استقدم القائم بالأمر في السودان قبل أن يروعه الأمر بالسفر إلى الترنسفال رجلا من كبار الإنجليز، وكانت الثورة إذ ذاك في عنفوان شبابها، وقد بلغ الخطب أشده كما يزعمون، فولاه أمر التحقيق، وأمره أن يسلك فيه سبيلا أخفى من السر، وأظلم من الكفر، وقال له: لتكن عيونك في نقل الخبر كنسيم السحر، ينقل عن يانع الزهر، وهو لا تدركه العيون، ولا تحيط بمسراه الظنون، وضع أمامك إبرة الخداع، فهي لا تلبث أن تقتادك إلى الحقيقة، ولا يحزنك اجتماع المصريين؛ فالمصري والمصري كشعبتي المقراض ما اجتمعتا على عمل إلا افترقتا، وليس التفريق بين أنامل اليد وقد التصقت بأعسر من التفريق بينهم وقد اجتمعوا، ولا يغمض عنك أن النثرة من النقود تنثر ما في رءوس الزنوج من الأفكار، وأن التفريق عليهم يدعو إلى التفريق بينهم. وليجتمع فيك ما اجتمع في الرمح من البأس واللين، وليكن كلامك
فخرج من عنده وهو يترسم ذلك الأثر ويقول: إن نفعنا الدهاء فاليوم. ولما خلى بنفسه، وجمع إليه كيده، أرسل خلف العيون فألقى عليهم كلمات يعملون بها.
ثم أخذ ينظر في وجوه الحيل، ويستنبط أمثل الطرق، وما زال يستمد قريحته، حتى فتق له الذهن أن يبدأ باستمالة الجنود السودانية، فجعل يدعوهم ليلا على انفراد، فإذا ظفر بأحدهم هش له وأدنى متكأه وحدثه محادثة القرين، وقد طرح عنه أبهة الرئاسة، وجلس معه على بساط المساواة، حتى إذا سكنت نفسه إلى حديثه، وعلم أنه خلبه بسياسته وكياسته، طارحه حديث الثورة وما كان منها، ثم استرسل إلى ذكر أسبابها فقال: «إن الأمير - حرسه الله - ليتسخط عند سماع هذا النبأ، وهو اليوم واجد على الجيش لانتقاضه على أولياء الأمر فيه، وما غاب عنه أن أولئك المصريين الذين كفروا بنعمته، كما كفروا بنعمة أبيه من قبل، هم الذين استهووكم بالأباطيل، فما فعلوا ذلك إلا نكالا بكم، حين علموا أننا سنبلغ بكم أسمى المراتب ، فنجعل منكم الأمراء والحكام في السودان، ثم نمكن لكم في الأرض. وقد علمتم ما لنا من الفضل على الجنس الأسود، فنحن الألي نزعنا عنه أطواق الرق والعبودية، ونحن الألي ساوينا بينه وبين الجنس الأبيض، كما ساوى الربيع بين الليل والنهار، وما كنا لنعفو عنكم حتى تنكشف لنا بواطن الأمر، فنعرف أولئك المصريين الذين نفخوا في مناخركم، فركبتم رءوسكم، وطاوعتم أهواءكم، حتى إذا أدرك الجزر بحر الهياج، تسللوا عنكم، وخلفوكم بين السخط والعقاب، فاذكروا لنا أسماءهم لتنظروا كيف نمثل بهم، واعلموا أنكم لا ترون بعد اليوم إلا خيرا، ولا يرون إلا شرا، وما مثلنا معكما إلا كمثل لعاب المزن تصيب منه الأصداف فيكون درا، وتصيب منه الصلال فيكنون سما.»
يقول ذلك والقدح لا يكاد يفرغه السوداني حتى يملؤه الإنجليزي، فإذا نال منه الحديث وأخذت الخمر، استملاه أسماء أولئك الذين يزعم أنهم جروهم إلى عدم الانقياد، فيملي عليه ما يحضره من تلك الأسماء، ولا ذنب لأصحابها إلا أنها مرت بخاطر السوداني حين اضطره ذلك الإنجليزي.
هذا ما كان يدور عليه فلك السياسة البريطانية مع الجنود السودانية. أما الضباط منهم، فقد وجدوا السبيل إلى استمالتهم بالمواعيد، فكان إذا خلى بهم ذلك القلب طارحهم ما أسلفنا من الحديث، وزاد عليه فقال: «وما كان لنا في جمع الذخيرة من أرب سياسي كما وسوس لكم أولئك المصريون، ولو شئنا - لا شئنا - أن نوقع بكم، لأمرنا بعمل مناورة حربية، فأتلفنا فيها كل ما بأيديكم من الذخيرة وأنتم لا تشعرون، ولكن فلانا هو الذي ساقه قائد العجلة إلى ركوب هذا الشطط، فكان جزاؤه الخروج من الجيش، فقد أحفظ العميد، وأغضب الأمة، ونبه نياما لم توقظهم رعود السياسة منذ ثمانية عشر حولا، على أننا سنردهم إلى سبات لا يقظة معه، بعد أن نبدد شمل الجيش في أقطار السودان، ولنجعلن كل اثنين منهم كالمتآزيين في مستوى واحد لا يلتقيان، ولسوف يعلمون من منا أكثر مالا وأعز نفرا.»
ثم يستمليه من تلك الأسماء، فيملي عليه ما شاءت الخمر، وشاء الأمل.
ولما اهتدى ذلك المحقق إلى ما لا تهتدي إليه الكهنة والمنجمون من معرفة الغيب، وجمع في خريطته ما يربو على الثمانين اسما، خف إلى كبيره وقد حمل ظلما. فوالذي علم آدم الأسماء كلها، ما اشتملت خريطة المحقق على اسم وصاحبه غير مكذوب عليه. فقال له كبيره وقد نظر في الأمر نظرة الحكيم: إني لا أرى رأيك في عقاب هؤلاء الثمانين، وما جرت الثورة العرابية إلى ما يقارب ذلك العدد، ولكن نضرب عليهم بالقداح، فمن صادف النحس سهمه حق عليه العقاب، ولا تجاوز تلك القداح أنامل الكفين عدا، فإذا فعلنا ذلك أمنا شر العاقبة، وفزنا بالغاية من إرهابهم، وما أحسبهم بعد ذلك إلا قد صدفت قلوبهم، وانصرفت وجوههم عن بعضهم بعضا. ومتى انتهى فصل العقاب، عمدنا إلى النظر في وجوه مطالبهم، فأدخلنا بعض التعديل على قانون معاشهم، وحبونا بعضهم بالنياشين، فينسيهم ما هم فيه من السرور كل ما لحق بإخوانهم من الشرور. ولقد غضب الإسكندر يوما على أحد جلسائه فأمر بإبعاده وتفريق ماله على أخصائه، فقيل له في ذلك، فقال: فرقت ماله على أحبابه لكيلا يشفعوا فيه. وكذلك كان رأي الحاكم العام في إخواننا الذين سبقت لهم منه الحسنى، وفي الألى حق عليهم منه العقاب.
خمدت جمرة الثورة التي كان يحدمها الوهم، وسكن بحر الهياج، ووقف فلك العصيان، وعادت أجرام السياسة إلى الدوران، ورجم الثائرون بشهب من العذاب، فمن يثر اليوم يجد له شهابا رصدا. وهدأ زئير الأسد البريطاني، وأصبح حاكم السودان مبرود الغليل، وحمد العميد مغبة الرأي، وقام الواعد بوفاء الوعود، فحلى صدر الدجى بكواكب النياشين، وصدرت نشرة المكافآت وما لغير الزنجي فيها نصيب، وآن لنا أن نشرع في ذكر أسباب الفتنة السودانية؛ فقد علمتما ما كان من أدوارها.
لقد أراد الله أن تمتد الثورة من كوخ حقير كما امتد الطوفان من التنور، وسببها كلمة خرجت من ذلك الكوخ، فحملتها الريح إلى آذان الجنود السودانيين.
كلمة لأمة كانت تحت جندي من السودان جاءها زوجها عشاء، فسألته عن أمر يومه، فذكر لها حديث الذخيرة فقالت له: وما عسى أن تكون حالكم إذا صبحكم العدو أو مساكم؟ فلقد أصبحنا سواسية في العجز، وبات الرجال والنساء كأسنان القوارح:
نامعلوم صفحہ