قال: إني ليحزنني أن أعود قبل أن أرى أسواق هذه الحاضرة، وأقف على شيء من عاداتها.
قلت: لله أبوك، فما عدوت ما في النفس. ثم أخذنا طريقنا إلى الغورية، وتباطأنا في السير ريثما يتعالى النهار، وتبتدئ الحركة في الأسواق.
وكنت كلما حدثته في شيء بهرني واسع علمه، فما سألته عن أمر إلا أجابني ، فظننت أنه لا يحسن سواه.
فما زلنا كذلك حتى بلغنا المكان الذي نقصده، وكان يومنا هذا طليعة لموسم من مواسم العام عند المصريين، فماجت بهم الطرقات، وغصت حوانيت التجر بالمساومين، فأشرق وجه صاحبي سرورا، وتألق بشرا حين ظفر بضالته، وأصاب مشهدا من مشاهد المجتمع البشرى تحشد فيه طبقات الناس، فيجد الناقد السبيل إلى نقد العادات والأخلاق التي يثيرها احتكاك ذات الصدور، ويبرزها تبادل ذات اليد، فيجتلي منها الباحث في علوم الأخلاق ما يجتلي، حتى إذا انقلب عن موقف إشرافه، وموطن تأمله، انقلب مبرود الغليل، جم فوائد الاطلاع، عزيز جانب الإقناع. فما لبث صاحبي أن رمى بنفسه في غمار هذا الزحام، وتعقبته أكاتف مرة، وأزور أخرى، حتى خلصنا إلى مرقب يمكننا من الإشراف، ثم أخذنا نتأمل في سواد هذا الناس، فإذا التجار منتشرون على أبواب الحوانيت، وإذا السلع معروضة للمساومة، وقد جعل كل يبالغ في تنفيق سلعته بضروب التمليق، وصنوف التزويق، فكان التاجر لا يمر به مار إلا جذب بطرف ردائه، وأراده على الابتياع من حانوته، مزينا له حسن سلعه، ملحا عليه بالرجاء، مقسما له بكل محرجة من الأيمان أن ما دعاه إلى ابتياعه لا يوجد عند غيره، وأنه إن فاته الظفر به؛ فقد فاته الحظ، وأخطأه التوفيق.
وكان كيسهم إذا ظفر بفدم من أفدام الريف حط عليه بأنواع الدهاء، ثم واثقه على أن يطرفه بأنفس ما عنده حتى يثلج الرجل إلى قوله، فإذا علم أنه سكن إليه بهره بطائفة من ألفاظ الثناء قد خزنها في رأسه، وادخرها لوقتها، فلا يكاد المسكين يفيق من نشوة الفرح بما سمع من الإطراء، حتى يعالجه الخبيث بتعليق سلعة في عنقه، مشفوعة بأخرى فوق رأسه، معززة بثالثة تحت إبطه، فلا يبرح الحانوت حتى تبرح الدراهم مخبأها، فيخرج وقد انتفخت أوداجه من كثرة هذا النفاق، وهبط كيسه من فرط ذلك الإنفاق.
وآخر قد تخلت عنه العناية، ونام عنده الجد، يمر به الصيد، فلا يحسن إلقاء الحب لما ابتلي به من حب الصدق، وكراهة تزويق الكلام، فيقف سراة يومه يستقبل من أولئك الأفدام، وهم يلؤمون في المساومة، ويشتطون في الطلب، ويتعنتون في توسم السلع، حتى إذا قلبوا أحشاء الحانوت قلبا خرجوا كما دخلوا؛ لأنهم لم يأنسوا في رب الحانوت ما اعتادوا أن يسمعوا من صنوف التمليق.
قال الراوي: ولبثنا في مرقبنا هذا حتى سامتنا الشمس، ووجدنا مس الهجير، فأومأ صاحبي إلي بالمسير، فتسللنا من تلك الجموع حتى انتهينا إلى مكان قد حجبت شمسه، وأطلق سراح نسيمه، فهاج فينا روحه شجون الحديث، فأنشأ صاحبي يقول: «حكي أن أحد الملوك ارتأى أن يفتح مدينتين على حدود ملكه، فكاشف في ذلك أحد وزرائه، وكان حكيما مدربا، فضرب الوزير برأيه فيما أفضى به إليه الملك، ثم قال له: إذا رأى الملك - أيده الله - قبل المخاطرة بالمال والرجال أن نعلم علم القوم، فنخرج في سر من الناس، فإذا خالطناهم وعرفنا أوزان رجالهم، ومقياس أخلاقهم، هيأنا لهم على قدر ما نرى منهم. فأخذ الملك برأي الوزير، وانطلق اثناهما في زي العامة، حتى بلغا إحدى المدينتين في ضحوة من النهار، فعمدا إلى سوقها الكبرى، وعطفا على حانوت هناك، قد نظمت فيه صنوف الأقمشة، فجلسا إلى ربه وطلبا إليه عرض سلعة سمياها له، فقال لهما التاجر: لقد كان في يدي شيء كثير مما تطلبان، ولكنه قد نفد منذ اليوم، وأظنكما لا تصيبان منه في غير ذلك الحانوت. وأشار لهما إلى مكان في زاوية من السوق. فلم يأخذا بإشارته وعمدا إلى تاجر آخر، فكان نصيبهما منه نصيبهما من الأول، فقصدا ثالثا فكذاك، فعرجا على رابع فكذاك، وما زالا يتنقلان من الحوانيت ولا يظفران من أربابها بغير تلك الإشارة، حتى ضاق الملك ذرعا، فكر راجعا إلى أول من لقياه وقال له: ما لنا كلما عطفنا على أحد من تجاركم، وأردناه على ابتياع سلعة من سلعه أبى علينا البيع وصرفنا عنه. بربك إلا ما صدقتنا خبر تلك الإشارة، قال التاجر: أما وقد أقسمت فاعلم أن صاحب الحانوت الذي حاولت صرفكما إليه قد مرت به ثلاثة أيام لم يطرقه فيها طارق بخابئة خير، ولم يفتح عليه بشيء من الرزق، وقد أدر الله لأهل السوق أخلاف الأرزاق، فكرهوا أن يصبح صاحبهم ويمسي وهو على غير حالهم من التيسير؛ لذلك تراهم يطلقونه بالطراق لعله يصيب ما يصلح به حاله، ويقوت عياله.
قال الملك: بارك الله فيكم وعليكم. ثم أسرع إلى ذلك الرجل فابتاع من سلعه وقر بعير، حتى كاد يأتي على ما في الحانوت، وتركه وقد أنساه ربح يومه ما مر به من كساد تلك الأيام.
قال الراوي: ولما خلا الملك بوزيره، قال له: ما الذي وقفت عليه من أحوال القوم؟
قال الوزير: إن من لبسهم على ظواهرهم راقه منهم ذلك الأدب، وأعجبته تلك المصافاة، ومن استبطن أمورهم وقف منهم على مروءة لا تكون في غير الرجال، وقناعة لا تسكن في غير النفوس العالية، يكسو ذلك منهم حسن الاتحاد، ويزينه الإيثار،
نامعلوم صفحہ