دوسری رات بارہ: یا جو آپ چاہیں!
الليلة الثانية عشرة: أو ما شئت!
اصناف
بدأ شيكسبير يكتب الشعر المسرحي وقد فتحت الدنيا أبوابها أمامه، فلم تكن قواعد القدماء معروفة إلا لقلة قليلة، ولم تكن الأحكام النقدية قد تشكلت بعد لدى الجمهور ، ولم يسبقه مثال بلغ من الشهرة حدا ربما أرغمه على محاكاته، ولم يزامنه نقاد بلغوا من رسوخ القدم ما قد يكبح جماحه، ومن ثم فقد أطلق لميوله الفطرية العنان، ودفعه طبعه إلى الكوميديا ... ففي المأساة يكتب كتابة يوحي مظهرها بالجهد والدرس العميق، وإن كانت في نهاية الأمر لا تبلغ الجودة المتوقعة. وأما في مشاهده الكوميدية فيبدو أنه يكتب لنا دون جهد كتابة رائعة لا تحتاج إلى جهد يزيدها حسنا. وحين يكتب المأساة يجتهد دائما محاولا إيجاد فرصة لإثارة الفكاهة، وأما في الكوميديا؛ فإنه على ما يبدو، هادئ النفس، بل ويستمتع بما يكتب، باعتبارها القالب الفكري الملائم لطبيعته. وإذا تأملنا مشاهده المأسوية، وجدنا أنها تفتقر دائما إلى شيء ما، ولكن ملهاواته دائما ما تتجاوز ما نتوقعه أو ننشده. ومصدر المتعة في الملهاة الفكر واللغة، ومصدرها في المأساة الحادثة والفعل. ويبدو لي أن الكتابة المأساوية لديه مهارة مكتسبة، والكتابة الملهوية لديه مهارة فطرية.
ولم تتعرض قوة مشاهده الملهوية لما ينتقص من قدرها على مدى قرن ونصف من التغيير في أنماط السلوك ودلالة الألفاظ، فما دامت أفعال شخصياته تستند إلى مبادئ نابعة من مشاعر صادقة أصيلة لا تكاد تتغير إطلاقا بتغير الأشكال المكتسبة، فإنها تنجح في «توصيل» مسراتها وضروب استيائها إلى الناس في كل زمان ومكان؛ أي إنها طبيعية؛ ولذلك فهي ثابتة دائما. أما الخصائص العارضة للعادات الشخصية فهي أصباغ سطحية، قد تكون براقة ومبهجة لفترة محدودة، ولكنها سرعان ما تخبو لمعتها فتصبح شاحبة معتمة، بعد أن فقدت تلألؤها القديم. ولكن ضروب التمييز بين المشاعر الصادقة تمثل ألوان الطبيعة، وهي متغلغلة في ثنايا الكيان كله، ولا يمكن أن تفنى إلا بفناء الجسد الذي ينم عليها. وهذا يعني أن التراكيب العارضة لحالات نفسية غير متجانسة تتشكل مصادفة في مناسبة ما، وتزول بزوال هذه المناسبة، ولكن البساطة المتسقة للصفات الأولية لا تسمح بزيادة أو تتعرض لنقصان. فقد يهيل نهر ما بعض الرمال على صخرة ما، فيزيل الرمال اندفاع مياه نهر آخر، ولكن الصخرة تظل ثابتة دوما. وهكذا فإن نهر الزمن الذي يتدفق فيذهب في كل وقت بالصناعة الرثة للشعراء الآخرين، يمر دون أن ينال من صخرة شيكسبير. (من طبعة فيرنيس
Furness
للمسرحية عام 1901م، ص378)
والواضح أنني ما كنت لأقتبس هاتين الفقرتين الطويلتين إلا بسبب تأثيرهما في الكثيرين ممن جاءوا بعده وخصوصا في القرن الثامن عشر، ولم يبدأ التغير في النظرة إلى المسرحية إلا في القرن التاسع عشر بظهور الحركة الرومانسية التي كانت عموما أقل احتفاء «بالقواعد» (التي يشير إليها جونسون هنا) من أرباب الكلاسيكية، وكان الشعراء الرومانسيون يفضلون المأساوات على الملهاوات، بل وحاول بعضهم محاكاتها، ومع ذلك فنحن نجد أن شليجيل (
Schlegel ) الشاعر والناقد الألماني (1767-1845م) يصف كيف تلتحم في المسرحية ما يسميه جونسون «الأجزاء الجادة» بالمشاهد الهازلة التحاما وثيقا بسبب وحدة «الموضوع» وهو خطبة أوليفيا، والواضح من قراءة محاضرة شليجيل (التي ترجمت إلى الإنجليزية عام 1815م، ويوردها فيرنيس في طبعته المشار إليها للمسرحية) أنه كان أول من أدرك ذلك الالتحام بين «جانبي» المسرحية، وإن كان تعبيره يشبه الرصد العلمي للحقائق (المرجع السابق، والصفحات 378 وما بعدها). وبعد نحو نصف قرن بدأ ما يشبه الرد على جونسون (انظر الجزء المقتطف من تعليقه على هذه المسرحية والوارد في ص20 من هذه المقدمة)؛ إذ قال كريسيج (
Kreyssig ) في عام 1862م إن المسرحية تعلمنا حقا درسا مفيدا لأنها «تصور الحب العميق الصادق عند ذوي الطبع السليم»، وهي الصورة التي تمثل اللحن الأساسي الذي يشنف آذاننا من خلف نشاز «الحماقة المتوددة أو التودد الأحمق» عند البعض، من سير أندرو إلى أورسينو وأوليفيا (المرجع نفسه ص381).
ومن الغريب أن نجد بين نقاد هذه الفترة من تنبه إلى «علة» أورسينو، مثل ج. ج. جيرفينوس (
G. G. Gervinus ) الذي كتب في عام 1850م يقول إن أورسينو «يحب الحب أكثر من حب أوليفيا»، فكان بذلك أول من لفت الأنظار إلى نرجسيته المضمرة، وإن لم يصرح بالمصطلح الذي أصبح لا يغيب اليوم عن أقلام النقاد، خصوصا بعد أن رسخه النقد النسوي (المرجع نفسه ص379). ولنا أن نتوقف هنا بعض الشيء عند النقاد الآخرين الذين رأوا في ذلك العصر (عصر الشك في الغيب والانبهار بداروين) أن المسرحية تدين بجمالها لطابعها الدنيوي المحض، وقدرتها على تصوير متع الدنيا الطليقة، مثل الكاتب الفرنسي أ. مونتيجي
E. Montégut (1867م) الذي ركز على عنصر التنكر، والاحتفالية، و«التشقلب»، والغموض، وأعلن معارضته لدعاة الأخلاق والدروس. فلقد كتب يقول إن «الفلسفة» الوحيدة في المسرحية هي «أننا جميعا مجانين، ولو بدرجات متفاوتة»؛ فنحن عبيد إما لبعض عيوبنا وحماقاتنا الخاصة، أو لأحلامنا وآمالنا؛ «فبعضنا يتمتع بجنون شاعري جميل، والبعض لديه جنون مضحك تافه»، والذين يحققون أحلامهم لا يحققونها برزانة عقولهم، ولكن لأن أحلامهم تقبلها الطبيعة؛ لأنها أحلام بديعة وشاعرية وجميلة (المرجع نفسه 382-384) فكأنما كان مونتيجي قد أحب ما كرهه صمويل جونسون.
نامعلوم صفحہ