إنه من المستحيل أن يناقض المرء نفسه، ولكن الإيغال في الحيرة يفقد المرء صوابه، وقد فقد الباحثون في أمر هذه الأمة صوابهم، وغاب عنهم رشدهم، وتسامح بعضهم فاستباح فرضا مستحيلا، وقال: لنفرضن أن لهذه البقرة قرونا، وأن بيننا رجالا يعملون، فهل تم فيهم الشرط الثالث وهو العلامة الثالثة؟ هل يتفانى قواد رأينا في المنفعة العامة؟ وهل يتلاشون في خدمة الأمة؟
لو كان للتأكد ألف نوع لأكدت نفي ذلك الشرط وأنكرت تلك العلامة بسائر أنواع التوكيد جميعا.
أليس من العار أن يسجل المرء على نفسه عارا لا يمحوه الدهر؟ أليس من نكد الدنيا على المرء أن يرى في ذاته عيبا وليس له من الإقرار به من مفر ؟ ولكن أليس الحق أحق بأن يتبع؟ أليس هذا الأمر من الجلاء بحيث لا يحتاج إلى بيان؟ أجل، إن الحقيقة مؤلمة، ولكن دواءها في الإقرار بها.
إن قادة رأينا هم الأشباح التي تروح وتغدو أمامنا، يخدعنا مظهرها ويحزننا مخبرها، إن تلك التماثيل ليست إلا آلات في يد محرك يحركها، ولا تظهر عيوبها كلها إلا بمحك الحوادث، وقد ظهرت تلك العيوب وبانت كحفر الجدري في وجه المصاب فأغضينا وتعامينا وقلنا: هذا القبح حسن باهر، وذلك العيب جمال ظاهر.
أي لص دنيء ممن يسمون نفوسهم بالباطل عظماء ورؤساء لا يسكن قصرا فخما، ولا يركب عجلة غالية، ولا يكنز الذهب، ولا يطير لبه وراء الرتب؟! بل أي كلب من تلك الكلاب الرجسة لا يدعي غير ما يبطن ويظهر غير ما يخفي؟ وأي فحل من فحولنا لم تغيره الأيام ولم تبدله الحوادث؟ بل أي خنزير من تلك الخنازير لم يقل في سره إن لم يقل في جهره: «بعدي الطوفان؟»
تعسا لك أيتها الأسلحة، فإنك لا تجرحين، وسحقا لك أيتها القرون، فأنت لا تنطحين، وا أسفاه عليك أيتها الأمة، فأنت بلا مدافع شجاع ولا حارس أمين.
أما العلامة الرابعة، وهي أم تلك العلائم، وبرهانها أقوى البراهين؛ وهي ظهور آثار النشوء والارتقاء في أفراد الأمة، والمقصود بتلك العلامة أن يكون الحفيد أرقى من الوالد، والوالد أرقى من الجد، وهذه العلامة مشاهدة في الأمم الحية الراقية، فالمؤلف العظيم يخلف مؤلفا أعظم، والشاعر الكبير يلد شاعرا أكبر، والطبيب الماهر يمنح وطنه طبيبا أحذق منه وأمهر، وليس من الشروط المهمة أن يكون الولد في حرفة أبيه إنما الشرط المهم أن يكون أرقى منه بأية حال، وأسباب ذلك راجعة إلى روح النشوء والارتقاء الظاهرة بأجلى مظاهرها في عناصر الطبيعة وفي حياة الإنسان منذ الخليقة إلى الآن، ولست أقصد بما ذكرت النوابغ الأفذاذ في كل أمة، فقد يرد علي منتقد بأن نابليون أخلف غلاما ضعيفا ضئيلا، وأن فيكتور هيجو لم يلد غلاما ذكيا، وليس هذا ما أقصد؛ لأن هؤلاء كما ذكرت خلاصة الأمم، وهم أرقى ما وصلت إليه الطبيعة في خلق الإنسان، فلا يعقل أنها تخرج عن حدها وتنتج أعظم منهم وإلا كان ذلك الخلف الأعظم هو المقصود بالذات، إنما أقصد عامة الأمة وأوساطها، وقد دلت التجارب والاختبار أن الأمم في إبان نهضتها تنتج جيلا أرقى من جيل، وكانت هذه النظرية من أصول حصر إرث الملك في الولد الرشيد.
وهذه الأمة الهوزية قد دلت الخبرة فيها على عكس ذلك، فابن اليوم أقل من والده ذكاء وأضعف جنانا وخلقا وأميل إلى الذل وألصق بالجهل، وكذلك حال أبيه بالنسبة إلى جده. وقد عرفت أسرة عاشرت أفرادها فردا فردا، فإذا الجد رياضي ماهر يحل المعضل والمشكل ولم يكن تعلم تعليما حديثا، فلما أخلف ولدا لم يأل جهدا في تهذيبه أرقى تهذيب، فجاء الولد أضعف في فنه من والده، ثم أخلف هذا الولد ولدا فلم يهمل شأنه وزاد على تربيته أن سيره على دربه وخرجه في حرفته بعد أن حاول أن يعلمه غير علم، فلم يفلح.
وكان السكوت شاملا والقوم كأن الطير على رءوسهم، ثم إن الخطيب سكت قليلا، وقال:
هذا قولي، قلته في ملأ منكم، معتقدا أنني أقول الحق غير هياب فيه اللوم والذم، ومن كان لديه قول ينقضه أو أدلة تفنده فإنني أصغي إليه وأنصحكم باتباع رأيه.
نامعلوم صفحہ