ولو كان نصيب المسلم السوري من التعليم نصيب المسيحي من أبناء بلده؛ لرأيت
هذا صاحب «طبائع الاستبداد» و«أم القرى»؛ بلبل أفلت من يد «الصياد» فغنى،
ثم أمسك سطيح عن الكلام، فقال له صاحبي السوري: لقد ذكرت، يا ولي الله، في عرض حديثك، أننا وإن كنا من أهل العمل والنجدة إلا أن بأخلاقنا بعض العهدة، فما عسى يكون ذلك النقص الذي يراه فينا إخواننا المصريون؟
قال سطيح: إنني لا أكذب الله. لقد أكثرتم من التداخل في شئونهم، فعز ذلك عليهم من أقرب الناس إليهم. نزلتم بلادهم فنزلتم رحبا، وتفيأتم ظلالهم فأصبتم خطبا، ثم فتحتم لهم أبواب الصحافة فقالوا أهلا، وحللتم معهم في دور التجارة فقالوا سهلا. ولو أنكم وقفتم عند هذا الحد؛ لرأيتم منهم ودا صحيحا، وإخلاصا صريحا، ولكنكم تخطيتم ذلك إلى المناصب، فسددتم طريق الناشئين، وضيقتم نطاق الاستخدام على الطالبين، وأنتم تعلمون أن المصري يعبد خدمة الحكومة؛ فهو يصرف إليها همه، ويقف عليها علمه؛ فهي إن فاتته فاته الأمل، وفتر نشاطه عن السعي والعمل. وهو لا يفتأ ينتظر الدخول فيها بقية عمره انتظار القوم عودة الحاكم بأمره، فما ضركم لو جاملتموهم فرغبتم عن الانكباب في دخول ذلك الباب. أليس لكم عنه مندوحة، وأمامكم وجوه الرزق كثيرة، ومادتكم في الكسب غزيرة؟
حببت إليكم الحركة وحبب إليهم السكون، وجبلتم على الجد وجبلوا على المجون، فاصرفوا نفوسكم عن مزاحمتهم في أعز الأشياء عليهم، حتى تخلق الحاجة في نفوسهم شعورا جديدا، فيحس ناشئهم أنه إنما يتعلم لنفسه ولأمته، لا لخدمة حكومته.
قال صاحبي: وهل في ذلك ما يأخذه علينا الآخذون، وأنت تعلم أن الحياة مزدحم الأقدام، وملتحم الأقوام؟ فإن كنا قد أخطأنا في فعلنا، فهل أخطأت الحكومة في قبولنا؟ وهل أصاب المصري في بغضنا؟
قال سطيح: لقد أصبتم في عملكم، وأصابت الحكومة في قبولكم، وما أخطأ المصري في بغضكم. أما أنتم فطلاب للقوت، وطالب القوت ما تعدى، وأما الحكومة، فضالتها عامل ينصح في عمله،
قال الراوي: ثم سكت سطيح وسكت صاحبي، فقلت: يا ولي الله، إن عندي سؤالا طالما بحثت في جوابه فلم أقع فيه على الصواب، قال: قل وأوجز.
قلت: كلما نظرت في جالية السوريين المسيحيين رأيت بينهم رجالا إذا هزوا أقلامهم أمطرت ذهبا، وإذا خطبوا بها سطرت عجبا، ولو شئت أن أعد منهم عددت كثيرا؛ هؤلاء أصحاب المقتطف، ودائرة المعارف، والضياء، والهلال، والجامعة، وهؤلاء أصحاب الصحف اليومية وغيرها، ولكنني كلما نظرت في جالية السوريين من المسلمين لم أر بينهم غير البائع والسمسار، ورائض الخيل والجزار؛ فما علة ذلك التفاوت العظيم والقوم يسكنون في فرد إقليم؟
قال: علة ذلك وهم رسخ في نفوس المسلمين ألا يدخلوا أولادهم في مدارس المسيحيين، ففاتهم بذلك تحصيل العلم، وماتت أكثر نفوسهم بحياة ذلك الوهم.
نامعلوم صفحہ