اغفري لي أيتها الحقيقة، يا أم الأمم، ويا سيدة العوالم، ويا إلهة الآلهة! ويا من شيدت لك الهياكل والمعابد، وأقيمت لتمجيدك الكنائس والمساجد، وحلم بك كل صاح وهاجد؛ إذا تهجمت على مقامك الأسمى وطلبت منك طلبا مجحفا. اعذريني أيتها الحقيقة العظيمة إذا تسرب الشك إلى قلبي وأسكرني الحزن وتغلبت علي الآلام فكفرت يوما بنعمتك وقلت ليس في الورى سوى الجهل والظلم والظلام، وأن الحقيقة التي ينشدونها عبثا ليست إلا وهما من الأوهام.
إن قلبي مملوء بك، ونفسي متشبعة بصورتك، وفؤادي ووجداني كلاهما يوقنان بك، ولكن ألست بشرا ضعيفا؟ ألست من تلك المخلوقات العاجزة الضئيلة التي تريد كل شيء ولا تنال شيئا، التي تسمي نفسها بالإنسانية؟ لقد رأيت أدلة كثيرة تثبت وجودك، وعلمت بالخبرة أنك هنا وهناك، في العلا وعلى الأرض، عن يميني وعن شمالي، أمامي وورائي، ولكن لما أمسك بعد بأهدابك، ولم أستطع مع شدة جهادي وثباتي وطول صبري أن ألمس ذيل ثيابك. أسمعك تأمرينني بالصمت والسكوت، أسمعك تقولين لي: بعدا أيها العاجز الجاهل، إن الحقيقة لا تمس ولا تنال بالحس. ولكن ألست بشرا لا يرى إلا ما يقع تحت الحس؟ إذا كان هذا عيبي، فهل أنا وحدي المذنب؟
لا أريد أن أعرف كل شيء؛ فليس هذا يهمني، وإن كان يهمني فلست قادرا عليه، ولكنني أريد أن أعرف شيئا واحدا: هل قسم لبعضنا أن يسمعوا العالم أصواتهم، وأن يخرجوا قواهم إلى الأرض فيشعر بها ويراها كل البشر؟ أم قسم لهم أن تكتم أنفاسهم قبل أن يصرخوا صرختهم؟
إن كانت القسمة الأولى من نصيبهم فجودي عليهم أيتها الحقيقة بالصبر والثبات حتى يقوموا بأداء الرسالة التي أردتها لهم، جودي عليهم بالطمأنينة كما تجود المعشوقة الجليلة على العاشق المسكين بكلمة تسكن نفسه إليها، قولي لهم اصبروا واعملوا، كما تقول المعشوقة الجليلة للعاشق المسكين: «أنت في حل من حبي ، فحبني.» جودي أيتها الحقيقة ولا تتركيهم معذبين، جودي أيتها الحقيقة بكلمة واحدة وكفاهم ألما، جودي بتلك الكلمة التي تكون غذاء نفوسهم إلى الأبد!
أما إذا كانت القسمة الثانية هي نصيبهم فاعبسي في وجوههم، وادفعي بهم بيدك القوية، واتركيهم يسقطوا في المهواة السحيقة التي سقط فيها ألوف الألوف من قبلهم، والتي لا تزال يخرج منها صوت عويلهم، انطقي أيتها الحقيقة بحكمك الأخير!
إنني - أيتها الحقيقة - منذ الساعة سأكون كما كنت في الماضي عبدا مخلصا لك. سأنسى كل آلامي منتظرا أمرك العظيم، سأصبر على همومي وأحزاني وألقاها بصدر رحيب، سأكتم شكواي، وأعلل النفس بالفرج القريب، إذا رأيت الناس تبغضني وأعدائي تغيظني وأهل الظلم يكيدون لي سأعرض عن ظلمهم وغيظهم، سأهزأ بمكائدهم ومفاسدهم، سأضحك من خداعهم وشرورهم؛ لأنني لا أمل لي إلا فيك، وأنت أعظم من يؤمل فيه.
لن أشكو بعد اليوم وحدتي، لن أحزن بعد اليوم إذا بكيت منفردا، لن أضجر من آلام الفقر والمرض والشقاء، بل ألقاها جميعها مسرورا مستبشرا.
إنني - أيتها المحبوبة المتبرقعة - صابر قانع، إذا التفت حولي فلم أر أحدا يؤنسني في وحشتي ويساعدني في كربي ويفرج همي، فلن أسأل بعد اليوم لماذا ليس لي في هذه الدنيا صديق؟ فأنت على بعدك صديقتي، وأنت على تسترك وتقنعك محبوبتي التي سأخلص لها، بل أنت إلهتي ومعبودتي، أنت إيماني وديني، أنت قبلتي وكعبتي، أنت حياتي وموتي، أنت سعادتي وهنائي، أيتها الحقيقة، أنت الكل في الكل، أنت الوجود والعدم، أنت الخالدة منذ القدم.
أسعفيني وأسعديني أيتها الحقيقة، فإنني لا أزال صابرا.
الليلة الخامسة عشرة
نامعلوم صفحہ