رأيت هذه المسكينة ثلاث مرات، فكنت أتقرب إليها تعزية لها وسلوى، وكنت أرى في عينيها عرفان الجميل يكاد يسيل دموعا، قد يكون قبح الوجه من دواعي حسن الطباع والأخلاق. إن نفسي تحدثني بأن جوليت كريمة النفس طيبة القلب؛ لقلة ذكائها وجمالها. إن تلك المسكينة عاجزة عن إتيان الشر، وتلك الخشونة الظاهرة دليل على الرقة الباطنة، لا بد أن تكون جوليت قبيحة الوجه جميلة النفس عكس أختها الصغرى.
أما عن مستقبلها فهو واضح جلي، إنها ستبقى من راهبات القديسة كاترين إلى أن تلقى شريرا ذكيا. •••
هذه تصاوير الأخوات الثلاث، رسمتها بما في وسعي من الإتقان، وقد قالت لي أمهن إنهن شقيقات وإنها لم تتزوج إلا من رجل واحد، ولكن ابنتها الكبرى نظرت إليها نظرة ودت أن تقول بها: إنني - يا أماه - أستبعد تلك النظرية، ولو قبلتها فليس ضروريا جدا أن نكون نحن الثلاث ثمرات هذا الزواج.
قال الروح الحائر: «هذه ثلاث نموذجات للمرأة لا تخرج أنثى عن أحدها؛ فإما كالأخت الكبرى امرأة لا تمتاز بحسنها، ولكنها ترضي زوجها فتكون عفتها عفة ضرورة، وهي بؤرة فساد كامن دعت إلى كتمانه الأكاذيب والنظامات المتفق عليها، وإما جميلة شريرة تنال بأذاها القريب منها والبعيد عنها كالأخت الصغرى، وهي نذير خراب البيوت تحفر طول حياتها قبورا للرجال، ومن لا تواريه التراب أوقعت به في حبالة، والثالثة كائن لا معنى له لا يضر ولا ينفع، جعلته الطبيعة صدقة على من لم يقع فريسة إحدى المرأتين.»
الليلة الثانية عشرة
الفاكهة المحرمة
زارني الروح الحائر فقلت له: إنني لا أزال أذكر حديث الأخوات الثلاث، ولكني لا أجد للحب أثرا في هذا الحديث. قال: نعم، إنني ذكرت لك طباع المرأة. قلت: ولكني لم أتطلب قولا في طبائع النساء، إنما تطلبت منك حديثا في الحب. قال: كيف الوصول إلى ذلك دون الوقوف على طبيعة المرأة! إن الحب إلا عنصر من العناصر المكونة لخلقها، فمن وقف على الخلق كله وقف على عناصره. قلت: أتيت لي في الليلة الماضية على حديث نساء تغلب الشر على الخير في طباعهن، فهل هذا كل ما علمت عن المرأة؟ قال: كلا، إن لدي أحاديث شتى عن حياتي الأرضية. قلت: هات ما عندك؛ لعلي أجد الحقيقة التي أنشدها.
قال: كنت أسيح في بعض بلاد الغرب، فعرفت رينيه إذ كنت بإحدى قرى الألب، وهي عذراء في الثامنة عشرة من عمرها، تكاد تكون لسواد شعرها ودعج عينيها وعمقهما شرقية لا غربية، وكان لهذا الجمال الأجنبي معنى خاص به، ويظهر أن أهلها أنشئوها على التربية والعادات السكسونية؛ قوة في الساعد، وحرية في الفكر والقول. كنت أظن هذا الفندق الذي نزلت به خلوا من الأضياف، وأنني سأذوق لذة العزلة في رأس الجبل خمسة عشر يوما، ولكن هذه الفتاة أفسدت ظني وعكست أملي، وجعلتني منذ تحادثنا أكثر شغلا مني في أكبر العواصم وأكثرها اضطرابا.
التقينا في غرفة الجلوس الصغيرة الحقيرة في يدي «أفكار بسكال» وفي يدها «مكاتيب فرانسواز» وضع مارسيل بريفو. بدأت تحادثني فذعرت؛ لأنني لم أعتد ذلك، قالت لي في آخر المجلس: «إنني سعيدة إذا كان في قربي منك ما يخفف آلامك.» غير أن خبرتي بأخلاق البشر وقتني شر الانخداع، ولو كنت سمعت هذه الكلمة وأنا في السابعة عشرة من عمري لخررت أمام قائلتها ساجدا، لكن السنين القليلة التي «عشتها» جعلتني إذا سمعت أضعاف هذه الكلمات الحلوة أبتسم بسمة غير المكترث. •••
في الجلسة الثانية تكلمنا في الفنون الجميلة، وتبادلنا الخواطر عن متاحف باريس، وورد عرضا ذكر صورة جوكوندا التي تزدان بها جدران اللوفر، فقالت رينيه إنها لما رأتها لأول مرة منذ عام واحد بكت، فسألتها بدهشة عما دعا إلى ذلك البكاء، قالت إنها لما رأت نفسها أمام تلك المخلوقة الكبرى هاجت عواطفها فأسدلت الدموع، قلت لها: إن دقة الإحساس إلى هذه الدرجة تنغص حياة صاحبها. فضحكت الفتاة وقالت: ولكن هذه الدقة ذهبت بذهاب العام الغابر. قلت: كيف؟ إذا رأيت الآن أمامك منظرا مؤثرا يكون بالنسبة لك في هذا العام كمنظر جوكوندا في العام الغابر أفلا تبكين؟ قالت: لو دعاني الآلهة إلى مائدتهم وسقوني بأيديهم المقدسة كئوس الرحيق أو خلقوا أمامي العالم بأسره من جديد وعذبوا نصف أمم الأرض؛ ما نزلت من عيني دمعة واحدة. فأدهشني ذلك الكلام، وقلت: إن أشد الرجال بأسا وأقساهم قلبا لا يقول مثل هذا القول، وإن قاله فهو مازح. قالت لي: قل إن أفظع الوحوش الكاسرة لا يمكن أن يتصف بتلك الغلظة. قلت: كلا، إنني لا أقول ذلك، ولكن هل لهذا الانقلاب من سبب؟ قالت: نعم، إنني أحببت رجلا كان يحبني، ثم علمت أن حبه كان كاذبا. قلت لها: أوحادثة واحدة كافية لأن تقلب في نظرك نظام الكون؟ قالت: إنك رجل ولا يمكنك أن تفهم نفس المرأة، إنكم - أيها الرجال - لا تشعرون. قلت: عفوا يا سيدتي. قالت: إن حادثة واحدة تشمل حياتي بأسرها، تصور الأحلام والأماني التي تخيلتها، تصور قصور الريح التي شدتها، تصور الساعات السعيدة التي قضيتها بجانب الرجل الذي أحببته، تصور أنني لحبي له غيرت عقيدتي ودنت بدينه، تصور أنني منذ عرفته نظرت إلى الحياة بعين جديدة ورأيت المخلوقات والموجودات بشكل جديد، ثم تصور انقلاب ذلك كله في لحظة واحدة، ألا يحدث هذا الانقلاب ثورة مروعة؟ فلم أجب. دخلت علينا سيدة متقدمة في السن فغيرنا الحديث بأسرع ما يمكن، وتكلمنا عن الطقس وجمال الشمس وعلو جبل زرمات. •••
نامعلوم صفحہ