قال: إني لا أرى رأيك فيه، وفي مصر من لو انقطع لصناعة الشعر لوسع الناس إحسانه فيه، ولكن قد ثنى الله عنان الكثيرين عنه؛ إما لشرف يخشى عليه أن يغض منه، وإما لاشتغال بشئون للحياة لا تقوم الحياة إلا بها. وصاحبكم بفضل ما هو فيه من السعة فارغ للشعر، غير مشغول بغيره؛ فالعجب أنه لا يجيد، وأعجب منه أن يقال إنه مكثار، وقصائده في العام معدودة، وقوافيها مقدرة محدودة!
قلت: لا تطل في أمره الجدال، فهذا الحكم منا على رمية السهم، فإن شئت غشيناه، قال: ما أرضاني بحكمه! ثم هم بالنهوض فقلت: على رسلك حتى يحين الموعد؛ فقد جعل لي آية للقائه، ثم حدثته حديث سطيح وما كان أمري معه، فارتاح إلى لقائه. ولما حان الموعد قمنا إليه، وإذا به ينادي صاحبي بقوله: «شاعر عربي، وأديب سري، طيب الله أنفاسه، وازدهت السبق أفراسه، نهاز أذنبة الكلام، خلاب أفئدة الأنام، قريب القلب واللسان، صديق الخاطر والبيان، زوته عواثر الجدود عن مظاهر الوجود، فزكا شعره ولم ينبه ذكره، ولو أنصفه زمانه لما خمل مكانه، أو لمحته القدرة لما حرم الشهرة. أي فلان، إن ما خضت فيه من أمر صاحبك مع ذلك الواقف بجانبك - فأنتما فيه سواء - زلة في الآراء، وانحراف عن خط الاستواء. أغرقت أنت في القدح، وبالغ صاحبك في المدح، فخرجت بشاعر النيل عن أفق الحسنات، وكاد يسمو به صاحبك إلى سماء المعجزات، ولو أنصفتماه لأنزلتماه في برجه، وأركبتماه فوق سرجه.
إنه أرقكم طبعا، وأجملكم صنعا، فهو إن ركب الغزل والنسيب كان كأنه يوحى إليه من قريب، وإذا سلك سبيل المديح، فقد عجز عن وصفه سطيح، إلا أنه ضيق المجال، وإن كان واسع الخيال؛ يقع له المعنى الجليل في سبحات الفكر الطويل، فيمسكه خاطره، وتحرص عليه سرائره. والمعاني كالظباء كثيرة النفار، شديدة الأحضار؛ فهي إن لم تجد من نضارة الألفاظ خميلة تسنح فيها، أو لم تظفر من عذوبتها بعيون تنهل من نواحيها، ذهبت عنها إن لم يضق بها المذهب.
وكذلك حالها في شعر صاحبكم، فهي إما نافرة وإما حزينة باسرة، ولو أنه منح من دقة المباني ما منح من رقة المعاني، فسلم أسلوبه من ذلك التعقيد الذي أخلق ديباجته، لكان شاعركم غير مدافع، وواحدكم غير منازع.»
قال صاحبي وهو يكظم غيظه: إنه لم يغادر معنى من معاني العرب والفرنجة إلا سلخه، ثم مسخه، فإن كان الأسلوب على نحو ما وصفت، وكانت المعاني لغيره، فما عسى يكون فخره علينا؟ وقد ذكر صاحب دلائل الإعجاز أن البلاغة لا تقع في اللفظ، ولا في المعنى، ولكنها تقع في
اللفظ، غامض المعنى، يحتاج الناظر في كلامه إلى تخوت الرمل وطوالع التنجيم. وقد قصر همه على اصطحاب طائفة من الألفاظ لا يعدوها إلى غيرها، حتى أصبح بعضها علامة تدل على شعره، وإن كان غفلا من ذكره.
ولقد نظرت في طريقة شعره، فألفيتها في الغارة على صحائف الأولين، فهو لم يغادر معنى في خدره إلا سباه، ولا لفظا في وكره إلا أزعجه. ألا ترثي بربك إلى عظام أبي الطيب وهي تئن في قبرها على أبيات شادها صاحبها، وخربها صاحب الشوقيات؟! ولو كشف لك عن مجامع الأرواح في عوالمها، لرأيت منها ثلاثا قد ضمها الحزن، وجمعها الأسى، ولوقع في سمعك صوت أبي عبادة وهو يندب شعرا دخل عليه الإفساد، وأنين المتنبي وهو يبكي كلاما ذهب به المسخ، وزفير ابن الأحنف وهو يتحسر على رقة لعبت بها يد السلخ.
ومن نظر في قول أبي الطيب: «نود من الأيام ما لا توده.» وفي قول صاحبنا: «يود من الأرواح ما لا توده.» علم أن الثاني أغار على الأول فسلبه مطلعا أبهى من مطالع الشمس، ولم يقتصر على هذا السلخ حتى تخطاه إلى المسخ، فرفع لفظة الأيام من شطر بيت المتنبي، ووضع مكانها لفظة الأرواح في شطر بيته، ثم جعل مطلعا من مطالع التهاني أنزل فيه ممدوحه منزلة عزريل من النفوس، فإني لا أعرف أحدا «يود من الأرواح ما لا توده»، اللهم إلا ملك الموت، فهل بعد هذا نغفر له ضعف الأسلوب؛ لما عساه يقع في شعره من لطف المعاني وجلها على نحو ما سمعت؟
قال سطيح: إنك لا تفتأ تتعقب سيئاته، وتتحامى ذكر حسناته، فما لك لا تذكر بجانب ذلك قوله في هذا البيت الحكيم:
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
نامعلوم صفحہ