام ابن القيم؟ انتبهوا حتى تعرفوا أين أنتم، هل أنت على الطريق أم أنت بعيد عنه، وبالرغم من ذلك فلقد زين الشيطان إليك عملك، وخدعك إبليس عليه لعائن الله، وقال لك: تمسك فإنك على الطريق، ولكن لو دققت في حقيقة أمرك، ولو فتشت في حقيقة سعيك لوجدت سعيك ممن قال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:١٠٤]، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتحرى الدقة أيها الأخ الكريم، وانتبه معي جيدًا لتتعرف أين أنت، هل أنت على طريق الله أم أنت بعيد عن الطريق؟
2 / 4
القسم الأول: قسم قد ضل عن طريق الله وأعلن العداء لشرعه
يقول الإمام ابن القيم: الناس قسمان: قسمُ قد ضل الطريق عن الله جل وعلا، بعد وانصرف عن الطريق الحق، ضل الطريق إلى الله ﷾، قسم أعلن العداء لله، وأعلن الحرب على شرع الله رجالًا ونساءً، رجال يقولون: إن في شرع الله التخلف والتأخر، وإن في النقاب الرجوع إلى الوراء: ما هذا التخلف والتأخر والتنطع؟ إن النقاب تخلف، وإن الحجاب تأخر وهكذا، وامرأة أخرى صرخت على صفحات الجرائد، وعبر شاشات التلفاز والإذاعات، تقول: أتريدون أن نرجع إلى عصر الناقة والحصان؟ أتريدون منا أن نرجع إلى الوراء؟ أتريدون منا أن نرجع إلى عهد الأعراب الذين عاشوا في الصحراء؟ إننا في القرن العشرين، إننا في عصر الصاروخ والطائرة والصعود إلى القمر، فلا رجعة ولا عودة إلى الوراء، وعرت عن صدرها وذراعيها، وكشفت عن ساقيها، وكأنها تقول بلسان الحال والمقال: يا رب! غير شرعك ودينك، فإن شرعك لم يعد يتفق مع مدنية القرن العشرين.
هؤلاء الناس ضلوا عن طريق الله، وأعلنوا العداء لله ولشرع رسول الله ﷺ، وسخروا من الموحدين والمتوضئين! استهزءوا بهم في كل زمان ومكان، ووصفوهم بأنهم إرهابيون، ومتنطعون، ومتشددون، هل من تمسك بكتاب الله إرهابي؟! هل من تمسك بدين محمد ﷺ متشدد ومتنطع؟ هذا الذي وضع المسك بدلًا من رائحة السيجارة والتدخين، والذي وضع المسواك في فمه بدلًا من السيجارة والعياذ بالله، هؤلاء إرهابيون، هؤلاء متنطعون، هؤلاء متشددون؟! أيها الموحدون! أيها المؤمنون! أيها المتمسكون بدين حبيبكم محمد ﷺ! لا تضلوا عن الطريق، ولا يغرنكم من بعد عن الطريق، مهما كثر عددهم، فإن الحق واضح، ورسول الله كان وحده يدعو إلى الله جل وعلا، فلا تغتروا بكثرة المبتدعين، وكثرة المفتونين، واعلموا أن نبيكم وحبيبكم محمد كان وحده في الميدان يدعو إلى الله وحده، فثبته الله جل وعلا، وثبت معه المخلصون من هذه الأمة، الذين دعوا إلى الله جل وعلا، فنقلهم الله بتمسكهم بكتاب الله وسنة رسول الله من رعاة للغنم إلى قادة وسادة لجميع الأمم.
فهذا الصنف الذي أعلن العداء لله، وهذا الصنف الذي ضل عن طريق الله، وأعلن الحرب على شرع الله، وأعلن العداء للمتوضئين الذين أشرقت وجوههم بأنوار الإيمان والطاعة، الذين سجدوا لله في الليل، وهؤلاء بين الخمور وبين شاشات التلفاز، وأمام أشرطة الفيديو، والمغنيات والقينات والخينات والعياذ بالله.
فيا أيها المتوضئون! اثبتوا، واصبروا، واعلموا أن النصر حليفكم بإذن الله جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء:١٠٥]، إن النصر للإسلام والله، وإن النصر لدين الله، لا تخافوا على الدين أبدًا، فإن الذي تولى حفظ الدين هو الله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:٩]، لا نحذركم ولا نخوفكم على الدين، وإنما الحذر علينا نحن المسلمين وأصحاب الدين من هذه الفرقة، ومن هذه الاختلافات؛ لأن الدين محفوظ بعناية الله وقدر الله سبحانه! وقد ذكرت لكم أن مدرسًا تربى على الشيوعية والوجودية والإلحاد: دخل ذات يوم على تلامذته في الفصل، وأراد أن ينفث سموم هذه العقيدة العفنة في عقول هؤلاء الصغار، فوقف أمامهم وأشار إليهم وهم صغار العقول، وقال لهم: يا أولاد! هل ترون هذه السبورة! قالوا: نعم.
قال: إذًا السبورة موجودة.
تروني؟ قالوا: نعم.
قال: إذًا أنا موجود.
أترون الدرج الذي أنتم قاعدون عليه؟ قالوا: نعم.
قال: إذًا الدرج موجود.
أنتم ترون ربنا؟ قالوا: لا.
قال: إذًا غير موجود، لا وجود لخالق، إذًا هذا الكون كله من عرشه إلى طرفه لا خالق له.
سبحان الله! يا أعرابي! يا من عشت في الصحراء! يا من لم تدخل إلى جامعة من الجامعات! ويا من لم تدرس في كلية من الكليات! يا من لم ترتحل في جنبات الأرض بحثًا عن علم، أو جريًا وراء فكر، أو فلسفة زائفة، أو منهج خداع.
أيها الأعرابي البسيط! بالله عليك بماذا تعرفت على الله؟ وما الدليل على وجود الله؟ قال لهم: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟! سبحان الله! هذا الرجل المشرك الملحد الوجودي الشيوعي، يقول لهم: لا وجود للخالق، سبحان الله العظيم! وإذ بالله ﵎ الذي تكفل بحفظ دينه ينطق صبيًا وطفلًا صغيرًا من هؤلاء الصغار، ينطقه الله ويؤتيه الحكمة: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة:٢٦٩]، فقام تلميذٌ أراد أن يقلد أستاذه.
مشى الطاووس يومًا باختيال فقلد مشيته بنوه
فقال علام تختالون قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
فقام التلميذ مقلدًا لأستاذه، ووقف أمام أستاذه ونظر إلى زملائه من التلاميذ، وقال لهم: يا أولاد: أنتم ترون عقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: إذن عقله غير موجود، مجنون ابن مجنون، هذا حفظ الله لدينه، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:٩]، عهد أخذه الله على نفسه، فلا تخافوا على هذا الدين، ولكن الخوف علينا نحن المسلمين إذا ما ضيعناه، وإذا ما فرطنا فيه، وإذا ما ألقينا كتاب الله وشرع رسول الله وراء ظهورنا، هنا يخشى علينا من الضياع والضلال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل -زبد لا قيمة له ولا نفع فيه- وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
فيا أيها الأحباب! صنفٌ قد ضل عن الطريق وأنتم تعلمونه جيدًا، أعلن العداء لله، وأعلن الحرب على شرع الله، وأعلن العداء للدعاة، وصب الإيذاء والعذاب صبًا على كل من دعا إلى هذا الدين، هذا الصنف تحركه الشياطين، والأهواء والشهوات، ألم تقرأ قول الله جل وعلا: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ [مريم:٨٣]، تدفعهم الشياطين إلى المعاصي دفعًا، وإلى الضلال دفعًا، وإلى جهنم دفعًا، نؤزهم أزًا إلى الضلال والمعاصي والهلاك، هذا هو الصنف الأول؛ بعد عن الله فبعد الله عنه، وويل لمن بعد الله عنه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:١٢٤]، هذه هي النتيجة، من أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن أعرض الله عنه فهو في ضلال.
نعيش في هذا الضنك والضيق، نقص في الأموال والثمرات والمياه والكهرباء والاقتصاد لا رخاء اقتصادي، ولا أمن، ولا أمان، لماذا؟ لأننا أعرضنا عن الله، وأعلنا العداء على الله، والحرب على شرع الله جل وعلا، فماذا تنتظرون؟ ماذا تكون النتيجة؟ هذا الضنك والضيق والضلال والبعد، وهذه الأزمات والمشاكل والظلمات التي نعيش فيها، هذه نتيجة حتمية لكل من أعرض عن منهج الله، هذه نتيجة حتمية لكل من شذ وأعلن الحرب على شرع الله: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [نوح:١٠] ما هي النتيجة؟ ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح:١١ - ١٣] ما لكم لا تعبدون الله حق العبادة، ما لكم لا توحدون الله حق التوحيد، ما لكم لا تصطلحون مع الله، ما لكم تعلنون الحرب على شرع الله، وعلى منهج الله، وعلى كتاب الله، النقاب تخلف، وشرع الله تأخر؟ لا إله إلا الله، فهذا الصنف أيها الأحباب ضل عن الطريق، وبعد عن الله فبعد الله وأعرض عنه، فهو يعيش في حسرة، لا أمن ولا أمان ولا رخاء ولا استقرار، وإن نعمة الأمن والأمان، ونعمة الاستقرار والرضا، إنما هي نعمة عظيمة، انتبه ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨]، نعمة الطمأنينة ونعمة الرضا، لا ينعم بها إلا المؤمن الذي اطمأن قلبه بذكر الله، والذي كان مع الله فكان الله معه.
وكما يقول سيدنا قتادة: من كان مع الله كان الله معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، ومعه الحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، والقوة التي لا تذل.
2 / 5
القسم الثاني: قسم عرف الطريق إلى الله وثبت عليه
الصنف الثاني: صنف عرف الطريق وثبت عليه -أسأل الله أن نكون أنا وأنتم منهم- لأن نعمة الثبات -أيها الأحباب- من أجل النعم، أسأل الله أن يثبتني وإياكم على طريق الله، وأن يتوفاني وإياكم على التوحيد الخالص.
من الناس في الصنف الثاني من عرف الطريق إلى الله وثبت عليه، فهو يجاهد نفسه ويجاهد شيطانه وهواه ودنياه على أن يظل في هذا الطريق، ولكن الكل يختلف عن الآخر، كلنا يختلف في قدر عبادته، وكلنا يختلف في قدر طاعته، هذه فطر الله في خلقه، فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتحاقدوا، واعلموا بأن فطرة الله في خلقه أن يكون هذا التباين والاختلاف، هذا سيد عمله العلم، لا يزال عاكفًا على العلم حتى يسلك من هذا الطريق إلى الله، وهذا سيد عمله الصلاة، وهذا سيد عمله تلاوة القرآن، وهذا سيد عمله قيام الليل، وهذا سيد عمله الصيام، وهذا سيد عمله إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات وأنواع الصدقات، وهذا سيد عمله الحج والاعتمار، وهذا سيد عمله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
إذًا: فالكل يختلف بقدر ما منَّ الله به عليه من عطاء، كلنا يتباين في مقدار القرب والبعد عن الله، وكلنا يتباين في مقدار القربات والطاعات إلى رب الأرض والسماوات، وهذه فطرة الله في خلقه، وهذه سنة الله في خلقه.
ولذلك فإن الإمام ابن القيم ﵀ يقسم هذا الصنف الثاني إلى ثلاثة أقسام، ما هي؟ قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله، وذلك مأخوذ من قول الله في سورة فاطر: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر:٣٢].
إذًا: الناس يتفاوتون في الطريق إلى الله، ظالم لنفسه، يعصي ويذنب ويرجع ويتوب، هذا هو حاله، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) إلا أنه لا يصر على المعصية، فهذا في رحمة الله بإذن الله.
الظالم لنفسه؛ فرط كثيرًا في الزاد الذي يبلغه، والمقتصد زاده يبلغه إلى الطريق بالكاد، والسابق بالخيرات زاده كثير، وربحه وفير، هؤلاء هم الأبرار والمقربون، وهذه الأصناف جميعًا بإذن الله في رحمة الله جل وعلا، وإن كان العلماء كما ذكر ابن القيم قد اختلفوا في الظالم لنفسه على فرقتين: فهناك طائفة من العلماء قالت: إن الجنة للصنفين الآخرين، للمقتصد والسابق بالخيرات، أم الظالم لنفسه فإن غلبت حسناته سيئاته فهو من أهل الجنة، وإن غلبت سيئاته حسناته فهو من أهل النار، وصنف آخر قال: بأن الظالم لنفسه من الكفار، ولكن الإمام ابن القيم رجح مع طائفة من رجحوا بأن الأصناف الثلاثة في رحمة الله بإذن الله جل وعلا؛ لأن الله تعالى قال في بداية الآية: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر:٣٢].
إذًا: هؤلاء جميعًا الذين وضعوا أيديهم وأرجلهم على الطريق بإذن الله هم جميعًا في جنة الله وفي رحمته.
ولقد ذكر عبد الله بن مسعود ﵁ في هذه الآية ما ذكر الإمام ابن كثير أنه قال: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا، وثلث يحبسون في المحبس يوم القيامة ثم يتجاوز الله عنهم -نسأل الله أن نكون منهم! - وذكر الإمام الطبراني عن أبي الدرداء ﵁ أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية: «(فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ» [فاطر:٣٢] فقال: أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأما الظالم لنفسه فيدخله الله الجنة برحمته) وفي رواية أخرى للنبي ﷺ في الطبراني أيضًا، قال: (وأما الظالم لنفسه فيحبسه الله ويحاسبه فيظل في كرب وضيق وهم وبلاء، ثم بعد ذلك يتجاوز الله عنه، ويدخله الجنة برحمته).
وهنا أيها الأحباب أتذكر حديثًا للنبي المصطفى ﷺ، هذا الحديث خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وهو مروي عن عبد الله بن مسعود، بشراكم يا أمة الحبيب! بشراكم يا من وضعتم أرجلكم على الطريق! وبشراكم يا من عرفتم طريق الله! يقول النبي ﷺ: (إن آخر رجل من أمتي يدخل الجنة، رجل يمشي على الصراط مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة) وبعدما يتخطى الصراط -فيما معنى الحديث- ويعبر الصراط، وينجيه الله من نار جهنم، يلتفت إليها وينظر إلى حرها ونارها وهو يقول: تبارك الذي نجاني منكِ، ثم يقول: الحمد لله! والله لقد أعطاني الله ما لم يعط أحدًا من الأولين والآخرين، وهو آخر الناس: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران:١٨٥]، وهو آخر الناس، وقبله بزمان هناك من دخل بدون حساب، وهناك من دخل منذ زمن بعيد، ولكنه لما رأى النار وهول النار، يقول: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدًا من الأولين والآخرين.
وهنا حينما يعبر ويقترب من الجنة، يرفع الله له شجرة من شجر الجنة، شجرة يقول عنها النبي ﷺ: (يمشي في ظلها الراكب خمسمائة سنة) شجر في الجنة غرسها الله بيديه لأوليائه، فيرفع الله له شجرة جميلة عظيمة، وهنا ينادي العبد على الله، ويقول: يا رب! فيقول الله ﷿: ماذا تريد؟ فيقول العبد: يا رب! قربني من هذه الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ولقد كانت تسفعه النار، إلا أنه عنده من الأمان، يا رب! ادنني.
قربني من هذه الشجرة استظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله ﷿ له: عبدي! يا ابن آدم! هل إن أعطيتكها وقربتك إلى هذه الشجرة لتستظل بظلها وتشرب من مائها، هل ستسأل شيئًا من ذلك؟ يقول: لا وعزتك، وماذا أسأل؟! لقد كنت سأقع في النار، وهأنت يا رب بفضلك ورحمتك نجيتني من النار، وهأنذا سأستظل بشجرة من شجر الجنة لا أسألك شيئًا بعدها يا رب.
فيقربه الله ﷿ منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، وبعد ذلك يرفع الله له شجرة ثانية هي أحسن من الأولى، وبنص الحديث قال النبي ﷺ: (وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه! وبعد فترة يقول له: يا رب! يقول له: نعم، يقول له: يا رب! قربني إلى هذه الشجرة الثانية -هذه جميلة جدًا، وأحسن من الأولى بكثير- استظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: يا ابن آدم! ألم تعط العهود والمواثيق؟ يقول: شجرة اشتقت إليها، فيقربه الله ﷿، فيستظل بظلها ويشرب من مائها.
ويمكث فترة، فيرفع الله له شجرة أخرى على باب الجنة، فينظر إليها فيشتاق، فيقول: يا رب! قربني إلى هذه الشجرة، وعزتك لن أسأل شيئًا بعد ذاك، فيقول: يا ابن آدم! ما أغدرك.
ألم تعط العهود والمواثيق على ألا تسأل غير الذي سألت؟ يقول: يا رب! وعزتك لن أسأل بعد ذلك شيئًا، فيقربه الله عز جل).
وهنا إذا ما اقترب إلى الشجرة الثالثة، التي هي على باب الجنة، ماذا يحدث؟ يستمع إلى أصوات أهل الجنة، وينظر إلى هذا النعيم المقيم الجنة، أنتم الآن في مجلس كله نقاء وكله حنان، فأنت في سعة وصدرك يتسع، فما بالك إن منّ الله عليك بمكان في بيتك كله سرور وكله راحة، لا شيء فيه يعكر عليك صفوك، تجلس في سعادة، فما بالك إن كنت في جنة الله جل وعلا، أو كما قال الشيخ الشعراوي بارك الله فيه، يقول حينما ذهب إلى قصر من قصور الضيافة في أمريكا، واستقبل في هذا القصر العجيب، وأخذ الناس من حوله يلتفتون إلى هذا البناء والمعمار والتشييد، فأراد الشيخ أن يلفتهم إيمانيًا إلى الله، فقال لهم: أيها الناس! هذا إعداد البشر للبشر، فما بالكم بإعداد رب البشر، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولذلك لما وصفها علي بن أبي طالب ﵁ قال:
واعمل لدار غد رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري ريحقًا في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهرًا في مغانيها
فمن أراد أن يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها
شجرة في الجنة على باب الجنة، يسمع أصوات أهل الجنة ونعيم أهل الجنة، فيقول: (يا رب! فيقول الله له: لبيك.
ماذا تريد؟ فيقول: يا رب! أدخلني الجنة، فيقول الله ﷿: عبدي! فيقول: نعم يا رب! فيقول الله له: ما الذي يرضيك مني؟! عبدي! ألا تحب أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟! وهنا يقول العبد: يا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! وهنا ضحك عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله بن مسعود: لماذا لا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أضحك لأن النبي ﷺ حينما حدث بهذا الحديث ضحك، فقالوا له: لم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك لضحك رب العزة.
لأن العبد حينما يقول: يا رب، أتهزأ بي وأنت رب العالمين، يضحك الله منه، ويقول له: لا يا عبدي! لا أهزأ بك، ولكني على ما أشاء قادر).
فيا أيها الأحباب! اطمئنوا؛ فإن الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله كلهم في رحمة الله وجنة الله.
إذًا: فلتعلموا أن قصدي من هذا الكلام أن الناس متفاوتون، وأن الناس مختلفون، كلٌ على حسب فهمه، وكل على حسب عقله، وكل على حسب إيمانه، وكل على حسب طاعته، وكل على حسب قربه، فلا تختلفوا، ولا تتهموا هذا ولا ذاك، ولا تتحاقدوا ولا تتنابذوا: ﴿
2 / 6
الحب في الله بين عباده المؤمنين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحباب! تعالوا بنا لنعاهد الله من اليوم، ونعاهد رسول الله من الساعة أن نتحاب في الله، وأن ننسى المسميات، وأن ننبذ الأحقاد جانبًا، وأن يعانق بعضنا بعضًا، وأن نرجع إلى هذا الرباط القوي والمتين، هذا الرباط الذي ضيعناه؛ إنه رباط الحب في الله.
أيها الأحباب! اتركوا الخلافات والمسميات والأفكار على اختلافها، ولكن تعالوا بنا نتحد ونتفق ونجتمع ونعتصم، نضع أيدينا جميعًا في يد كل من يدعو إلى الله جل وعلا أيًا كانت جماعته، وأيًا كانت طريقته بشرط أنه يدعو من كتاب الله ومن سنة رسول الله ﷺ، طالما هذا هو منهجه وطريقه، فلا تختلفوا ولا تتحاقدوا ولا تتنابذوا، واجتمعوا واعتصموا، هيا بنا نجرب الحب في الله والبغض في الله، فمن أحب لله وأبغض لله، وترك لله، وأعطى لله ومنع لله، فهذا هو الذي قد استكمل الإيمان، كما قال سيد المؤمنين محمد ﷺ.
أيها الأحباب! اعلموا جميعًا أن الناس يختلفون، وأن الناس يتفرقون ويجتمعون، وأن الناس يتفاوتون في العقول والأذهان، ويتقاربون ويتنافرون، فلا يغرنكم الشيطان ولا يبذر بيننا بذور الفتن والأحقاد والأهواء.
والله الذي لا إله غيره، لقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء ﵁ قال: دخل علينا أبو بكر الصديق يومًا وقد شمر عن ثيابه حتى ظهرت ركبته وهو يجري، فقال أبو بكر: (يا رسول الله! قال: ماذا تريد يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! لقد كان بيني وبين أخي عمر بن الخطاب شيئًا -أي: شيئًا من الخلاف، وعدم اتحاد الرأي، وعدم الألفة في أمر من الأمور- فندمت على هذا الخلاف، وذهبت إلى عمر بن الخطاب، وسألته أن يغفر لي فأبى) لله درك يا صديق! أبو بكر الصديق يذهب لـ عمر، ويسأله أن يغفر له زلته وخطأه واختلافه معه في الرأي، يقول أبو بكر: فذهبت إليه يا رسول الله، وقلت له: يا عمر! لقد ندمت على ما بيننا، وأسألك أن تغفر لي، فأبى عمر، فحزن النبي ﷺ، وقال: (يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر) ثلاث مرات، دعاء من النبي ﷺ فندم عمر بن الخطاب وجاء مسرعًا - هذا هو الحب! لا جفاء؛ لأن المؤمن الصادق لا يحقد أبدًا، ولا يبغض أخًا له في الله أبدًا، ولا يغتاب أخًا له في الله أبدًا، هذا هو المؤمن الصادق في إيمانه وفي حبه لله ولرسول الله ﷺ فندم عمر بن الخطاب، وذهب مسرعًا إلى أبي بكر في بيته فلم يجده، فجاء مسرعًا إلى رسول الله فوجد النبي وقد تغير وجهه ولونه، فقال: يا رسول الله! أما كنت قد ظلمت مرتين، سامحني يا رسول الله، فغضب النبي ﷺ وقال: (ويلكم يا عمر! لقد كذبتموني فصدقني أبو بكر، وواساني بنفسه وماله، فهلا تتركوا لي صاحبي؟!).
أبو بكر وعمر الصحابيان العظيمان الجليلان يختلفان، ولكن سرعان ما يعود الود، وترجع الألفة، ويرجع الحب! إن الحب في الله يزيل كل خلاف، إن الحب في الله يزيل كل بغض، إن الحب في الله يزيل كل حقد، فتعالوا بنا نجرب الحب في الله، نجرب التجمع والاعتصام والألفة والوحدة؛ لأن فيها النصر لديننا، والعز لكتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ.
فيا أيها الأحباب! يقول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران:١٠٣]، فأتلفوا أيها الأحباب، ولا تتخالفوا وتتفرقوا، واعملوا بأن الطريق إلى الله واضح وبين، هو الكتاب وسنة النبي ﷺ: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي).
وأختم موضوعي بحديث العرباض بن سارية ﵁ الذي خرجه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال ﵁: (وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، حتى قلنا: كأنها موعظة مودع، فأوصنا يا رسول الله، فقال ﷺ: أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم من بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا -فرق وجماعات ومسميات ومناهج وأفكار ومبادئ وطواغيت! كل يدعو لمنهجه، وكل يدعو لمبدئه، وكل يدعو لفلسفته- فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
أسأل الله سبحانه أن ينجيني وإياكم من فتن الشيطان وأهوائه، وأن يثبتني وإياكم على طريق الرحمن، وعلى طريق النبي ﵊.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام العظيم وفي هذا الجمع الطيب ذنبًا إلا غفرته، ولا مريضًا بيننا إلا شفيته، ولا دينًا على أحد منا في الدنيا ولا في الآخرة إلا أديته، ولا همًا إلا فرجته، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا عاصيًا إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، وتفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، ولا تجعل فينا ولا منا شقيًا ولا محرومًا، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، اللهم ثبتنا على طريق الإيمان، اللهم ثبتنا على طريق الرحمن، اللهم ثبتنا على طريق نبيك ﵊.
2 / 7
الطريق إلى الدار الآخرة
إن الرحلة إلى الدار الآخرة تبدأ بالموت وتنتهي إما إلى الجنة أو إلى النار؛ تلك هي الحقيقة التي تصبغ من يتذكرها بصبغة الذل والعبودية لله، فأول خطوة من خطوات الرحيل إلى الدار الآخرة القبر، وما أدراك ما القبر! فالقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
3 / 1
بداية الرحلة إلى الدار الآخرة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرًا، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج:٦٢].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ند له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيًا عن أمته، ورسولًا عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من سار على دربه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! لاشك أننا في أمس الحاجة إلى أن نتذكر الآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، ولاشك أننا في أمس الحاجة إلى أن نتذكر هذه الحقيقة الكبرى، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعًا أو كرها العصاة والطائعون، بل والأنبياء والمرسلون.
إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين، وعناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر، أنه لا ألوهية إلا لله وحده، ولا بقاء إلا للذي تفرد بالعظمة والبقاء والجلال.
إنها الحقيقة التي تصبغ الحقيقة البشرية بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض.
إنها الحقيقة التي أمرنا النبي ﷺ أن نكثر من ذكرها، فقال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، قيل: وما هادم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت) رواه ابن ماجة والترمذي والنسائي من حديث عمر ﵁.
من أجل ذلك -أحبتي في الله- سوف أبدأ معكم من اليوم سلسلة أحاديث بعنوان: رحلة إلى الآخرة، ولاشك أن هذه الرحلة تبدأ بالموت، وتنتهي إما بالجنة أو النار، جعلنا الله جل وعلا وإياكم من أهل الجنة، وحرم أجسادنا ووجوهنا وإياكم على النار.
3 / 2
على فراش الموت
أما الموت فإنه حق لا مراء ولاشك فيه، قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق:١٩ - ٢٢]، ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ [ق:١٩] والحق أنك تموت والله حي لا يموت.
﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ [ق:١٩] والحق إما أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ [ق:١٩] والحق إما أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
﴿ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق:١٩]، ذلك ما كنت تحيد منه إلى الطبيب إذا جاءك المرض وإلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وإلى الشراب إذا أحسست بالظمأ.
ولكن؛ ثم ماذا أيها القوي الفتي، أيها الذكي العبقري، يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! كل باك فسيبكى، وكل ناع فسينعى، وكل مذخور سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى.
أيها الإنسان أيها اللاهي الساهي! يا من غرك مالك! ويا من خدعك جاهك وسلطانك! أيها الإنسان: مهما عظمت دنياك فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
أيها الإنسان! اعلم أنك راحل إلى الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ [الانشقاق:٦] لابد أن تلقى الله ﷿؛ فإذا ما اقتربت ساعة الصفر وانتهى أجلك كما حدده الله جل وعلا، وأصبحت في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا وصرت طريح الفراش وحولك أولادك يبكون! والأطباء من حولك يحاولون ولكن انظروا معي أيها الأحباب إليه وإلى حاله وكربه وفزعه انظروا معي إليه وقد نام على فراش الموت ولقد اصفر وجه وشحب لونه وبردت أطرافه وتجعد جلده وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه يريد أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يزحزح إلا لمن يسر الله ﷿ عليه.
وهو في هذا الفزع والجزع يطير فؤاده، وينخلع قلبه، فإذا أفاق بين صحوات الموت -بين السكرات والكربات- نظر إلى من حوله من الأولاد والأحباب والأطباء، فرآهم مرة ولم يرهم مرة أخرى، رآهم مرة يقتربون منه، ومرة يبتعدون عنه، مرة يسمعهم ومرة لا يسمعهم، فإذا أفاق لحظة أخرى بين الصحوات من سكرات الموت وكرباته نظر إليهم نظرة ثانية؛ نظرة طويلة وكلها رحمة وشفقة، ورجاء وسؤال وكأنه يقول لهم بلسان الحال: يا أولادي! يا أحبابي! يا أصحابي! لا تتركوني وحدي، ولا تخرجوني إلى لحدي، أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي عمرت الدور، هل منكم من يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا -أيها الأحباب- يأتيه صوت الحق من الله جل وعلا، فيقول: ﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة:٨٣ - ٩٦] سبحان ربي العظيم! من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ [القيامة:٢٦ - ٢٩]، هكذا خرجت روحه إلى خالقها جل وعلا، وصار طريح الفراش لا حراك في جسمه.
أيها الإنسان أين ريحك الطيب؟! أين لسانك الفصيح؟ أين حركتك الدائبة؟ ما أعجزك في هذه اللحظات! من الذي أخرسك وأسكتك؟ إنه الموت، إنها الحقيقة الكبرى التي لا يماري فيها إنسان، ولا يجادل فيها مخلوق على ظهر هذه الأرض.
3 / 3
غسل الميت والصلاة عليه ووضعه في القبر
أيها الإنسان الغافل! يقوم أحب وأقرب الناس لديك إلى من يغسلك، وإلى من يخرجك من بيتك، وصدق من قال:
وقام عني أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأودعوني على الألواح منطرحًا وصار فوقي خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلًا ثلاثًا ونادى القوم بالكفن
وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني
وأخرجوني من الدنيا فوا أسفا على رحيل بلا زادٍ يبلغني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحدًا منهم يلحدني
حمله أحب وأقرب الناس إليه إلى أطباق التراب وأهالوا عليه التراب بأيديهم، وصدق الحبيب ﷺ في حديثه الصحيح الذي أخرجه مسلم، من حديث أنس ﵁، قال ﷺ: (يتبع الميت ثلاثة، يرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله).
هكذا أيها المسكين حملك أحب وأقرب الناس لديك، وهناك في التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك ثم رحمة الله الحي الذي لا يموت! هناك وضعوك بين أطباق التراب وضعوك في بيت الوحشة والغربة والدود والضيق وضعوك في بيت الظلمة إلا لمن وسعه وأناره الله عليه.
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود
إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم
وضعوك هناك في دارك الحقيقية إلى أن يأمر الحق جل وعلا إسرافيل بالنفخ في الصور، فتخرج الأجساد من القبور حفاة عراة غرلًا للعرض على محكمة الله جل وعلا.
تلكم المحكمة -أيها الأحباب- التي لا تقبل الرشوة ولا تقبل المحسوبية ولا تقبل المحاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام؛ لأن قاضيها هو الواحد الديان، عنوانها: ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [غافر:١٧]، عنوانها: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت:٤٦]، عنوانها: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:٧ - ٨]، هنالك وضعوك وللحساب عرضوك، ولو ظل واحدٌ معك ما نفعك، ولو ظلوا معك جميعًا ما نفعوك!
3 / 4